Skip to main content

أحاديث الحدود

الحدود في الفقه الإسلامي تعني العقوبة التي قدّرها المشرِّع على فعلٍ خاطىء. ولم يقتصر الأمر على العقوبات التي قدّرها القرآن، بل زيدت عليها جزاءات رُويت عن النبي، وجزاءات اجتهد فيها الصحابة، فاتّسع معنى المشرِّع ليشمل الاجتهاد والقياس بجوار أقوال القرآن والنبي.

والحدود - على هذا المعنى - ستة: حد السرقة، وحد القذف، وحد الزنا، وحد شرب الخمر، وحد قطع الطريق (الحرابة)، وحد الردة وهي ترك الإسلام,

حد السرقة:

المقصود بحدّ السرقة هو العقوبة المفروضة على من أخذ مال أو متاع شخصٍ آخر على وجه الخفية والاستتار، قاصداً بذلك تملّك الشيء المأخوذ. ولا يدخل في ذلك الاختلاس لأنه استلاب المال دون وجه حق، لكن دون خفية أو استتار، بل قد يكون ذلك علناً. وكذلك النهب، وهو أخذ مال الغير بالقوة، فيدخل تحت حد قطع الطريق. وأيضاً خيانة الأمانة، وتعني جحود وإنكار شخص لأخذه متاعاً أو مالاً من آخر، وادّعاءه ملكيته له.

وطبقاً لهذه التعريفات ورد حديث عن محمد يقول ليس على الخائن، ولا على المختلس، ولا على المنتهب قطع, وأيضاً لا يدخل في ذلك العبيد والإماء وأهل الكتاب، فقد قال محمد: ليس على العبد الآبِق إذا سرق قطع ولا على الذمي. وعن ابن عباس قال: إنه لا يرى على العبد حداً ولا على أهل الأرض من اليهود والنصارى حداً,

ولم يترك المسلمون هذا التحديد فيمن تُحدد عليه العقوبة، بل حددواً أيضاً مقدار المال المسروق. فعن محمد قال: لا يقطع السارق إلا في ربع دينار فصاعداً. ورُوي أيضاً عنه: لا يقطع السارق إلا في عشرة دراهم. وعلى ذلك فإذا سرق شخص ربع دينار طبقوا عليه الحد. أما إذا اختلس أو انتهب مليون دينار فليس عليه عقاب! وكذلك أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين ليس عليهم حدود، بالرغم من أن محمداً رجم يهوديين زنيا في المدينة,

وقد أضاف بعضهم شرط العودة، أي تكرار السرقة، حتى يصدق على الشخص وصف السارق الذي ورد في الآية وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ (سورة المائدة 5: 38) وهذا الوصف في الآية لا يتحقق بفعلٍ واحد، وإنما يلزم له التكرار. كما استلزم البعض ألّا تكون بالسارق حاجة لما سرقه. فقد رفض ابن الخطاب أن يُقيم حدّ السرقة على غلمانٍ سرقوا ناقةً لجوعهم.

وللتعليق نقول:

يتطلّب حدّ السرقة شروطاً يصعب أن تتحقق فيلزم بها الحد. وهو لا ينطبق أيضاً على من يسرق أموال الدولة، لأن لكل فرد حقاً في مال الدولة، وهذا الحق هو ما يُسمى فقهياً بشبهة الملكية، وهي ما يسقط بها الحد فلا تقوم الجريمة أساساً. كما أن النص لا ينطبق على المختلس - كما ورد سابقاً - الذي يحوز مال الحكومة أو أي مؤسسة ثم يغيّر نيَّته فيحوز لنفسه ما كان يحوزه للحكومة.


حدّ القذف:

جاء في سورة النور 24: 4 وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.

وفى نفس السورة آية 23إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.

لم تحدَّد عقوبةٌ للقذف السب أو الاتهام بالزنا في الإسلام إلا في سورة النور، بعد اتهام بعض الصحابة لعائشة زوجة محمد بالزنا مع صفوان بن المعطل ، وهي القصة المعروفة في كتب التفسير والحديث بحادث الإفك (راجع الجزء الرابع من هذه السلسلة، فصل تعليقات على سورة النور).

