أسفار العهد القديم والجديد قبل محمد و بعده - حاول بعض كتاب المسلمين أن يثبتوا وجود اختلاف كثير بين أسفار الكتاب المقدس
وحاول بعض كتاب المسلمين أن يثبتوا وجود اختلاف كثير بين أسفار الكتاب المقدس، وزعموا أن هذا الاختلاف دليل على تحريفه, غير أن الكتّاب المطلعين ذوي العقول الراجحة والأفكار النيرة يسلّمون أنه إن كتب كاتبان أو أكثر عن واقعة حال، وكتب كلٌّ منهم بمعزل عن الآخر، تأتي كتاباتهم مختلفة اختلافاً ظاهرياً، ولكن إن اتفقت اتفاقاً تاماً يستدل من اتفاقهم على أنهم متواطئون.
أما البسطاء فيشتبه عليهم ظاهر الاختلاف بين سفر وآخر
ويعثرون في صحة الأسفار, أما المطلعون فيعلمون أصله ويحلونه حلاً جميلاً, والاختلاف الظاهري بين أسفار الكتاب المقدس أعظم دليل على أمانة أهله، وإلا لكانوا أزالوه منه لكي لا يبقى عرضة لانتقاد المنتقدين, ومن أمثلة والاختلاف الظاهري ما ورد عن نسب المسيح في بشارة متى ص 1 وبشارة لوقا ص 3 وما ورد عن موت يهوذا في بشارة متى 27 :5 وسفر الأعمال 1 :18 و19 فلو كان استباح أهل الكتاب التحريف لكانوا وفَّقوا بين هذه المواضع من كتابهم.
ويزعم قوم من المسلمين أن الإنجيل محرف لقول بعض النصارى إن الآيات الآتية غير موجودة في النسخ القديمة وهي بشارة مرقس 9:16 إلى 20 وبشارة يوحنا 3:5 و4 و7 :53-8 :11 ورسالة يوحنا الأولى 5 :7 - ولو أن هذه الآيات لم تكن موجودة في المتن في النسخ الأكثر أقدمية إلا أنها موجودة على الهامش، فظنها الناسخ من الأصل فأدمجها فيه بسلامة نية, وسواء أصاب في ظنه أو أخطأ، فإن وجود هذه الآيات وعدمه لا يؤثران في جوهر الكتاب ولا في عقيدة من عقائد الكنيسة لأن الحقائق الأساسية التي تضمّنها مستوفاة بأكثر تفصيل في مواضع أخرى من كتابهم.
وبالنسبة لهذه المسألة يوجد فرق عظيم بين الكتاب والقرآن فإن المطلعين من المسلمين يعلمون أن فريقاً من الشيعة أثبتوا أن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني وعثمان بن عفان الخليفة الثالث غيَّرا جملة آيات من القرآن بسوء النية والقصد ليخفيا عن المسلمين حقيقتين هما من الأهمية بمكان : الأولى، هي يجب أن يكون عليٌّ صاحب الخلافة بعد محمد. والحقيقة الثانية يجب أن تحصر الإمامة في ذريته, ويدّعي فريق آخر أنه أسقط من القرآن سورة بجملتها يقال لها سورة النورين للغاية المشار إليها, أما نحن فلا يهمنا التحري عما إذا كانت هذه الدعوى صحيحة أو مُختلقة ، ولكن تهمّ أهل السنة من المسلمين, لأنه إن كانت سورة النورين من القرآن حقيقة يكون ما أشقاهم واسوأ حظهم، لأنها تنذرهم بسوء العاقبة كما في قوله إن لهم في جهنم مقاماً عنه لا يعدلون وكتب ميرزا محسن بكشمير في كتاب له سنة 1292 هجرية يسمى - داستاني مذاهب سورة النورين - وذكر أن بعض الشيعيين يؤكدون بأن عثمان عندما أحرق المصاحف القديمة وأمِن على نفسه مناقشة الحساب، عمد إلى النسخة التي كانت بين يديه وشطب منها كل ما كان من مصلحة علي ابن أبي طالب وذريته من السيادة والإمامة، وقال أن بعض العلويين ينكرون القرآن المتداول اليوم، ولا يسلمون بأنه هو الذي نزل من الله على محمد، كما يعتقد المسلمون. بل يقولون إنه
اختلقه أبو بكر وعمر وعثمان. نعم إن لدى العلماء المحققين من الأدلة ما يكفي لدحض هذه الدعاوي الباطلة، غير أنهم لا يسعهم إلا التسليم بأن هذه التهم الشائنة صوبها نفس المسلمين إلى القرآن, والذي يهمنا من المسألة أن هذه التهم في اعتبارهم مخلة بجوهر الخلاص لكل فرد من المسلمين، إن كان في الإسلام خلاص، في حين أن الدعاوى المزعومة على كتابنا المقدس محصورة في آيات قليلة، وهي التي سبقت الإشارة إليها إن حذفت من الكتاب أو زيدت عليه لا تخل بشيء من عقائد الدين والخلاص على الإطلاق - لأنها عرضية لا جوهرية.
