Skip to main content

الإعجاز في الشريعة

الإعجاز في الشريعة

توطئة

وجه جديد من إعجاز القرآن : الإعجاز في الشريعة

بعد العقيدة ، يكون الإعجاز في الشريعة . والسيوطي ، خاتمة المحققين الأقدمين ، لم يذكر في (الاتقان في علوم القرآن) ، من وجوه الاعجاز ، وجه التشريع . وفي عصرنا ، طلع علينا الاستاذ محمد أبي زهرة ، أستاذ الشريعة بكلّية الحقوق بجامعة القاهرة ، بهذا الوجه الجديد من الاعجاز ، في التشريع القرآني . يقول ، بعد بيان وجوه الاعجاز البياني والعيني والعلمي ؛ "ولكن وجهًا آخر لم يبيّنه العلماء بإطناب ، ونعتقد أنه أقوى دلالة في خطاب الناس أجمعين من كل ما ذكر ، وهو شريعة القرآن . وقد أشار الى هذا الوجه ، إشارة عابرة ، القرطبي ، فقال في كتابه (أحكام القرآن) في وجوه اعجاز القرآن : (ومنها ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام الأنام في الحلال والحرام ، وسائر الأحكام) . هذا كلام القرطبي ، وهو يشير الى أن شريعة القرآن وما اشتملت عليه من أحكام منظمة

للأسرة ، والتعامل الإنساني ، هي وجه من وجوه الاعجاز ... ولذلك نقول : إن شريعة القرآن هي أقوى وجوه إعجاز القرآن ؛ وهي القائمة الدالة على الإعجاز إلى يوم القيامة ، وهي قائمة الى اليوم حجة على العربي والأعجمي ، لا يفترق في قبولها من يعرف لسان القرآن ، عمّن لا يعرفه . فهي شفاء لأدواء المجتمع في كل العصور والأزمان" . وظن وظنوا أنه فتح جديد في إعجاز القرآن ، يفوق ما تعارف عليه القوم في الإعجاز البياني والغيبي والعلمي ؛ وأنه "أقوى وجوه إعجاز القرآن" يفحم العربي والأعجمي معا .

ومن الغريب المذهل ، لو كان ذلك حقا ، أن يسهو عنه علماء الإعجاز حتى اليوم ! وأن يقوم مَن يردّد زعم الأستاذ أبي زهرة ، مثل الأستاذ عبد الكريم الخطيب : "إن النبي حمل الى الناس أمرا واحدا فقط هو الشريعة ، وفي الشريعة نفسها المعجزة التي تشهد له بأنه رسول الله الصادق في ما يقول عن الله" . "فكيف ينسى هو أيضا نفسه ويرى اعجاز القرآن في "الصدق المطلق الذي نزل به – علو الجهة المنزل منها – حسن الأداء: النظم والفاصلة – روحانية القرآن ؟ أم هي شهوة الابتداع ، ولو كان بدعة ، لتسفيه آراء الأقدمين ، كما فعل الرافعي في (إعجازه) .

فهل إعجاز القرآن في شريعته المعجزة ؟


 

بحث أوّل

الشريعة القرآنية "مدنية" : لا تحدّي فيها بإعجازها

إن الإجماع منعقد على أن الشريعة القرآنية نزلت بالمدينة . وهذا أمر مشهود في القرآن المكي . فلا تشريع في مكة . "أخرج البخاري عن عائشة قالت : إنما نزل أول ما نزل منه سور من (المفصّل) فيها ذكر الجنة والنار ؛ حتى إذا ثاب الناس الى الاسلام نزل الحلال

والحرام" . ولم يثب الناس الى الاسلام إلاّ في المدينة ، ولم يدخلوا في دين الله أفواجا إلاّ في آخر العهد بالمدينة . فالتشريع القرآني من زمن متأخر في الدعوة ، وقد نزل من القرآن أكثره . وظاهرة كبرى أخرى في التشريع القرآني ، ما قاله ابن حزم : "إعلم أن نزول المنسوخ بمكة كثير ، ونزول الناسخ بالمدينة كثير"

نستنتج من هاتين الظاهرتين :

أولا : أنه لا تشريع بمكة . وبما أن "أقوى وجوه إعجاز القرآن في شريعته" ، فليس من اعجاز في القرآن المكي .

ثانيا : إن القرآن يتحدّى "بسورة مثله" (يونس 38) "بسورة من مثله" (البقرة 23) ؛ وبما أن أكثر القرآن لا تشريع فيه ، فليس اعجاز القرآن في تشريعه وشريعته .

ثالثا : إن أكثر المنسوخ بمكة ، وإن الناسخ من المدينة : فالقرآن المدني ينسخ من القرآن المكي . والنسخ ليس دليلا على الاعجاز في التشريع . فالناسخ والمنسوخ في القرآن كله شبهة قائمة على الاعجاز في التشريع القرآني .

رابعا : وهكذا ، فإن تأخر نزول الشريعة القرآنية حتى المدنية ، وهي وجه الاعجاز الأقوى ، وربما الأوحد ، في القرآن ؛ فإن الاعجاز في القرآن ليس من أصل التنزيل فيه ومن غايته .

خامسا : بما أن التحدي بإعجاز القرآن ، كما هو مشهود فيه ، كان من أواخر العهد بمكة ، بعد أن عجز عن معجزة كالأنبياء الأولين ، وفي مطلع العهد بالمدينة (البقرة 23) ، ثم سكت عنه في العهد المدني كله في مجابهة أهل الكتاب ، أي في زمن نزول الشريعة القرآنية ؛ فليس في القرآن من تحدّ بإعجاز الشريعة على الاطلاق .


 

بحث ثان

أحكام الشريعة المحكمة قليلة ، فليست دليلا على إعجاز القرآن كلّه

أولا – الإعجاز التشريعي يكون في آيات القرآن المحكمات ، لا في آياته المتشابهات ، لأن المحكمات هن أم الكتاب : "هو الذي أنزل عليك الكتاب ، منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب ، وأخر متشابهات" (آل عمران 7) . وبما أن المتشابه من القرآن ، وهو أكثره ، "ما يعلم تأويله إلاّ الله ، والراسخون في العلم يقولون : آمنا ، كلٌّ من عند ربنا" (آل عمران 7) ، فليس فيه من الاعجاز في التشريع شئ . وبما أن الآيات المحكمات هي "أوامره الزاجرة" ، على حدّ قولهم في شبه إجماع ، "عن مجاهد قال : المحكمات ما فيه الحلال والحرام ، وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضا ؛ وعن الربيع قال : المحكمات هي أوامره الزاجرة" – فإن أحكام الشريعة هي في أوامره الزاجرة في الحلال والحرام ، المبيّنة في الآيات المحكمات .

