الكتاب المقدس لم يُنسَخ ولا يمكن أن يُنسخ
لا في حقائقه ولا في عقائده ولا في مبادئه الأدبية
تبيّن من البراهين التي قدمناها في الفصل السابق أنه ينبغي للمسلمين الخاضعين لأوامر القرآن أن يدرسوا كتاب الله أي أسفار العهدين القديم والجديد ويحترموه ويطيعوه.
غير أن بعضهم لا يسلم معنا بهذه النتيجة استناداً على دعواهم :
(1) إن الكتاب المقدس نُسخ (2) أن الأسفار المقدسة المتداولة اليوم ليست هي الأسفار التي ذكرها القرآن وشهد لها (3) وبعضهم يقول ربما تكون هي بعينها، إلا أنه
اعتراها التحريف والتبديل ولعبت بها يد الأغراض حتى لم تعد تستحق الكرامة ولا العناية المعطاة لها في القرآن. فغرضنا من الفصول الآتية البحث في هذه الاعتراضات لنرى صحتها من عدمه، ولنبدأ في هذا الفصل بالبحث عما إذا كان الكتاب المقدس نُسخ حقيقةً كما يزعمون أم لا. نقول إن كانت هذه الاعتراضات في محلها تسقط حجتنا التي قدمناها في الفصل الأول، غير أنه بهذا يضعف نفوذ القرآن كما لا يخفى على اللبيب.
ولنسلم هنا أن بعض علماء الإسلام يحاولون أن يثبتوا صحة وقوع النسخ على الكتاب المقدس، كالبيضاوي مثلاً، فإنه يقول في تفسيره على قوله "وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَق"ِّ - سورة التوبة 30 - أي الدين الذي ينسخ سائر الأديان ويبطل مفعولها اعتقاداً وعملاً. ثم ورد في كتاب عيون أخبار الرضا فصل 36 قوله : كل نبي كان في أيام موسى وبعده كان على منهاج موسى وشريعته وتابعا لكتابه إلى زمن عيسى، وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعا لكتابه، إلى زمن نبينا محمد وشريعة محمد لا تُنسخ إلى يوم القيامة.
وورد في كتاب هداية الطالبين إلى أصول الدين للمولوي محمد تقي الكاشاني الفارسي ما ترجمته إلى العربية إن علماء الإسلام قرروا أن محمداً نبي هذا الزمان، ودينه ناسخ لأديان الأنبياء السابقين - ص 166.
ورداً على ذلك نقول إن مسألة النسخ وإن كانت مقبولة عند العامة وكثيرين من الخاصة، غير أنه يجب أن نلاحظ أن القرآن لم يشر إليها بكلمة واحدة، ولا أشار إليها الحديث عند السنيين ولا الشيعيين. وبالإجمال أن هذه المسألة تشوِّش تعليم القرآن وتقلبه رأساً على عقب.
إن نسخ بمعنى أُزيل أو أُبطل لم يرد في القرآن إلا في موضعين اثنين: الأول سورة البقرة 2 :106 وهو قوله "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهاَ"، والثاني سورة الحج 22 :52 وهو قوله "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِه"ِ. فلا توجد في الموضع الأول ولا الموضع الثاني أقل إشارة تدل على أن القرآن ناسخ للكتاب المقدس، بل هو ناسخ لنفسه في بعض أجزائه، حتى أن بعضهم عدد
الآيات المنسوخة من القرآن فبلغت مائتين وخمساً وعشرين آية.
ويخبرنا البيضاوي بأنه توجد قراءات مختلفة لآية سورة البقرة 106، لكن لدى التأمل نجد أن تلك القراءات واحدة في المعنى، ولا يمكن أن يطلق عليها معنى النسخ الذي هو الإزالة أو الإبطال، فالإشارة إذاً إلى نسخ القرآن نفسه في بعض أجزائه.
وإليك مثالاً مشهوراً ذكره البيضاوي في تفسيره النَّسخ المشار إليه في سورة الحج، حيث يبيّن كيف نسخ الله بعض الكلمات من سورة النجم، وهي قوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لتُرتجى. وملخص الخبر أنه بينما كان محمد يتلقى الوحي من جبريل ألقى الشيطان على لسانه تلك الكلمات ليستهويه إلى عبادة اللات والعزى ومناة، فقالها كأنه موحى بها من الله، ثم بعد ذلك نسخها الله. وروى هذه القصة يحيى وجلال الدين في تفسيرهما على النَّسخ الوارد في سورة الحج، ورواها ابن هشام عن ابن اسحق في سيرته، وقد ذكرت أيضاً في المواهب اللدنية وذكرها الطبري. وفي هذا القدر كفاية لإقامة الدليل على أن النسخ المعبَّر عنه بقوله فينسخ الله الوارد في سورة الحج هو ما تكلمنا عنه.
- عدد الزيارات: 14625