Skip to main content

أسفار العهد القديم والجديد قبل محمد و بعده

الصفحة 1 من 5

رأينا في الفصل الماضي أن الكتاب المقدس معدود في القرآن كلام الله ورأينا في أكثر من موضع من القرآن أيضاً أن كلام الله غير قابل للتبديل والتغيير, فإذا كانت هاتان المقدمتان صحيحتين كانت النتيجة ضرورة هي عدم تحريف الكتاب المقدس لا قبل محمد ولا بعده.

إلا أن هاتين المقدمتين تؤديان بنا إلى تصفُّح القرآن لنرى ماذا يقول في هذا الصدد وكيف فسر أقواله المفسرون المعتبرون مع العلم بأنهم لم يتفقوا على رأي واحد في هذه المسألة وإنما لا يؤيدون الرأي العام الذي وُضع عند جهال المسلمين.
ورد في سورة الكهف 18 :27 "وَا تْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِه"ِ لا شك أن كلمة كتاب تشير إلى القرآن ولكن قوله - لكلماته - تشمل الكتاب المقدس لأنه كلام الله, وبناءً عليه لا يكون مبدل لكلمات الكتاب المقدس, وهاك تفسير البيضاوي قال :
"لا مبدل لكلماته" (لا أحد يقدر على تبديلها أو تغييرها غيره)اهـ
وورد في سورة يونس 10 :64 "لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ" قال البيضاوي أي لا تغيير لأقواله ولا اخلاف لمواعيده , وورد في سورة الأنعام 6 :34 العبارة عينها - لا مبدل لكلمات الله - وجاءت مرة أخرى في آية 115. نعم قد ذكر البيضاوي على الآية الأخيرة أن الكتاب المقدس محرف ولكن لم يقصد التحريف الذي يقوله عامة المسلمين كما سترى في ما بعد.
لما فحص علماء المسلمين في الهند هذه المسألة اقتنعوا في الوقت الحاضر بأن أسفار العهدين ليست بمبدلة ولا بمغيرة ولا محرفة حسب فهم العامة, ولعلهم بنو آراءهم على تفسير الإمام فخر الدين الرازي لأنه في تفسيره آل عمران 3 :78 يجيب معترضاً يسأل كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس فيجب أن نتأمل في الجواب جيدا حيث يقول أولاً على سبيل التخمين : لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل يجوز عليهم التواطؤ على التحريف؟ ثم أنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام, وعلى هذا التقدير يكون التحريف ممكناً , فنجيب أولاً أن هذا ليس رأي المفسر بل يفرضه فرضاً, وأما رأيه فهو هكذا إن الآيات الدالة على نبوة محمد كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين, واليهود كانوا يقولون مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم فكان هذا هو المراد بالتحريف وبليّ الألسنة - الرازي المجلد 2 - وانظر تفسيره على سورة النساء 4 :45 مجلد 3 - حيث يعيد هذين الرأيين ويضيف عليها رأياً آخر خلاصته أن قوماً من اليهود اعتادوا أن يدخلوا على الرسول يسألونه المسألة فيجيبهم عليها ومتى خرجوا من عنده يحرفون كلامه, وبناء على هذا الرأي لا يكون اليهود حرفوا كتابهم بل حرفوا جواب محمد على سؤالهم, وعلى كل حال عني الرازي بالتحريف الواقع من اليهود تحريف الشروح بالآيات الكتابية لا الآيات نفسها وهو التحريف المعنوي لا اللفظي.
وحكى الرازي في تفسيره على سورة المائدة 5 :16 قصة مآلها
أن اليهود فيما هم يقرأون التوراة - تث 23:22-24 لووا ألسنتهم وبدَّلوا معنى الرجم بالجلد ولم يمسوا لفظ الآية المكتوبة بأقل تحريف, وحكى البيضاوي في تفسيره سورة المائدة آية 45 هذه القصة عينها للدلالة على أن معنى التحريف المشار إليه في الآية التحريف المعنوي وهو المقصود بليّ الألسنة وفسر قوله يحرفون الكلام من بعد مواضعه أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها, إما لفظاً بإهماله وتغيير وضعه وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده.
