وضع الذمي في الإسلام
خلافاً لما قال اللاهوتي المسيحي ثيودور أبو القرة (750-820) بأن الذمة تتناقض ورسالة الإسلام العالمية, يكتب السرخسي بأن الغرض من عقد الذمة ليس مالياً, بل يستهدف من ورائه إلى هُدى الذمي إلى الإسلام بالمعروف كما أمرنا به القرآن (16:125). يعقد عقد الذمة من قبل إمام الأمة أو خليفته إن توفرت الشروط, فليس لأحد من الطرفين أن يأبى قبوله. أما الذين اعتبرهم الفقه الإسلامي ممن يجوز عقد الذمة معهم فهم كما قلنا آنفاً اليهود والنصارى والمجوس والصابئة.
يقول الأحناف إنه مع المشركين يجوز عقد الذمة إن لم يكونوا عرباً. أما الإمام مالك فيرخص عقد الذمة حتى مع المشركين العرب, ولكن شريطة أن لا يكونوا من القريش.
واجبات الذمي:
حسب المعاهدات المعقودة بين المسلمين وأهل الذمة يمكننا أن نستنتج أن حقوق أهل الذمة العامة, مثل حماية النفس والمال وحماية عقد الزواج والتجارة مضمونة, مما يعني أن المسلمين يتعهدون بحماية أهل الذمة والدفاع عنهم إذا تعرضوا للاعتداء. فإذا تخلت الأمة من أداء واجباتها تلك تجاه أهل الذمة, فليس عليهم أن يعطوا الجزية ولا الخراج. يبدو لي أن الطريقة المثلى في تعيين واجبات الذمي دراسة الأوضاع والحالات التي تؤدي إلى إلغاء عهد الذمة, فهي كما يلي:
1- إذا تسلح ضد المسلمين, أو انتمى إلى دار الحرب (هذه هي الحالة الوحيدة التي قبلها أبو حنيفة سبباً في سقوط عهد الذمة).
2- إباء الذمي أن يخضع لقوانين وأحكام الأمة الإسلامية.
3- إباء الذمي أن يعطي الضرائب المفروضة لأوقات معينة (الشافعي لا يقبل إلا الحالات الثلاث هذه سبباً في الغاء عقد الذمة.
4- أن يفتن الذمي مسلماً عن دينه
5- أن يؤوي جواسيس وعيون الأعداء والمشركين, وأن يدعم أعداء الإسلام بالمعلومات.
6- ان يقتل فرداً من أفراد المسلمين عمداً.
7- أن يكفر بالله (يشتم) أو يسب على النبي والقرآن أو الدين الإسلامي. (لا يعترف الإمام مالك إلا بالأحوال السبعة هذه تبريراً لسقوط عهد الذمة).
8- أن يزني بامرأة مسلمة.
9- أن يقطع الطرق (الحنابلة يقبلون فقط بهذه الحالات التسع).
هناك فقهاء أخرون يوردون التزامات إضافية لأهل الذمة أهمها:
1- على أهل الذمة حمل ما يدل على ملّتهم (نجمة صفراء لليهود ونجمة زرقاء للنصارى).
2- لا يجوز لهم أن يبنوا بيوتهم أعلى من بيوت المسلمين.
3- لا يجوز أن يدقوا النواقيس ويتلوا أخبار المسيح والروايات المأثورة عنه بصوت عالٍ.
4- ليس من الجائز أن يشربوا في الطرقات خمراً, أو يحملوا صلباناً, ويجرّوا خنازيرهم.
5- عليهم أن يدفنوا موتاهم دون عويل.
6- ولا يجوز أن يركبوا سوى الحمار.
هذه الأحكام يقصد من ورائها كما يقول الفقهاء تمييز أهل الذمة من المسلمين, أو انها وضعت دلالة على أنهم صاغرون. ولهم إن يسلموا ان أرادوا العزة في الدنيا والآخرة, كما يقول ابن تيمية.
