Skip to main content

أسفار العهد القديم والجديد في عصر محمد

في هذا الفصل والذي يليه بحثان في غاية الأهمية (الأولى) هل أسفار العهدين المنتشرة اليوم هي بذاتها التي كانت في عصر محمد (والثاني) إن كانت هي بذاتها فهل اعتراها تحريف أو تبديل كثير أو قليل؟
وقبل البحث في هذا وذاك لنفرض أن الكتاب المقدس المتداول اليوم لم يكن هو بذاته الذي كان في عصر محمد، أو على الأقل اعتراه التحريف بحيث أصبح لا يوثق به، كما يزعم جهّال المسلمين. فإن كان الأمر هكذا فما أشقى بني آدم

وما أنكد حظهم وأنحس طالعهم، لأن كلام الله الذي لا يقبل التغيير على حسب فهمنا، ونطقت به الأنبياء والرسل كما يصرح القرآن ويحتم على المسلمين أن يقروا ويعترفوا به قد تلاشى من الوجود أو تشوه بالباطل، فسقطت قيمته وما أشقى الجنس البشري بهذا المصاب العظيم! حتى القرآن طاش سهمه وخاب مسعاه، لأن الله أنزله مهيمناً (1) على
الكتاب المقدس ليحفظه سالماً من أيدي الأغراض ولم يحفظه، إن هذا ليهدم ركنا عظيما من أركان الثقة بالقرآن . كيف لا وقد وكل الله إليه مأمورية فأهملها شر إهمال.
لكن هذه الدعوى باطلة والشكر لله، فإن كلمته التي في العهدين لم تتلاشَ ولا تحرَّفت، بل بقيت محفوظة بعنايته الضابطة لكل شيء كما يعترف القرآن ويهدي أتباعه إلى صراط مستقيم من هذه الحيثية..
ومن الغريب أننا نحن المسيحيين بواسطة تمسكنا بشهادة القرآن في حق الكتاب المقدس بالصحة والنزاهة ندافع عن القرآن نفسه من هجمات أغبياء المسلمين، الذين لو دروا أن الطعن في الكتاب المقدس طعن في قلب القرآن، لم يطعنوا.
ومن الشواهد على ذلك قول الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق الذي طبعه سنة 1284 هجرية أن أحد علماء دلهي من أعمال الهند أفتى قائلاً إن هذا المجموع المشتهر الآن
بالعهد الجديد ليس بمسلم عندنا، وليس هذا هو الإنجيل الذي جاء ذكره في القرآن بل هو عندنا عبارة عن الكلام الذي أُنزل على عيسى - ص 144 و145 - وقد وقع رحمة الله في مثل هذا الخطأ الفاحش من شدة تعصبه، فقال ما معناه إن التوراة والإنجيل الأصليين فُقدا قبل رسالة محمد، والأسفار الموجودة اليوم لا مقام لها عندنا أكثر من كتب أقاصيص ملفقة من باطل وحق وإننا لا نعتبر أن الكتاب وُجد بحالة من الصحة والنقاوة حتى زمن الإسلام ثم دهمته مصيبة التحريف فأُتلف، بل نقول إنه فُقد كله قبل ذلك بزمن طويل.
ورداً على ذلك نقول إن رحمة الله لا يعني بالتوراة والإنجيل الأصليين ونفس الصورتين اللتين كتبهما موسى ورسل عيسى بأيديهم، لأنه إن كان يقصد ذلك يورط نفسه من جهة القرآن، لأن نسخته الأصلية ضاعت أيضاً. بل قصد الإنجيل والتوراة اللذين هما طبق الأصل. ودعواه بأنهما ضاعا باطلة، كما هو مسلَّم عند علماء الإسلام المحققين في كل العالم، وهذه من أفحش الغلطات التي سقط فيها رحمة الله، وإن مثله لا يُلتمس له عذر كما كان يُلتمس لأهل العصور المظلمة. أما وهو من أبناء هذا العصر الذي سطع فيه نور العلم والعرفان فيُؤاخذ بغلطته كل المؤاخذة. يبذل هذا الشيخ مجهوداً ليوهم بسطاء
المسلمين أن التوراة الأصلية فُقدت عندما سبى بختنصر الملك أورشليم وهدم هيكل سليمان سنة 587 قبل المسيح، ويقيم الدليل على ذلك من سفر مزمور يدعوه بعضهم سيدراس الثاني ويدعوه بعضهم الرابع، ويحاول أن يقنع المسلمين بأن سيدراس هذا إنما هو عزرا المسمى في القرآن عُزير، وأنه قد ألف كتاباً وادعى أنه هو التوراة الحقيقية الأصلية التي نزلت على موسى النبي. إلا أننا بمراجعة ذلك السفر الذي يشير إليه لا نجد ما يدل على صحة دعواه مطلقاً، بل ما يدحضها ويزيفها، فورد في أصحاح 14 :21 و22 بأن عزرا استدعى الكتبة إلى كتابة كل ما عُمل في العالم من البدء، كما هو مكتوب في أسفار الشريعة. فإذا صحَّ هذا السند فإنه يدل على أن عزرا كان من حَفَظة أسفار الوحي، فأملاها على الكتبة فكتبوها ودّونوها. فلا يُقال عن عزرا والحالة هذه إنه ألف كتاباً من عند نفسه وادعى بأنه التوراة. وجاء في تفسير البيضاوي لسورة التوبة 9 :30 ما ينقض زعم رحمة الله ويؤيد بياننا. قال ما معناه عندما سبى بختنصر اليهود لم يبق أحد من حفظة الوحي، فبعث الله عزيراً من الأموات وقد مر عليه مئة سنة ميتاً، فأملى التوراة وجاءت طبق الأصل حتى تعجب منه اليهود. إن كانت هذه الرواية صحيحة فلا غرو أن يتعجب منها اليهود. إنما العجب كل العجب أن
يوجد بين العقلاء من يصدق خرافة كهذه، فإنه لا سفر سيدراس الثاني ولا الرابع ذكر هذه السخريات، ومع ذلك يؤخذ من هذه المزاعم التي رواها البيضاوي في تفسيره ورحمة الله في إظهار الحق أن عزرا كان حافظ الأسفار الوحي لا مزوراً. ثم نقول مرة ثانية. إن كانت الرواية الواردة في سفر سيدراس الثاني صحيحة فلا يؤخذ منها أن التوراة انعدمت من الوجود بسبب حرق كل نسخها، كما أنه لا ينعدم القرآن إذا أُحرق، لأنه كان يوجد حفظة للتوراة كما يوجد حفظة للقرآن الذين في إمكانهم أن يدونوه في الكتب. ويحسن أن نقول عن سفر سيدراس إنه لا يوجد أحد من علماء اليهود أو المسيحيين اعتمده ونسبه إلى عزرا. ويظهر من مطالعة الجزء الأول منه أنه كُتب ما بين 81 و86 ميلادية. ومن المعلوم أن عزرا كان قبل الميلاد بنحو خمسائة سنة - انظر سفر سيدراس الثاني أصحاح 2 :47 و7 :28 و29 إلخ - وعليه تكون نسبة هذا السفر إلى عزرا منتحلة، وبالنتيجة يكون السفر مزوراً وأن اليهود الأولين لم يعدوه بين أسفارهم القانونية. إلا أنه في القرن الثالث للميلاد قبله بعضهم من الذين يجهلون اللغة العبرانية المكتوب بها، وإلا لما كانوا يقبلونه.