ويدّعي بعض المسلمين عدا ما تقدم ذكره أنه قد ضاع من بين دفتي الكتاب المقدس أسفار كانت معدودة منه يوماً ما كسفر ياشر - كما في سفر يشوع 10 :13 - وكتاب حروب الرب - كما في سفر العدد 21 :14 - فنقول دحضا لهذا الاعتراض إن السفرين المذكورين لم يندرجا قط في سلسلة أسفار التوراة، وإن كانت أشارت إليهما التوراة, وحكمها حكم الأسفار التي أشار إليها القرآن وهي ليست منه كصحف إبراهيم مثلاً.
واعترض بعضهم بأن الكتاب المقدس عند الكنيسة الرومانية يتضمن أسفاراً معدومة عند كنيسة البروتستانت, ورداً على هذا نقول : إن أسفار العهد الجديد موجودة بذاتها عند عموم المسيحيين من بروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس, وأما أسفار العهد القديم فقد زادت عليها الكنيسة الكاثوليكية أسفارا لم تكن مدرجة من ضمن التوراة عند المسيحيين الأولين ولا عند اليهود فضلاً عن كونها لا توجد في الأصل العبراني, نحن معاشر البروتستانت نعتمد أسفار العهد القديم حسبما هي مدرجة في قانون اليهود وتثبَّتت لنا من المسيح ورسله, ولكن إن فرضنا أن هذه الأسفار المزيدة موحى بها فإنها بجملتهالا تؤثر على أية عقيدة من عقائد الديانة المسيحية, وأما الفروق المذهبية بين كنيسة البروتستانت وغيرها فلم تنتج عن زيادة هذه الأسفار على العهد القديم، ولا عن اختلاف في الكتب، كما أن مذاهب الإسلام لم تنتج عن اختلاف في القرآن بين مذهب وآخر.
قد تكلمنا عن نسخ أسفار العهد القديم والجديد في اللغات الأصلية. وتكلمنا عن التراجم القديمة في جملة اللغات التي لم تبق إلى اليوم, ونتكلم هنا بالإيجاز عن الأدلة التي أقامها لنا كتبة المسيحيين الأولين على الموضوع الذي نحن بصدده, فنقول إن بين أيدينا مؤلفات مسيحية كثيرة يختلف تاريخها من القرن الأول للميلاد إلى ما بعد الهجرة في
لغات مختلفة يونانية ولاتينية وسريانية وقبطية وأرمنية، أقدمها رسالة اكلميندس إلى كورنثوس سنة 93 إلى 95 ورسائل أغناطيوس السبع سنة 109 إلى 116 ورسالة بوليكاربوس سنة 110 تقريباً ورسالة نُسبت خطأ إلى برنابا سنة 100 إلى 130 كتبت جميع هذه باليونانية. ثم قام كّتَّاب كثيرون بعد هؤلاء وكتبوا ما عنَّ لهم في لغات مختلفة. وأولئك أجمعون كأنهم اليوم أحياء بين ظهرانينا يشهدون بأن إيماننا اليوم كإيمان الكنيسة في عصورهم الأولى, وعدا ذلك اقتبسوا آيات كثيرة من أسفار العهد القديم والعهد الجديد منها ما هو بالمعنى ومنها ما هو باللفظ, وجميع ما اقتبسوه مطابق لكتابنا المقدس المتداول اليوم. وهذا دليل قوي على أن الكتاب المقدس لم يُحرف لا قبل الهجرة ولا بعدها, ولو فرضنا أنه قامت جمعية في عصر محمد أو بعده وضمت بين أحضانها أخبث من على