الكتاب المقدس لم يُنسَخ ولا يمكن أن يُنسخ - لم ينسخ الإنجيل التوراة بل أثبتها ورفع درجة طقوسها ورسومها
فمع هذا البيان الوافي لا ينبغي لذي فهم أن يرتاب في فساد دعوى نسخ الانجيل للتوراة. إذاً لم ينسخ الإنجيل التوراة بل أثبتها ورفع درجة طقوسها ورسومها من الشبح الذي لا يغني شيئا عن روحانية العبادة. وهذا ما عناه السيد المسيح بقوله : "لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأَنْقُضَ النامُوسَ أَوِ الْأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ : إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكلُّ" - بشارة متى 5:17 و18. هذه هي علاقة الإنجيل بالتوراة.
أما من جهة الوصايا الأخلاقية فقد ذكرنا أنها موافقة لإرادة الله
وصفاته، فلا تقبل التغيير ولا النسخ، بل تبقى ثابتة إلى ما لا نهاية كما أن صفات الله ثابتة, فهي في العهد القديم عينها في العهد الجديد، إلا أنها مشروحة في الأخير شرحاً مدققاً وبالغة حد الكمال. ومن أمثلة ذلك أن القتل محرَّم في التوراة - خروج 20 :30 وتثينة 5 :17 - أما المسيح فقد شرح القتل في الإنجيل بإحساسات الغضب التي إن لم تُخمَد أدَّت إلى القتل المريع - بشارة متى 5 :21 و22. ثم أن الزنا محرم في التوراة - خروج 20 :14 وتثنية 5 :18 - أما المسيح فيعتبر كل نظرة إلى النساء بشهوة هو زنا - بشارة متى 5 :27 و28 - وقال شارحاً الزنى ما معناه وإن كان موسى أباح الطلاق لليهود لقساوة قلوبهم، فهو يحرمه إلا لعلة الزنى، ويعتبر الطلاق بغير هذه العلة زنى وتسهيلا للغير عليه أيضا - بشارة متى 5 :31 و32.
وقد حرمت التوراة القَسَم بغير الله، وكذا حرمت النطق به كذباً أو باطلاً - خروج 20 :7 ولاويين 19 :12 وتثنية 6 :11 - فلما جاء المسيح وجد اليهود يستعملون الأقسام في كلامهم العادي، فنهاهم عن ذلك وأمرهم بترك القسم قطعياً من غير ضرورة، وأن يتكلموا بالصدق إيجاباً وسلباً : نعم نعم لا لا - بشارة متى 5 :23-37.
وأمرت التوراة بني إسرائيل أن يحب كل منهم قريبه كنفسه - اللاويين 19 :18 - وفسر علماؤهم القريب المذكور هنا بمن كان من أمتهم، وأما الغريب فيعتبر خارجٌ حدود هذه الوصية. ولهذا جرى لسانهم في اقتباسها بهذا المعنى أن يحبوا أمتهم ويبغضوا الأجانب. أما المسيح ففي شرحه هذه الوصية أوجب المحبة للقريب والغريب والعدو والصديق - بشارة متى 5 :43-48 - وكان بنو إسرائيل في زمن موسى يصعب حتى على خيارهم أن يخمدوا ثورة غضبهم ويتحاشوا جريمة القتل مخافة من الله، كما وأنه كان يصعب عليهم حفظ الوصايا الأخرى الناهية عن السرقة والطمع والزنى. أما في زمن المسيح لعلهم كانوا أحسن حالاً وأطيب قلباً لطول عهدهم بالأنبياء والرسل وتأثير الروح القدس، حتى لم يعد يصعب عليهم حفظ هذه الوصايا وأمثالها، إلا مَن كان متوغلاً في الشر منهم. ولهذا كان عليهم أن يرتقوا في معارج الفضيلة ويُكلَّفون بوصايا أخلاقية في منتهى الصلاح والكمال لم يحلم بها أفاضل أسلافهم. وفي ذلك الوقت جاء المسيح وفسر لهم الوصايا الأخلاقية الواردة في شريعة موسى بغاية الدقة حتى بلغت الكمال، ثم قرن تعليمه بالعمل في كل أيام حياته، وصار ممكناً بفضل قدرته المباركة ونعمة الله ومعونة
الروح القدس أن يبلغ المؤمن بالمسيح حتى المحتقرون منهم إلى أعلى طبقات البر والصلاح ويسبقوا خيار بني إسرائيل في هذا المضمار.
فنهت شريعة موسى عن كل عمل شرير، وأما شريعة المسيح فلم تقف عند هذا الحد فقط بل تجاوزته إلى النهي عن الأفكار الشريرة. جاءت شريعة موسى بعبارة سلبية تعدّد ما نهى عنه الله، أما شريعة المسيح فأحاطت بالسلب والإيجاب، فكما نهت عن فعل الشر أمرت بفعل الخير. من أجل ذلك كان يقع تحت طائلة العقاب بموجب شريعة موسى كل من يعمل الشر، وأما بموجب شريعة المسيح فيقع تحت طائلة العقاب كل من لم يفعل الخير وإن كان بريئاً من فعل الشر. ومن أقوال المسيح في هذا المعنى مثل مشهور هو مثل السامري الصالح أوجب فيه المسيح دينونة كاهن ولاوي لم يسعفا رجلاً جريحاً بل تركاه ومضيا - لوقا 10 :30-37 - ومنها مثل العبد الذي أخذ من سيده وزنة ولم يتاجر بها، بل صرّها في منديل وحفظها عنده، فأوجب عليه العقوبة مع أنه لم يختلس من المال درهماً واحداً، لكنه لم يربح فوقه، وذلك كناية عن عدم فعل الخير - لوقا 19 :20-24.
نهت شريعة موسى بني إسرائيل عن أن يخالطوا الأمم حذراً من أن ينقادوا إلى عبادتهم الوثنية وفعلهم المنكر، وأما شريعة المسيح فلا تقف معنا عند حد السلامة من دين الوثنيين وأفعالهم، بل توجب علينا أن نبشرهم بالمسيح ونعلمهم معرفة الإله الحقيقي حتى نربحهم ونضمهم إلى صفوفنا. إلا أنه من بعض الوجوه يوجد فرق ضروري بين العهد القديم والجديد. الأول، علَّم الناس أنهم خطاة وذوي طبيعة خاطئة في نظر الله القدوس وأمرهم أن يلقوا رجاءهم على مخلّص آتٍ يولد من عذراء في بيت لحم ويقدم نفسه كفارة عن خطاياهم. وأما الفرق الثاني، فهو يبشر بأن المخلّص الموعود به قد جاء وقدَّم نفسه كفارة، ليس عن خطايا اليهود فقط بل عن خطايا العالم كله، ولم يبق عليهم إلا أن يؤمنوا به فيخلصون. ولكن هذا الفرق وحده هو تتميم في الزمان الثاني لما سبق به الوعد في الزمن الأول.
ربما يظهر للبعض أنه لمناسبة تقدم العالم في المدنية والحضارة فالدين الذي كان ملائما للناس في زمن موسى لم يلائمهم في زمن المسيح إذ أنه عتق وشاخ. ومثل ذلك الدين الذي وضعه المسيح إذ مرَّ عليه ستمائة سنة خلق وقدم أيضاً ولم يعد يلائم العالم في عصر محمد، فولى الأدبار أيضاً وقام مقامه الإسلام.
- عدد الزيارات: 14713