Skip to main content

أسفار العهد القديم والجديد قبل محمد و بعده - اختلاف القراءات في الكتاب المقدس يوجد أكثر مما في القرآن ، ولذلك جملة أسباب

الصفحة 3 من 5: اختلاف القراءات في الكتاب المقدس يوجد أكثر مما في القرآن ، ولذلك جملة أسباب

ثم أن اختلاف القراءات في الكتاب المقدس يوجد أكثر مما في القرآن ، ولذلك جملة أسباب (1) لأن حجمه أربعة أضعاف القرآن (2) إنه أقدم من القرآن بكثير, (3) إنه كُتب في ثلاث لغات العبرية واليونانية والآرامية وكتب القرآن بلغة واحدة وهي العربية (4) إحصاء القراءات في التراجم القديمة كلها ولو قد ثبت أن كثيراً منها غلطات وقعت من المترجمين ولم ينتج عنها اختلال جوهري، (5) أُحصيت القراءات بعناية عظيمة وتدقيق كلي أكثر بكثير من العناية التي بُذلت في إحصاء القراءات القرآنية، (6) وأهم من الكل أن الكتاب
المقدس لم يصلحه ولا راجعه أحد قبل النشر كما عمل عثمان ثالث خلفاء محمد بالقرآن. فقام على النسخ القديمة وأحرقها، ولم يُبقِ على نسخة إلا نسخة حفصة، ثم ألحقها مروان على ما قيل بأخواتها فأحرقها, ومع كل ذلك إن عرضنا على ميزان الاعتبار والفحص كل القراءات المختلفة الواقعة في الكتاب المقدس لا نجد شيئاً منها يمس جوهره.
وقد اتفق أن المفسرين المسيحيين لما عسر عليهم فهم كلمة أو آية من الكتاب تصوروا أنها وقعت خطأ من الناسخ واعتبروها مصحفة , ولما اطلع علماء الإسلام على شيء من ذلك ترجموا عن غير علم كلمة مصحف بمغيَّر أو محرَّف مثل الشيخ رحمة الله الهندي، فإنه بناءً على ذلك ادّعى أن علماء النصارى يسلّمون بوقوع التغيير في كتابهم, مع أن المسألة بسيطة جداً. لأن الكلمة التي لم يفهمها المفسرون وظنوا أنها مصحفة كانوا يشيرون إليها لأجل مراجعتها وتصليحها.
ومن أمثلة ذلك كلمة وردت في دانيال 3 :2 و3 بالآرامية وهي - تفتايي - ولم توجد قط في كتاب آخر ولم يعرف معناها بالتدقيق ولا المادة المشتقة منها. فظن بعض المفسرين أن هذه الكلمة مصحفة أي خطأ من الناسخ. ولكن منذ سنين قليلة اكتشفوا كتابات آرامية قديمة في الآثار المصرية وردت فيها الكلمة المذكورة. وعرفوا معناها بالتدقيق وأصل اشتقاقها ومن هنا نعلم كيف حُفظت الأسفار بالصحة والضبط حتى في مثل هذه الكلمة,
وحدثت مثل هذه الكلمة في الكتاب المقدس على المنوال الذي به حدثت نظائرها في القرآن، من ضمنها قوله "إن هذان" - سورة طه 20 :66 - فكان من المحتمل أن بعض المفسرين يرتابون في صحة هذه العبارة ويقودهم ريبهم إلى اتخاذ الوسيلة لتصحيحها، كما أنهم صححوا بالفعل كلمة يفرق بكلمة يفرقون جرياً على سياق الكلام - سورة البقرة 2 :285 قراءة يعقوب - وظنها بعضهم مصحفة عن كلمة نفرق في - قراءة حفص - وأشار إلى ذلك البيضاوي.