وفضلاً عن عقوبة الجَلد فإن آيتي 4 و23 من سورة النور أَلحقتا بالقاذف وَصف الفسق واللعنة في الدنيا والآخرة، وكذلك إسقاط شهادته. وقال البعض إن الحكم القرآني اقتصر على تأثيم قذف النساء، ولكن البعض الآخر رأى التسوية بين قذف الرجال وقذف النساء، وأوجب الحدّ فيهما معاً، مع مخالفة ذلك لظاهر النص. وهناك بعض الأحاديث في عقوبة قذف الرجال، ولكن أكثر علماء الحديث حكموا بضعفها أو وضعها.

وهذا مثل حديث عكرمة ابن عباس عن النبي قال: إذا قال الرجل للرجل يا مخنَّث فاجلدوه عشرين، وإذا قال الرجل للرجل: يا لوطي فاجلدوه عشرين, وهذا الحديث مطعون فيه من طريق عكرمة، فقال أكثر من واحد إنه متروك الحديث.


حد الزنا:

قرر محمد تأثيم الزنا وتقرير عقوبته على ثلاث مراحل:

1 - وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (سورة النساء 4: 15) فالعقوبة هنا هي الحبس المطلق، أو قيام سبيل من الله.

2 - وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَّوَاباً رَحِيماً (سورة النساء 4: 16) والعقوبة هنا هي الإيذاء غير المحدد، المتروك تقديره لولي الأمر.

3 - الّزَانِيَةُ وَالّزَانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمْا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (سورة النور 24: 2) 24 سورة النور. إذن فعقوبة الزنا قرآنياً هي الجَلد مائة جلدة لكلٍ من الزاني والزانية. غير أن النبي عاقب بالرجم، ورُوي في ذلك أنه كانت هناك آية في القرآن تُسمَّى آية الرجم لكنها نُسِخَتْ نصاً مع بقاء حكمها,

تاريخ الرجم:

أول ما أمر محمد بالرجم كان في واقعة زنا حدثت بين يهودي ويهودية احتكم فيها اليهود إلى محمد، فأمر برجمهما بحسب حكم التوراة في التثنية 33: 23,22.

وفي كتابه أصول الشريعة قال المستشار محمد سعيد العشماوي: إذا كان النبي قد سار على حكم التوراة، فأمر بالرجم بعد ذلك مع أنه مشكوك فيه أنه رجم بعد نزول آية الجَلْد فهل يعني ذلك أن النبي نسخ بفعله هذا حكم القرآن، أم أن ما فعله يمكن أن يُحمل على أنه حكم خاص بالنبي وحده!؟ فالثابت قرآنياً أن هناك أحكاماً خاصة بالنبي وحده، كالزواج بأكثر مِن أربعة، وعدم حقه في أن يطلّق أزواجه، وعدم حل أزواجه لأحدٍ مِن المسلمين بعده.

وبالرغم من أن محمداً أمر برجم يهوديين زنيا إلا أن هناك أحاديث تقرر عدم جواز ذلك، فقد ورد عن محمد ليس على العبد، ولا على أهل الكتاب حدود,

شروط تطبيق الحد:

وضع الإسلام شروطاً لتطبيق حد الزنا تكاد تجعله مستحيلاً إلا إذا اعترف الزاني، فقد اشترطوا رؤية أربعة رجال عدول للزانيَين، ولا تُقبَل شهادة المرأة، وضرورة التأكد من شخصية الزانيين، ورؤية الفعل تفصيلاً وفي وضح النهار, رُوي عن عمر : ارتحل المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد فجمع عمر بينهم (الشهود) وبين المغيرة (الزاني)، فقال المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني: مستقبِلهم أم مستدبِرهم؟ وكيف رأوا المرأة وعرفوها؟ فإن كانوا مستقبِليَّ فكيف لم أستتر؟ أو مستدبِريَّ فبأي شيءٍ استحلّوا النظر إليَّ في منزلي وعلى امرأتي؟ والله ما أتيتُ إلا امرأتي، وكانت شبهها (يعني شبه الزانية). فبدأ عمر بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة. فسأله عمر : كيف رأيتَهما؟ قال: مستدبرهما، قال: فكيف استثبت رأسها؟ قال: تحاملت. ثم دعا بشبل. فشهد بمثل ذلك، وكذلك نافع. ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم، بل قال إنه لم يره كالميل في المكحلة والرشاء (الحبل) في البئر. فأمر عمر بالثلاثة أن يُجلدوا حد القذف,

