في مناسبة الآيات والسور
في مناسبة الآيات والسور (الاتقان 108:2)
أولا : "علم المناسبة"
من الإعجاز في التأليف المناسبة ما بين الآيات في السورة , والمناسبة ما بين السور بعضها مع بعض . وقد قام في التفسير "علم المناسبة" الذي عمل به فخر الدين في تفسيره الكبير حيث يقول : "أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط" . وأول من أظهر
علم المناسبة الشيخ أبو بكر النيسابوري الذي كان يسأل في تدريسه : "لِمَ جُعلت هذه الآية الى جنب هذه ؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة ؟" .
ويفسر السيوطي أركان علم المناسبة فيقول : "المناسبة ، في اللغة ، المشاكلة والمقارنة . ومرجعها في الآيات ونحوها الى معنى رابط بينهما عام أو خاص ، عقلي أو حسّي ، أو غير ذلك من أنواع العلاقات أو التلازم الذهني كالسبب والمسبَّب ، والعلة والمعلول ، والنظيرين والضدين ونحوه – وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض ، فيقوى بذلك الارتباط ، ويصير حاله حال البناء المتلائم الأجزاء .
"فنقولُ ذكرُ الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهر الارتباط لتعلّق الكلم بعضه ببعض وعدم تمامه بالآولى ، فواضح ؛ كذلك اذا كانت الثانية للأولى على وجه التأكيد أو التفسير أو الاعتراض أو البدل – وهذا القسم لا كلام فيه .
"وإمّا أن لا يظهر الارتباط ، بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى وأنها خلاف النوع المبدوء به . فإما أن تكون معطوفة على الأولى بحرف من حروف العطف المشتركة في الحكم – أوّلا . فإن كانت معطوفة فلا بدّ أن يكون بينها جهة جامعة ... وإن لم تكون معطوفة فلا بدّ من دعامة تؤذن باتصال الكلام : وهي قرائن معنوية تؤذن بالرَبْط" .
من هذه القرائن المعنوية أولا التنظير فإن الحاق النظير بالنظير من شأن العقلاء . الثاني المضادّة ، كما قيل : وبضدّها تتبيّن الأشياء . الثالث الاستطراد ؛ ويقرب منه حسن التخلص حتى لا يكادان يفترقان ... وقال بعضهم الفرق بين التخلص والاستطراد أنك في التخلّص تركت ما كنت فيه الكلّية وأقبلت على ما تخلصت اليه ؛ وفي الاستطراد تقصده وانما عرض عروضا ثم ترجع الى ما كنت فيه . ويقرب من حسن التخلص الانتقال من حديث الى آخر تنشيطا للسامع مفصولا بهذا ؛ قال ابن الأثير فيه : "هذا (الانتقال) في هذا المقام من الفصل الذي هو أحسن من الوصل" . ويقرب منه أيضا حسب المطلب ، وهو الخروج الى الغرض بعد تقدم الوسيلة من المقدّمات ومراتب تلك المقدمت في القرب والبعد من المطلوب ، فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين أجزاء القرآن .
ثانيا : علم المناسبة ينقضه تاريخ التنزيل وتاريخ الجمع
ذلك هو علم المناسبة وأحكامه في عرفهم . لكن فاتهم في نظم القرآن أمران يجعلان المناسبات بين الآيات صنعةً وتصنّعًا .
الأمر الأول طريقة النظم عند العرب ، وهي تختلف عن العجم – وأهل علم المناسبة من الأعاجم الذين يريدون تطبيق أسلوبهم على أسلوب القرآن – قال أحدهم : "إن القرآن ، إنما ورد على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال الى غير ملائم" . فهو يجمع الموضوعات الشتى جمعا فنّيا لا موضوعيا ، كما في الشعر الجاهلي .
الأمر الثاني طريقة نظم القرآن . نقل السيوطي (الاتقان 108:2) مقالة الشيخ عز الدين بن عبد السلام : "المناسبة علم حسن . لكن يُشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره . فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط . ومن ربط ذلك فهو متكلّف بما لا يقدر عليه إلاّ بربط ركيك يُصان عن مثله حسن الحديث ، فضلا عن أحسنه . فإن القرآن نزل في نيّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة ، شُرعت لأسباب مختلفة . وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض" .
وبما أن ترتيب التلاوة على غير ترتيب النزول ، فإن استنباط مناسبات لربط سورة بسورة ، كما هي في المصحف العثماني ، من التصنّع الذي يأباه منطق التاريخ والبيان .
وبما أن السورة ، كالقرآن كله ، نزلت نجوما أي مفرّقة "في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة" ، فمن التصنّع والكتلّف ربط أجزائها بعضها ببعض . فالاجماع المتواتر أن الآيات نزلت آية بآية ، أو اثنتين اثنتين ، أو أكثر حتى الخمس أو العشر ، وقد لا يتجاوزها . وعن ابن عباس القول المشهور : "نزل بجواب كلام العباد وأعمالهم" ؛ وفسره بقوله : "ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ؛ وقرآنا فرّقناه لتقرأه على الناس على مكث ، ونزّلناه تنزيلا" . قال السيوطي (الاتقان 44:1) : "الذي استُقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات ، وأكثر وأقل . وقد صح نزول العشر آيات في قصة الأفك جملة ، وصح نزول عشر آيات من أول المؤمنين جملة" . وأن (أسباب النزول) المختلفة تشهد باختلاف مناسبات الآيات في السورة .
والسورة المجموعة من آيات نزلت متفرقة بحسب الحاجة ، بجواب كلام العباد وأعمالهم ، لا تشكّل وحدة موضوعية ، وإن جمعت بينها وحدة فنّية بالنظم والفاصلة .
فالوحدة الموضوعية مفقودة في السورة القرآنية ، كما في معلقات الشعر الجاهلي . والوحدة الموضوعية المفقودة هي أم الاعجاز في التأليف .
- عدد الزيارات: 9145