ليس من مقصدنا هنا إيراد القراءات المختلفة التي جاءت في القرآن بل نضرب لكم مثلا لإزالة ما عساه يكون قد علق بأذهانكم من الشبهة في ما يقابل هذه القراءات في الكتاب المقدس, وأما القراءات في كتابنا فتنقسم باعتبار أهميتها إلى ثلاثة أقسام : (1) القراءات الناتجة عن إهمال الناسخ أو جهله (2) وتلك التي اقتضاها بعض النقص في الأصول المنسوخة (3) وتلك التي وضعت لتصحيح عبارة ظنها الكاتب الأخير خطأ من الكاتب الأول وهي ليست بخطأ. ولا يسوغ عقل أن أحداً من المسيحيين قصد أن يتلف كتابه الذي يدين
به ويهتدي بنوره, نعم إن بعض الهراطقة ليبرهنوا عقيدة عندهم أتوا بآيات ليس لها وجود إلا في نسخهم الخاصة من العهد الجديد, كما ادّعوا بأن الآيات التي تنقض تعليمهم لم تكن موجودة في النسخ الأصلية، ولو أن هؤلاء الهراطقة بلغوا لهذه الدرجة فإنهم لم يقصدوا أن يتلفوا كتابهم. وغاية ما في الأمر أنهم انخدعوا ببعض الأضاليل, غير أن المسيحيين على العموم ميزوا في كل وقت وفي كل حال الخطأ المدخل في نسخ الكتاب بمقابلتها على النسخ القديمة.
ثم نقول لو فرضنا أن فريقاً من اليهود أو النصارى غلت مراجل الحقد والتعصب في قلوبهم ضد الإسلام فتواطأوا معاً واجتمعت كلمتهم أن يحذفوا من التوراة والإنجيل كل ما يتعلق بمحمد، وقد فعلوا, فماذا يكون رأيك في بقية المسيحيين واليهود المتفرقين في كل أنحاء المعمورة؟ فإنهم بدون شك يرفضون أعمال تلك الجمعية الشيطانية ويرفضون الكتاب المزور خوفاً من أن يشتركوا في جريمتهم العظيمة, ومالنا ولهذا الفرض ، ففي وقائع التاريخ ما يغنينا عنه, لقد حدث قبل محمد بزمن طويل أن الهراطقة سعوا كثيراً، لكنهم عجزوا أخيراً عن أن يحرفوا العهد الجديد على وفق مبادئهم، وهذا يدل على عدم إمكانية هذا المشروع, وحاول رجل من أهل العصور الأولى اسمه ماكرون أن يحذف الأصحاحين الأولين من بشارة لوقا فلم يفلح،لا بين الجمهور، ولا بين فريق قليل منهم.
ثم نقول لو أن ملكاً أو صاحب سلطة سياسية قام بعد وفاة موسى بقليل وجمع كل نسخ التوراة أو أصحاحات منها وأحرقها، واستنسخ توراة جديدة من محفوظات بعض اليهود، ومن السطور المكتوبة على العظام وشقق الأخشاب ونشرها بأمر سلطاني، وألزم رعاياه في كل مكان بالاعتماد على هذه النسخة الجديدة، لما كانت تبلغ قراءاتها المختلفة إلى المقدار الذي بلغت إليه بدون هذا الفرض, إلا أننا كنا نقع في ورطة أدهى وأمر بكثير من اختلاف القراءات، هي ضياع الثقة من التوراة بالمرة، لأنه لا يبقى دليل على أن النسخة الجديدة طبق الأصل، وتكثر الظنون في البواعث التي حركت ذلك الملك أن يفعل تلك الفعلة المنكرة.
وكذلك تكون النتيجة لو وقع مثل هذا الفرض لأسفار العهد الجديد في ختام القرن الأول للمسيح، لأنه كان يتعذر علينا اليوم الإتيان بدليل شاف أن النسخة الجديدة موافقة للأسفار التي أُحرقت وتلاشت من الوجود، وتبقى الأذهان مرتبكة ومرتابة في صحتها إلى يوم يبعثون! ولكن لله الحمد، فإن مثل هذا لم يقع في كتابنا لا في أسفار العهد
القديم ولا في أسفار العهد الجديد, والحمد لله الذي لم يسمح أن يكون بيننا عثمان ولا بين اليهود الحجاج.
قد حدث أن بعض أباطرة الرومان الوثنيين شرعوا أن يحرقوا نسخ الكتاب المقدس على أمل أن يلاشوه من الوجود، لا ليستنسخوا كتاباً جديداً على هواهم، فدافع المسيحيون عن كتابهم وفدوه بدمائهم, وكثيراً ما شرع مضطهِدوهم بمثل هذا الشروع فلم يفلحوا.
ولو فرضنا أن كل كتبنا أُحرقت عن آخرها بحيث لم يبق كتاب واحد، لكان المحروق هو الورق فقط، ولكانت كلمة الله هي الباقية, جاء في هذا المعنى "يَبِسَ الْعُشْبُ ذَبُلَ الزهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى الْأَبَدِ" - إشعياء 40 :8 , وكيف تبقى كلمة الله إن أحرقت الكتب ؟ تبقى بوسائط كثيرة، منها أن كثيرين من المسيحيين في كل عصر شغفوا بالكتاب المقدس حتى استظهروا أهم اجزائه، سيما المزامير وأسفار العهد الجديد, وعليه لا يمكن أن نتصور ملاشاة الكتاب من الأرض والمسيحيون على ظهرها.