وإذ قد انتهينا من كلمتنا عن هذا السفر، وأقمنا الدليل بأن التوراة
والأسفار الأخرى المقدسة التي أوحي بها إلى الأمة اليهودية لم تتلاش قط من الوجود، فنقول إن ثبت وجودها في حياة عزرا - أي بعد خراب الهيكل بأكثر من مائة عام - ثبت وجودها في زمن بختنصر. أما إنها كانت موجودة في زمن عزرا فالدليل عليه من نفس سفر عزرا المقبول لدى اليهود والنصارى أجمعين، فلقد ورد فيه قوله عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل - توراة سفر عزرا 7 :6 - . قارن بين هذا وبين ما ورد في سفر نحميا ص 8 - . ثم جاء أيضاً في سفر عزرا أن شريعة الرب - أي التوراة - كانت في يده وقت صعوده من بابل إلى أورشليم، وعلى ذلك قول الملك أرتحششتا له "مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ مُرْسَلٌ مِنْ قِبَلِ الْمَلِكِ وَمُشِيرِيهِ السَّبْعَةِ لِأَجْلِ السُّؤَالِ عَنْ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ حَسَبَ شَرِيعَةِ إِلهِكَ التي بِيَدِكَ" - عزرا 7 :14 - . ومن هنا يظهر بمزيد الوضوح أن التوراة لم تتلاش في زمن بختنصر، وعندنا دليل آخر ورد في كتاب عبري يُدعى برقي أبهوث كُتب في القرن الثاني للميلاد ما معناه نزلت التوراة على موسى في جبل سيناء، واستودعها موسى إلى يشوع، وهذا سلمها إلى شيوخ إسرائيل، وهؤلاء سلموها إلى الأنبياء، وسلمها الأنبياء إلى السنهدريم "مجمع
اليهود" الأعظم . ويُروى أن هذا المجمع كان مؤلفاً من علماء اليهود وبدأ بتأسيسه عزرا، وكان الغرض منه المحافظة على التوراة وتعليمها للشعب. وورد في التلمود - كتاب تقليد اليهود - أنه بعد السبي البابلي الذي نحن في صدده أعاد المجمع العظيم التوراة إلى مجدها وجلالها القديم، وأشار إلى ذلك كتاب برقي أبهوث بما معناه أن ذلك المجمع وضع ثلاثة وصايا كشعائر مقدسة الأولى - احترس في القضاء - الثانية علِّم كثيرين - الثالثة كن حصناً منيعا للتوراة. وهذه الوصية الأخيرة أوجبت على اليهود أن يبذلوا قصارى جهدهم في صيانة التوراة سالمة من كل ما يعرض لها، وقد قاموا بهذا المهمة خير قيام. وما من أمة بالغت في العناية بكتابها المقدس كما بالغت الأمة اليهودية بتوراتها، فقد أحصوا عدد كلماتها وحروفها. وأذكر هنا قولاً مأثوراً قاله أحد أكابر هذا المجمع يدل على مبلغ عنايتهم بالتوراة، وإلى أي حد رفعوا مقامها. ورد في برقي أبهوث قوله إن سمعان العادل - أحد خلفاء المجمع - كان يقول : العالم قائم على ثلاثة أعمدة التوراة والعبادة والعمل الصالح . بمثل هذا الاهتمام والتدقيق تداولت التوراة بين اليهود من السلف إلى الخلف جيلاً بعد جيل في لغتها الأصلية وهي العبرية والآرامية بكل اعتناء وتدقيق. ومن الأدلة المعتبرة على ما نحن بصدده
تعدد قراءات التوراة، أي وجود اختلافات لفظية مع وحدة المعنى. أليس هذا برهاناً على أنه لم يكتبها شخص واحد، ولا كُتبت في عصر واحد. ثم أنه يوجد فيها ما يشبه التناقض في أخبار بعض الوقائع والمسائل التي ليس لها مساس في الجوهر، وهو بالحقيقة ليس بتناقض. فوجود شيء من هذا القبيل في أسفار التوراة مع سكوت اليهود عنه وعدم تجاسرهم على تسويته، لدليل قوي على تمسكهم بالمتون الأصلية واستحفاظهم عليها، مهما يكن من أمرها. وتظهر قوة هذا الدليل بأكثر وضوح من المثال الآتي نقلاً عن القرآن. ورد في سورة آل عمران 3 :55 قوله "إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَي"َّ وورد في سورة النساء 4 :157 قوله "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ إِلَّا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِه"ِ قد ارتاب بعضهم في كون الضمير الأخير عائد إلى المسيح، ولكن لا يمكن أن يرتاب في تصريح القرآن بموت المسيح الوارد في سورة مريم 19 :33 "وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا" فهذا كله يظهر أنه منقوض بما ورد في سورة النساء 4 :157 "وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُم"ْ لأنه في المواضع الأولى يثبت موته وفي الموضع الأخير ينفيه. فوجود التناقض الظاهري في متن القرآن دليل معتبر على أن المسلمين لم يمسوه بسوء وإلا لكانوا
من باب أولى أزالوا شبه التناقض هذا وخصوصاً في آية "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ إِلَّا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِه"ِ إذ قُرئت قبل موتهم وهذه القراءة يزول معها الالتباس، فما كان أيسر عليهم أن يثبتوا القراءة الثانية محل الأولى لكنهم لم يفعلوا حرصاً على الأصل. هكذا يدل وجود شبه التناقض الواقع في أسفار التوراة على أمانة أهلها.