ثانيا – وآيات الأحكام المحكمات قليلة : "قال الغزالي وغيره : آيات الأحكام خمسماية آية . وقال بعضهم : مائة وخمسون . قيل : ولعلّ مرادهم المصرّح به ، فإن آيات القصص والأمثال يُستنبط منها كثير من الأحكام" . والأحكام القرآنية على نوعين : "من الآيات ما صُرّح فيه بالأحكام ، ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط ، إما بلا ضمّ إلى آية أخرى ... وإمّا به . "ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة ، وهو ظاهر؛ وتارة بالأخبار" .

بناءً عليه ، هذه هي النتيجة المذهلة في اعجاز القرآن :

1 – بما أن القرآن يعلن أن آياته المحكمات هنّ أم الكتاب ، فهن إذن موضوع اعجازه . وهذه الآيات المحكمات هي آيات الأحكام الخمسماية في الحلال والحرام من

أصل ستة آلاف وستماية وستين آية . نقل النحاس عن الحافظ الفارسي : "وبعد فهذا كتاب جمعت فيه جميع ما في القرآن من الآيات الناسخة والمنسوخة ، موجزة على حسب آيات القرآن : ألف آية أمر ؛ وألف آية نهي ، وألف آية وعد ، وألف آية وعيد ، وألف آية عبر وأمثال ، وألف آية قصص وأخبار ، وخمسماية حلال وحرام ، وماية آية دعاء وتسبيح ، وست وستون منسوخ . الجملة 6660 آية" . وهكذا لا يصح التحدي بإعجاز القرآن ، لأن آيات المحكمات ، في أحكام الحلال والحرام ، هي 500 من أصل 6660 .

2 – لا يصح التحدّي بالإعجاز التشريعي إلاّ بالأحكام المحكمة المصرح بها . ولا يصح التحدّي على الاطلاق بالأحكام المستنبطة استنباطا .

والمشهود في أحكام القرآن المحكمة المصرّح به أنها مائة وخمسون . قال السيوطي : "قال الغزالي وغيره : آيات الأحكام خمسماية آية . وقال بعضهم : مائة وخمسون ؛ قيل : ولعل مرادهم المصرح به"

فإذا كانت أحكام القرآن المحكمة المصرّح بها هي فقط مائة وخمسين ، من أصل 6660 آية هي القرآن كله ، فلا يصح التحدي بإعجاز القرآن كله ، بسبب ماية وخمسين آية . كما لا يصح التحدي بتشريع القرآن بسبب ماية وخمسين آية محكمة مصرح بها . فلا يصح الحكم بالبعض على الكل ، وبالجزء على سائر الأجزاء . والإصرار بالحكم على هذه الطريقة ، لا منطق فيه ، ولا حكمة ، ولا إعجاز .

3 – أحكام القرآن عن طريق التصريح والاستنباط هي خمسماية آية أو حكم . أما أحكام التوراة فهي ست مائة وثلاثون آية أو حكما . والكتاب إمام القرآن في العقيدة وفي الشريعة . فليس الإعجاز التشريعي في القرآن ميزة انفرد بها ، حتى يصح التحدي به عن طريق القياس والمقابلة .

4 – ناحية من الشريعة هي الدستور الاخلاقي . والشرعة الأخلاقية في القرآن هي "الكلمات العشر" لموسى على سيناء : "قال : يا موسى اني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ، فخُذْ ما آتيتُك وكن من الشاكرين . وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة ،

وتفصيلا لكل شئ" (الاعراف 144 – 145) . وتلك الكلمات العشر يردّدها القرآن بصور مختلفة ، مع هذه الفاتحة : "قلْ : تعالوا أتلُ ما حرَّم ربّكم عليكم" (الانعام 151) . فحتى في التشريع الأخلاقي يقتدي القرآن ويهتدي بهدىالكتاب الإمام ، والكتاب المنير ، التوراة والانجيل .

وعليه ، فليس التشريع القرآني وجها من وجوه الاعجاز في القرآن . ولا يقوم تحدٍّ باعجاز القرآن بسبب ماية وخمسين آية من أحكامه المحكمة المصرح بها في "آياته المحكمات (اللواتي) هنّ أم الكتاب" !


 

بحث ثالث

تشريع بحسب الحاجة ، ولا ينزل مبتدئا

ميزة التنزيل والتشريع في القرآن أنه نُزّل تنزيلا وفُرّق تفريقا ، من بعض الآية ، حتى خمس آيات أو عشر : "وقال الذين كفروا : لولا أُنزل عليه القرآن جملة واحدة ! – كذلك ، لنثبت به فؤادك ، ورتلناه ترتيلا ؛ ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيرا" (الفرقان 32 – 33) ؛ "وقرآنا فرّقناه لنقرأه على الناس على مكث ، ونزّلناه تنزيلا" (الاسراء 106) . فبحسب نص القرآن القاطع ، ان القرآن نزل مفرّقا "بجواب كلام العباد وأعمالهم" كما قال ابن عباس ، واستشهد بقوله : "ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيرا" . والسر والحكمة في تنزيل القرآن نجوما ، مفرّقا ، ما نقله أيضا السيوطي : "إنما لم ينزل جملة واحدة ، لأن منه الناسخ والمنسوخ ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أُنزِل مفرّقا . ومنه ما هو جواب لسؤال . ومنه ما هو إنكار على قول قيل أو فِعل فُعل . وقد تقدم ذلك في قول ابن

عباس : نزّله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم" . فكان التنزيل القرآني والتشريع فيه بحسب الحاجة وظروف الحال .

وهذه هي الظاهرة الكبرى في الشريعة القرآنية . قال محمد صبيح : "أورد كتاب (تاريخ التشريع) : كانت الآيات التشريعية ، وهي آيات الأحكام ، تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغالب جوابا لحوادث في المجتمع الاسلامي . وتعرف هذه الحوادث (بأسباب النزول) . وقد اعتنى بها جماعة من المفسرين وألفوا فيها كتبا وجعلوها أساسا لفهم القرآن . وأحيانا كانت تنزل الآيات جوابا على أسئلة يسألها بعض المؤمنين . وقليلا ما كانت تنزل الأحكام مبتدئة ... فقلّما ترى حكما لم يذكر له المفسرون حادثا أُنزل الحكم مرتّبا عليه" . فميزة التشريع القرآني الذاتية مزدوجة : انه تشريع المناسبة الطارئة ؛ وقليلا ما كان ينزل مبتدئا . والنتيجة الحاسمة لتلك الميزة هي أيضا مزدوجة : تشريع يأتي بحسب الحاجة الطارئة وظروف الحال العابرة ، لا يكون من الاعجاز في التشريع الذي يتحدّى كل تشريع ، حتى يصح أن يكون معجزة . والأصل في التشريع المنزل أو الوضعي أن يأتي مبتدئا ، يوضع وتسير الدعوة والسيرة على هداه . فالشريعة نور وهدى في النبوة والرسالة تسيران على ضوئهما ، لا تتسكعان وراءَهما . وما يرفع الاعجاز عن التشريع القرآني قوله : "ولا يأتونك بمثل ، إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيرا" (الفرقان 33) ؛ كأن جبريل والكفار في سباق على أفضل مثل وأحسن تفسير . فالتشريع المعجز الذي يصح التحدّي به هو الذي ينزل مبتدئا ، وتجري السيرة والنبوة على هداه ، لا الذي يأتي طارئا بحسب الحاجة وضرورة الحال . فالتشريع التوراتي نزل مبتدئا على موسى في سيناء ، في الكلمات العشر ، وسارت الرسالة على هداه . والتشريع الانجيلي وضع السيد المسيح دستوره في خطبته التأسيسيّة على الجبل (متى 5 – 7) ، وسارت الدعوة على هداه ، وعلى نوره يقضي السيد المسيح في المسائل والمشاكل الطارئة . وتشريع لا ينزل مبتدئا ، بل بحسب الحاجة وظروف الحال ، هل هو من الاعجاز في التشريع !