لما حدث الاضطهاد العظيم في فرنسا في القرن السادس عشر أقبل قسوس كنائس الإصلاح إلى الكتاب المقدس يحفظونه غيباًحتى
إذا سُلب من بين أيديهم يكون مدخراً في صدورهم ليستقوا من ينبوع الحياة رأساً ويرووا الآخرين, وقد أصبح معلوما لدى جميع الذين لهم قسط من الفطنة ما بذلته اليهود والنصارى من منتهى الجهد والحذر في الاحتفاظ على أسفارهم الإلهية نظير أرواحهم، وأصبحت الدعوى عليهم بأنهم بدلوا وغيروا أسفارهم قبل أو بعد الهجرة دعوى باطلة لا تصدر إلا من جاهل أو متعصب!
ولزيادة الشرح نقول : ما الفائدة التي كانت ترجوها اليهود والنصارى من وراء هذه الفعلة المحرمة وكلٌّ يعلم بحكم العقل والنقل عظم جريمة تحريف الكتب الإلهية، وقد ورد في ختام العهد الجديد ذكر دينونة هائلة تحيق بمن يحذف أو يزيد شيئاً على ما هو مكتوب في الكتاب وورد مثل ذلك في العهد القديم - تثنية 4 :2 ورؤيا 22 :18 و19 - وفضلاً عن كونهم لا يستفيدون شيئاً بل يخسرون رجاءهم فإنهم يعلمون أنهم بتحريفهم كتابهم لا يضرون أنفسهم فقط بل يضرون أولادهم وأحفادهم وهلم جراً.
وعدا ذلك نقول إن محمدا لم يلبث زمناً طويلاً حتى بات ذا سلطان عريض وجنود وبيت مال، وكان الأقرب إلى العقل أن
النصارى واليهود الذين في بلاد العرب على الأقل لو كان في كتابهم أخبار عنه أو خبر لكانوا أسرعوا به إليه والنسخة في أيديهم تزلّفاً إليه إن لم يكن حباً في الدين فحباً في الدنيا, ولكان محمد وأتباعه يحرصون الحرص كله على كل تلك النسخ العزيزة التي شهدت له وشهد لها عوضاً عن أن يحذفوا من كتابهم تلك الأخبار، ويعرّضون أنفسهم بغير داعٍ لحرب لا قِبل لهم بها، ويدفعون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون - سورة التوبة 9 :30 - وينحدرون من مقام الحرية والمساواة إلى مقام الذمي الوضيع، ويبيتون هدفاً من آونة إلى أخرى للمذابح والفظائع كالتي جرت حتى في القرن العشرين في أطنة وما جاورها.
وكم من المشاهد المؤلمة تمثلت على مسارح الإسلام جيلاً بعد جيل بتحريض سورة التوبة على ألسنة حكام السوء وجمهور العوام.
لو كان اليهود والنصارى آمنوا بمحمد ورحبوا برسالته على العين والرأس لما نجوا فقط من هذه الرزايا بل كانوا شاركوا المسلمين في حظوظهم وامتيازاتهم الدنيوية, لكن أبت نفوسهم أن ترد هذا المنهل واعتصموا بإيمان آبائهم ولم يعيروا جانباً من الالتفات لخطبة الجمعة المذيلة بدعاء التهديد والإرهاب ينادى بها على المنابر في سائر أطراف مملكة آل عثمان، كقول الخطيب على منبره : اللهم رمِّل نساءهم ويتِّم أطفالهم، وخرِّب كنائسهم، وكسر صلبانهم، واجعلهم وأموالهم غنيمة للمسلمين الخ , أليس من البيّن والجلي أنه إذا وُجد يهودي أو مسيحي كائن من كان جزءاً في كتابه يأمره بانتظار نبي من جزيرة العرب اسمه أحمد لكان بكل سرور اندمج في سلك الصحابة والتابعين ويفوز بسعادة الدارين. ولست بمبالغ إن قلت إن الترغيبات التي اقترنت بالإسلام من نعيم الدنيا ومجدها لجدير بها لولا عناية الله ومخافته أن تغري أهل الكتاب لا أن يحذفوا منه خبر محمد بل يختلقوه فيه ويحشروه في كل فصل من فصوله, فعدم إدخال اليهود والمسيحيين خبر محمد في أسفارهم وقد بلغ محمد وخلفاؤه ما بلغوا من السلطان أعظم دليل عند من وهبهم الله العدل والإنصاف على أمانة أهل الكتاب في حفظهم كتابهم على أصله بدون زيادة ولا نقصان.
