الخطية والخلاص
الفصل العاشر: الخطية والخلاص
يستعرض علماء الإسلام آيات القرآن التي تتحدث عن الخطية الأصلية لآدم وخلاص الجنس البشري، ثم ينتهون إلى رأي خلاصته: إن آدم وزوجته كانا يسكنان الجنة، وإن الله أمرهما أن يأكلا منها ما شاءا، إلا شجرة عيَّنها لهما. وعندما أصغيا إلى إبليس استحقّا العقاب الإلهي )غير المحدَّد في القرآن(. لكنهما استغفرا ربهما وأقرّا بذنبهما، فتاب الله عليهما. وكانت هذه الخطية والمعصية قبل أن يكون آدم نبياً.
فالقضية إذاً أن آدم عصى ربه، ثم تاب وأناب، وقُبلت توبته، فعاد الأمر كما كان، وسارت الخطة الإلهية المرسومة لآدم وزوجته، فأنجبا نسلاً، وجاءت البشرية. فليس هناك إرثٌ لخطية، وليس هناك بالتالي حاجةٌ لخلاص إلهي!!
والمسلمون يرفضون فكرة الخطية الأولى وتوارثها في بني آدم ويقولون: "لَا تَزِرُ وَازِرةٌ وِزْرَ أُخْرَى" (الأنعام 6: 164). و"كُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" (الإسراء 17: 13). و"كُلُّ نَفْسٍ بَمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ" (المدثر 74: 38). ولكن علماء المسلمين بهذا ينكرون التأويل الصحيح لآية الخطية وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" (البقرة 2: 35، 36). فقد خاطب الله آدم وحواء بصيغة الجمع "اهبطوا" بدلاً من "اهبطا" و"لكم" بدلاً من "لكما". ويقول علماء المسلمين إن الخطاب بالجمع هو خطاب النيابة، لأنه (في رأيهم) جاء على سبيل التعظيم! ويقولون إنه حتى لو كان آدم نائباً في الخطية بدليل قول القرآن "اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فإن الآية التالية تقول فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (البقرة 2: 37). فكما كان آدم بحكم الآية الأولى نائباً عن أبنائه في معصيته، فلماذا لا يكون بحكم الآية الثانية نائباً عن نسله في توبته واستغفاره؟!
ويحتجّ علماء المسلمين دائماً بالعدالة الإلهية التي تقضي بألاّ يُحاسَب إنسانٌ بذنب آخر، ويعوّلون كثيراً على آيات المسئولية الشخصية في الثواب والعقاب، والتي أشرنا إليها سابقاً، لينتهوا إلى أن آدم وزوجته أخطآ وتابا، فتاب الله عليهما. فليس هناك امتداد للقضية ولا إرث للخطية!
غير أننا إذا أمعنّا النظر في نصوص القرآن، وجدنا ما يثبت رأياً غير الذي ذهبوا إليه، ويؤكد وجهة نظر طالما رفضوها وأنكروها!
وهذه مجمل آيات القرآن التي تتحدث عن خطية آدم:
"وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ ا لشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا ا هْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة 2: 35-38).
وفي سورة الأعراف: "وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُّوٌ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُّوٌ وَلَكُمْ فِي ا لْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ" (الأعراف 7: 19-26).
وجاء أيضاً: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ" (الأعراف 7: 172).
"وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً… فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُّوٌ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ ا جْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُّوٌ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى".
هذا مجمل حديث القرآن عن خطية آدم الأولى، ومنه نستنتج الآتي:
كان سكن آدم وزوجه الجنّة مطلَقاً غير مقيَّدٍ بزمن. قالت الآية: "وقلنا يا آدم اسكُن أنت وزوجك الجنة". فلو لم يزلّهما الشيطان لبقيا فيها مع نسلهما خالدَيْن. ولو كان مسكنهما مؤقّتاً مثل حال سكنهما في الأرض لجاز التحديد في الأولى كما جاء في الثانية قوله: ولكم في الأرض مستقر ومتاعٌ إلى حين .
كان سكنهما الجنة تحت شرط الطاعة الكاملة لله، فلقد أمرهما الله بعدم الأكل من هذه الشجرة. قال القرآن: "ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين". فلما أغواهما إبليس أكلا من الشجرة التي قال إبليس عنها إنها شجرة الخلد، فصدر الأمر الإلهي لهما بالهبوط.