 

بحث رابع

التشريع القرآني دستور أم قانون ؟

التشريع القانوني ابن بيئته ، وابن ساعته ، يرعى ضرورة الحال ، لا مصلحة الاستقبال . والتشريع الدستوري مبادئ عامة تتخطّى ظروف الزمان والمكان ، لكي يكون صالحا لكل زمان ومكان . وواقع الحال في القرآن ، وكتب (أسباب النزول) تشهد أن التشريع القرآني كان ابن بيئته ، وابن ساعته . فهو لا يتخطى ظروف الزمان والمكان ليصلح لكل زمان ومكان . ظل التشريع القرآني ينزل "بجواب كلام العباد وأعمالهم" ، ويتطور بين تبديل ومحو ، واسقاط ونسخ ، حتى فاجأه موت الرسول ولم يكتمل . يقول الاستاذ دروزة : "إن جُلَّ الآيات والفصول التشريعيّة ، إن لم نقل كلها ، قد نزلت إجابة على أسئلة واستفتاءات ، أو بمناسبة حوادث ووقائع وظروف متصلة بالسيرة النبوية ، ومواقف وتصّرفات المسلمين وغير المسلمين في أثنائها : فكانت من جهة حلاًّ لمشاكل ومسائل واقعية ، ومن جهة تشريعا مستمر الحكم والتلقين والمدى . وفي التشريع القرآني بعض التطورات : نعني أن هناك أحكاما أو أوامر ونواهي أبكر من أحكام وأوامر ونواه : وأن من المتأخر ما جاءَ ناسخا أو معدّلا للمتقدم على حسب ما اقتضته الحكمة من مراعاة الظروف أو التطابق معها سلبا وإيجابا ، وتخفيفا وتشديدا وضيقا وسعة" .

وتشريع كهذا هو تشريع قانوني ، لا دستوري . لأن التشريع الدستوري ، في مدة عشر سنوات وما دون ، لا ينزل متأخرا عن النبوة والرسالة ، ولا يعتريه نسخ أو تعديل .

وهاك مثلا على قيام التشريع الديني في القرآن ، من شِرْعة الصيام . قال دروزة "هناك روايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صام عاشوراء ، وحضّ على صيامه ، قبل نزول آيات فرض صيام رمضان (البقرة 183 – 187) . ولقد قال بعض العلماء والمفسرين بوجود ناسخ

ومنسوخ في آيات الصوم ، إذاستدلّوا ، من الآية الثانية على أن الصيام فُرض في أوَّل الأمر بصورة عامة ، وبدون تحديد شهر كامل ، مع تخيير المسلمين القادرين عليه بين الصيام والفداء عنه بإطعام مسكين عن كل يوم . ثم أُكّدت الفريضة بالآية (185) ، إذ جعلت كامل شهر رمضان وحتِّم صيامه على غير المريض والمسافر ، ونسخ التخيير بين الصوم والفداء بالنسبة الى القادرين . وفي هذا مظهر من مظاهر التطور . والآية الأخيرة (187) تدل على أن المسلمين وقعوا في شئ من الحرج أو الإثم في صدد قرب نسائهم في ليالي الصوم ؛ وبعض العلماء يقولون إنها ناسخة لأمر كان يعتبره المسلمون واجبا (عدم الجماع ليلة الصوم) فخفّف الله عنهم حينما ظهر الحرج" .

أما الحجّ فيقول عنه أيضا دروزة : "إن تشريع الحج (الحج 25 – 35) تشريع مدني (البقرة 158 و189 و196 – 203 ثم آل عمران 96 – 97 ثم المائدة 1 – 2 مع 94 – 97) . وجلّ المناسك والطقوس التي أشارت إليها الآيات وشرعتها – إن لم نقل كلها– قد أُقر على ما كان عليه قبل البعثة ، بعد تهذيبه من المناظر القبيحة وتجريده من شوائب الشرك والوثنية . وفي الآيات صور واقعية وخطوات تطورية . ويُفهم من آية البقرة (198) أن المسلمين تحرّجوا من الاشتغال بالتجارة في أثناء أشهر الحج – وقد كان العرب يقيمون الأسواق التجارية في هذه الأثناء – فأباحت الآية لهم ذلك . ويُفهم من آيات المائدة (94 – 95) أن العرب كانوا يحرّمون صيد البر والبحر في أشهر الحج المحرّمة فأباحت صيد البحر للتخفيف عن الناس . كما أنها جعلت حالة التحريم مقصورة على وقت الإحرام الذي حدّدته السُنة بلبس الثياب غير المخيّطة حين دخول المسلم منطقة الحرم . ويفهم من آيات الحج (25 – 35) أن العرب كانوا يتحرّجون من أكل لحوم قرابينهم فأباحت لأصحابها الأكل منها وإطعام غيرهم وخاصة الفقراء" . تشريع كهذا هو ابن بيئته وابن ساعته ، يخضع لظروف الزمان والمكان ، ولا يتخطاها الى التاريخ والبشرية كلها . وتشريع قانوني ابن ساعته ، وابن بيئته ، ويكون على مقتضى ظروف الزمان والمكان ، قد لا يصلح لكل زمان ومكان في تطور البشرية المستديم . فقوله مثلا : "للذكر مثل حظ الانثيين" في الميراث ؛ وقوله مثلا في مواقيت الصيام "حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" (البقرة 187) ، سيأتي زمن لا تطيق البشرية ذلك ، في عهد المساواة بين الرجل والمرأة ، وفي عهد الساعة التي تحدّد وقت الصوم بدقة أكثر من شريعة الخيط الأبيض أو الأسود .

وهل سترضى المدنية بالتيمّم بتراب طهور ، بدل الوضوء بالماء ؟ وتشريع قانوني ، "بجواب كلام العباد وأعمالهم" ، كما يصفه ابن عباس ، ترجمان القرآن ، هل هو من الإعجاز في التشريع الدستوري لكل زمان ومكان ؟


 

بحث خامس

مصادر التشريع الاسلامي

1 – المصدر الأول للتشريع الاسلامي هو القرآن .

