الزواج عند الصوفيين
الفصل التاسع
الزواج عند الصوفيين
لا يوجد ما يمكن تسميته موقفاً صوفياً عن الزواج، بل نرى أمامنا مواقف متضاربة تمنعنا عن استنتاجات عامة، ولكن بما أن الإسلام الصوفي - على العكس من الإسلام الأصولي الجامد في محتواه النظري - استطاع أن يصبغ شرائح واسعة ومختلفة في المجتمعات الإسلامية بصبغته الخاصة، وذلك بفضل كيانه المتنوع والمندمج بالخلفية الثقافية للبلد. ويجدر بنا أن ننقل فيما يلي آراء الصوفيين الإيجابية والسلبية حول الزواج.
الذين يرفعون قدر الزواج إلى واجب مطلق يسندون موقفهم هذا إلى أحاديث وإلى الأمر الواضح في القرآن حيث لم يذكر الله في كتابه من الأنبياء إلا المتأهلين. قالوا إن يحيى قد تزوج ولم يجامع، وفعل ذلك لينال الفضل وإقامة السنة، وقيل لغض البصر. وأما عيسى فإنه سينكح إذا نزل الأرض ويولد له (1). وفي حديث يورده الغزالي قال محمد: إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه. إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير (2) وفي حديث ضعيف: من نكح لله وأنكح لله استحق لولاية الله (3). وفي رواية عن ابن عباس قال: لا يتم نسك الناسك حتى يتزوجذ يعلق الغزالي عليه: يحتمل أنه جعله من النسك، ولكن الظاهر أنه أراد به أنه لا يسلم قلبه لغلبة الشهوة إلا بالتزويج، ولا يتم النسك إلا بفراغ القلب (4). وينسب إلى ابن مسعود قوله: لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج لكيلا ألقى الله عزباً. وعن معاذ بن جبل، ماتت امرأتان له في الطاعون، وكان هو أيضاً مطعوناً فقال: زوجوني فإني أكره أن ألقى الله عزباً (5).
وحُكي أن بعض العباد في الأمم السالفة فاق أهل زمانه في العبادة، فذكر لنبي زمانه حُسن عبادته، فقال: نِعم الرجل هو، لولا أنه تاركٌ لشيءٍ من السُنة. فاغتم العابد لما سمع ذلك، فسأل النبي عن ذلك، فقال: أنت تارك للتزويج فاغتم العابد لما سمع ذلك، فقال: لست أحرمه ولكني فقير، وأنا عيال على الناس. فقال: أنا أزوجك ابنتي. فزوَّجه النبي ابنته (6). وقال بشر بن الحرث: فضل عليَّ أحمد بن حنبل بثلاث: يطلب الحلال لنفسه ولغيره، وأنا أطلبه لنفسي فقط. باتساعه في النكاح وضيقي منه، ولأنه نصب إماماً للعامة. ويقال إن أحمد تزوج في اليوم الثاني من وفاة أم ولده عبد الله وقال: أكره أن أبيت عزباً. وقال بشر بن يمينية: كثرة الناس ليست من الدنيا، لأن علياً كان أزهد أصحاب رسول الله وكان له أربع نسوة وسبع عشرة سرية. فالنكاح سنة ماضية وخلق من أخلاق الأنبياء. وقالوا: فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد (8).
ولكن إن كان الانقطاع عن الدنيا والزهد في لذاتها من أهم دعائم السلوك الصوفي، فليس من الغرابة أن نجد في الأدب الصوفي آراء معادية للزواج. قد رأينا في الباب السالف كيف برهن بعض الفقهاء على أن النكاح ليس واجباً بواسطة الآية القرآنية حيث يذكر يحيى حصوراً ورمن الصالحين (آل عمران 3:93) غير أن القائلين بوجوب النكاح احتجوا بأنه تزوج ولكن لم يجامع. وفيما يتعلق بالمسيح فتُذكر أحاديث عديدة عن زواجه بعد مجيئه ثانيةً - إن تأويلات وحكايات من هذا القبيل هي محاولة تأكيد الزواج كمؤسسة في الإسلام من جهة، وتبرير التعددية في بيت محمد من جهة أخرى. وحيث لا يكفي القرآن في الدلالة على كراهية الزواج، وليس من حديث صحيح يوحي بهذه الكراهية، فإن الزاهد يستشهد أولاً بالحديث الضعيف: وأما ما جاء في الترهيب عن النكاح فقد قال (ص) خير الناس بعد المائتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد. وقال (ص) يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده، يعيرونه بالفقر ويكلفونه ما لا يطيق، فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينه، فيهلك (9).
وفي الخبر قلة العيال أحد اليسارين، وكثرتهم أحد الفقرين. وسئل أبو سليمان الداراني عن النكاح فقال: الصبر عنهن خير من الصبر عليهن، والصبر عليهن خير من الصبر على النار. وقال أيضاً: الوحيد يجد من حلاوة العمل، وفراغ القلب، ما لا يجد المتأهل. وقال مرة: ما رأيت أحداً من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته الأولى. وقال أيضا: ثلاث من طلبهن فقد ركن إلى الدنيا: من طلب معاشاً أو تزوج امرأة، أو كتب الحديث (10). وقال الحسن: إذا أراد الله بعبد خيراً، لم يشغله بأهل ولا مال. وقال ابن أبي الحواري: تناظر جماعة في هذا الحديث، فاستقر رأيهم على أنه ليس معناه أن لا يكونا له، بل أن يكونان له ولا يشغلانه. وهو إشارة إلى قول أبي سليمان الداراني: ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد، فهو عليك مشئوم. وبالجملة لم يُنقل عن أحد الترهيب عن النكاح مطلقاً، إلا مقروناً بشرط. وأما الترغيب في النكاح، فقد ورد مطلقاً بغير شرط. فلنكشف الغطاء عنه، بحصر آفات النكاح وفوائده (11).
- عدد الزيارات: 10114