وتقدم الرواية السابقة نموذجاً رائعاً لمذكرة الاتهام. فالشهود متوافرة، وقد رأوا الواقعة نظراً لظروف البناء وقتها والحد كان على وشك أن يُقام لولا تلجلج زياد في جزئية أورثت شبهة، فما كان من عمر إلا أن طبَّق قول محمد ادرأوا الحدود ما استطعتم عن المسلمين، فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فأخلوا سبيله، فخيرٌ للإمام أن يخطئ في العفو من أن يخطئ في العقوبة,

فكما ترى أن جريمة الزنا في التشريع الإسلامي بأركانها وشروطها جريمة يصعب إثباتها. فإن حدثت بصورة يمكن إثباتها تكون أقرب إلى الفعل العلني الفاضح الذي يفعله شخصٌ لا يتحرّج عن الظهور أمام الناس بما يخدش الحياء. فالزنا إن حدث في الخفاء، أو بغير أن يشهده أربعة موثوق بهم، فإن الزاني يفلت من الحد!

وكان محمد يحاول أن يجد مخرجاً للزاني. ورد في البخاري عن أنس قال: جاء رجل إلى النبي وأنا عنده، فقال: يا رسول الله، أصبتُ حداً فأقِمْه عليَّ. فلم يسأله النبي عنه. وحضرت الصلاة فصلى مع النبي. فلما قضى النبي الصلاة قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله إني قد أصبت حداً فأقم فيَّ كتاب الله. قال النبي: أليس قد صليتَ معنا؟ قال: نعم، قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدك,

وفي حديث ماعز عن ابن عباس قال: لما أتى ماعزُ بن مالك النبيَّ، قال له النبيُّ: لعلك قَبَّلْتَ أو غمزت أو نظرت؟ قال: لا يا رسول الله، قال: أَنِكْتَهَا لا يكني ، قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه (ألم يكن من الأدب أن يقول من أدعى النبوة وكرم الأخلاق لماعز: (هل ضاجعتها) بدل قوله السابق؟)

ولم يقرر محمد رجماً على العبيد والإماء، بل قال: إذا زنت الأمَة، فتبيَّن زناها، فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت فليجلدها ولا يُثَرِّب عليها، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبلٍ من شعر, فلو كان محمد يقصد قداسة أتباعه لما فرَّق بين أمَة وحُرّة أو أسياد وعبيد.


حدّ شُرب الخمر:

لم يقرر الإسلام في بادئ الأمر أي إثمٍ على الخمر، لا قرآنياً ولا نبوياً، بل تم ذلك بتدرُّج مرحلي. بدأ قرآنياً بقول القرآن: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً (سورة النحل 16: 67). ثم قال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (سورة البقرة 2: 219) ، ثم بعد ذلك قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ (سورة النساء 4: 43) ، وأخيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (سورة المائدة 5: 9 ).

أما في السُنّة والحديث فلم يقرر محمد أي عقوبة محددة على الخمر، بل كان يضرب فيها بالجريد والنعال, ومما يدل على عدم تقرير محمد أية عقوبة على شرب الخمر ما قاله علي بن أبي طالب : ما كنت أُؤدي (أدفع دية) من أقمتُ عليه الحدّ (أي مات أثناء التطبيق) إلا شارب الخمر، فإن رسول الله لم يسنّ فيه شيئاً. إنما هو شيء جعلناه نحن, والأصل فيما قاله علي هو اجتهاد عليّ نفسِه حين سأله عمر عن شرب الخمر، لأنها كانت منتشرة وقتها لعدم تقرير عقوبة عليها، فقال علي: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحدّ المفتري ثمانون جَلدة,

تساؤلات حول الخمر:

أثار المستشار سعيد العشماوي في كتابه أصول الشريعة ثلاثة تساؤلات حول الخمر:

1 - هل الخمر محرّمة (مع عدم وجود نص بذلك) أم مأمور باجتنابها وهو ما ورد به نص؟

2 - ما هي الخمر المقصودة في النص؟

يرى جمهور الفقهاء أن الخمر - لغةً - هو ما خامر العقل فخمره (غيَّبه عن الوعي)، وفي ذلك رُوي عن النبي كل مسكر حرام. ويرى آخرون أن الخمر لا تُطلَق إلا على النيئ من ماء العنب إذا غلا واشتد، وأن الخمر الوارد في هذه الآية هو هذا النوع لا سواه ( العقوبة لمحمد أبو زهرة، والرأي لأبي حنيفة). وأما ما عدا هذا النوع من الخمور فلا يُعتبر خمراً، ولكنه إن أسكر أوجب الحد قياساً لا نصاً لأن هناك أنبذة تؤخَذ من أطعمة حلال مثل نبيذ الذرة والحنطة والشعير والذرة والعسل والتين وقصب السكر والتفاح. وهذه (في رأي أبي حنيفة) لا حدَّ فيها، لأن الأصل فيها الحل، والسُّكر طارئ عليها. فلا عبرة بالطارئ، وإنما العبرة بالأصل وحده.

3 - هل هناك عقوبة محدَّدة شرعاً للخمر؟

اختلف الفقهاء في ذلك، لأن القرآن لم يتضمن أي عقوبة، كما أن النبي لم يأمر بحدّ واضح وإنما ضرب بالأيدي والجريد والنعال والثياب، وترك أحياناً مَن شرِب الخمر ولم يفعل به شيئاً سوى أنه ضحك وقال: أَفَعلها؟. ولكن العقوبة المقررة حالياً مجرد اجتهاد فقهاء كما سبق ووضحنا.

هل حرّم محمد الخمر فعلاً؟

من المشكوك فيه تحريم محمد للخمور والأنبذة على الإطلاق، ولكنه حرّم السُّكْر فقط، فقد ورد في صحيح مسلم كتاب الحج باب فضل القيام بالسقاية,

عن بكر بن عبد الله المُزني قال: كنت جالساً مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي، فقال: مالي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ. أَمِن حاجةٍ بكم أم مِن بُخل؟ فقال ابن عباس: الحمد لله، ما بنا حاجة ولا بخل! قَدِم النبيُّ على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى، فأتيناه بإناءٍ من نبيذ، فشرب وسقى فضله أسامة، وقال: أحسنتم وأجملتم. كذا فاصنعوا فلا نريد تغيير ما أمر به الرسول.

وهناك أيضاً أثر ورد في العقد الفريد لابن عبد ربه ابن عبد ربه (باب احتجاج المحِلّين للنبيذ كله): أن النبي عطش وهو يطوف بالبيت، فأُتي بنبيذ من السقاية، فشمّه، فقطب. ثم دعا بذَنوبٍ مِن ماء زمزم، فصُبَّ عليه ثم شربه. فقال له رجل: أحرام هذا يا رسول الله؟ فقال: لا.

وقال الشعبي: شرب أعرابي من إداوة (إناء صغير للماء) لعمر، فانتشى، فحدّه عمر ، وإنما حدّه للسُكر لا للشراب (لاحظ أن الإناء والخمر التي به كانا لعمر وليس للأعرابي).


حد الرِدّة:

قبل أن نعرض الآراء في حد الرِدّة ذاته سوف نستعرض أشهر من قُتِلوا بتهمة الكفر والارتداد عن الإسلام منذ وفاة النبي وحتى اليوم.

تاريخ الفكر الدموي:

لعل أول من قتلَتْهُ فتوى هو عثمان بن عفان بن عفان ، وكانت الفتوى صادرة من عائشة زوج النبي، فكانت تقول: اقتلوا نعثلاً. لعن الله نعثلاً (نعثل اسم رجل مسيحي من المدينة كانوا يشبّهونه بعثمان لعِظم لحيته). ثم تذكر كتب السيرة بعد ذلك منع الناس من الصلاة عليه لكفره، ودفنه في مقابر اليهود.

وفي فترة الخلافة العباسية قُتل الحلاج الصوفي بتهمة الكفر، فصُلب وقُطِعت أطرافه وحُرقت جثته. وفي خِلافة أبي جعفر المنصور قُتل ابن المقفع بتلفيق تهمة الكفر له، وأمر المنصور بشيّ أعضائه وإطعامها له ",,

أما في العصر الحديث فقد قامت جماعة التكفير والهجرة في مصر بقتل الشيخ حسين الذهبي لأنه انتقد فكرَهم، فاتهموه بالكفر وقتلوه. وبعد ذلك قامت جماعة الجهاد في مصر (عام 1992) بقتل الدكتور فرج فودة لأنه انتقد فكرهم أيضاً، فكانت فتوى من أميرِهم بأنه كافر ومرتد، لذلك يجب أن يُقتَل، فقُتِل! وقد أصدر الخميني قبل موته فتواه الشهيرة بقتل سلمان رشدي لارتداده وكتابته كتاب آيات شيطانية.