وكان يجب أن يكون المصدر الوحيد ، لو كان التشريع القرآني كاملا شاملا ، يصلح لكل زمان ومكان ، حتى يصح التحدّي بإعجازه . لكن بما أن التشريع القرآني ناقص ، لا يفي بحاجة الأمة والجماعة في تطورها عبر الزمان والمكان ، أُلجئوا الى التفتيش له عن مصادر أخرى .

2 – فالمصدر الثاني للتشريع الاسلامي ، بعد القرآن ، هو السُنّة الرسولية . وغالى بعض أهل السُنّة بصواب هذا المصدر الثاني فقالوا أحيانا بنسخ القرآن بالسنة . وتشريع في كتاب الله تنسخه سُنّة رسوله ، هل هو من الاعجاز في التشريع ؟

ثم ان السُّنّة مبيّنة في الحديث : فهل الحديث مصدر صحيح موثوق لا شبهة عليه ؟ قال النووي في شرح صحيح مسلم : "قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها ، ونزلت عن درجة ما التزماه . وقال ابن خلدون : انني أعتقد صحة سند حديث ، ولا قول عالم صحابي يخالف ظاهر القرآن ، وإن وثّقوا رجاله . فرُبّ راوٍ يُوَثّق للاغترار بظاهر حاله ، وهو سئّ الباطن . ولو انتقدت الروايات ، من جهة فحوى متنها ، كما تُنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض" .

وأهل المدرسة الحديثة يكادون يشكون في الحديث كله . يقول عبد الله السمّان : "واذا تركنا السيرة الى كتب الحديث ألفينا أنفسنا إزاء مشكلة معقّدة تجعل الباحث في

حيرة لا تنتهي ولا تقف عند حد . ففي عهد النبي لم يُدوّن الحديث (وقد منع من تدوينه) ، ولا في عهد الخلفاء الراشدين ، وذلك خشية أن يختلط الحديث بالقرآن . ولم يكد يتولّى الخليفة الثالث عثمان حتى بدأت تتولّد الخلافات السياسية ، وظهر وضع آلاف الأحاديث ونسبتها الى النبي ، لتكون مؤيدا لحزب سياسي ، أو ناقضا لحزب آخر ، وانتهز اليهود والزنادقة فرصة هذه الخلافات التي تدثّرت بالدماء في معظم الأحايين ، وراحوا يختلقون الأحاديث ليهدموا بها الاسلام ويُشغلوا العامة عن أصوله ، لتنصرف الى شكلياته . كما تطوّع كثير من السذّج والبسطاء فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب ، ظنّا منهم أن في هذا خدمة للدين ؛ ولو عقلوا لأدركوا أنهم أساؤوا إلى الدين أكبر اساءَة ... ولم يبدإِ التدوين إلاّ في عهد المأمون ؛ وذلك بعد أن اختلط الحديث الصحيح في الحديث الكذب ، كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، كما يقول الدار قطني ، أحد جامعي الحديث المعروفين" .

لذلك قام الخلاف الأكبر بين السنة والشيعة على صحة الحديث ، وعلى صحة اعتباره مصدرا للتشريع الاسلامي . فقال أهل السنة بأن مصدر التشريع الكتاب والسنة ؛ وقالت الشيعة بأن الكتاب وحده مصدر الشريعة ، وأنكروا السُنّة كمصدر للتشريع .

ومصدر مشبوه كالحديث في متنه ، وسنده ، ومصدره ، هل يصح مصدرا للتشريع ؟ وتشريع مبني على مصدر مشبوه ، هل هو من الاعجاز في التشريع ؟

3 – وتطورت الحياة الاسلامية ، وتطورت معها الحاجة الى مزيد من التشريع لقيام مصالحها . وتلفتوا الى الكتاب والسنة ، فلم يجدوا فيهما كل ما تحتاجه الأمة من تشريع . فلجأوا إلى مصدر ثالث للتشريع الاسلامي: الرأي ، أي اتفاق أهل النظر في المصالح العامة ، دون سواد الأمة ، لأنه اجماع أهل العلم ، في العلم .

وعن الاستاذ الأكبر ، محمود شلتوت ، شيخ الجامع الأزهر ، في كتابه (العقيدة والشريعة) ، ينقل ناقده : "ذكر فضيلة الاستاذ الأكبر عند الكلام عن الرأي – كمصدر للتشريع – أن عهد الرسول قد تركّز فيه مصدران للتشريع هما القرآن والسنة ، وكان أصحابه من بعده يرجعون الى القرآن والسنة ؛ فإن لم يجدوا حاجتهم بحثوا مستلهمين روح

الشريعة . وكان أخذ الرأي بطريق الاستشارة مصدرا جديدا ظهر العمل به بعد وفاة الرسول ، في ما لا نص فيه من كتاب أو سُنة ، أو في ما فيه نص محتمل . وترجيح حجّية الرأي في التشريع الى تقرير القرآن مبدأ الشورى ، وأمره بردّ المتنازع فيه إلى أولي الأمر ؛ ثم بعد ذلك ثبوت إقرار النبي لأصحابه الذين كان يبعثهم الى الأقاليم على الاجتهاد والأخذ بالرأي" .

وتشريع بحاجة "الى الاجتهاد والأخذ بالرأي" هل هو من الإعجاز في التشريع ؟

4 – وهناك مصادر أخرى الجأتهم الحاجة الى استنباطها لإكمال مصادر التشريع الاسلامي . فهل الحاجة المستمرة ، في تطور حياة الجماعة ، الى استنباط مصادر أخرى للتشريع ، غير المصدر المنزل ، دليل على اعجاز التشريع المنزل وكفايته ؟ إن الاعتماد المتواتر على مصادر أخرى ، غير الكتاب ، في مصادر التشريع الاسلامي ، لخير دليل على عدم كفاية التشريع المنزل : فكيف تكون الشريعة القرآنية معجزة للتحدي ؟


 

بحث سادس

"أكثر الأحكام الاسلامية من النوع الاجتهادي"

لكي يصح التحدي بشريعة كأنها معجزة ، يجب أن تكون أحكامها من الشرع المنزل المحكم الذي لا مجال فيه لرأي أو اجتهاد .

1 – والتشريع القرآني بحاجة الى السنّة لبيانه ؛ "وقد تكفلت بذلك السُنة النبوية شأن كثير من الحدود والقواعد" . ويقول بعضهم : وقد تنسخ السُنة القرآن . وتشريع منزل بحاجة الى سنة الرسول ، في حديث مشبوه ، لبيانه ، ليس من الاعجاز في التشريع .