قد كتب بعض المؤلفين المسلمين جدولاً طويلاً من المناقضات الواردة في الكتاب المقدس وزعموا أنها مناقضات حقيقية، وهي تناقضات ظاهرية فقط كمثل التي نقلناها هنا عن القرآن، وقد وفق بين كثير منها العلماء المحققون والتي لم يهتدوا إلى التوفيق بينها فصعوبتها قائمة على عدم معرفتهم كل ظروفها. ووجود هذه الاختلافات في أسفار التوراة دليل على عظمة اعتناء اليهود بالمحافظة على الأصل لأنهم لم يتخذوا وسيلة لإزالة هذا الخلاف ويكفوا نفوسهم مؤونة احتجاجات المعارضين الذين لا يفتأون ينقبون في الكتاب، لا توصل المعرفة الله، بل ليظفروا باحتجاج جديد، ويُظهروا براعتهم للناس ومن جدَّ وجد في الخير كان أو في الشر وإن أغمض الرجل عينيه لا يُعدم نصيبا من التدهور في الهوة والشمس طالعة .


ولنتأمل الآن باختصار فيما إذا كانت أسفار العهد القديم أولاً وأسفار العهد الجديد ثانياً، المتداولة
اليوم، هي بذاتها التي كانت في زمن محمد، وإليها أشار القرآن فنقول :
إنه يوجد لدينا جملة جداول محصاة فيها أسفار العهد القديم يرجع تاريخها إلى ما قبل محمد، وهي موافقة لتوراة العصر الحاضر تمام الموافقة. قال يوسيفوس المؤرخ اليهودي في تاريخه الذي كتبه سنة 90 ميلادية لا يوجد بيننا معشر اليهود عشرات الألوف من الكتب المتناقضة، بل يوجد اثنان وعشرون سفراً نؤمن أنها موحى بها من الله محتوية على تاريخ كل العصور، منها خمسة أسفار(1) لموسى وتشتمل على شريعة الله وتاريخ الجنس البشري من ابتداء العالم إلى موته، أي نحو ثلاثة آلاف سنة تقريباً. ومن ذلك الوقت إلى حكم الملك أرتزركسيس الذي خلف زركسيس مدون في ثلاثة(2) عشر سفراً والأربعة(3) الأسفار الباقية - المزامير والأمثال. والجامعة ونشيد الأنشاد - لتسبيح الله وتهذيب الأخلاق . وقدَّم لنا مجمع جامنيه الذي عُقد سنة 90 ميلادية قائمة هذه الأسفار بعينها، وقرر مجمع لادوكية أنها اثنين
وعشرين سفراً، ثم في القرون المتأخرة جزأوا بعض هذه الأسفار لسهولة المراجعة. ويمكننا أن نقدّر ونعين تاريخ التجزئة بالضبط. مثلاً في نسخة بطرسبرج التي كُتبت باللغة العبرية سنة 916 م لا تزال فيها الأسفار الصغار للأنبياء الاثني عشر(1) متضمنة في كتاب كل سفر كان يعتبر أصحاحاً، محصية فيه أعداد الآيات. أما تقسيم كل من سفر صموئيل والملوك والأخبار إلى جزئين وفصل عزرا عن نحميا فقد تم لأول مرة في طبعة العهد القديم العبرية في البندقية سنة 1516 و1517 ميلادية. يقول يوسيفوس المؤرخ إن الكتب الأخرى التي لا يساوون بينها وبين الاثنين والعشرين سفراً القانونية في الوثوق بأقوالها وقد ترجموا الكل إلى اليونانية، ومع أن هذه الأسفار الغير القانونية كُتبت وتُرجمت من قبل المسيح بكل اعتناء وتدقيق، لم ينزلوها منزلة الأسفار القانونية ولا عدّوها معها. وتمت هذه الترجمة بين سنة 247 و285 قبل المسيح في مصر بناء على طلب بطليموس الثاني الملقب فيلادلفيوس . ويظن البعض أنها بين سنة 200 و250 قبل المسيح ويرجحون الرأي الثاني، وليس هذا ذا بال. وتُدعى هذه الترجمة بالسبعينية نسبة إلى عدد الذين
ترجموها، فإنهم كانوا سبعين عالماً من علماء اليهود، وهي أقوم ترجمة للتوراة في الوجود.
ولنذكر بعد ذلك الترجمات الأخرى للعهد القديم لزيادة التأكيد بأن التوراة التي بأيدينا اليوم هي التي كانت في عصر محمد وقبله بقرون كثيرة، لأنه إن لم تكن موجودة حينئذ فمن أين أتت تلك الترجمات وعلى الخصوص الترجمة السبعينية ، هذا ظاهر لأبسط الناس وعامتهم.
ثم الترجمة اليونانية التي تُرجمت بواسطة أكويلا التي تممها سنة 130 ميلادية وترجمها مرة أخرى رجل سامري اسمه سيماش، وفرغ منها سنة 218 ميلادية، ثم تُرجمت الى اللاتينية القديمة في القرن الثاني للميلاد نقلا عن الترجمة السبعينية. ثم ترجمها جيروم عن اللغة العبرية الى الطليانية وتسمى الترجمة اللاتينية وفرغ منها سنة 405 م والترجمة السريانية لبشستا والمظنون أنها تُرجمت في آخر القرن الأول.
يقول يعقوب من أودسا إن التوراة تُرجمت أيضاً في حياة المسيح بناء على طلب ملك أودسا ابجار، ويظنون أن أول من أشار إلى الترجمة السريانية هو مليتس من أهالي ساردس في القرن الثاني، وينسبها آخرون إلى القرن الثالث. والترجمة السريانية الفيلكسية أتمها بوليكاربوس نحو سنة 508 وهذبها وأصلحها توماس هرقل 616 م. وعليه كل
الترجمات السريانية كانت موجودة من قبل عصر محمد، والترجمة الأخيرة من هذه اللغة بوشرت في نفس أيامه.
ولما احتمى أصحاب محمد ببلاد الحبشة قبل الهجرة رأوا أهل تلك البلاد يقرأون التوراة والإنجيل في لغتهم الحبشية. وبسبب قِدم تلك الترجمة كان من الصعب على الأحباش فهمها، والمظنون أنها تُرجمت في القرن الرابع للميلاد. وكذلك لما فتح عمرو مصر وجد الدين الغالب فيها النصرانية، ووجد الكتاب المقدس مترجماً إلى اللغة القبطية في اصطلاحات البلاد الثلاثة الصعيدي والبحيري والبشموري. وقد تُرجمت عن الترجمة السبعينية، ويظن بعضهم أنها تُرجمت في ما بين القرن الثالث والرابع، ويقول بعضهم بل قبل ذلك.