حرية الدين لأهل الذمة:
من حيث المبدأ يعلن الفقه الإسلامي أن الإسلام لا يبالي إن كان الذمي مطيعاً لدينه أو غير مطيع. فللذمي أن يعتنق الإسلام أو ديانة أخرى عند أبي حنيفة والإمام مالك. يقول فقهاء آخرون إن الذمي لا يجوز أن يترك دينه إلا إذا أراد اعتناق الإسلام, وإلا شأنه شأن المرتد, فيعاقب إما جلداً أو حبساً أو نفياً كما يقول الشافعي وابن حنبل وذلك بحجة الآية: قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوارة والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربكم (المائدة 68). ويُنسَب لأحمد بن حنبل أن ارتداد امرء من اليهودية إلى الصابئية يختلف عن اهتداء امرء من الصابئية إلى اليهودية وكذلك يجوز ارتداده عن اليهودية إلى النصرانية, بينما يلقى الذمي المهتدي إلى الإسلام عقاب ما يعاقب به المسلم المرتد إذا مرق من الإسلام.
يدرس محمد أبو زهراء في مؤلفه العقوبة وضع المسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام لأغراض معينة مثل الطلاق من زوج مسيحي أو الرغبة في الزواج من مسلمة. اهتداءات من هذا القبيل نراها مشكوكاً في أمرها. إن ذمياً اهتدى إلى الإسلام ولم يقم بما يترتب عليه من واجبات ولا يبالي بما يقوله الإسلام, لا يُعتبر في عداد المسلمين, ويجري عليه عقاب المرتد بدون هوادة ردعاً من التلاعب بالإسلام وعقائده.
الطفل غير البالغ (أو غير الحالم):
هو يتبع ديانة والديه. إن كانا من ديانتين مختلفتين فلأفضلهما. هذا يتناقض مع قول الفقهاء بأن الكفر ملة واحدة. إذا اهتدى أحد الأبوين إلى الإسلام فالطفل مسلم. باستثناء الأمة لذمي حر اهتدت إلى الإسلام, فيتبع الولد في هذا الحال دين أبيه, غير أن الزواج يُلغى حفظاً لشرف المسلمة.
اللقيط:
إذا وُجد طفل في بلد إسلامي يعتبر مسلماً, أو يُنسب إلى أهل الذمة إذا وُجد في محل غير مسكون من المسلمين. وإذا وُجد بمقربة من صومعة أو معبد يهودي في قرية سكانها غير المسلمين فيعود إلى ديانة الذميين عند أبي حنيفة والشافعي (الأحكام الشرعية في الأحكام الشخصية للأسرة الإسلامية بيروت, ص 200-202) (الأحكام الشخصية للأسرة الإسلامية, زكريا البري, القاهرة).
إذا اعتبر الولد مسلماً ورُبّي وفق الشرع الإسلامي وانكر إسلامه بعد وصوله سن البلوغ, يقتل قتل المرتد عند مالك وابن حنبل والشيعة وبعض الشافعية. إن اعتبر اللقيط مسلماً لا يجوز تسليمه لذمي من أجل الحضانة. وإذا اختلف مسلم مع ذمي في نسب اللقيط فيعود الولد للمسلم.
التعليم:
يجوز للذميين أن يعلّموا أولادهم وأتباع دينهم عقائدهم الدينية, غير أن الفقهاء اختلفوا فيما يجوز لهم تعليم الديانة الإسلامية. لقد أباح أبو حنيفة بالإشارة إلى القرآن ( 16:125) بينما يحرم مالك على المسلمين حتى تعليم اللغة العربية لأهل الذمة.