2 – والتشريع القرآني ، بعد الكتاب والسنة ، بحاجة الى الرأي والاجتهاد لبيانه . وتشريع منزل يفتقر بعد الكتاب والسُنة الى الرأي والاجماع بالاجتهاد لبيانه ، كمصدر ثالث لأحكامه ، ليس بالتشريع الجامع المانع ، الشامل الكامل ، التشريع المعجز بذاته الذي يصح التحدي به .

3 – فمصادر التشريع الاسلامي المتعدّدة تجعله تشريعا اجتهاديّا . إن الشيخ الأكبر ؛ محمود شلتوت ، شيخ الجامع الأزهر "يقسم الحكم في الشريعة الى نوعين : حكم نص عليه القرآن والسنة نصّا صريحا لا يحتمل التأويل ، ولا يحتمل الاجتهاد – وهو قليل ؛ والنوع الآخر حكم لم يرد به قرآن ولا سُنة ، أو ورد به أحدهما ، ولم يكن الوارد به قطعيّا فيه ، بل محتملا له ولغيره ، وكان ذلك محلاًّ لاجتهاد الفقهاء والمشرّعين : فاجتهدوا فيه ، وكان لكل مجتهد رأيه ووجهة نظره . وأكثر الأحكام الاسلامية من هذا النوع الاجتهادي" .

وتشريع أكثر الأحكام فيه من النوع الاجتهادي ، هل يكون معجزة الشريعة الى يوم القيامة ؟ وهل يصح أن نجعله ، مع الشيخ أبي زهرة وغيره ، معجزة الاعجاز القرآني الكبرى ؟ ألا يكفي القرآن اعجاز نظمه وبيانه ؟

4 – ويرى الدكتور السنهوري أن الفقه الاسلامي ، المبني على الشرع الاسلامي ، بحاجة الى تطوير ليصلح للعصر الذي نعيش فيه . قال : "والهدف الذي نرمي إليه هو تطوير الفقه الاسلامي ، وفقا لصناعته ، حتى نشتق منه قانونا حديثا يصلح للعصر الذي نعيش فيه . وليس القانون المصري أو القانون العراقي الجديد ، إلاّ قانونا مناسبا في الوقت الحاضر لمصر أو للعراق . والقانون النهائي الدائم لكل من مصر والعراق ، بل ولجميع الدول العربية ، إنما هو "القانون المدني" الذي نشتقه من الشريعةالاسلامية بعد أن يتم تطوّرها" .

وشريعة بحاجة الى تطوير لتصلح للعصر الذي نعيش فيه ليست بمعجزة الشريعة . وتشريع أكثر الأحكام فيه من النوع الاجتهادي ليس من الاعجاز في التشريع المنزل .


 

بحث سابع

تشريع يمتريه التبديل والمحو والإسقاط والنسخ

إن التشريع المنزل الذي يصلح للتحدي هو التشريع المحكم الذي ينزل مبتدئا ، ولا يعتريه تبديل ولا محو ولا اسقاط ولا نسخ .

1 – والتشريع القرآني يعتوره التبديل ، بنص القرآن القاطع : "واذا بدَّلنا آية مكان آية – والله أعلم بما ينزّل – قالوا : إنما أنت مفترٍ ! (النحل 101) . هذه الظاهرة من مكة ، وقد دامت الى وقت التشريع بالمدينة ، كما يؤيدها مبدأ النسخ وواقعه (البقرة 106) ، والى العرضة الأخيرة . وتشريع يعتوره تبديل في مدى عشر سنوات لا يكون معجزا بذاته .

2 – والتشريع القرآني يلحقه المحو ، بنص القرآن القاطع : "لكل أجل كتاب : يمحو الله ما يشاء ويثبت ، وعنده أمّ الكتاب" (الرعد 38 – 39) . وتنزيل بالتشريع ، مثبت في أم الكتاب ، أي أصله الذي لا يتغير منه شئ ، كيف يلحق به المحو مثبتا أو منزلا ؟ وتشريع يقتضي المحو بعد تنزيل ، في مدى عشر سنوات ، لا يكون معجزا بذاته .

3 – والتشريع القرآني آفته الاسقاط منه ، بعد تنزيله . بحسب الحديث المتواتر كان يجري اسقاط من القرآن في عرضاته السنوية على جبريل ؛ وفي العرضة الأخيرة سقط منه منسوخ كثير رفعت تلاوته وأحكامه . وعند جمع القرآن "ذهب منه قرآن كثير" ؛ "قبل أن يغيّر عثمان المصاحف" ، على قول ابن عمر والسيدة عائشة . وتشريع يقتضي الاسقاط منه لتقويمه ، في مدى عشر سنوات ، لا يكون معجزا بذاته .

4 – والتشريع القرآني يعتريه النسخ في أحكامه (البقرة 106) . وقد يقع النسخ فيه بين المدني والمكي ؛ وفي المدني بين السورة والسورة ، وفي السورة نفسها بين آية وآية ،

وأحيانا في الآية الواحدة . قال السيوطي : "النسخ ممّا خصَّ الله به هذه الأمة" . وقد وقع النسخ أثناء التنزيل . وفي العرضة الأخيرة للقرآن رُفع من المنسوخ كثير . ومع ذلك فقد احتوى مصحف علي كثيرا من المنسوخ ، قضى عليه عثمان عند جمعه القرآن . وفي المصحف العثماني بقي ناسخ ومنسوخ تُؤلف فيه الكتب الى اليوم . وتشريع يعتريه النسخ في جميع أطواره لا يكون معجزا بذاته .

وتشريع يتّصف بذاته بالتبديل والمحو والاسقاط والنسخ هل يكون من الإعجاز في التشريع ؟


 

بحث ثامن

تشريع يشوبه متشابه ويعوزه تفسير

للقرآن أسلوب مطّرد في بيانه ، وهو التعميم في معرض التخصيص ، والتخصيص في معرض التعميم . ومن أساليبه اطلاق الحكم مع قيده باستثناء أو سواه . ومن أساليبه اصدار الحكم عن الخاص الى العام مستمر التلقين ، لمن كان بمنزلة الشخص المعين . وقد تصدر الأحكام فيه على "رتبة متوسطة ، دون السبب (المخصُوص) ، وفوق التجرّد" ؛ فتلك ثلاثة أنواع . وقد يأتي الحكم العام تاليا للخاص في الرسم متراخيا عنه في النزول . لذلك قال بعضهم : لا يصح تفسير الكتاب إلا بعد معرفة "أسباب النزول" .

ومعرفة (اسباب النزول) لها فوائد : "منها معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم . ومنها تخصيص الحكم به ، عند مَن يرى أن العبرة بخصوص السبب . ومنها أن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيصه ، فإذا عُرف السبب قصر التخصيص على

ما عدا صورته . ومنها الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال . قال الواحدي : لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها . وقال ابن دقيق العيد : بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن . وقال ابن تميمة : معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية ، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبِّب ... ومنها دفع توهم الحصر . ومنها معرفة اسم النازل فيه الآية ، وتعيين المبهم فيها . واختلف أهل الأصول : هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب" .