ولو فرضنا أن طائفة من طوائف النصارى أو اليهود أضمرت السوء لمحمد حسداً وحقداً وحذفت خبره من الكتاب، لا لدفع غُرم ولا لجلب غُنم، بل على سبيل المكيدة، لظهرت مكيدتهم للطوائف الأخرى وبادروا إلى إصلاح التحريف وردّوا الكتاب إلى أصله, وغني عن البيان ما بين النصارى واليهود من العداوة القديمة وما بين طوائف النصارى من الاختلاف المذهبي في دقائق الدين مما لا يتصور
معه جمع كلمتهم والتأليف بين آرائهم على تغيير كتابهم, ولو فرضنا أنه أمكن ذلك بين يهود ونصارى جزيرة العرب فلا يمكن تعميمه في كل جهات العالم. وكانت تقع تلك الفئة الباغية تحت سخط وزجر الجمهور في كل مكان.
وعدا ذلك فإنه نبغ في العالم مؤرخون عظماء بين النصارى واليهود والمسلمين في عصر محمد وقبله وبعده وسجلوا في مؤلفاتهم حوادث الزمان, وباطلاعنا على تواريخهم لم نر أثراً في تاريخ أحد منهم يدل على تواطؤ النصارى واليهود على حذف شيء من الأسفار المقدسة يتعلق بمحمد ولا بغير محمد.
وإن فرضنا أنه وُجد بين النصارى أو اليهود طائفة انتزعت مخافة الله من قلوبهم والحياء من الناس، بحيث لم يعودوا يبالون بعذاب الله ولا بملام الناس، وشرعوا يحذفون خبر محمد من التوراة والإنجيل، فإنهم يجدون ذلك ضرباً من المحال بسبب أن الديانة المسيحية وكتبها قبل الهجرة كانت قد انتشرت انتشاراً عظيماً، حتى أن سكان آسيا الصغرى وسوريا واليونان ومصر والحبشة وشمالي أفريقيا وإيطاليا قد اعترفت بالمسيح, بل وأكثر من ذلك فإن كثيرين في جزيرة العرب وبلاد فارس والأرمن والقوقاز والهند وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وانكلترا وألمانيا قد قبلوا المسيحية أيضاً، ولهذه البلاد لغات مختلفة تُرجم الكتاب إلى كثير منها، فتُرجم إلى الطليانية والأرمنية والأشورية والقبطية والكوشية والقوطية والقوقازية, وعدا هذه كانت التوراة موجودة في الأصل العبراني والعهد الجديد موجوداً في الأصل اليوناني، وتُرجمت التوراة كلها إلى اليونانية، وسُميت الترجمة السبعينية، وتُرجم كثير منها إلى الآرامية من قبل ميلاد المسيح.
ولا يخفى على أحد أن اليهود متفرقون في أنحاء العالم وبالأكثر في الجهات المشار إليها، وهم منقسمون إلى طوائف مختلفة, وكذلك المسيحيون منقسمون إلى طوائف كثيرة متضادة، فلا تقدر إحدى طوائف اليهود أو النصارى أن تُقدم على هذا المشروع خشية من تشهير الطوائف الأخرى بها, وتنادي عليها بالويلات بدون رحمة . وعلى ما تقدم مهما يكن المرء أحمق أو مختل العقل فلا يبلغ منه الحمق والخلل حداً يتصور له معه إمكانية اتفاق اليهود والنصارى هؤلاء مع اختلاف طوائفهم وأولئك مع اختلاف طوائفهم وتوحيد رأيهم على تغيير أسفارهم الإلهية, وإن فرضنا المستحيل وقلنا بل اتفقوا كلهم وغيروا كتابهم وجردوا صحائفه من
السيرة المحمدية، فماذا عسانا نقول عن النسخ التي اكتُشفت بعد عصر محمد ويرجع تاريخها إلى ما قبله. فمن يا ترى غيَّر هذه أيضاً وهي تحت الأرض مخفية مع الآثار القديمة, هل انضمت جماعة الجن إلى حزب المتواطئين؟ ثم أن للمسيحيين مؤلفات دينية تفوق الحصر تشتمل على اقتباسات في مواضيع مختلفة من الكتاب المقدس. فهل راجع المتواطئون هذه المؤلفات أيضاً ونقحوها من سيرة النبي العربي.