حرية الدين والعبادة:
اتفق الفقهاء بأن لأهل الذمة حق القيام بواجباتهم الدينية والعبادية بشرط ألاّ يغادروا معابدهم من أجل العبادة, ولا يثيروا شكوكاً في شوكة الإسلام. لكن الصعوبة في تعيين المقصود من هذه العبارة الغامضة (أي إثارة الشك في شوكة الإسلام) أدت إلى خلافات عديدة بين الفقهاء, الذين منعوا تارة دق النواقيس بتاتاً وجوَّزوه تارة أخرى, أو إذا رخصوا به اختلفوا في المواعيد. ما يتصل بالقداس الديني فهناك اتفاق بين الفقهاء على أنه لا تجوز الصلاة لأموات المشركين (84:9). إذا تعلق الأمر بوفاة امرأة مسلم وهي حامل فهنا خلاف طويل, يقول البعض بجواز دفنها في مقبرة للمسلمين, والبعض الآخر بوجوب دفنها في مقبرة النصارى. هنا أريد أن أذكر طرفاً من الآراء الطريفة التي ينقلها إلينا الشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية (691-751) في كتابه أحكام أهل الذمة:
الكافرة تموت وفي بطنها طفل مسلم:
قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول في امرأة نصرانية حملت من مسلم فماتت وفي بطنها حَمْل من مسلم, فقال: يُروى عن واثلة: تُدفن بين مقابر المسلمين والنصارى. وقال حنبل في موضع آخر: قلت: فإن ماتت وفي بطنها ولد منه, أين ترى أن تدفن, قال: قد قالوا: تُدفن في حجرة من قبور المسلمين. قال أبو داود: سألت أحمد عن النصرانية تموت حبلى من مسلم, قال: فيها ثلاثة أقاويل, وقال: أرى أن تدفن ناحية من قبور المسلمين, لو كانت مقبرة على حدة! قلت ما الذي تختار, فذكر قوله هذا. وقال اسحاق بن منصور: قلت لأبي عبد الله: المرأة النصرانية إذا حملت من المسلم فماتت حاملاً, قال: حديث واثلة. وقال الفضل بن زياد: سمعت أحمد. وسئل عن المرأة النصرانية تموت وفي بطنها ولد مسلم, قال: فيها ثلاثة أقاويل: يُقال تُدفن في مقبرة المسلمين, ويقال في مقابر النصارى. قال الفضل بن زياد: وقال أبو الحارث: قال سمرة: تُدفن ما بين مقابر المسلمين والنصارى قيل له: فما ترى, قال: لو كان لهؤلاء مقابر على حدة ما كان أحسنه! قال الخلال: أخطأ أبو الحارث في قوله: سمرة, إنما هو واثلة. وقال أبو طالب: سألت أحمد عن أم ولد نصرانية في بطنها ولد مسلم, قال. تدفن في ناحية, ولا تكون مع النصارى لمكان ولدها, ولا مع المسلمين فتؤذيهم. وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن النصرانية, يكون في بطنها المسلم, فتبسم وقال: ما أحسن أن تدفن بين مقبرتين! يعني مقابر المسلمين والنصارى. قال المروذي: وكأن كلام أبي عبد الله أنه لا يرى باساً أن تدفن في مقابر المسلمين (من أجل) الذي في بطنها. وسئل أيضاً: ما تقول في النصرانية تموت وفي بطنها ولد مسلم أين تدفن, قال: فيها ثلاثة أقاويل, عن عمر: تدفن مع المسلمين, وعن واثلة: تدفن بين مقابر المسلمين والنصارى, وذكر آخر أنها تدفن مع النصارى. قال: أعجب إلىَّ أن تدفن بينهما. قلت: فإن لم يوجد إلا مقابر المسلمين, فتبسم ولم يكرهه.
قلت: أما أثر واثلة فقال ابن أبي شيبة: حدثنا جعفر بن عون عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن واثلة بن الأسقع في امرأة نصرانية, في بطنها ولد من مسلم, قال: تدفن في مقبرة بين مقابر المسلمين والنصارى. وأما أثر عمر فقال: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمر قال: ماتت امرأة بالشام وفي بطنها ولد من مسلم وهي نصرانية, فأمر عمر أن تدفن مع المسلمين من أجل ولدها. قالوا: ويكون ظهرها إلى القبلة على يسارها, لأن وجه الجنين إلى ظهر أمه, فيكون حينئذ وجهه إلى القبلة على جنبه الأيمن. قال أبو عبد الله بن حمدان في رعايته : دفنت منفردة كالمرتد.