وجه الأرض وتعاونوا على تحريف الكتاب المقدس فستمنعها جبال من الصعوبات لا يستطيعون تذليلها إذ عليهم أولاً أن يجوبوا أقطار الأرض المنتشرة فيها المسيحية واليهودية من قارة آسيا وأوروبا وأفريقيا، ويزوروا كل مجمع لليهود، وكل كنيسة ومكتبة وبيت يهودي ومسيحي. ويجمعوا كل النسخ في كل اللغات ما بين عبرانية ويونانية ولا تينية وقبطية وأرمنية وحبشية وعربية وغيرها. وعليهم أن يحتالوا على السامريين ويستكشفوا خبايا أسفارهم المتوغلة في القدم وتراجمها المتأخرة في لغتهم الخاصة، ويسلبوها منهم, وعليهم أيضاً أن يحرفوا الترجوم الآرامي اليهودي, وبعدما ينتهون من جمع نسخ الكتاب المقدس من كل العالم عليهم أن يتفقوا على ما هم شارعون في حذفه ويحذفوه, ويبقى عليهم بعد ذلك كله أن يجمعوا مؤلفات اليهود والنصارى الدينية في كل اللغات من كل أقطار الأرض ليخفوا الاقتباسات المتضمنة فيها لئلا تنكشف حيلتهم ويذهب تعبهم باطلاً, وعليهم في ختام مشروعهم أن يكون لهم سلطان فائق الطبيعة حتى يمحوا من ذاكرة المسيحيين واليهود الذين على وجه الأرض ما حفظوه غيباً من توراتهم وإنجيلهم الأصليين لكي لا يفطنوا إلى التوراة والإنجيل المحرفين, أظن ما من عاقل يتصور جواز هذه المستحيلات، فمن باب أولى لا يتصورها إخواننا الراسخون في العلم، مع أن القرآن صرح في سورة آل عمران بقوله "مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ الليْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون"َ - سورة آل عمران 3 :113 فمن ذلك نستنتج ثلاثة أمور (1) أنه كان يوجد بعض الأتقياء الذين لم تسمح لهم ذمتهم بتحريف الكتاب (2) أن الكتاب كان موجوداً بين أيديهم (3) أنه كان معروفاً عندهم وهم يتلونه.
ولايمكن لذي عقل أن يتصور إمكانية اتفاق اليهود والمسيحيين على ارتكاب هذا الإثم الفظيع الموجب للمذمة في الدنيا وغضب الله في الآخرة، لأنه لا يوجد سبب يدعو إلى هذا الاتفاق.
ولنفرض أن جماعة أقوياء من المسلمين في وقتنا أو قبل ظهور مطابع الحروف والحجر عزموا أن يحرّفوا القرآن وكل الكتب الإسلامية ألا يهزأ بهذا الكفر حال كون القرآن لم يترجم إلى لغات متعددة كالكتاب المقدس في عصر محمد؟
ولنفرض أنه لو تيسر لهم أن يجمعوا نسخ القرآن المنتشرة في أقطار العالم ويحرفوها، فليسوا هم بقادرين على جمع الكتب الدينية الإسلامية ولا التفاسير الكثيرة للقرآن, ولو فرضنا أنهم قدروا على ذلك أيضاً، ألا يظهر تحريفهم من الكتب التاريخية كابن هشام والواقدي والغازي وفتوح مصر وفتوح العجم أو على الأقل الطبري وابن الأثير؟ لا يمكن لأي عاقل أن يتصور إمكانية ذلك، حتى لو كانت كل هذه الكتب في لغة واحدة.
- عدد الزيارات: 13868