في حالة الأكل من الشجرة واقتراف الإثم وإتيان المعصية كانا نائبين عن كل ذريتهما، بدليل القول: "اهبِطوا، بعضكم لبعضٍ عدو" وقوله: "لكم في الأرض" فلو كان الكلام موجَّهاً إلى آدم وزوجه فقط لجاءت الصيغة اهبطا ولكما أي صيغة المثنى لا الجمع. وسورة طه 20 تقول: "اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُّوٌ" (آية 123). ونحن لا نلتفت كثيراً لتأويلات العلماء التي لا تُشبع العقل ولا يُؤيّدها النقل، فلا نستسيغ أن يعظّم الله آدم وقد حكم عليه بالهبوط نتيجة اقترافه المعاصي. فإن كان آدم جديراً بالتعظيم فهذا الموقف بالذات ليس محله ولا مكانه! أما قولهم إن خطاب القرآن: "قلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدّو" كان خطاباً موجَّهاً للحاضرين وهم جمع آدم - زوجته - إبليس - الحية فهو تأويل مضحك لأن الآية التالية تقول: "فإمّا يأتينَّكم مني هدى، فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون". فما هو الهدى المنتظر أن تتبعه الحية أو إبليس؟!
واضح أن آدم وزوجته تعدَّيا نهي الله فاقتربا من الشجرة المنهي عنها، فكان قصاصهما هو إيقاع العداوة والموت، فقد قيل: بعضكم لبعض عدو وهو ما يفيد العداء. وقيل: ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين وهو ما يفيد عدم الخلود في الأرض، بل الموت صراحة. وإذا تأملنا في ذرية آدم وجدناها تتحمل ذلك القصاص عينه )عداءً وموتاً(. فليس أمامنا إلا نتيجة من اثنتين: الأولى إن آدم وزوجه كانا نائبين عن نسلهما، فيكون اشتراك النسل مع نائبه في القصاص حقاً وعدلاً. والثاني إن آدم وزوجه لم ينوبا عن النسل، فيكون وقع قصاص الخطية التي ارتكبها آدم على من لم يشترك معه إثم عظيم وظلم ظاهر.
أما التشبُّث بفكرة الغفران المباشر فتلقّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه فليس له معنى مع صدور الأمر الإلهي: "قلنا اهبطوا منها جميعاً" . فما معنى المغفرة مع الإصرار على إيقاع القصاص على المذنب؟ وما معنى قبول التوبة مع عدم قبول إرجاعهما إلى الجنة؟
إن التعويل على العدل الإلهي الذي لا يقبل أن يحاسب إنسان بذنب آخر تعويل على أساس واهٍ. فإن كنا نقبل دون اعتراض أن يولد الابن وهو وارث عن أبيه أحد الأمراض الوراثية، دون أن نرى في هذا ظلماً إلهياً، فلماذا نرفض حقيقة أننا نولد وقد ورثنا عن أبينا إثمه وخطيته؟
لم تكن فكرة توارث الخطية الأولى فكرة غريبة على الفكر الإسلامي بل نجد من الفقهاء من يؤصّلها ويؤكدها ويقدم الدلائل والبراهين عليها. فيقول ابن الأثير في "الأصول" : "إن محمداً قال: إذا حلّت الخطية في الأرض كان مَن شهدها فأنكرها كمن غاب عنها. ومَن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها". ثم يقول: "فإن قلت إن ظاهر قوله وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً" (الأنفال 8: 25). يشمل الظالم وغير الظالم؟ فكيف برحمة الله وكرمه أن يوصل الفتنة إلى من لم يذنب؟ ويجيب ابن الأثير إنه تعالى مالك الملك وخالق الخلق، وهم عبيده وفي ملكه، يتصرف فيهم كيف شاء، ولا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون. فيحسن منه على سبيل الملكية، أو لأنه تعالى علم اشتمال ذلك على نوع من أنواع المصلحة!
أما ابن حزم فيقول إن آية "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى" (النجم 53: 39). فقد نُسخت بقوله: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ" (الطور 52: 21). وهذه الآية تجعل الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه، ويشفع الله الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء.
ويقول القرآن: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" (الأعراف 7: 152). فقد كان محمد يتَّهم يهود عصره بأنهم عبدوا العجل، مع أن آباءهم هم الذين عبدوه، فقال: "إنّ الذين اتَّخذوا العجل". قال ابن عباس: "هم الذين أدركوا النبي، وآباؤهم هم الذين عبدوا العِجل!"
وقد فسَّر بعضهم: سينالهم غضبٌ من ربهم وذِلّة في الحياة الدنيا بما لحق بيهود بني النّضير وبني قُريْظة وخَيْبر من القتل والطرد، ولا يصحّ أن يُقال إنه حديث تاريخ، أي حديث عن اليهود الذين كانوا، وإلا فما معنى فسينالهم فهذا حديث المستقبل لا الماضي!
وفكرة توارث الخطية الأولى واضحة في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن محمد يقول: لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط مِن ظهره كل نسمة هو خالقها مِن ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي ربّ، مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك.
فرأى آدم رجلاً منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: يا رب، من هذا؟
قال: داود.
قال: رب كم جعلت عمره؟
قال: ستين سنة.
قال: يا رب، زِدْه من عمري أربعين سنة.
فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاء ملك الموت، فقال آدم: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟
قال: أولم تعطها ابنك داود؟
فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته (أخرجه الترمذي وابن ماجه).
- أنشأ بتاريخ .
- عدد الزيارات: 9312