وتلاحظ أن هذه التهمة تُلصق دائماً بالمخالفين في الرأي، وفي الرأي فقط. فأشهر من اتُّهِموا بالارتداد لم يحمل أحدهم سيفاً وما كان يوماً عنيفاً، بل أحياناً تُلقى هذه التهمة على أئمة الإسلام كأحمد بن حنبل ومالِك بن أنس وابن تيمية ، الذين سُجِنوا وعُذِّبوا لأنهم مرتدون من وجهة نظر مُعارضيهم. فهل حد الردّة هو القفاز الذي يُلقى في وجه من يخالفك في الرأي، فتتحيَّن الفرصة لقتله لأنه كافر؟

آراءٌ في الردّة:

أنكر بعض المفكرين المسلمين حد الردّة، ومنهم محمد سعيد العشماوي.يقول في كتابه أصول الشريعة :

كان أساس الدولة في العصور الوسطى يخالف أساس الدولة في العصر الحديث. ففي تلك العصور لم تكن فكرة الدولة في ذاتها واضحة محددة، وكان الدين هو أساس الدولة، كما كان التدين هو الجنسية وهو المواطنة. ففي الشرق الأدنى كان الإسلام هو الدولة، وفي أوربا كانت المسيحية. وكان المسلم مواطناً في أي مجتمع إسلامي وعضواً في كل جماعة مسلمة، كما كان المسيحي كذلك في المجتمع المسيحي والجماعات المسيحية. وكانت الأقلية الدينية تتمتع بحماية الأغلبية.

وبهذا المفهوم يُعتبر الخروج من الدين اقتراف جريمة الخيانة العظمى، لأن الذي يترك دينه إنما ينضم إلى دين الأعداء، وهو دولتهم. لذلك رُوي عن النبي أنه قال: مَنْ بَدَّل دينه فاقتلوه. وقال: لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة. ولم يحدد النبي القصد بتبديل الدين: هل هو أي تبديل ولو كان إلى الإسلام من غيره؟ أم أن القصد تغيير الإسلام إلى غيره؟ غير أن السياق يفيد المعنى الأخير. ومِن ثمَّ فقد رُئي أن القتل هو جزاء المرتد عن شريعة الإسلام. وهناك خلاف فيما إذا كان يُستتاب أم لا.

على أنه لم يثبت أن النبي أقام حد الردّة على أحد.

(ولنا تعليق سنورده بعد كلام العشماوي).

ويورد المستشار سعيد العشماوي في ذلك آياتٍ قرآنية:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (سورة البقرة 2: 256)

أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟ (سورة يونس 1 : 99)

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُُّهُمْ جَمِيعاً (سورة يونس 1 : 99)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة المائدة 5: 69)

وتترك هذه الآيات للناس حرية اختيار الدين، ولا ترى إكراههم على الإسلام. ومن جانب آخر فإن عدم إكراههم على الإسلام ابتداءً يفيد عدم الإكراه للاستمرار عليه. ولا شك أنه لا خير فيمن يظل مؤمناً بدينه على خوف أو على إكراه. فمن أراد تغيير دينه حراً مختاراً فإن دينه براء منه. لن يخسر بفقدانه شيئاً، بل الخسارة في بقائه ملحداً به في البطن وهو في الظاهر يدّعي الإيمان.

هذا هو كلام أحد علمائهم، ولكن هناك من يعترض عليه ومن يؤيده. وسنورد الرأيين، ولكن قبل هذا نذكر تعليقنا على ما قاله سعيد العشماوي.

هل طبَّق النبي حد الردّة؟

ذكر العشماوي أن النبي لم يطبق حد الردّة. وقد اعترض البعض على ذلك مستندين إلى أحاديث البخاري في كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة حيث ذكر عن أنس أنس قال: قَدِم على النبي نفر من عُكل فأسلموا فاجتووا (أتوا) المدينة، فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا. فصحُّوا وارتدّوا وقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل. فبعث في آثارهم فأُتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم لم يحمهم (يكوي جراحهم) حتى ماتوا.

