Skip to main content

أسفار العهد القديم والجديد في عصر محمد

الصفحة 1 من 7

في هذا الفصل والذي يليه بحثان في غاية الأهمية (الأولى) هل أسفار العهدين المنتشرة اليوم هي بذاتها التي كانت في عصر محمد (والثاني) إن كانت هي بذاتها فهل اعتراها تحريف أو تبديل كثير أو قليل؟
وقبل البحث في هذا وذاك لنفرض أن الكتاب المقدس المتداول اليوم لم يكن هو بذاته الذي كان في عصر محمد، أو على الأقل اعتراه التحريف بحيث أصبح لا يوثق به، كما يزعم جهّال المسلمين. فإن كان الأمر هكذا فما أشقى بني آدم

وما أنكد حظهم وأنحس طالعهم، لأن كلام الله الذي لا يقبل التغيير على حسب فهمنا، ونطقت به الأنبياء والرسل كما يصرح القرآن ويحتم على المسلمين أن يقروا ويعترفوا به قد تلاشى من الوجود أو تشوه بالباطل، فسقطت قيمته وما أشقى الجنس البشري بهذا المصاب العظيم! حتى القرآن طاش سهمه وخاب مسعاه، لأن الله أنزله مهيمناً (1) على
الكتاب المقدس ليحفظه سالماً من أيدي الأغراض ولم يحفظه، إن هذا ليهدم ركنا عظيما من أركان الثقة بالقرآن . كيف لا وقد وكل الله إليه مأمورية فأهملها شر إهمال.
لكن هذه الدعوى باطلة والشكر لله، فإن كلمته التي في العهدين لم تتلاشَ ولا تحرَّفت، بل بقيت محفوظة بعنايته الضابطة لكل شيء كما يعترف القرآن ويهدي أتباعه إلى صراط مستقيم من هذه الحيثية..
ومن الغريب أننا نحن المسيحيين بواسطة تمسكنا بشهادة القرآن في حق الكتاب المقدس بالصحة والنزاهة ندافع عن القرآن نفسه من هجمات أغبياء المسلمين، الذين لو دروا أن الطعن في الكتاب المقدس طعن في قلب القرآن، لم يطعنوا.
ومن الشواهد على ذلك قول الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق الذي طبعه سنة 1284 هجرية أن أحد علماء دلهي من أعمال الهند أفتى قائلاً إن هذا المجموع المشتهر الآن
بالعهد الجديد ليس بمسلم عندنا، وليس هذا هو الإنجيل الذي جاء ذكره في القرآن بل هو عندنا عبارة عن الكلام الذي أُنزل على عيسى - ص 144 و145 - وقد وقع رحمة الله في مثل هذا الخطأ الفاحش من شدة تعصبه، فقال ما معناه إن التوراة والإنجيل الأصليين فُقدا قبل رسالة محمد، والأسفار الموجودة اليوم لا مقام لها عندنا أكثر من كتب أقاصيص ملفقة من باطل وحق وإننا لا نعتبر أن الكتاب وُجد بحالة من الصحة والنقاوة حتى زمن الإسلام ثم دهمته مصيبة التحريف فأُتلف، بل نقول إنه فُقد كله قبل ذلك بزمن طويل.
ورداً على ذلك نقول إن رحمة الله لا يعني بالتوراة والإنجيل الأصليين ونفس الصورتين اللتين كتبهما موسى ورسل عيسى بأيديهم، لأنه إن كان يقصد ذلك يورط نفسه من جهة القرآن، لأن نسخته الأصلية ضاعت أيضاً. بل قصد الإنجيل والتوراة اللذين هما طبق الأصل. ودعواه بأنهما ضاعا باطلة، كما هو مسلَّم عند علماء الإسلام المحققين في كل العالم، وهذه من أفحش الغلطات التي سقط فيها رحمة الله، وإن مثله لا يُلتمس له عذر كما كان يُلتمس لأهل العصور المظلمة. أما وهو من أبناء هذا العصر الذي سطع فيه نور العلم والعرفان فيُؤاخذ بغلطته كل المؤاخذة. يبذل هذا الشيخ مجهوداً ليوهم بسطاء
المسلمين أن التوراة الأصلية فُقدت عندما سبى بختنصر الملك أورشليم وهدم هيكل سليمان سنة 587 قبل المسيح، ويقيم الدليل على ذلك من سفر مزمور يدعوه بعضهم سيدراس الثاني ويدعوه بعضهم الرابع، ويحاول أن يقنع المسلمين بأن سيدراس هذا إنما هو عزرا المسمى في القرآن عُزير، وأنه قد ألف كتاباً وادعى أنه هو التوراة الحقيقية الأصلية التي نزلت على موسى النبي. إلا أننا بمراجعة ذلك السفر الذي يشير إليه لا نجد ما يدل على صحة دعواه مطلقاً، بل ما يدحضها ويزيفها، فورد في أصحاح 14 :21 و22 بأن عزرا استدعى الكتبة إلى كتابة كل ما عُمل في العالم من البدء، كما هو مكتوب في أسفار الشريعة. فإذا صحَّ هذا السند فإنه يدل على أن عزرا كان من حَفَظة أسفار الوحي، فأملاها على الكتبة فكتبوها ودّونوها. فلا يُقال عن عزرا والحالة هذه إنه ألف كتاباً من عند نفسه وادعى بأنه التوراة. وجاء في تفسير البيضاوي لسورة التوبة 9 :30 ما ينقض زعم رحمة الله ويؤيد بياننا. قال ما معناه عندما سبى بختنصر اليهود لم يبق أحد من حفظة الوحي، فبعث الله عزيراً من الأموات وقد مر عليه مئة سنة ميتاً، فأملى التوراة وجاءت طبق الأصل حتى تعجب منه اليهود. إن كانت هذه الرواية صحيحة فلا غرو أن يتعجب منها اليهود. إنما العجب كل العجب أن
يوجد بين العقلاء من يصدق خرافة كهذه، فإنه لا سفر سيدراس الثاني ولا الرابع ذكر هذه السخريات، ومع ذلك يؤخذ من هذه المزاعم التي رواها البيضاوي في تفسيره ورحمة الله في إظهار الحق أن عزرا كان حافظ الأسفار الوحي لا مزوراً. ثم نقول مرة ثانية. إن كانت الرواية الواردة في سفر سيدراس الثاني صحيحة فلا يؤخذ منها أن التوراة انعدمت من الوجود بسبب حرق كل نسخها، كما أنه لا ينعدم القرآن إذا أُحرق، لأنه كان يوجد حفظة للتوراة كما يوجد حفظة للقرآن الذين في إمكانهم أن يدونوه في الكتب. ويحسن أن نقول عن سفر سيدراس إنه لا يوجد أحد من علماء اليهود أو المسيحيين اعتمده ونسبه إلى عزرا. ويظهر من مطالعة الجزء الأول منه أنه كُتب ما بين 81 و86 ميلادية. ومن المعلوم أن عزرا كان قبل الميلاد بنحو خمسائة سنة - انظر سفر سيدراس الثاني أصحاح 2 :47 و7 :28 و29 إلخ - وعليه تكون نسبة هذا السفر إلى عزرا منتحلة، وبالنتيجة يكون السفر مزوراً وأن اليهود الأولين لم يعدوه بين أسفارهم القانونية. إلا أنه في القرن الثالث للميلاد قبله بعضهم من الذين يجهلون اللغة العبرانية المكتوب بها، وإلا لما كانوا يقبلونه.

التوراة والأسفار الأخرى المقدسة لم تتلاش قط من الوجود
الصفحة
  • عدد الزيارات: 19598