ترتيب الآيات في السورة
ترتيب الآيات في السورة
أولا : الواقع التاريخي
قال السيوطي في (الاتقان 62:1) ، "الاجماع ، والنصوص المترادفة ، على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك . أمّا الاجماع فنقله غير واحد . منهم الزركشي في (البرهان) وأبو جعفر بن الزبير في مناسبة ؛ وعبارته : "ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره ، من غير خلاف في هذا بين المسلمين" .
ثم يقول : "فبلغ ذلك مبلغ التواتر . نعم يشكل على ذلك ما أخرجه ابن ابي داود في (المصاحف) عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : أتاني الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة (براءة) فقال : أشهد أني سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتُهما . فقال عمر : وأنا أشهد لقد سمعتهما ؛ ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعلتُها سورة على حدة ؛ فانظروا آخر سورة من القرآن فالحقوها في آخرها . قال ابن حجر : ظاهر هذا أنهم يؤلفون آيات السورة باجتهادهم ، وسائر الأخبار تدل على أنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك إلا بتوقيف" .
هذه الحادثة وهذا الاستنتاج الصحيح يدلان : أولا على ان القرآن لم يكن كله مكتوبا على زمن الرسول ؛ ثانيا ويشهد لذلك أنه عند جمع القرآن ، كما أخرج ابن أبي داود ، "ان أبا بكر قال لعمر ولزيد : اقعدا على باب المسجد ، فمن جاءكما بشاهدين على شئ من كتاب الله فاكتباه – رجاله تقاة مع انقطاعه" .
والخلاف على هذين الشاهدين : هل هما الحفظ والكتاب ، أم الحفظ وحده ، والكتاب وحده ؟ "قال ابن حجر : وكأن المراد بالشاهدين : الحفظ والكتاب ... وقد أخرج ابن اشته في (المصاحف) عن الليث بن سعد ، قال : أول من جمع القرآن أبو بكر ، وكتبه زيد . وكان الناس يأتون زيدا ثابت ، فكان لا يكتب آية إلاّ بشاهدي عدل ؛ وأن آخر سورة (براءة) لم توجد إلا مع خزيمة بن ثابت ، فقال : اكتبوها ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين ، فكتب . وأن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده" . فالمعوّل اذن على الحفظ .
وهذا واقع متعارض : اذا كان القرآن مكتوبا على زمن النبي ، فما الحاجة الى شهود القراءة؟ ثم ما الحاجة الى الجمع نفسه من حملة القرآن الحافظين ؟ ثم ما الحاجة الى تعدّد مصاحف الصحابة والخلفاء وامهات المؤمنين ؛ ومن بعد الجمع العثماني الى اتلافها جميعا ؟ ثم ما معنى الضرورة القصوى التي حملتهم على الجمع الثاني ، مع عثمان ، والسبب المتواتر اقتتال أهل العراق وأهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان على قراءة القرآن ، واقتتال الغلمان والمعلمين في الحجاز ، "فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال : عندي تكذبون به ، وتلحنون فيه ، فمن نأى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا ! يا أصحاب محمد ، اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما ؛ فاجتمعوا فكتبوا" .
فواقع جمع القرآن على مراحل شاهد عدل بأنه لم يكن مكتوبا على زمن الرسول : ولو كان مكتوبا لما احتاجوا الى جمع ! وجمعه من الرقاع المبعثرة في بيت الرسول عند موته ، لا يحتاج الى قراء يحفظونه ، ولا إلى شهود عدل يشهدون بسماعه . ولو كان القرآن مكتوبا على زمن الرسول في رقاع مبعثرة ، لَمَا جمعوا منه مصاحف مختلفة بين الخلفاء والصحابة وأمهات المؤمنين ؛ ثم عمدوا الى اتلافها جميعا بعد الجمع العثماني !
وأدوات التدوين ، كما رأينا ، تحتاج الى قافلة جمال تحمل القرآن المكي الى المدينة عند هجرة الرسول . ولا تذكر الاخبار والآثار شيئا من هذه القافلة ، أو حمل شئ مدون في مكة الى المدينة : فالقرآن المكي كان كله في صدور القراء . وعند وفاة النبي ، لا خبر ولا أثر يشهد بأن في بيت النبي أو بيوت الصحابة أحمال أجمال من تلك الأدوات التي دوّن عليها القرآن ! وهل كان في المدينة متسع من الوقت لمثل ذلك التدوين على تلك الأدوات ؟ لا ننكر أنه في المدينة تم بعض التدوين على مثل تلك الأدوات البدائية ، كما يرشح من الأخبار والآثار . لكن ذلك لا يعني تدوين القرآن كله ، ولا جلّه .
فالنتيجة الحاسمة مزدوجة :
إن القرآن جُمع من صدور الناس ، بعد تفرّقه سبعة أحرف ، وعلى ألسنة العرب المختلفة . وبما أن القرآن نزل مفرّقا ، بين آية ، وخمس ، وعشر ، قد لا يتجاوزها ، فقد حمله القراء أيضا مفرّقا ، "حتى قرأوه بلغاتهم على اتساع اللغات ، فأدّى ذلك بعضهم الى تخطئة بعض" . فلم يكن جمع الآيات في السور توقيفا عن النبي ؛ بل باجتهاد الجامعين . هذا هو الواقع التاريخي ؛ والمراء فيه من المكابرة على الحقيقة والواقع .
- عدد الزيارات: 7816