والأغرب من ذلك كله أنه بينما يزعم المسلمون أننا غيَّرنا كتابنا وحذفنا منه البراهين على رسالة نبيهم، يحاول علماؤهم الراسخون أن يثبتوا وجود هذه البراهين في كتابنا اليوم, فإن صدق علماؤكم وكان في الكتاب براهين على ذكر محمد فلماذا إذاً تتهموننا بأننا حذفناها؟ أليس من عزم الأمور أن تستقروا على رأي واحد؟
ومن أمثلة براهينهم التي يوردونها في الكتاب على البشارة بنبيهم ما وعد به المسيح تلاميذه من إرسال الفارقليط كما جاء في بشارة يوحنا 16 :7 لا يسلم المسيحيون أن الفارقليط هو محمد، إلا أن إبقاء هذه الآية في قلب الإنجيل لليوم دليل على أنها لم تُحذف منه, ثم نقول لو كان المسيحيون يريدون أن يحذفوا الآيات الدالة على نبوة محمد من كتابهم لكان الأولى بهم أن يحذفوا هذه الآية لأنها هي الآية الوحيدة التي نبه إليها القرآن وعينها بالحصر وقال إنها تشير إلى نبوة محمد، حيث يقول "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد"ُ - سورة الصف 61 :6 - , وكما أن محمداً ادعى أنه الفارقليط الذي وعد به المسيح بإرساله، ادّعى من قبله هذه الدعوى عينها ماني الفارسي - كما يعلم ذوو الاطلاع - وبنى دعواه على آية المسيح المشار إليها. وتبعه بعض المسيحيين, ولما اتضح على توالي الأيام أنه دجال واضمحلت شيعته، لم يحذف المسيحيون هذه الآية التي استعان بها على ضلالته, وهاك هي موجودة في الإنجيل إلى اليوم.
ثم أن اليهود اطلعوا على آيات كثيرة في توراتهم تدل على المسيح دلالة واضحة، واحتج بها المسيحيون عليهم احتجاجا لم يجدوا معه سبيلاً إلى التخلص من الالتزام بالحق, وعداوتهم للمسيح أشهر من نار على علم. ولكم لم يحملهم هذا كله على تحريف آية واحدة من الآيات الدالة على المسيح مع كونها تلصق بهم أعظم جريمة وتقضي عليهم قضاء مريعاً, فلو كان اليهود حرفوا التوراة في شأن محمد ، لكان الأولى بهم أن يحرفوها في شأن المسيح ويحذفوا منها هذه البينات الراهنات - تكوين 49 :10 وتثنية 18 : 15 و18 ومزامير 22 :14-18 وإشعياء
7 :14 و9 :6 و7 و11 :1-10 و52 :13 الخ وص 53 كله ودانيال 8 :13 و14 و9 :24-27 وميخا 5 :2 وزكريا 12 :10 - قابل هذه النصوص الجلية بما ورد في الإنجيل - لوقا 24 :25-27.
وفي التوراة آيات تتعلق بمسألة أخرى يود اليهود لو لم تكن موجودة فيها، وهي تلك التي تشهر بفظائعهم وجرائمهم المتناهية في القبح, فلو كانوا حرفوا توراتهم بخصوص محمد فما كان أجدر بهم أن يحذفوا كل ما يشين سمعتهم ويلصق بهم شر الفعال!
أمرهم الله أن يحافظوا على شريعة التوراة - يشوع 1 :7 - وأن لا ينقصوا منها ولا يزيدوا عليها - تثنية 4 :2 و12 :32 - فعملاً بالوصية حافظ اليهود على توراتهم، وخوفاً من أن تسقط منها كلمة أو حرف أحصوا كلمات كل سفر من أسفارها، بل أحصوها حروفاً وقيدوا الاحصاءات في كتبهم الدينية ليرجعوا إليها عند اللزوم, وليكن معلوماً أن نسخة التوراة المتداولة بين اليهود هي عين النسخة المتداولة بين النصارى، وكلتاهما تُطبعان في مطبعة واحدة.