قلت: ووجه هذا أنه لم يثبت له حكم الدين الذي انتقل إليه من التوارث والموالاة, ودفعه إلى الكفار يتولونه, وقد زال حكم الدين الذي كان عليه, فيدفن وحده. ولأصحاب الشافعي في الذمية تموت وفي بطنها ولد مسلم أربعة أوجه أصحها ما ذكرناه, والثاني: تدفن في مقابر المسلمين. قال أصحاب هذا الوجه: وتكون للولد بمنزلة صندوق مودع فيه, والثالث: تدفن في مقابر أهل دينها, لأن الحمل لا حكم له يثبت أحكام الدنيا من غسله والصلاة عليه وغيرها, فلم يثبت له شيء من أحكام أموات المسلمين, فتفرد بهذا الحكم وحده, والرابع: أنها تدفن في طرف مقابر المسلمين.
الوضع القانوني للمعابد في الفقه:
على ما يبدو هناك اتفاق بين الفقهاء على الوضع القانوني للمعابد. يمكننا أن نختصر الأحكام المتفق عليها كما يلي:
1- لا يجوز بناء معابد للذميين في المواضع الإسلامية أو المحيط المجاور لها. الرخصة في هذا المجال تمنح فقط كحالة استتثنائية إذا تأكد الإمام أن بناء الكنائس والمعابد اليهودية تخدم مصلحة المسلمين.
2- يجوز تعمير وتعديل المعابد المتضررة, وإعادة بناء الكنائس والمعابد المتهدمة عند مالك والشافعي وأبي حنيفة, غير أنه يشترط أن تتواجد تلك المعابد في موضع عُقد معه عهد الصلح.
3- أما الحنابلة وبعض الشافعية فيذهبون إلى أنه لا يجوز بناء المعابد ولا الصوامع, ولا يجوز ترميم ما انهدم منها في بلاد المسلمين. ويرجع أبو حنيفة الحكم في ذلك إلى عمر بن الخطاب (كتاب الخراج ص 127: , القاهرة 1934).
قضايا الزواج:
إن زواجاً تم حسب الشرع المعترف به للديانة يُقبل في الإسلام أو يسامح. وإذا وجد مانع لعقد الزواج مثل القرابة أو عدم حضور الشهود فليس للزواج حكم لدى الشافعي وأبي يوسف والشيباني, إذا استحكم عند القاضي. وأما الطلاق فيجوز تطبيق ما يقول به الشرع الإسلامي بين الذميين. أن جواز الطلاق يمكن في إباحة مناكحاتهم حسب الفقهاء والدليل هو رجم رسول الله يهوديين زنيا, فلو كانت أنكحتهم فاسدة لم يرجعها, لأن النكاح الفاسد لا يُحْصِن الزوج (حقوق أهل الذمة ابن قيم الجوزية ص:309).
إذا أسلمت زوجة الذمي وهي ما تزال تحته, وكانت حاملاً في الوقت ذاته حقت لها النفقة حتى تضع طفلها, فإن أرضعته كان لها أجر الرضاع, وإذا أسلم أحد الوالدين اعتبر الأولاد الذين دون الحلم مسلمين. ولا يوافق الشافعي على ما يذهب إليه البعض من أن الأولاد الذين يولدون قبل إسلام أبويهم يبقون على غير الإسلام حتى يقفوا على أسرار الدين فيعتنقونه من تلقاء ذاتهم. وإذا أسلمت زوجة الذمي بعد دخوله بها فلها المهر كاملاً غير منقوص. أما إذا كان إسلامها قبل أن يدخل بها الذمي تقاسمته وإياه مناصفة. ويحتم الشافعي على الذمية التي تتزوج مسلماً أن تراعي بعض شروط الإسلام كالوضوء وإلا جردت زوجها من حقوقه (أو جردت من حقوق زوجها). وإذا طلق المسلم زوجته النصرانية ثلاث مرات, ثم تزوجت نصرانياً, ثم طلقها ذلك النصراني, حل للمسلم الزواج منها مرة أخرى بعد انقضاء عدتها. وإذا أسلمت جارية النصراني حيل بينها وبينه واعتقت عند موته. أما إذا أسلمت زوجة النصراني وزوجها غائب في سفر طويل, فلها أن تنتظر عودته لعله يسلم هو الآخر, أو تتزوج غيره أن أحبت !