ومن الأحكام المتشابهة التي لا يُعرف حدّها إلاّ بسبب نزولها مثل قوله : "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناح فيما طعموا" فظنها بعضهم مبيحة لشرب الخمر ، وهي مقصورة على أناس قُتلوا في سبيل الله قبل تحريمها ؛ ومثل قوله : "فأينما تولوا فثِمَّ وجه الله" ، فمدلول اللفظ يقتضي أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة سفرا ولا حضرا ، وهو خلاف الاجماع ، فلمّا عُرف سبب نزولها عُلِمَ أنها في نافلة السفر أو فيمن صلّى بالاجتهاد وبان له الخطأ ، على اختلاف الروايات ؛ ومثل قوله : "إن الصفا والمروة من شعائر الله" فإن ظاهر لفظها لا يقتضي أن السعي فرض ، وقد ذهب بعضهم الى عدم فريضته تمسكا بذلك ؛ ولكن سبب نزولها يدل على فرضها ، وهو أن الصحابة تأثّموا من السعي بينهما لأنه من عمل الجاهلية ، فنزلت ...

وهكذا يظهر على كثير من أحكام القرآن تشابه لا يُرفع إلاّ بغيره من القرائن القرآنية أو من (اسباب النزول) . وتشريع يشوبه تشابه في لفظه هل هو من الاعجاز في التشريع ؟


 

بحث تاسع

من ميزات التشريع القرآني

للتشريع القرآني ميزات يختص بها ، هي دلائل على مدى اعجازه .

1 – ميزته الأولى : التخفيف في أحكام أهل الكتاب ، وفي أحكام الجاهلية نفسها . بتشريع القرآن "يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم ... يُريد الله أن يخفِّف

عنكم ، وخُلق الانسان ضعيفا" (النساء 26 و28) . من ذلك تحليل "الرفث الى النساء ليلة الصيام" (البقرة 187) ، وكان محظورا عند أهل الكتاب . ومن ذلك ، في الصيام ، العِدّة من أيام أُخر لمن كان مريضا أو على سفر ، إذ "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" (البقرة 185) ...

وقد يأتي التخفيف في أحكام الجاهلية نفسها ، كالتي في مناسك الحج في إباحة التجارة . (البقرة 198) ، أو في ما "استيسر من الهدي ، فمن لم يجد فصيام" عشرة أيام (البقرة 196) أو قبول جميع المواقف في مناسك الحج تألّفا لأصحابها كالسعي بين الصفا والمروة (البقرة 158) ، أو العفو عن القصاص في القتلى ، "ذلك تخفيف من ربكم" (البقرة 178) .

ومبدأ التخفيف في الأحكام قد يطبقه القرآن على محرّماته ، عند الضرورة ، كقوله : "إنما حُرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ... فمن اضطُرّ غير باغ ولا عاد ، فلا إثم عليه" (البقرة 173) . ويطبّقه في الايمان والتوحيد ، بإظهار الشرك عند الحاجة : "من كفر بالله ، بعد إيمانه – إلاّ مَن أُكرِه وقلبه مطمئن بالايمان – ولكن مَن شرح بالكفر صدرًا ، فعليهم غضب من الله ، ولهم عذاب عظيم" (النحل 106) فهذا المبدأ يلغي الاستشهاد الحق في سبيل الإيمان . وكان المبدأ الفقهي : الضرورات تبيح المحظورات .

وتشريع سمته التخفيف في أحكامه عن أمته ، هل هو من الاعجاز في التشريع لخلق خير أمة أخرجت للناس" ؟

2 – ميزته الثانية : التسهيل في مداورة الأحكام بفرض التحلة والكفّارة ، أو الفدية .

يقول في القسم : "ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" (البقرة 224) ؛ "واحفظوا إيمانكم" (المائدة 89) ؛ "ولا تتّخذوا إيمانكم دَخَلاً بينكم ، فتزل قدم بعد ثبوتها ... ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا" (النحل 94 و95) . ثم يقول : "قد فرض الله لكم تحلّة أيمانكم" (التحريم 2) ، وكان ذلك مقدَّمة لتحلة محمد من قسمه الى بعض أزواجه . كذلك : "لا يُؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الايمان ؛ فكفارته : إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم ، أو كسوتُهم ، أو تحرير رقبته ؛ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام – ذلك كفّارة أيمانكم اذا حلفتم – واحفظوا أيمانكم – كذلك يُبيّن الله لكم آياته لعلكم تشكرون" (المائدة 89) .

وقد شرع الفدية في الصوم : "وعلى الذين يطيقونه فدية : طعام مسكين" (البقرة 184) . قال البيضاوي : "رُخص لهم في ذلك أوّل الأمر ، لمّا أُمروا بالصوم ، فاشتدَّ عليهم لأنهم لم يتعوّدوه ثم نُسخ ... (وهناك قراءات أخرى للآية) ، وعلى هذه القراءات يحتمل معنى ثانيا ، وهو الرخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده ، وهم الشيوخ والعجائز ، في الافطار والفدية ، فيكون ثابتا ، وقد أُوّل به القراءة المشهورة أي يصومونه جهدهم وطاقتهم" . والفدية لمن كان مريضا أو على سفر في الصيام لم تُنسخ (البقرة 184 – 185) .

كذلك شرع الفدية في الحج بحلق الرأس للمضطرّ (البقرة 196) .

ومتى وُضع مبدأ التحلة والكفارة والفدية للتخلّص من أحكام الشريعة ، جازت مداورتها لمن يريد ويهوى . فإذا جاز مداورة الشريعة بمبدأ الكفارة أو الفدية فكيف تصير أخلاق المؤمن ؟

3 – ميزته الثالثة :رفع الحرج في الدين وشعائره وأحكامه . فكان هذا المبدأ : "وما جعل عليكم في الدين من حرج" (الحج 78) . وطبّقه بالتيمّم بتراب طهور ، بدل الوضوء بالماء (المائدة 6) . وطبّقه حتى في التظاهر بالكفر والشرك عند الضرورة ، "لمن أُكره وقلبه مطمئن بالايمان" (النحل 106) . وكان النبي نفسه "أسوة حسنة" (الأحزاب 21) برفع القرآن الحرج عنه في حدود شريعة الزواج وقيودها . فقد ألغى شريعة التبنّي الجاهلية – وهي عالمية حتى اليوم – وأخذ محمد مطلقة متبنّاه زيد "لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم ... ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له" (الاحزاب 37 – 38) . وأحلّ له جميع قريباته ، فوق نسائه ، "وامرأة مؤمنة ، إن وهبت نفسها للنبي ، إن أرد النبي أن يستنكحها ، خالصة لك من دون المؤمنين : قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت إيمانهم . لكيلا يكون عليك حرج ، وكان الله غفورا رحيما (الاحزاب 50) . ورفع عنه حدود الطلاق والعزل والعدل بين نسائه : "ترجئ مَن تشاء ، وتؤوي اليك مَن تشاء . ومن ابتغيت ممن عزلت ، فلا جُناح عليك" (الاحزاب 51) .

