Skip to main content

حتمية التشريع البشري

الصفحة 1 من 2

الفصل السادس: حتمية التشريع البشري

عندما قامت الثورة الإسلامية الإيرانية وأقامت حكماً إسلامياً كاملاً في بلدٍ يملك جميع مقّوِمات النهوض والتقدم، من طاقةٍ بشرية وموارد طبيعية وفيرة على رأسها التدفّق الغزير للبترول، وحضارة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، كان الناس ينظرون إلى الثورة الإسلامية الوليدة على أنها اختبارٌ حاسم لجميع الحركات الإسلامية المعاصرة. فإذا نجحت في إقامة مجتمع العدل والحرية والتقدم كان معنى ذلك أن هذه الحركات ستكسب قوة دفعٍ هائلة يصعب إيقافها في أي بلد من بلدان العالم الإسلامي الذي يشكو من التخلّف، ويرزح تحت أعباء أنظمة قمعية، ويتعطش لتلك الأصوات المنادية بالحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة. فالاختبار الحاسم كان هناك في تلك الثورة التي أمسكت بزمام بلد إسلامي عظيم الأهمية له ماضٍ عريق، ومستقبل حافل بالإمكانات المشجِّعة.

ومع ذلك فإن مظاهر الإخفاق التي توالت على هذه الثورة الإسلامية عاماً بعد عامٍ، لم يتردّد صداها على الإطلاق لدى المنادين بالحكومة الإسلامية في بقية أقطار العالم العربي والإسلامي، فلم يتأثر هؤلاء بما انتهت إليه الثورة الإسلامية منذ إحكام قبضة رجال الدين على الدولة. وإنما ظلوا يرددون زعمهم القائل إن الحكم الإسلامي لا يعني تسليم زمام الأمر لرجال الدين. ولم يُبْدِ هؤلاء الدعاة أي استنكار لقيام هذه الحكومة بتصفية أحزاب المعارضة واحداً بعد الآخر، أو لتلك المحاكمات الصورية المتعجلة التي كان خلخاني يصدر فيها أحكام الإعدام بنفس السرعة التي يقرأ بها مدرس الفصل نتيجة الامتحان على تلاميذه، أو لفرض مناهج متزمّتة على التعليم الجامعي والتعليم العام، أو لروح الكآبة والعبوس التي سادت حياة الناس اليومية وارتسمت على تعبيرات وجوههم.

ولم تمض إلا سنوات قلائل حتى طُبِّقت تجربةٌ أخرى في السودان في ظروف مختلفة كل الاختلاف. وكان التطبيق هذه المرة بقرارٍ من حاكمٍ فرد، ظل يتقلّب بين الأنظمة والاتجاهات المختلفة، من اليسار إلى اليمين الإسلامي. وهلَّل دعاة تطبيق الشريعة لتجربة النميري على الرغم من مظاهر الظلم الصارخة، وطالبوا معارضيهم أن يمنحوا الرجل فرصة. وتجاهلوا المجاعة وأحكام الإعدام والاستنزاف الدائم لثروة البلاد، وسرقات الحكام لأموال الشعب بأسره. ووضعوا هذا كله في كفة والتطبيق الشكلي لحدود السرقة والخمر والزنا في كفة أخرى، فرجحت الكفة الثانية لديهم على المظالم الفادحة التي كانت في الكفة الأولى.

كانت هاتان آخر محاولتين )قبل كتابة هذا الكتاب( لتطبيق الشريعة الإسلامية ضمن سلسلة أطول من المحاولات الأسبق عهداً، كان على رأسها محاولة السعودية ثم باكستان، فضلاً عن المحاولات الجزئية في إندونيسيا وليبيا. وفي جميع هذه المحاولات كانت النتائج واحدة: أنظمة للحكم تبعُد كل البعد عن الحرية والعدالة والمساواة وجميع القيم التي سعت إلى إقرارها كافة الأديان ودعا إليها الفلاسفة والمصلحون منذ أقدم العصور. ومع ذلك فإن دُعاة تطبيق الشريعة الإسلامية في بلادنا لم يعيروا أي إهتمام لذلك الإخفاق الصارخ الذي انتهت إليه تلك التجارب السابقة بل زادت أصواتهم ارتفاعاً، في نفس الوقت الذي كانت فيه تجربة تطبيق الشريعة في السوادن قد تحولت إلى فضيحة عالمية مدوية.

فعلام يدل هذا التجاهل التام للواقع وللتاريخ القريب وللأمثلة والنماذج الملموسة؟ وكيف يرضى أي مجتمع أن يسلّم مقاليد أموره لجماعات تُغمض عينيها عن التجارب المحيطة بها ولا تحاول أن تتعلم من الدروس الماثلة أمامها، أو أن تُراجع خطواتها، وتُعيد النظر في أهدافها في ضوء الواقع الملموس؟

إن الرد الجاهز الذي يرد به أنصار هذه الجماعات على كل من ينبّههم إلى إخفاق هذه التجربة في تطبيق الشريعة هنا أو هناك هو: ليس هذا هو الإسلام. إن خطأ نميري أو غيره هو خطأ أشخاص، وليس خطأ الإسلام في ذاته . ولكن هذا الرد حقٌّ أُريد به باطل، فهو ينطوي على مغالطات فادحة، لأن أية تجربة تُطبَّق في أي مجتمع آخر ستكون بدورها مجرد تطبيق آخر! فهل بذلت جماعاتنا الإسلامية الداعية إلى تطبيق الشريعة أي جهد لتضمن على نحو قاطع تطبيقاً يخلو من هذه العيوب؟