وتُرجم بعض أجزاء التوراة عن اللغة السريانية إلى الآرامية سنة 411 م وعن الترجمة السبعينية سنة 436 م. وبعد ذلك بنحو قرن تمت الترجمة المشهورة بترجمة القديس جاورجيوس، وكانت مع قرب عهدها قبل الهجرة بسنين كثيرة.
وترجم التوراة أسقف غوثية إلى لغة أهل بلاده سنة 360م
وأكثر هذه التراجم تممها قوم مسيحيون ما عدا الترجمة السبعينية والأكويلية طبعاً. كثيراً ما ترجم اليهود بعض أسفار
التوراة إلى الآرامية حيثما ابتدأ أكثرهم يهملون التكلم بالعبرية، ومن بين هذه التراجم ترجمة أنكلوس التي تمت ما بين سنة 150 و200 م. وترجم يوناثان ابن عزيل أسفار الأنبياء سنة 320م وعدا عن كل هذه الترجمات كان يوجد كتاب الترجوم الأورشليمي، وهو عبارة عن ترجمة أسفار العهد القديم وشروحها إلى اللغة الآرامية، وقد تم في القرن السادس أي قبل الهجرة. ومن المعلوم أنه كان في سالف الزمان بغض شديد بين السامريين واليهود، ومن أجل ذلك لم يعتمد السامريون من التوراة سوى أسفار موسى الخمسة واعتبروها كما هي موحى بها من الله. ولم نعلم بالتأكيد متى حصلوا على نسخة الأسفار الخمسة، فيظن البعض أنه كان في سنة 606 ق م. أي حينما ابتدأت سنو السبي السبعون، ويظن البعض أن منسى حفيد ألياشيب الكاهن العظيم - وهو الذي قد تزوج بابنة سنبلط كما جاء ذلك في سفر نحميا أصحاح 13 :28 - أحضر هذه الأسفار إلى السامرة حينما نفاه نحميا من أورشليم وأسس هناك هيكلاً على جبل جرزيم نحو سنة 409 ق م.
ولا يزال بين أيدي المسيحيين بعض النسخ من توراة السامريين - أي أسفار موسى الخمسة - باللغة العبرانية الأصلية، لكن بحروف مختلفة عن التي يستعملها اليهود.
وبمراجعة هذه الأدلة والتراجم المتعددة لأسفار العهد القديم عند اليهود والنصارى نجزم ونحتم أن توراة اليوم هي بذاتها التي كانت في عصر محمد، وشهد لها القرآن في آيات كثيرة. وأن القراءات المتعددة للتوراة لا تطعن في سلامتها ولا تشوش نقاوتها لأنها لا تمس جوهر تعليمها واختلاف القراءات مسألة لا بد منها لكل كتاب قديم عظيم كاختلافات قراءات القرآن.


ولنتكلم الآن في نسخ العهد الجديد المتداول اليوم في العالم المسيحي ونبحث هل هي الإنجيل الحقيقي الذي يشهد له القرآن، وهل هو الذي كان موجوداً في عصر محمد أم لا ،
أما رجال العلم والتحقيق في كل العالم فلا يخالج قلوبهم أقل شك في صحة هذه الدعوى، لأن الأبحاث العصرية المتأخرة أثبتت قطعيا أنه حتى في عصر المسيح كتب تلاميذه - الحواريون - مذكرات بأقواله وتعاليمه وأعماله، وكثير منها وارد في بشارة مرقس على نوع أخص، وفي بشارتي متى ولوقا أيضاً على نوع ما. إلا أن واقعة صلب المسيح وموته ودفنه وقيامته وصعوده لم يدون منها التلاميذ شيئاً إلا من بعد صعوده طبعاً، ثم أنهم لم يروا ضرورة تدفعهم إلى كتابة الإنجيل لقوم يعلمونه بمشاهدة العيان، إذ كانوا معاصرين ليسوع ورأوه وجها لوجه
وكلموه شفاهياً وكانوا معه وحوله كل يوم يسمعون وعظه ويرون معجزاته - 1 كورنثوس 15 :6 وأعمال 1 :21 و22 - ولأن المسيح لم يأمرهم أن يكتبوا الإنجيل - الأخبار السارة - بل يكرزوا به، ليوضع الأساس على شهادة قوم أحياء معاصرين له شهادة شفاهية مشفوعة بدلائل الصدق والإخلاص. وأما كتابة الإنجيل فابتدأت على هذا المنوال. اعلم أن هذا الإنجيل معناه الخبر السار أو البشارة السارة . فقد كتبها قبل الكل بولس الرسول ضمن رسالتين متواليتين بعث بهما إلى أهل تسالونيكي، ويرجع تاريخهما إلى ما بين سنة 22 و23 بعد صعود المسيح، ومثل هاتين الرسالتين بقية رسائل بولس في وحدة التعليم في كل المبادئ التي نتمسك بها إلى اليوم.
لكن لما مضى الجيل المعاصر للمسيح أو كاد، مسَّت الحاجة إلى تدوين الإنجيل في الأسفار لصون حقائقه من الطوارئ، وإفادة الأجيال الآتية، فألهم روح الله القدوس من اختار لتنفيذ هذه المهمة من رسل المسيح ورفقائهم القريبين منهم، فكتب أولاً القديس مرقس بشارته قبل خراب أورشليم سنة 70 للميلاد. وظن بعضهم أنه ما بين سنة 65 و66 في مدينة رومية. وكان مرقس رفيقا لرسل المسيح وأحد تلامذته الأولين وكان مشهوراً في الكنائس الأولى ومعروفاً عنه بأنه
تلميذ بطرس، فكتب بشارته بناءً على معلوماته الشخصية ومعلومات بطرس، غير أن روح الله القدوس عصمه من الخطأ وذكّره بما عساه يكون نسيه، وألهمه ما يكتب في تلك الأخبار وما لا يكتب.