وقد وصل رفع الحرج حتى في القرآن نفسه ، فنزل : "طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" (طه 1 – 2) ؛ "كتاب أنزل اليك ، فلا يكن في صدرك حرج منه" (الأعراف 2) . ورفع الحرج عن النبي في تنزيل القرآن يفسّر لنا بعض مظاهره من تبديل أو محو أو نسخ .

وقد استخلص الفقهاء من ذلك أن الحرج في الدين وأحكامه والشريعة وأحكامها مرفوع شرعا ، وأن المشقة تجلب التيسير ، وأن الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات . إن التكليف بالشريعة يلازمه الحرج في تطبيقها . ومتى رُفع الحرج ، بتقدير المكلَّف وقدرته ، زالت حرمتها وقدسيّتها ! ومتى كان الحرج في التكليف بالشريعة مرفوعا شرعا ، ومتى كانت الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات ، فعلى الشريعة وأحكامها السلام .

4 – ميزته الرابعة : مبدأ الكَسْب في الإثم والخطيئة والسيئة

المبدأ في القرآن : "بلى ، مَن كسب سيئة ، وأحاطت به خطيئته ، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" (البقرة 81) ؛ واتقوا يوما تُرجَعون فيه الى الله ، ثم تُوفّى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون" (البقرة 281) . ويقول : "ومن يكسب إثما فإنما يكسِبه على نفسه ، وكان الله عليما حكيما" (النساء 111) . مع ذلك فهو يقول : "لا يكلَّف الله نفسا إلاّ وسعها : لها ما كَسَبَت ، وعليها ما اكتسبت" (البقرة 286) . فليس من كسب أو اكتساب في التكليف إلاّ على وُسْع الانسان . وهذا تقدير ذاتي قد يذهب بالتكليف ذاته .

يقول أيضا : "وذروا ظاهر الإثم وباطنه : إن الذين يكسبون الإثم ، سيُجزون بما كانوا يقترفون" (الانعام 120) . وبناءً عليه يقول : "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ، والله غفور حليم" (البقرة 225) ؛ ويقول "إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" (البقرة 284) أي يشرع المحاسبة على الوسوسة . ثم ينسخها بقوله : "لا يكلّف الله نفسا إلاّ وسعها" (البقرة 286) . إن باطن الاثم كالوسوسة بالشر إخفاء له نُحاسب عليه ، فكيف لا يكلف الله نفسا إلا وسعها بالكسب العملي الظاهر ؟

ثم "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" (البقرة 225) . كأن اللغو باسم الله العظيم لا كسب فيه للإثم ! لذلك درجت العادة بالقسم باسم الله (بدون كسر الهاء) كأنه لا إثم فيه . ولا تمنع اليمين من الاصلاح بين الناس عن طريق الكذب الظاهر (البقرة 225) ؛ أو عمل ما هو أفضل من الأمور المقسوم عليها "كقوله عليه السلام لابن سمرة : اذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيرًا منها فأتِ الذي هو خير ، وكفّر عن يمينك" (البيضاوي) .

فالكسب للإثم هو طورا "ظاهر الاثم وباطنه" ؛ وهو طورا "بما كسبت قلوبكم" ؛ وهو طورا مَن "أحاطت به خطيئته" من ظاهرالعمل . فالكسب في الإثم متشابه ، وهذا ممّا يجعل درء حدود الأحكام سهلا . وعلى كل حال ، يصح درء الحدود بالشبهات . وتشريع لا تتضح فيه معالم الشر والاثم والذنب هل هو من الاعجاز في التشريع ؟

5 – ميزته الخامسة : استباحة "اللمم" في الإثم والفواحش

من صفات المحسنين ، في القرآن ، استباحة اللمم في الآثام والفواحش : "ولله السماوات وما في الأرض ، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلاّ اللمم : إن ربك واسع المغفرة" (النجم 31 – 32) . فصغائر الاثم واللمم في الفواحش لا تمنع الحسنى لدى الله .

فالمحسنون ، في عرْف القرآن ، هم "الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش" (الشورى 37) .

والمبدأ في الجزاء : "إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه ، نكفّر عنكم سيئاتكم ، وندخلكم مدخلا كريما" (النساء 31) ؛ مع أن كتاب الحساب في يوم الدين لا يترك صغيرة ولا كبيرة : "ووضع الكتاب ، فترى المجرمين مشفقين ممّا فيه ، ويقولون : يا ويلتنا ، ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، ووجدوا ما عملوا حاضرا ، ولا يظلم ربك أحدا" (الكهف 49) ؛ ومع أن "الحسنات يذهبن السيئات" (هود 114) .

ومبدأ آخر في الجزاء : إن عباد الرحمان "الذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق ، ولا يزنون – ومَن يفعل ذلك يلق آثاما ، يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ، إلاّ من تاب وآمن وعمل صالحا ، فأولئك يبدّل الله سيّئاتهم حسنات ، وكان الله غفورا رحيما" (الفرقان 68 – 70) . فعباد الرحمان جزاؤهم مضاعف ، وتوبتهم تبدِّل سيئاتهم حسنات .

فالخلْق الحسن ، والثواب الحسن ، في اجتناب "كبائر الاثم والفواحش" . أمّا صغائر الآثام ، واللمم في الفواحش ، فلا عبرة له في الجزاء . وتشريع يستبيح صغائر الآثام ، واللمم في الفواحش ، هل هو من الاعجاز في التشريع الديني والخلقي ؟ وهل يعطي "خير أمة أُخرجت للناس" أسوة حسنة للعالمين ؟

6 – ميزته السادسة : الشرك هو الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له

إن الشرك اثم عظيم : "إن الله لا يغفر أن يُشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . ومَن يُشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا" (النساء 48) . وإن الشرك ضلال بعيد : "إن الله لا يغفر أن يُشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ومَن يُشرك بالله فقد ضلَّ ضلالا بعيدا" (النساء 116) . وهذا التعليم ينسبه القرآن للمسيح : "وقال المسيح : يا بني اسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم . إنه مَن يُشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ، ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار" (المائدة 72) .