ويقول البعض إن النبي لم يطبق عليهم حد الردّة بل حد الحِرابة (سنتكلم عنه لاحقاً) وهذا واضح من قطع أيديهم وأرجلهم لأنهم قتلوا الرعاة وسرقوا الإبل.

طريقان لا غير:

هناك طريقان للتعامل مع المرتد: إما أن نعتبره مجنوناً ونتركه حياً، مع حرمانه من كل حقوق المواطنين، أو أن نُنهي حياته بالقتل. ومن المؤكد أن الطريقة الأولى أشد قسوة من الثانية لأنها تجعله لا حياً ولا ميتاً، فالقتل أفضل له، إذ يضع نهاية لعذابه ولعذاب المجتمع في وقت واحد.

هذا الكلام السابق ليس لأحد الكتَّاب الذين يهاجمون الإسلام، لكنه للشيخ أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان، في كتابه عقاب المرتد الذي نقتبس منه أيضاً قوله: عندما توضع عقوبة الإعدام للمرتد موضع التنفيذ في حكومة إسلامية جديدة يبقى المسلمون داخل الجماعة المسلمة. لكن هناك خطر من وجود عدد كبير من المنافقين بينهم، وهذا يمثل تهديداً دائماً بالخيانة. وحلاً لهذه المشكلة أرى أنه حينما تقع ثورةإسلامية يُعلن جميع المسلمينغير الملتزمين تحّوُلهم عن الإسلام وخروجهم من المجتمع المسلم.. وذلك خلال عام واحد. وبعده يُعتَبَر المسلمون بالمولد مسلمين، وتسري عليهم كل القوانين الإسلامية، ويكونون ملزَمين بأداء كل فرائض الدين الواجبة. ومن أراد منهم بعد ذلك ترك الإسلام يُعاقَب بالإعدام.

ونعرض رأياً ثالثاً لأحد أئمة الطائفة الأحمدية، التي يعتبرها كثير من علماء الإسلام خارجة عن الإسلام ومن ينتمي إليها مرتد هو ميرزا طاهر أحمد إذ يقول: إن حرية التحول من الدين وإليه هي المحك الحقيقي لمبدأ لا إكراه في الدين. لا يمكن أن تكون الحرية في اتجاه واحد، هو اتجاه دخول الإسلام، ثم لا مخرج منه. هناك عشر إشارات في القرآن إلى الرجوع عن الإسلام، إحداها مكية في سورة النحل والتسع الباقية مدنية. ولم يرِد قط في أي واحدة منها ولو تلميحاً أن الإعدام جزاء من يرجع عن الإسلام. ويقول في موضع آخر من نفس الكتاب هناك آية في سورة النساء تقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (سورة النساء 4: 137). فكيف يمكن للمرتد أن يتمتع بمهلة التردد بين الإيمان والكفر إذا كانت عقوبته القتل؟ فليس عند المقتول فرصة ليؤمن ثم يرتد مرة أخرى!. ويروي ميرزا طاهر أحمد طاهر أحمد قصة عفو النبي عن عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي كان كاتباً للوحي، ثم تنصّر ولجأ لمكة، فطلب النبي قتله يوم الفتح ولو كان متعلِّقاً بأستار الكعبة. فتشفَّع فيه عثمان بن عفان بن عفان لأنه أخوه في الرضاعة، فتركه النبي. ثم يقول ميرزا طاهر أحمد : وهكذا لا نجد هناك ولا شاهداً واحداً على أن النبي عاقب أحداً لارتداده عن الإسلام,

هل أمر محمد بقتل المرتد؟

المرتد يُقتَل!.. المرتد لا يُقتل بل يُستتاب!.. المرتد يُحبَس!

هذه العبارات ليست هذياناً وليس تهكماً، ولكنها حكم الإسلام. فالمرتد في الفقه الإسلامي يُقتَل، ولا يُقتَل، ويُحبَس، ويُستتاب، وكل هذه لها شواهد عند أهل الحديث. فمحمد يقول: من بَدّل دينه فاقتلوه, ولكنه لم يقتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح، الذي كان كاتباً للوحي فتنَصَّر وترك المدينة إلى مكة, وعند فتح مكة أمر محمد بقتله ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة هو وابن خطل ولكنه لم يقتله لأن عثمان بن عفان طلب له الأمان,

  • عدد الزيارات: 22495