ولئلا يظن بعضهم أنه ربما غيَّر اليهود توراتهم قبل المسيح. ونحن أخذناها عنهم مغيَّرة فصارت نسختهم ونسختنا واحدة. أقول إن القرآن كفانا مؤونة هذا الاعتراض، لأنه يشهد بأن المسيح جاء مصدقا
لما معهم من التوراة, ثم أنه لا المسيح ولا رسله اتهموا اليهود بتهمة التحريف. وهاكم صحائف الإنجيل راجعوها تجدوها بيضاء نقية من هذه التهمة، في حين أنها شهرت بخطاياهم في غير هذه المسألة، بل يشهد الإنجيل للتوراة بأنها موحى بها من الله، وأنها باقية على أصلها، ويحرض المسيحيين على قرائتها والعمل بها, ومن ذلك الآيات الآتية في الإنجيل - بشارة متى 5 :17 و18 و22 :31 و32 ومرقس 7 :6-10 ولوقا 11 :29-32 و24 :25-27 ويوحنا 5 :39 و45-47 و2 تيموثاوس 3 :16 - , من هذه الآيات البينة يتضح أنه في عصر المسيح ورسله قبلت التوراة لديهم كتاباً موحى به من الله ليس بها مساس من مظنة التحريف والتغيير، لأنه لو حرفها اليهود لكان المسيح وبَّخهم علانية على هذا الشر العظيم، ولأشار بلا شك إلى مواضع التحريف وأصلحها لتبقى صالحة للاستعمال في كنيسته.
وهذه النظرية ذاتها تثبت عدم ضياع التوراة وعدم تحريفها عند خراب أورشليم في زمن بختنصر والأسر البابلي, ولو حدث شيء لكان المسيح بيَّن الحقيقة.
إن بعض كتاب المسلمين يدعون أنه في وسعهم أن يثبتوا وقوع التحريف عمداً في التوراة، ويعينوا الآيات المحرفة، ومنها على
ما يدّعون الآية الواردة في سفر التثنية 27 :4 ففي النسخة السامرية مكتوب جبل جرزيم وفي العبرانية جبل عيبال ولكن الحقيقة هي أنه ليست النسخة العبرانية وحدها المكتوب فيها جبل عيبال بل في كل التراجم القديمة كالترجمة السبعينية واللاتينية الدارجة والسريانية والباشطا والأرمنية والحبشية.
وعليه فالعبارة الأصلية جبل عيبال كما في الأصل العبري لا جبل جرزيم كما في النسخة السامرية التي حرفها السامريون لرغبتهم الخصوصية في الجبل الذي سموه بهذا الاسم, ومع كونهم حرفوا نسختهم في هذه الكلمة انحصر التحريف فيها ولم يتعدَّ إلى النسخ الأخرى المعتمدة عند طوائف اليهود وطوائف النصارى, وهناك احتمال آخر في هذه المسألة. فربما ظنَّ الناسخ الذي نقل النسخة السامرية عن العبرانية أن الكاتب الأول كتب جبل عيبال سهواً عوض جبل جرزيم لمناسبة ما ورد في عدد 12 من ذلك الأصحاح، ما مؤداه أن بعضاً من الأسباط الاثني عشر يقفون على جبل جرزيم ويباركون الشعب والبعض الآخر يقفون على جبل عيبال وينطقون باللعنات على من يرتكب تلك المعاصي المذكورة هناك. ويقول الشعب آمين , فمن المحتمل أن كاتب النسخة السامرية ظن المقصود جبل البركات لا جبل اللعنات وعلى كل حال فإن السامريين لم يقدروا أن يعمموا هذا الخطأ أو التحريف إلا في دائرتهم الخصوصية - إن صح أنه تحريف!
ولو كان اليهود هم الذين حرفوا نسختهم لا السامريون لكان الأولى بهم أن يحرفوا عدد 12 لا عدد 4.
ثم إننا كنا قد أشرنا في ما تقدم إلى الخلاف الموجود بين النسخة السامرية والنسخة العبرانية والترجمة السبعينية من حيثية أعمار بعض الآباء الأولين في أصحاحي 5 و10 من سفر التكوين. وفي الغالب يجب أن يُحمل هذا الخلاف على محمل الخطأ، لأن الأرقام قابلة الخطأ حيث يسهل أن يحل بعضها محل الآخر, ومن الواضح أن اختلاف النسخ في هذه الأرقام لا يمس جوهر الكتاب في شيء.

حاول بعض كتاب المسلمين أن يثبتوا وجود اختلاف كثير بين أسفار الكتاب المقدس
الصفحة
  • عدد الزيارات: 13305