لا شك أن الشرك إثم عظيم وضلال بعيد ومأواه النار . ولكن مَن خُلق مشركا ، وهو قانع من وجدانه أنه على حق ، فهل يكون مصيره النار ؟ ألا يقول : "وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أُمّها رسولا فيتلو عليهم آياتنا ! وما كنّا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون" (القصص 59) ، "ذلك أن لم يكون ربك مهلك القرى بظلم ، وأهلها غافلون" (الانعام 131) فتلك الأشراط الثلاثة للإهلاك تجعل المشرك غير مسؤول عن شركه ، فلا يُحاسب عليه . إن الشرك المسؤول هو الشرك الظالم الذي يعرف نفسه وظلمه . فليس جميع المشركين الغافلين وغير الظالمين ، مأواهم النار ! وليس الشرك الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له . إن صاحب الكبيرة غير التائب لا مغفرة له أيضا ؛ وإن اختلفوا هل هو في النهاية من أهل الجنة أم مِن أهل النار ، أم في منزلة بين المنزلتين . واستنتاجهم من آية الشرك (النساء 48) أنه لا يخلّد في النار مؤمن ، ولا ينجو من النار مشرك ، ليس بمنطق ولا صواب . والقول : "لا يخلّد في النّار مؤمن" هو باب فساد وإفساد للمؤمن . والقول الحق قوله : "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين : مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (البقرة 62) . فشرط النجاة من النار ليس الايمان وحده ، بل الايمان المقرون بالعمل الصالح . فإذا كان الشرك هو الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له ، وكان المسلم صاحب الكبيرة لا يُخلّد في النار ، جاز له أن يستبيح أحكام الشريعة كلها : فهل هذا من الاعجاز في التنزيل والتشريع ؟

تلك هي ميزات التشريع القرآني الذاتية . ونتساءَل أين فيها معجزة الشريعة التي يصح بها تحدي العالمين ؟ فهل التخفيف في أحكام أهل الكتاب والجاهلية والقرآن نفسه ؛ هل

التسهيل بمداورة أحكام القرآن بالتحلة والكفارة والفدية ؛ وهل رفع الحرج في أحكام الدين والشريعة ؛ وهل حصر الكسب في الإثم والخطيئة والسيئة بالعمل الظاهر من دون المحاسبة على السوء من فكر أو شهوة أو رغبة لم تقترن بعمل ؛ وهل استباحة الصغائر في الآثام واللمم في الفواحش ؛ وهل اقتصار الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له على الشرك وحده من دون سائر الكبائر ، هي كلها من دلائل الاعجاز في التشريع ؟


 

بحث عاشر

التشريع القرآني هداية الى التشريع الكتابي

إن التشريع القرآني هداية الى التشريع الكتابي ، وذلك بنص القرآن القاطع : "يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنَن الذين من قبلكم ، ويتوب عليكم ، والله عليكم حكيم" (النساء 26) . إن صراحة هذا التصريح تدلنا على سعة مدلول التحدي في قوله : "قل : فأتوا بكتاب من عندالله هو أهدى منهما اتّبعه ، ان كنتم صادقين" (القصص 49) . إنه يتحدى المشركين بهدى الكتاب والقرآن معا أي بعقيدتهما وشريعتهما . فالتحدي بالشريعة لا ينفرد به القرآن حتى يكون معجزة له ، إنما هو ميزة الكتاب والقرآن معا . وكما أن القرآن تابع في هداه لكتاب الإمام ، فهو تابع له في الشريعة أيضا : فالاعجاز في الشريعة والسُنن يكون في الإمام المتبوع قبل التابع . بذلك تزول عن القرآن صفة التحدي بشريعته كمعجزة له .

والقرآن في الدين كله ، سواء العقيدة والشريعة والصوفية ، في سننه وأحكامه ، إنما يشرع للعرب دين موسى وعيسى معا ، أمةً واحدةً : شرع لكم من الدين ... ما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ، ولا تتفرقوا فيه ، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه" (الشورى 13) . فدين الكتاب ، دين موسى وعيسى معا ، هو الدين للعرب : "تلك أمتكم أمة واحدة" (الأنبياء 92 ؛ المؤمنون 52) في وحدة الأمة والدين والشريعة . فلا ميزة

للقرآن وأهله بها ينفردون ، وبها يتحدّون . فإن الأمر ، منذ رؤيا غار حراء ، جاء محمدا أن يقتدي بهداهم : أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوة ... أولئك الذين هدى الله ، فبهداهم اقتدِهْ" (الانعام 89 – 90) في العقيدة والشريعة ، في الأحكام والسنن . فالاعجاز في الهدى ، من عقيدة وشريعة ، الذي به يقتدي في الدعوة القرآنية . "والذين آتيناهم الكتاب والحكم" هم الذين يقيمون "الكتاب والحكمة" معا ، دين موسى وعيسى معا ، النصارى من بني اسرائيل ، الذين يختصّهم باسم "مسلمين" ، ويُؤمر بأن ينضم اليهم ويتلو قرآن الكتاب على طريقتهم : "وأُمرتُ أن أكون من المسلمين ، وأن أتلو القرآن" (النحل 91 – 92) . فالاعجاز في العقيدة والشريعة هو عند هؤلاء "المسلمين" : فما محمد سوى تلميذ لهم في "الاسلام" . وهؤلاء "المسلمون" هم "أولو العلم المقسطون" الذين يشهدون مع الله وملائكته "ان الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) . فشهادتهم من شهادة الله وملائكته . والقرآن يشهد بشهادة هؤلاء "الراسخين في العلم" بالاسلام في عقيدته وشريعته . فالإعجاز الحق في الشريعة ، كما في العقيدة والهدى ، هو عند هؤلاء "المسلمين" . لذلك فالتشريع القرآني هداية الى التشريع الكتابي . ومَن كانت هدايته في الحقيقة والشريعة من هدى غيره ، فالاعجاز الحق الذي به يتحدى هو عند غيره : "ليهديكم سُنَنَ الذين من قبلكم" .


 

خاتمة

الشبهات التشريعية ودلائل الاعجاز

وهكذا فتشريع يهتدي بشريعة الكتاب وأهله ، من أولي العلم المقسطين ؛ تشريع ميزاته الذاتية التخفيف والتسهيل ورفع الحرج في الدين ؛ تشريع يشوبه متشابه ويعوزه تفسير ؛ تشريع يعتريه التبديل والمحو الاسقاط والنسخ في أحكامه ؛ تشريع أكثر الاحكام فيه من النوع الاجتهادي ؛ تشريع منزل لا يفي بالحاجة في تطور الجماعة ، إلاّ بمصادر أخرى تفصّله ؛ تشريع قانوني ، ابن بيئه وابن ساعته ، أكثر منه دستورياًّ يتخطّى ظروف الزمان والمكان ليصلح لكل عصر وأمة ؛ تشريع أحكامه المحكمة جزء ضئيل من القرآن فلا تصح دليلا على اعجاز القرآن كله ؛ تشريع نزل بعد سكوت القرآن عن التحدي بإعجازه ، فلا تحدّي به في القرآن ؛ هذا التشريع هل هو من الاعجاز في الشريعة ؟

  • عدد الزيارات: 26546