وكتب متى رسول المسيح بشارته قبل سنة 70 للميلاد. وكتبها لوقا ما بين سنة 60 و70، وكتبها يوحنا ما بين سنة 90 و100 أي حينما بلغ من العمر سن الشيخوخة والحاصل أن بين أيدينا بشارتين لرسل المسيح، وهما بشارتا متى ويوحنا، وبشارتين لرفقائهما وهما بشارة مرقس - ومن المحتمل أن تكون من إملاء بطرس - وبشارة لوقا رفيق بولس الرسول. وهذا الأخير يقول في فاتحة كتابه إنه فحص واستعلم بالتدقيق عن كل ما كتب من شهود العين. ومما لا شك فيه أن الأصحاحين الأولين من بشارته كتبهما حسب شهادة العذراء مريم.
وربما يقول معترض إن هذا كله لا يدل على أن هذه الكتب موحى بها من الله، فأجيب : نعم، ليست موحى بها كالوحي الذي يتصوره المسلمون ويروونه عن القرآن من أنه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ من قبل خلق العالم ونزل إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أملاه جبريل على محمد مفرَّقاً حسب الوقائع والأحوال. إن وحياً كهذا يظهر لنا معاشر المسحيين أنه ليس بالجيد فضلاً عن أنه لم يقم دليل على أن
القرآن موحى به مثل هذا الوحي - كما هو مثبوت في كتاب مصادر الإسلام - . ويقول وعلماء النقد والتفكير إن فرضنا أن كتاباً مقدساً كُتب في السماء ونزل إلى الأرض على هذه الكيفية فلا يمكننا أن نقيم الدليل على أن ذلك الكتاب كُتب في السماء ولا أن له صلة بها. وأما الوحي التوراتي والإنجيلي فهو أن الله إذا أراد أن يعلن لعباده أمراً من الأمور على يد أنبيائه لا يتخذهم كآلات صماء، بل يستخدم عقولهم وأذهانهم وذاكرتهم وذكاءهم وأرواحهم في ما يكتبونه، فيكون وحياً - يوحنا 16 :13 - .
ولنشرح هنا بعض المسائل التي تشوش على أذهان إخواننا المسلمين في فهم حقيقة الإنجيل. يقول بعضهم إن الإنجيل الذي بين أيدي المسيحيين اليوم ليس هو الإنجيل الحقيقي الذي أُنزل على المسيح لأننا نرى عندهم أربعة أناجيل لم تُكتب إلا بعد صعود المسيح بمدة طويلة. فنقول إن كتابة الإنجيل بعد صعود المسيح بمدة طويلة لا يطعن في صحته كما لا يطعن في صحة، القرآن كونه جمع بعد حياة محمد - كما ورد في مشكاة المصابيح صحيفة 193 والمؤلفات المعتبرة - . وأما كون عندنا أربعة أناجيل فهو ليس بحق، فإن عندنا إنجيلاً واحد الأن كلمة إنجيل وإن كانت استُعملت اسما لبعض أسفار العهد
الجديد فمعناها خبر سار أو بشارة مفرحة، لأنها معدولة عن كلمة يونانية مجانسة لها لفظاً وتفيد هذا المعنى بالضبط. لكن إخواننا المسلمين قلما يفطنون لهذا المعنى.
ولما كانت خلاصة أسفار العهد الجديد وزبدتها إعلان محبة الله للبشر، بحيث أنه أرسل لهم يسوع المسيح ليخلّصهم من خطاياهم، وهذا خبر سار جداً، فدُعي به العهد الجديد أو بالعبارة اليونانية المعربة إنجيل . وبهذا الاعتبار لا تكون أناجيل كثيرة، بل إنجيل واحد كرز به متى ومرقس ولوقا ويوحنا وبولس وبطرس الخ. فالكارزون هم المتعددون، وأما الإنجيل فهو واحد غير متعدد. وبمراجعة الأصل اليوناني نجد البشائر الاربع التي في صدر أسفار العهد الجديد مسماة بكيفية تطابق الشرح الذي قدمناه، فبشارة متى مسماة إنجيل المسيح كما كتبه متى والبشارة الثانية مسماة إنجيل المسيح كما كتبه مرقس وهكذا. وإنما حباً بالاختصار اتفقوا على تسميتها بحسب الأسماء الحاضرة. وبعد البشائر الأربع سفر الأعمال - أي أعمال الرسل - وخلاصته أن الرسل كرزوا بالإنجيل في أقاليم كثيرة من العالم بين اليهود والأمم، وبدأوا بالكرازة بعد صعود المسيح بأيام قليلة لا تتجاوز عدد الأصابع. والكارز الأول بالإنجيل هو نفس المسيح - مرقس 1 :15
و13 :10 ولوقا 20 :1 - وبهذا الاعتبار يكون الإنجيل نزل على المسيح، وقد شهد عن نفسه بأنه تلقى رسالته أي الإنجيل عن الله، وعلى ذلك قوله "وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ، فَكَمَا قَالَ لِي الْآبُ هكَذَا أَتَكَلَّمُ" - يوحنا 12 :50 وقارن يوحنا 8 :28 و12 :49 .


وأما بقية أسفار العهد الجديد فلم تُقبل ضمن دائرة الوحي إلا بعد الاستفسار والتحري الدقيق والأسانيد الكافية، خشية أن ينطوي معها سهواً مصنفات أخرى. واستغرقت هذه المهمة زمناً طويلاً مراعاة للظروف الصعبة التي أحاطت بتلك الأسفار، مثل أن البعض منها كان رسائل خصوصية لأفراد معينين، كرسالة بولس الرسول الأولى والثانية إلى تيموثاوس وإلى تيطس وفليمون، ورسالة يوحنا الثانية والثالثة. والبعض الآخر بُعث أولاً كرسائل إلى كنائس معينة، إلا أننا علمنا من مؤلفات المسيحيين الأولين أن البشائر الأربع عُرفت وصار اعتمادها أنها وحي من الله ما بين سنة 70 إلى سنة 130 م. وقد تم من بعض الوجوه إحصاء أسفار العهد الجديد في سنة 170 م وسُمي هذا الإحصاء بالقانون الموراتوري، وقد اشتمل على كل أسفار العهد الجديد المتداولة اليوم ما عدا رسالة يعقوب الرسول، والرسالة الثانية
لبطرس الرسول والرسالة إلى العبرانيين. وبعد التحري أبطلوا هذا القانون وعملوا إحصاءً جديداً تحروا فيه الضبط بأكثر تدقيق. يتضمن هذه الرسائل أيضاً مع الإشارة بأن الرسالة الثانية لبطرس كانت مشكوكاً في وجودها ضمن الاحصاءات الأولى .