وإذا قيل لنا: إن هؤلاء قد انحرفوا عن جوهر الإسلام، فهل نسينا أن كلاً منهم كان ولا يزال يؤكد أن تجربته هي التعبير الحقيقي لجوهر الإسلام، ويجد بين رجال الدين والإعلام في بلده من يقدم له أقوى الحجج التي تثبت صحة هذا التأكيد؟ فما الذي يضمن لنا ألا يتكرر ذلك في تجربتنا نحن؟ وعلى أي أساسٍ نأمُل في أن نكون نحن دون الباقين جميعاً قادرين على تجنُّب انحرافات التطبيق وتحقيق لبّ الإسلام وحقيقته؟

إن التجاهل التام للتاريخ، وإغماض العين عن الدروس التي يقدمها الواقع الفعلي، هو السمة التي تميّز موقف الحركات الإسلامية من كافة التجارب السابقة على مرّ التاريخ الإسلامي، فهي ترسم لنا صورةً للتاريخ الإسلامي مستمدَّة من النصوص الدينية فحسب. فإذا تحدثت مثلاً عن موقف الإسلام من العدالة الاجتماعية، جاء حديثها مليئاً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تدعو إلى تلك العدالة، وتقف عند هذا الحد. وتتصور أنها قد أثبتت بذلك قضيتها الرئيسية، وهي أن الإسلام يدعو إلى العدالة الاجتماعية، وأنها تتحقق في الإسلام خيراً مما تتحقق في أي نظام آخر. لكن هل اقتباس النصوص وحدها يكفي لإثبات هذه القضية؟

إن دُعاة تطبيق الشريعة يرتكبون خطأً فادحاً حين يركزون جهودهم على الإسلام كما ورد في الكتاب والسُّنة، ويتجاهلون الإسلام كما تجسَّد في التاريخ، أعني حين يكتفون بالإسلام كنصوص ويغفلون عن الإسلام كواقع. ويزداد هذا الخطأ فداحة إذا أدركنا أن محور دعوتهم هو مشكلات الحكم والسياسة وتطبيق أحكام الشريعة، وكلها مشكلات ذات طابع عملي لا يكفي فيه الرجوع إلى النصوص، وإنما ينبغي أن يكمله على الدوام الاسترشاد بتجربة الواقع، فنحن في هذه الحالة لسنا إزاء مشكلة فلسفية أو كلامية نظرية، بل إزاء مشكلة تنتمي إلى صميم الحياة العملية للإنسان. ومن ثمَّ كان تجاهل ما حدث طوال التاريخ الماضي وفي المحاولات المعاصرة للوصول إلى حكم إسلامي خطأ لا يُغتفر.

وقد جرت عام 1986 ندوة بالقاهرة موضوعها الإسلام في مواجهة العلمانية تحدث فيها الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا، أقتبس بعض ما قاله: يردّد دُعاة تطبيق الشريعة عبارات ذات تأثير عاطفي هائل على الجماهير، فتمرّ دون أن يتوقف أحدٌ لمناقشتها. وتتناقلها الألسن محتفظة بمحتواها الهلامي حتى تشيع بين الناس وكأنها حقائق نهائية ثابتة، مع أنها في ضوء التحليل العقلي عبارات مليئة بالغموض والخلط. وسأكتفي من هذه العبارات باثنتين: الحكم الإلهي في مقابل الحكم البشري وصلاحية أحكام الشريعة لكل زمان ومكان .

أما العبارة الأولى فإني أعترف أني عاجز عن فهم تعبير الحكم الإلهي أو الاحتكام في كل شيء إلى شرع الله، أو الحاكمية وما شابه ذلك من التعبيرات. إن الرجوع إلى النصوص الإلهية في الحكم لا يحول دون تدخّل العنصر البشري في اختيار النصوص الملائمة وتفسيرها بالطريقة التي تُرضي مصالح الحاكم، على نحو ما كان يحدث طوال معظم فترات التاريخ الماضي والحاضر. ففي عصر النبوّات وحده كان يجوز الكلام عن حكم إلهي. أما طوال التاريخ اللاحق الذي انتهى فيه ظهور الرسل والأنبياء، فإن مهمة الحكم أصبحت بشرية وستظل بشرية، حتى لو كانت الأحكام التي يُرجع إليها إلهية. فأسمى المبادئ الدستورية لا تحول دون أن يضطهد حاكم طاغية رعيته وينشر الرعب والظلم بينهم. وبالمثل فإن أرفع التشريعات السماوية لا تمنع - ولم تمنع طوال التاريخ - من وجود حكام مستبدّين يفسرونها على هواهم. والدرس البسيط الذي نستخلصه هو أن تطبيق أحكام الشريعة ليس في ذاته ضماناً لأي حكم أفضل من تلك الأنظمة التي ظلت تستبدّ بنا طوال التاريخ. وإنما المهم والأساسي والجوهري هو الضمانات التي تمنع الحاكم من الانحراف. ومفهوم الضمانات بشري بحت، تطور على مدى التاريخ، وخضع لأسلوب المحاولة والخطأ، واستطاعت البشرية أن تنمّيه وتزيده إحكاماً بعد تجارب طويلة مريرة أخفق الكثير منها ونجح القليل نجاحاً نسبياً. ولكن الناس ما زالوا يتعلمون ويستفيدون من كل تجربة.

صلاحية أحكام الشريعة لكل زمان ومكان
الصفحة
  • أنشأ بتاريخ .
  • عدد الزيارات: 6688