لو زوج الكافر ابنه الصغير أكثر من أربع نسوة ثم أسلم الزوج والزوجات, لم يكن له الاختيار قبل بلوغه, فإنه لا حكم لقوله. وليس لأبيه الاختيار لأن ذلك حق يتعلق بالشهوة, فلا يقوم غيره مقامه فيه. وتحبس عليه الزوجات إلى أن يبلغ فيختار حينئذ, وعليه نفقتهن إلى أن يختار. هكذا قال أصحابنا والشفاعية. أما ابن قيم الجوزية فيرد على هذا الحكم الغريب: وهو في غاية الاشكال, فإنه ليس في الإسلام مسلم تحته عشر نسوة مسلمات يبقى نكاحهن عدة سنين. وفي ذلك إضرار بالزوجات في هذه المدة بحيث تبقى المرأة ممنوعة من الزوج عدة سنين, محبوسة على صبي لا تدري أن يختارها أم يفارقها, وفي ذلك اضرار عظيم بها. وهو منتفٍ شرعاً . فيضيف: إن قياس المذهب (أي مذهب الحنابلة) أن يختار عنه وليه كما لو كان مجنوناً! (حقوق أهل الذمة ص 373).
قانون العقوبات:
يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى, فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه باحسان ذلك تخفيف باحسان ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (البقرة 178). إن مسلماً قتل ذمياً يقتل عند أبي حنيفة والنووي. فهما يبرهنان على صحة قولهما بأن الآية تأمرنا بالعدل بين الناس دون النظر إلى الاختلاف في الدين. ما دام عقد الذمة معهم جارياً لا يجوز تعجيزهم فكيف بقتلهم! وما نقل عن عمر يفيد بأنه عاقب مسلماً اعتدى على ذمي.
بينما ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى عدم جواز القصاص بالمسلم, بحجة أن الذمي ليس مثل المسلم. غير أن المسلم إذا قتل ذمياً أو مستأمَناً بخدعة يُقتل به عند ابن تيمية ومالك والشافعي. إذ الصعوبة في هذا الأمر سببها وجود حديثين مرويين عن محمد. أحدهما يقول: من قتل قتيلاً من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة وأن ريحها ليوجد في مسيرة أربعين عاماً أو لا يحل دم أمرء مسلم إلا بثلاث, زنا بعد احصان, وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس والآخر: لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده . إزالة لهذا التناقص قال بعض الفقهاء إن المراد من الحديث الثاني هو الكافر الحربي. إذا قتل مسلم وذمي معاً ذمياً آخر يقتل الذمي فقط عند الشافعي ومالك وابن حنبل. وإن ذمي قتل مسلماً أو ذمياً يقتل, وإذا اهتدى إلى الإسلام لا يقتل إن لم يطلب دمه من ذوي القتيل. إن دية الذمي موضوع خلاف بين الفقهاء, يقول الأحناف بأنها مثل دية المسلم ويحتجون لما رُوي عن الخلفاء. أما المذاهب الثلاثة فتقول بأن للذمي القتيل نصف دية المسلم.
ملابس أهل الذمة:
حدد عمر بن الخطاب أنواع الملابس وطريقة ركوب أهل الذمة فاشترط عليهم لبس الزنار, ونهاهم عن التشبيه بالمسلمين في ثيابهم وسروجهم ونعالهم, وأمرهم أن يجعلوا في أوساطهم زنارات وأن تكون قلانسهم مضربة, وأمر عمر بمنع نساء أهل الذمة من ركوب الرحائل.
فكتب إلى عدى بن ارطأة عامله على العراق: مروا من كان على غير الإسلام أن يضعوا العمائم ويلبسوا الأكيسة .
تحدث أبو يوسف عن لباس أهل الذمة وزيهم فقال: لا يترك أحد منهم يتشبه بالمسلمين في لباسه ولا في مركبه ولا في هيئته . واعتمد أبو يوسف في تفسير ذلك على قول عمر بن الخطاب: حتى يعرف زيهم من زي المسلمين !
ولاية الذمي على المسلم:
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم اللهُ نفسَه وإلى الله المصير (آل عمران 28). يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بِطانةً من دونكم لا يأتونكم خَبالاً. ودّوا ما عنِتُّم. قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر. قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. ها أنتم أولاءِ تحبونهم ولا يحبونكم (آل عمران 118 , 119). يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أتريدون أن تجعلوا للَّه عليكم سلطاناً مبيناً (النساء 144). يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق .. (الممتحنة 1). ويقول صاحب صبح الأعشى حديثاً ضعيفاً: إن اليهود والنصارى أهل غدرة وخيانة .