ومن الجدير بالملاحظة أن كتابة الكتب والحصول عليها في تلك القرون الغابرة كان محفوفاً بالمصاعب والنفقات الثقيلة، وعدا ذلك لو أُحصيت أسفار العهدين المكتوبة بخط اليد بالحرف اليوناني الكبير المستعمل حينئذ لما بلغت مجلداً كبيراً فقط بل مجلدات كثيرة. ومع كل هذه المصاعب كانت توجد أسفار الكتاب المقدس مجموعة بين يدي كثيرين من المسيحيين في جهات مختلفة من العالم. وفي مجمع لاودكية الذي عُقد سنة 363 م الذي ذكرنا أنه أحصى أسفار العهد القديم ضمن اثنين وعشرين سفراً قد أحصى أيضاً أسفار العهد الجديد على الحالة التي هي عليها الآن ما عدا سفر الرؤيا، لأن بعض الكنائس قبلته وبعضها لم تقبله - يومئذ - . وفي مجمع قرطجنة الذي اجتمع سنة 397 م أقروا كل الأسفار المتداولة اليوم مشفوعة بهذا البيان قبِلْنا من آبائنا بأن هذه الأسفار ينبغي أن تُقرأ في الكنائس .
وعدا الاحصاءات المجمعية لأسفار العهد الجديد كما مر فقد
أحصاها مشاهير الكتاب المسيحيين منذ القرون الأولى للميلاد، متحرّين أبحاثهم الخصوصية، منهم أوريجانوس الذي مات سنة 253 م وأثناسيوس الذي مات سنة 373 وأيسيبوس وكان معاصرا له. وكلهم أجمعوا في أبحاثهم الخصوصية على قانونية أسفار العهد الجديد كما قررتها المجامع. ويعقّب إيسيبوس على إحصائه بهذه الملاحظة : إن بعض المسيحيين لم يقرروا رسالة يعقوب ولا رسالة يهوذا ولا الرسالة الثانية لبطرس ولا رسالتي يوحنا الثانية والثالثة ولا سفر الرؤيا، لكن بعد التحري الدقيق اقتنعنا بأن هذه الأسفار قانونية ويجب قبولها ضمن أسفار العهد الجديد بعد التأكد القوي أنها وحي الله .
وعلى ما تقدم لم تمض الأربعة القرون الأولى للميلاد حتى تقرر نهائياً اعتماد أسفار العهد الجديد على حالته الراهنة في فلسطين وسورية وقبرص وآسيا الصغرى وإيطاليا وشمال أفريقيا. ومن هنا لا ينبغي لذي عقل سليم أن يرتاب بأن الكتاب المقدس المتداول اليوم كان موجوداً بتمامه وعلى شكله الحاضر في عصر محمد بين المسيحيين المستوطنين في جزيرة العرب وسوريا ومصر والحبشة وغيرها من الأقاليم التي تعارف محمد بشعوبها.
ولقائل يقول ربما انقرض الكتاب المقدس بعد عصر محمد وصنف المسيحيون كتاباً آخر دعوه باسم الكتاب الأول الخ . فنجيب أن هذه الدعوى بمثابة من يدّعي أن القرآن بعدما ملأت نسخه الدنيا قد انقرض وكتب المسلمون كتاباً آخر وسموه باسمه، فهذه الدعوى لا يدعيها إلا كل جاهل. ومع ذلك نجيب عليها أنه من البراهين القاطعة على وجود وحدة الكتاب المقدس قبل محمد وبعده النسخ القديمة المخطوطة باليد في اللغة اليونانية، وهي اللغة الأصلية لأكثر أسفار العهد الجديد، واللغة التي تُرجمت إليها هي أقدم ترجمة للعهد القديم أي الترجمة السبعينية.
وأقدم متن عبراني موجود اليوم هي النسخة التي وُجدت في مصر وتشتمل على الوصايا العشر والقانون العبراني الوارد في - خروج 20 :2-17 وتثنية 6 :4-9 - وقد كتبت ما بين 220 و250 للميلاد أي قبل الهجرة بقرون. وأكبر نسخة للعهد القديم وأقدمها عندنا اليوم هي النسخة الشرقية نمرة 4445 محفوظة في المتحف البريطاني، وكُتبت ما بين سنة 820 و850. ويليها في الأقدمية نسخة سان بطرسبرج وهي مؤرخة سنة 916. وهاتان النسختان منقولتان عن نسخ أقدم منهما بكثير، وذكر الناسخ اسم اثنتين منها وهما نسخة حليل ونسخة موخا وروى زكوت
المؤرخ اليهودي أن نسخة حليل كُتبت سنة 597 م. وأنه رأى جزئين منها يشتملان على هذه الأسفار يشوع، قضاة، صموئيل الأول والثاني، ملوك الأول والثاني، إشعيا، إرميا، حزقيال، هوشع، يوئيل، عاموس، عوبديا، يونان، ميخا، ناحوم، حبقوق، صفنيا، حجي، زكريا وملاخي. وأما نسخة موخا فليست أقل أقدمية من النسخة الأخرى، ولا بد على الأقل أن إحدى هاتين النسختين كانت موجودة في عصر محمد. ومن تعليقات اليهود عليهما نعلم أنهما كانتا موافقتين لنسخة العهد القديم التي بين أيدينا، وعندنا نسخ كثيرة منقولة عن نسخ عبرانية أقدم منها.
وإن قيل ماذا جرى للنسخ العبرانية القديمة. نجيب بما يجيب به اليهود : وهو أنه عندما كانت تبلى النسخة من كثرة الاستعمال تحفظ في الخزانة حتى إذا مات رباني مشهور دفنوها معه. وبعض الأحيان يخشون عليها أن تُهمل مع طول الزمان وتُداس بأقدام أو يلحقها عارض يدنس ورقها وهذا حرام عندهم، فيُجهِزون عليها بالحريق.


وأما نسخ العهد القديم في الترجمة اليونانية الشهيرة بالترجمة السبعينية الذي يدل وجودها على وجود الأصل العبراني من قبلها فعندنا منها كثير، وقد كُتبت كلها قبل الهجرة بسنين عديدة وهاك أشهرها:
(1) النسخة السينائية كُتبت في القرن الرابع أو في بداية القرن الخامس
(2) النسخة الفاتيكانية كتبت في القرن الرابع وربما في بدايته
(3) النسخة الإسكندارنية كتبت فيما بين نصف القرن الخامس ونهايته
(4) النسخة القطونية كتبت في القرن الخامس أو السادس
(5) النسخة الأمبروسانية كتبت في نصف القرن الخامس
وكل هذه النسخ وجدت من قبل عصر محمد وفي عصره، وإذا أراد الباحث أن يتحرى هل إذا كانت هذه النسخ تضاهي النسخ المتداولة فما عليه إلا أن يزور مكاتب أوروبا الشهيرة ويقارن هذه بتلك.
