الكتاب المقدس لم يُنسَخ ولا يمكن أن يُنسخ - الدعوى بأن الزبور ناسخ للتوراة والإنجيل ناسخ للزبور دعوى باطلة
ومع أن الدعوى بأن الزبور ناسخ للتوراة والإنجيل ناسخ للزبور دعوى باطلة ليس لها أساس في القرآن ولا في الحديث البتة، وقد راجت بين عوام المسلمين رواجاً عظيماً، ولا بأس أن نورد شهادة بعض العلماء المعتبرين في هذا الصدد:
قال الحاج رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق إن القول بنسخ التوراة بنزول الزبور ونسخ الزبور بظهور الإنجيل بهتان لا أثر له في القرآن ولا في التفاسير، بل لا أثر له في كتاب من الكتب المعتبرة لأهل الإسلام - والزبور عندنا ليس بناسخ للتوراة ولا بمنسوخ من الإنجيل، وكان داود عليه السلام على شريعة موسى عليه السلام، وكان الزبور أدعية. فهذا العالِم ينكر النسخ على هذه الكيفية. وقد صدق في ما قال لأنه لا يقول بالنسخ أحد إلا إذا كان جاهلا للقرآن وللكتاب المقدس كما سنبينه. اقرأ الكتاب المقدس بتأمل وخشوع حتى تقف على مشتملاته الجوهرية، وحينئذ ترى بمزيد من الوضوح أن تعليم أسفار العهدين القديم والجديد واحد، وأنها سائرة على نظام واحد، ووجهتها واحدة مستدرجة في إعلان مقاصد الله الأزلية لبني الإنسان.
ففي أسفار العهد القديم نتعلم كيف خلق الله الإنسان، ثم كيف دخلت الخطية إلى العالم، ويتلو ذلك الوعد الإلهي بأن نسل المرأة
يسحق رأس الحية، وبعد ذلك بمئات السنين نجد أن العالم القديم قد ضل عن عبادة الله ووقع في عبادة الأوثان والرذيلة، وفي ذلك الوقت دعا الله إبراهيم من وسط قومه وأوثق معه ميثاقاً بأن المخلّص من موت الخطية الذي وعد به الجنس البشري يكون من ذرية ابنه الشرعي إسحاق. ثم نجد بعد ذلك أن الله يجدد الميثاق المشار إليه مع إسحاق، فيعقوب، وينبّئهم بأنهم سينزلون إلى مصر، ثم ينجلون عنها إلى أرض كنعان للغاية التي دعاهم إليها.
ثم نزلت التوراة على موسى وقد شملت على هذه المواعيد وزادت عليها مواعيد جديدة تستحق الاعتبار، ثم توالى الأنبياء جيلاً بعد جيل وأتوا بأقوال لا تخرج عن المعاني التي أتى بها موسى، بل غاية ما في الأمر زادتها وضوحاً وبياناً من جهة أن الإنسان خاطئ ولا بد له من مخلّص، ثم أخذوا من وقت إلى آخر يبسطون كلامهم عن ذلك المخلص، فأنبأوا عن أعماله العجيبة، والبلدة التي يولد فيها، وعن آلامه وموته. أما الإنجيل فيخبرنا عن بعض وقائع المخلّص وأعماله التي جاءت موضحة ومتممة لنبوات التوراة والمزامير وكل أسفار العهد القديم.
ثم يخبرنا كيف بعث ذلك المخلّص رسله إلى العالم أجمع وأمرهم أن يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، وبعد ذلك كيف ينتظرونه حتى يأتي مرة ثانية على سحاب السماء كما وعدهم ليدين الأحياء والأموات، ويعتق الأرض من عبودية الفساد، ويملك إلى الأبد.
وأما أسفار أعمال الرسل ورسائلهم - وهي الأجزاء المتممة لأسفار العهد الجديد فتشرح لنا كيف ابتدأ الرسل بالكرازة بالمسيح. وسفر الرؤيا - خاتمة أسفار العهد الجديد - ينبئنا عن الضيقة العظيمة التي سيقع فيها المؤمنون بالمسيح، ثم النصر العظيم الذي يتبعها.
هذه بالاختصار سلسلة حقائق العهدين من ابتداء سفر التكوين إلى نهاية سفر الرؤيا، فكأن الكتاب المقدس والحالة هذه يشبه عمارة عجيبة، أساسها التوراة والإنجيل ختامها، وكل منهما يظهر حكمة الله وعدالته ومحبته ورحمته الفائقة وأنه خالق كل الأشياء.