هذه الآيات وأمثالها تحذر المسلمين من مصادقة الكافرين وتصفهم بأنهم قوم لا يوثق بهم. وهناك أحاديث عديدة تقول إن اليهود والمسيحيين يتحايلون على الإسلام والمسلمين, مما جعل الفقهاء يتفقون على أنه لا يجوز للذميين أن يتقلدوا وظائف عالية في جهاز الحكم, لأن طاعتهم للحكم الإسلامي موضع شك. وإن مكانة الذمي المنحطة أيضاً لا تتلاءم مع ما للدوائر الحكومية من خطورة وأهمية بالنسبة للمسلمين. وعليه فلا يجوز أن يصير الذمي قاضياً ولا كاتباً ولا مترجماً.
يوجد أيضاً فقهاء أمثال الماوردي الذين ذهبوا إلى جواز توليتهم في السلطة مثل الوزارات ولكن شريطة أن تنحصر واجباتهم على مرجع التنفيذ وليس الحكم والقضاء, فالذي يتولى التنفيذ يجوز أن يكون ذمياً أو عبداً, دون أن يحسم فيما يتعلق بالواجبات الشرعية مثل جمع الزكاة.
أما ما يتصل بالقضاء فلا يصح تقليد غير المسلم القضاء على المسلمين. وعللوا ذلك بأن القضاء من باب الولاية, بل هو أعظم الولايات. وغير المسلم ليس له أهلية لأدنى الولايات وهي الشهادة على المسلمين. فبالأوْلى لا يكون له أهلية لأعلاها. وبهذا صرح الفقهاء من مختلف المذاهب كالحنفية والشافعية والشيعة الإمامية والزيدية والظاهرية.
اختلف الفقهاء في جواز تولية غير المسلم القضاء على غير المسلمين. ويمكن إجمال أقوالهم على النحو التالي: صرحت الشافعية بعدم جواز تقليد غير المسلم القضاء على غير المسلمين (المحلى ج 9 ص 363 مغنى المحتاج ج 4 ص 375).
وهو مذهب المالكية والحنابلة والشيعة الأمامية أيضاً, لأنهم قالوا بعدم جواز شهادة غير المسلم على المسلم. قال الأحناف يجوز تقليد الكافر القضاء, وإن لم يصح قضاؤه على المسلم حال كفره. وقالوا أيضاً يجوز أن يُولَّى الذمي القضاء على أهل الذمة, وكونه قاضياً خاصاً بهم لا يقدح في ولايته, ولا يضر كما لا يضر تخصيص القاضي المسلم بجماعة معينة من المسلمين (شرح العناية ج 5 ص 499).
الخدمة العسكرية:
الخدمة العسكرية أو الجندية هي خدمة من ينتمي إلى الديانة التي تشكل أسس الدولة الإسلامية, فهي على هذا الأساس واجب المسلمين, وعليهم يترتب الدفاع عن الدولة. فبالدرجة الأولى إنها واجبهم وحقهم. أما الذمي فلا يشترك لا في الخدمة العسكرية ولا في واجب الدفاع عن البلاد إلا من خلال ما يدفعه من ضرائب مثل الجزية والخراج. لقد ذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل إلى أن واجب الدفاع عن الإسلام بقوة السلاح يقتصر على المسلمين دون غيرهم. والشافعي يرى اشتراك أهل الذمة في الخدمة العسكرية جائزاً إن كانوا ممن يكنّون للإسلام ميْلاً بالغاً, أو إن كان بجيش المسلمين وَهَن فاحتاج إليهم. إلا أنه لا يجوز استخدام الذميين في قتال العصاة المسلمين كيلا يظهروا على المسلمين. أما أبو حنيفة فلا يرى أي مانع في توظيفهم وإدماجهم في جيش المسلمين كاملاً وإرسالهم في قتال الأعداء, سواء كانوا مسلمين أو غيرهم.
- عدد الزيارات: 24986