وإن نسخة العهد القديم اليونانية المستعملة اليوم طبعت عن هذه النسخ القديمة المذكورة، وبمراجعتها مع الأصل العبراني لم يوجد فرق ولا في تعليم واحد إلا اختلاف في القراءات بسيط جداً، مثل أن المترجمين أخطأوا في ترجمة كلمة صعبة على الفهم. وبمراجعة النسخ الحاضرة على الترجمة السبعينية لا يوجد فرق إلا في أعمار بعض الآباء
الأولين المذكورين في أصحاحي 5 و10 من سفر التكوين. ولكن الاختلافات في القراءة لا تمس جوهر الكتاب في أدنى شيء.
وأما نسخ العهد الجديد اليونانية المتداولة فتعززها النسخ اليونانية الأصلية. وقد كتبت على رقوق لا على ورق. ولا محل لاعتراض رحمة الله الهندي من هذه الحيثية إذ يقال إن بقاء القرطاس والحروف إلى ألف وأربعماية سنة أو أزيد مستبعد عادة إلا أنه وُجد في مصر كتابات على ورق البردي يرجع تاريخها إلى ألف وثمانماية سنة كما هو معلوم عند رجال الآثار.
ولنرجع إلى ما نحن فيه، فنقول إن كثيراً من النسخ المتضمنة للترجمة اليونانية لأسفار العهد القديم تتضمن أيضاً أسفار العهد الجديد بالأصل اليوناني - أولاً - النسخة السينائية المذكورة سابقاً، وتوجد في المتحف الأمبراطوري بمدينة سان بطرسبرج - ثانياً - النسخة الفاتيكانية المحفوظة في مكتبة بابا رومية - الفاتيكان - ثالثاً - النسخة الإسكندرانية وهي في متحف لندن، وقد ذكرنا تواريخها فراجعها في مواضعها - رابعاً - أنه في سنة 1907 اكتشفوا في دير قديم بقرب سوهاج إحدى مدائن صعيد مصر على أربعة أجزاء من النسخ القديمة التي يرجع تاريخها إلى القرن الرابع من باب الاحتمال أو القرن السادس بالتأكيد يشتمل واحد منها على سفر التثنية ويشوع وآخر على سفر المزامير. ويشتمل الثالث على البشائر الأربع والأخير على قطع من رسائل بولس الرسول - خامسا - النسخة البيزانية وكانت محفوظة في جامعة كمبردج بانكلترة وكتبت في بداية القرن السادس - سادساً - النسخة الأفرايمية وقد كتبت في أوائل القرن الخامس، وهي اليوم في المتحف الأهلي بباريس.
وعدا هذه النسخ الكبيرة توجد نسخ صغيرة تشتمل على أجزاء متفرقة من أسفار العهد الجديد بالأصل اليوناني، ومن أقدمها عهداً نسخة مخطوطة على شقة واحدة من البردي اكتُشفت حديثاً في أطلال البهنسا، وهي تشتمل على الأصحاح الأول والأصحاح العشرين من إنجيل يوحنا وكَُتبت ما بين سنة 200 و300 ميلادية أو بعبارة أخرى قبل محمد بأكثر من 270 سنة. وهذا الاكتشاف الحديث بالقطر المصري له اعتبار ممتاز من حيث وجهتنا الخصوصية التي نرمي إليها في هذا الموقف، بمعنى أن هاتين النسختين اللتين اكتُشفتا بسوهاج والبهنسا قد دُفنتا في صحاري مصر التي صارت فيما بعد بلاداً إسلامية قبل الهجرة بمئات من السنين، وبقيتا تحت التراب إلى هذه الأيام حتى عثروا عليهما. لا يقدر أحد يدعي مهما بلغت درجة تعصبه إنهما
مزورتان بعد نزول القرآن أو محرفتان في أيام محمد أو بعده.
ويبلغ عدد النسخ القديمة للعهد الجديد بالأصل اليوناني ما بين جامعة لها وكلها، ولجزء منها، 3899 نسخة، فُحصت كلها فحصاً دقيقاً ونمروها لتسهيل معرفة مواضعها على طلبة علم اللاهوت. وتوجد نسخ أخرى غير منمرة لا تقل عن ألفي نسخة.
وبما أننا تكلمنا على نسخ العهد الجديد بالأصل اليوناني يحسن بنا أن نتكلم أيضاً عن نسخه المترجمة، لا سيما وأن بعضها مترجم من قبل الهجرة بزمان طويل، منها ما هو منقول عن باشيطا السريانية ويبلغ على الأقل عشر نسخ مؤرخة في القرن الخامس، ونقل عنها ثلاثون نسخة مؤرخة في القرن السادس. وفي كلامنا عن العهد القديم أشرنا إلى ترجمات باللغات القديمة التي ليس على وجه الأرض من يحسن التكلم بها كلغته الأصلية، وكذلك ترجمات العهد الجديد. والكل محفوظ في متاحف الآثار، ويرجع تاريخها إلى ما قبل عصر محمد بمئات السنين إلا ترجمة واحدة كتبت في عصره ولكن قبل هجرته وسيأتي ذكرها.
ولتفصيل ذلك نقول إنه يوجد اليوم نسخ كثيرة من الترجمات القديمة للعهد الجديد إلى اللغة السريانية أشهرها - باشيطا - ترجمت ما بين القرن الثاني والثالث للميلاد، ونسخة فيلكس السريانية تمت سنة 508 م ونقحها توما الهرقلي سنة 616. ووجد عدا هذه ترجمات أخرى سريانية بقي منها نسختان أصليتان وهما نسخة الكارتونية والسينائية السريانية، ومما يدل على وجود هذه الترجمات السريانية للعهد الجديد قديماً هو أن طاطيان المولود سنة 110 م صنّف اتفاق البشيرين الأربعة وعندنا ترجمته باللغة الأرمنية واللاتينية مع اختلاف طفيف. وعن السريانية ترجم ابن الطبيب المتوفي سنة 1043 نسخة عربية تُسمى دياطسرون ومعنى ذلك - اتفاق البشيرين - . واكتشفوا حديثاً قطعاً من ترجمة العهد الجديد من اليوناني إلى سريانية فلسطين التي كانت في عهد المسيح، وكتبت هذه الترجمة في القرن الرابع إن لم يكن قبله، ثم نسخة سنة 600 م وتُسمى نسخة كليماكوس وتشتمل على أجزاء من البشائر الأربع وسفر أعمال الرسل ورسائل بولس الرسول.