فإن أردت أن تعرف أي الرأيين هو الرأي الصحيح فما عليك إلا أن تراجع سفر التثنية 22 :23 و24 في الأصل العبري أو في أية ترجمة حديثة أو قديمة فتجد أية الرجم التي نسبوا إليها التحريف باقية على أصلها كما بينها القرآن والحديث في عصر محمد، وبذلك نعلم أن اليهود لم يحذفوا شيئاً من الآية ولا أمالوها عن موضعها, بقي الرأي الآخر وهو التحريف المعنوي الذي توصلوا إليه بتغيير المعنى. ومن العجب أن آية الرجم التي قالوا إن اليهود حرفوها كانت في القرآن كما نعلم من الحديث، ثم لا نرى لها الآن أثراً.
جاء في مشكاة المصابيح أن عمر قال أن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله تعالى آية الرجم، رجم رسول الله ورجمنا بعده، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف متفق عليه ا هـ من الفصل الأول من كتاب الحدود، ولكن لما جمع زيد بن ثابت القرآن حذفت هذه الآية لئلا يُقال عن عمر إنه زاد على القرآن, فإن صدق عمر في ما رواه يكون تحريف الكلام عن مواضعه المنوه عنه في القرآن في سورة المائدة 5 :45 واقعاً في القرآن لا في التوراة، ويكون المحرفون هم المسلمين لا اليهود!! فتأمل
اتهم القرآن اليهود بكتمان الحق وهم يعلمون به، وبليّ ألسنتهم في الإجابة عن تعليم توراتهم في هذا الموضوع، واتهمهم بنبذ كتاب الله وراء ظهورهم وبالتحريف, وجاءت التهمة الأخيرة في أربعة مواضع منه - سورة البقرة 2 :75 وسورة النساء 4 :45 وسورة المائدة 5 :14 و44 - ولنا أن نلاحظ أن هذه الدعاوى مهما يكن من أمرها فإنها موجهة إلى اليهود فقط لا إلى المسيحيين، وعليه تكون أسفار العهد الجديد سالمة من مظنة هذه التهم، سواء قبل محمد أو بعده, بقي علينا أن نتساءل في تفسير ما عناه القرآن باتهامه اليهود بهذه التهم. وقد مر عليك تفسير الرازي والبيضاوي لثلاثة من الأربعة مواضع المذكورة سابقاً, ونتكلم الآن على الرابع وهو سورة البقرة 2 :70 اتفق المفسران
أي البيضاوي والرازي أن المراد بالتحريف المذكور هنا تشويه التفسير وكتمان الحق - راجع سورة الأنعام 6 :91 حيث عزي إلى اليهود أنهم جعلوا الكتاب قراطيس أبدوا منه ما أبدوا وأخفوا ما أخفوا - وإن يكن هذا العمل ممقوتاً إلا أنه بمعزل عن تبديل آيات الكتاب لأن إخفاء القرطاس يختلف عن تبديل ما ورد فيه, فتأمل
ثم إن سألنا متى حرف اليهود توراتهم أجاب البيضاوي : حرفه أسلاف اليهود المعاصرين لمحمد, وأجاب الرازي : حرفه معاصرو محمد بالذات, على أن ذينك الإمامين أجابا بالجوابين المتقدمين رداً على من تصور أن التحريف لفظي ووقع كتابة، وهما يتبرآن من هذه الدعوى, ولهذه المناسبة قال الرازي في مجلد 3 في كيفية التحريف وجوه (أحدها) أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر، مثل تحريفهم اسم ربعة عن موضعه في التوراة بوضعهم آدم طويل مكانه، ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحد بدله ونظيره قوله تعالى فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله, فإن قيل : كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب, قلنا : لعله يُقال القوم كانوا قليلين والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة فقدروا على هذا التحريف, ثم أن الرازي دحض هذا الجواب بقوله (والثاني) أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم وهذا هو الأصح (الثالث) أنهم كانوا يدخلون على النبي ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه . انتهى
هذا رأيه الذي يقول به ونتيجته أنه برأ اليهود من تهمة تبديل آيات التوراة, وعليه لما قال أن القرآن يؤكد وقوع التحريف بالتوراة ينبغي أن نفهم مقصوده الحقيقي لا الدعوى الباطلة التي يدّعيها جهلاء المتأخرين.

 

نجاوب على كل من يدّعي أن الكتاب المقدس محرف في نصوصه
الصفحة
  • عدد الزيارات: 13810