ففي توراة موسى يظهر قصد الله من حيث نعمته بكل وضوح، حتى أن الذين عرفوه حسبما هو مبيَّن فيها مالوا إليه وأحبوه وعبدوه وآمنوا به ووجدوا فيه ما يشبع أشواق نفوسهم الخالدة من السلام والسعادة الحقيقية. وفي أسفار الأنبياء والمزامير تعلو هذه الأخبار إلى درجة أرفع من تلك لأنها تشرح لنا أن الله من البدء اختار بني إسرائيل وهذَّبهم شيئاً فشيئاً صابراً على غلاظة قلوبهم وشر أفعالهم وفشلهم في تأدية ما كلفهم به. وتشرح لنا مسألة أخرى هي من
الأهمية بمكان وذلك أن بعض الرسوم الدينية ومناسك العبادة الخارجية ليست مقصودة في حد ذاتها، ولكنها خصّت ببني إسرائيل ليستعملوها مؤقتاً توصُّلاً إلى قصد معلوم وهو (أولا) إيجاد فاصل مميز بين اليهود والأمم إلى أن يأتي المخلّص الموعود به (ثانيا) لتعليمهم بأن تلك الطقوس وإن كانت مؤيَّدة بأوامر إلهية، فليست إلا رموز لحقائق روحية، لأن العبادة المقبولة عند الله لا تقوم بشكلها الظاهر فقط، بل بالحالة التي يكون عليها قلب العابد حيث قال المسيح : "اَللّه رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا" - يوحنا 4 :24 ومما يدل على أن تلك الطقوس ليست مقصودة لذاتها ما قاله صموئيل النبي "هَلْ مَسَرَّةُ الرَّبِّ بِالمُحْرَقَاتِ وَالذبَائِحِ كَمَا بِاسْتِمَاعِ صَوْتِ الرَّبِّ؟ هُوَذَا الاِسْتِمَاعُ أَفْضَلُ مِنَ الذبِيحَةِ وَالْإِصْغَاءُ أَفْضَلُ مِنْ شَحْمِ الْكبَاش"ِ - 1 صموئيل 15 :22. وورد في سفر ميخا النبي أن ملكاً يُسمى بالاق سأل : "بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى الرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلْإِلَهِ الْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ؟ بِعُجُولٍ أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ الرَّبُّ بِأُلُوفِ الْكبَاشِ؟ بِرَبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟ هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي؟ ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي؟ فجاءه الجواب من قبل النبي مصرحاً بعدم فائدة الشعائر التي عدَّدها في سؤاله ما لم تكن مقرونة بتكريس الحياة والقلب لله وهاك نص الجواب : "قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلَهِكَ" - ميخا 6 :6-8.
والسيد المسيح يوافق على هذا التعليم كل الموافقة بأن صرح بأقوال مشابهة، وهاك ما قاله : "تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الْآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلْآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لِأَنَّ الْآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلَاءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللّه رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا" - يوحنا 4 :23 و24. ولما أعلنت هذه الأسرار الروحية والتعاليم الراقية وقدمت الكفارة عن خطايا العالم أجمع -انظر1 يوحنا 2 :2- ودرّب المسيح الحواريين وأرسلهم ليكرزوا ويبشروا بالإنجيل في كل أقطار المسكونة ويعرضوا على بني آدم هبة الله المجانية وهي الحياة الأبدية - انظر رومية 6 :23- معطياً لهم قدرة ومعونة حتى يقيموهم من قبور خطاياهم إلى حياة البر والفضيلة ويملأوا الأرض من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر -إشعياء 11 :9. ولما تم كل هذا آن الآوان الذي ينبغي فيه حل رموز تلك العبادة القائمة بالذبائح والبخور والغسل إلى غير ذلك مما هو مذكور بالتفصيل في التوراة
بالعبادة الروحية التي كانت ترمز إليها تلك الرسوم الظاهرة. ولولا العبادة الروحية لكانت تلك الرسوم خالية من الفائدة. وإذا جاء الصريح استُغني عن الرمز كما يُستغنى عن القشرة بعد نضوج الحبة. وإلى هذا المعنى أشار إرميا النبي فقال "هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً. لَيْسَ كَالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لِأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ يَقُولُ الرَّبُّ. بَلْ هذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الْأَيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ : أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبا"ً -إرميا 31 :31-33. ومن هذه الآيات أخذنا كلمة - العهد الجديد- وجعلناها اسما للإنجيل، وهو الجزء الثاني من الكتاب المقدس. ولاحظ كيف تتفق هذه الآيات مع قول المسيح الذي أشرنا إليه آنفاً في بشارة يوحنا 4 :23 و24. فإنه يتبين أن كل الطقوس والشعائر اليهودية الوقتية - أو كما يسميها بعضهم الشريعة الطقسية -قد تمت تماماً في ملء روحانية العهد الجديد الذي نوى المسيح أن يعقده مع كل من يؤمن به من أية أمة كانت على الأرض. ومن أجل ذلك قال المسيح بهذا الصدد لامرأة من السامرة "يَا امْرَأَةُ صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ لَا فِي هذَا الْجَبَلِ وَلَا فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلْآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لِأَنَّ الْخَلَاصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الْآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلْآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لِأَنَّ الْآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلَاءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللّه رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا" - يوحنا 4 :21-24.