وتُرجم العهد الجديد إلى اللاتينية قديماً كما يقرر ذلك أغسطينوس وجيروم. قال الأخير : وُجدت ترجمات في بعض الأحيان لم تبلغ حدها في الصحة وذلك من جهل المترجمين. وأضبطها كلها الترجمة اللاتينية القديمة ويرجع تاريخها إلى القرن الثاني للميلاد، ومع ذلك رأى وجوب
إيجاد ترجمة تكون أكثر ضبطاً من تلك لسد حاجة الشعب، فترجم العهد الجديد إلى اللاتينية ما بين سنة 383 و385 م وتُسمى الترجمة العامية وتوجد على الأقل ثمانية آلاف نسخة مخطوطة عن الترجمة العامية المذكورة، بعضها مؤرخ في القرن الرابع وبعضها في الخامس إلى السادس. وهذا كله تم قبل زمان محمد. فتأمل
وقد ذكرنا في ما مضى أن العهد القديم تُرجم إلى اللغة القبطية في اصطلاحاتها الثلاثة، وهنا نقول إن العهد الجديد تُرجم كذلك، فالترجمة البحيرية تمت ما بين القرن الثالث والرابع، والترجمة الصعيدية تمت في ذلك التاريخ. وأما اللهجة البشمورية فكانت انقسمت إلى ثلاثة لهجات الفيومية والأخميمية والأقاليم الوسطى، وإلى كل واحدة من هذه ترجم بعض أسفار العهد الجديد أو كلها وأقدمها جميعاً الترجمة القبطية الصعيدية، ونسخها الأصلية ترجع إلى القرن الرابع والخامس.
والترجمة القوطية ترجمت نحو سنة 360 م وأقدمها نسخة أصلية لها كتبت إما في القرن الخامس أو السادس.


وهنا نتخذ وسائل أخرى لإقامة حجتنا عدا النسخ الأصلية والترجمات القديمة لأسفار العهد القديم والجديد التي فصلناها. فنقول إن كتابنا المقدس في العصر الحاضر هو عين الكتاب الذي كان قبل محمد، وذلك من الاقتباسات التي نُقلت عنه في مؤلفات المسيحيين القدماء في لغات مختلفة يوناني ولاتيني وسرياني وقبطي. ففي هذه المؤلفات وردت آيات كتابية كثيرة جداً، بحيث لو ضاع الكتاب من العالم يُجمع ثانية من هذه الاقتباسات. واعتبر هذا الدليل قياساً على القرآن. ألم تر في مؤلفات المسلمين آيات كثيرة منه ،ولسنا مبالغين إن قلنا إنه ضاع القرآن اليوم، يُعاد من الاقتباسات الواردة في التفاسير والمؤلفات الإسلامية وصدور الحفظة الكثيرين. ومثل هذا إن لم نقل أكثر منه يوجد في مؤلفات المسيحيين. وأغرب من ذلك أن في مؤلفات الوثنيين القدماء أقوال ليست بقليلة مقتبسة من الكتاب المقدس، مثل كتابَي سلسوس فورفيري وجوليان الكافر. وعدا الاقتباسات الصريحة الواردة في مؤلفات المسيحيين القدماء يؤخذ من مضامينها ما يطابق تمام المطابقة حقائق الكتاب المعروف الآن، مثل أعمال المسيح وموته وقيامته وصعوده إلى السماء، ومثل الفداء إلى غير ذلك مما هو مشروح في محلاته.
وعندنا أدلة أخرى عدا هذه وتلك تثبت ما نحن بصدده يمكننا تسميتها بالأدلة الأثرية، ففي مدينة روما اكتُشفت قبور كثيرين من مسيحيي القرون الأولى للمسيح في سراديب تحت الأرض منقوش
عليها كتابات وصور يؤخذ منها إن هؤلاء المسيحيين يؤمنون بالعقائد التي يعلمنا إياها الإنجيل الآن. وأظن في هذا القدر كفاية لإقناع كل معاند ومكابر بأن أسفار العهد الجديد والقديم محفوظة بتمامها ونقاوتها من قبل عصر محمد الذي منها يقتبس ولها يشهد وإياها يحترم. وأن هذه الأسفار مُحصاة في جداول بين أيدي اليهود والمسيحيين تبيّن أنها أسفار موحى بها من الله، وكلها نص واحد قديمها وجديدها بمتونها الأصلية وترجماتها، لا يوجد بينها إلا اختلاف في القراءات كما أشرنا إلى ذلك في موضعه.
من أجل ذلك عندما يأمر القرآن محمداً أن يسأل أهل الكتاب عما جاء فيه من التعاليم يجب على المسلمين أن يفهموا ويتأكدوا أنه يقصد الكتاب الذي بين أيدينا الآن، لأنه هو الأسفار المقدسة الموجودة بين أيدي اليهود والمسيحيين في كل العالم لا غير. وقد رأينا في الفصل الأول أن القرآن يذكر في مواضع كثيرة الأقسام الرئيسية لهذا الكتاب، وهي التوراة والزبور والأنبياء والإنجيل، ويرفعها إلى أعلى مراتب الكرامة، فيسميها تارة كلام الله وكتاب الله وتارة الفرقان والذِّكر ويهدد بأشد أنواع العذاب الذين كذبوا بها - سورة المؤمن 40 :70 - ويقول القرآن إنه نزل ليكون مهيمناً عليه (سورة المائدة 5 :51) ويأمر المسلمين أن يؤمنوا بها كإيمانهم بنفس القرآن - سورة البقرة 2 :136 وسورة آل عمران 3 :84 .
وبما أنه قد ثبت بالأدلة القاطعة إن كتابنا المقدس هو كتاب الله فيجب عليكم حتماً أن تطالعوه باحترام ودعاء عسى أن يفتح الله الرحمن الرحيم أذهانكم لفهمه حتى تروه كما وصفه القرآن هدى وذكرى لأولي الألباب .

  • عدد الزيارات: 19072