ثم أن الجواب الذي أجابت به تلك المرأة المسيح يدل على أن مسألة إتمام العهد القديم بالعهد الجديد، أو بعبارة أخرى إيضاح العبادة الطقسية بالعبادة الروحية، كان معروفاً ومنتظر ليس فقط عند اليهود الأتقياء -انظر بشارة لوقا 2 :29- بل وعند المحققين من السامريين -انظر بشارة يوحنا 4 :21-23. واقتبس أحد الحواريين مقالة إرميا التي ذكرناها آنفاً في هذا الصدد، وبيّن أن ذكر العهد الجديد الذي بشر به إرميا يدل على أن يهود عصره كانوا يعتقدون بأن الطقس الموسوي شاخ وهرم وقارب على الاضمحلال واحتاج الحال إلى العهد الجديد -انظر رسالة العبرانيين 8 :13- لا يبطل التوراة بل يكشف الحجاب عن حقائقها - انظر إنجيل متى 5 :17 و18- واعلم أن الحق بحسب جوهره ثابت ودائم غير قابل للتبديل أو النسخ، فالحقائق التي وردت في العهد القديم يجب أن تبقى حقاً إلى
ما لا نهاية. ولا يُقال إن العهد الجديد نسخها، بل يُقال إنه شرحها وأبرزها في شكلها الروحي الذي يلائم الناس في كل زمان ومكان.
العهد القديم كان بين الله وبني إسرائيل فقط، ومدته انتهت بمجيء المسيح وتأسيس ملكوته. أما العهد الجديد الذي تنبأ به إرميا النبي فعهد بين الله والمؤمنين بالمسيح سواء كانوا من بني إسرائيل أو من الأمم فهذا العهد الأخير أعم وأهم من الأول، لأن الأول كان قائماً على فرائض وطقوس ورسوم تدرِّب بني إسرائيل فقط على إدراك الحقائق الروحية تدريجياً استعداداً لأن يكونوا تلاميذ للمسيح وأساتذة العالم أجمع. فالعهد الأول والحالة هذه يشبه بذرة محصورة في دائرة ضيقة، وأما العهد الجديد فيشبه شجرة متأصلة نامية شاغلة مكاناً متسعاً. فكأن بذرة العهد القديم أنبتت شجرة العهد الجديد، والاثنان واحد جوهراً وإن اختلفا ظاهراً.
وحيث كان الأمر كذلك فمن الخطأ المعيب أن يُقال أن العهد القديم منسوخ والعهد الجديد ناسخ، ولعل الذين قالوا هذا القول لاحظوا الطقوس والفرائض التي خصّت ببني إسرائيل وأُهملت من جانب المسيحيين فنجيب عن ذلك أن تلك الطقوس الإسرائيلية هي بذاتها أنتجت العبادات الروحية للمسيحيين. كما تنتج البذرة شجرة
تُرى كأنها شيء جديد، والحقيقة هي أنها البذرة بعينها إنما أخذت شكلاً آخر تبع الناموس للنمو والارتقاء، فلا يصحّ أن يُقال إن الشجرة نسخت البذرة ومحت أثرها من صحيفة الوجود، بل أتمتها وأظهرت قوتها وإنتاجها بشكل محسوس.
- عدد الزيارات: 14710