Skip to main content

البيئة وفِقه الأقلية - المنهج الأخلاقي الذي يفرضه الإسلام لا يمكن أن يُطبَّق إلا في جّوٍ يسوده الإسلام

الصفحة 3 من 3: المنهج الأخلاقي الذي يفرضه الإسلام لا يمكن أن يُطبَّق إلا في جّوٍ يسوده الإسلام

إن المنهج الأخلاقي الذي يفرضه الإسلام لا يمكن أن يُطبَّق إلا في جّوٍ يسوده الإسلام ويحكمه. وبما أن البيئة الإسلامية لم تتوفر في مكة فقد تأجل تطبيق الشرائع والمناهج الأخلاقية لحين ظهور هذه البيئة في المدينة بعد الهجرة.

إذاً: فقياساً على المنهج الحركي الذي أعدَّه محمد وسار عليه أتباعه لقيام مجتمع إسلامي على أنقاض المجتمع الجاهلي، يظهر خطأ جميع المناهج الحركية التي طرحتها الجماعات الإسلامية كطرق ووسائل للوصول إلى تطبيق شرائع الإسلام وقوانينه، وأصبح طرح بديل آخر حتمية يفرضها إصرارهم الملِحّ على إنقاذ البشرية بقوانين الشريعة. وظهر رأيٌ يقول بإلزام المسلمين بالاقتداء بمحمد في منهجه الحركي الذي نجح في قيام مجتمع الإسلام في المدينة. ويرون أننا الآن نعيش في فترة مكية وبالتالي فليسعنا ما وسع رسول الله فيها . فإن كان المسلمون الأوائل تعاملوا مع الواقع الجاهلي بجاهلية، فلنتعامل نحن أيضاً مع الواقع بواقعية. وإذا كانت البيئة ذات أثر فعال في توجيه التشريع الإسلامي وقت نزول القرآن، فلتكن البيئة الآن هي مصدرنا الرئيسي في تحريمنا وتحليلنا للأشياء، لا آخر ما نزل من الشرع. وحجّتهم واضحة: إن تدرُّج الشرائع والقوانين الذي حدث مع المسلمين الأوائل في مكة كانت له حكمته، بسبب البيئة المواتية، فكان لتعطيل المنهج الإسلامي مبرراته التي ما تزال قائمة في بيئتنا وعصرنا الحالي.

وأصحاب هذا الرأي ينكرون على الفصائل الإسلامية المختلفة اعتراضهم على هذا الرأي بقولهم إن قول القرآن: "ا لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ا لْإِسْلَامَ دِيناً" (المائدة 5: 3)

أوجب على المسلمين تنفيذ شرائعه وقوانينه وكافة تعاليمه، ناسخة كل مراحل التدرُّج والتمهيد. وقد طُرح هذا الرأي تحت عنوان فقه الأقلية للأستاذ فهمي هويدي، في معرض الحديث عن وضع المسلمين في أوربا وأمريكا حيث يجدون صعوبة بالغة في تطبيق إسلامهم في المجتمع الأوربي والأمريكي مما جعلهم يجتهدون في صياغة علاقتهم بذلك المجتمع. ومن أجل هذه الصياغة كان عليهم أن يعيدوا النظر في العديد من الاجتهادات المستقرة في الفقه الإسلامي، والتي أفرزتها ظروف العيش في دولة غير مسلمة. فعلى صعيد الأسرة مثلاً، إذا أخذنا بمبدأ تطليق الزوجة التي تدخل إلى الإسلام من زوجها غير المسلم - كما هو مستقر في الفقه حالياً - فإن ذلك سيؤدي إلى تدمير مستقبل كل أسرة تهتدي الزوجة إلى الإسلام، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى مصادرة انتشار الإسلام ذاته - فهل يطبق المبدأ بأي ثمن، أم تُراعى الظروف؟ وهو ما أقره الإمام المودودي بالنسبة للأقلية المسلمة في الهند؟

مثال آخر: ماذا يفعل المسلمون الذين يشتغلون في المطاعم وليست لديهم فرص عمل أخرى بينما تقدم هذه المطاعم لحم الخنزير أو النبيذ وغير ذلك مما هو محرم شرعاً؟ هل يستمرون في أعمالهم ويقدمون هذه المحرمات للناس؟ أم يتركون تلك الأعمال ويقعدون عاطلين؟

ومثال ثالث: إذا أراد المسلم أو المركز الإسلامي أن يبني بيتاً أو مقراً، هل يقترض من البنوك بفائدة أم لا؟ خصوصاً وأن هذا هو الخيار الوحيد المتاح.

ومثال رابع: قضية الاختلاط وقضية الفنون التعبيرية والموسيقى والرقص والغناء.

وأخيراً يقدم الأستاذ هويدي مسألة الحريات كنموذج من طراز خاص. فحتى تمارس الأقلية المسلمة مختلف حقوقها والتزاماتها العقائدية، فقد بات مهماً أن تكون استراتيجية المركز الإسلامي منحازة على الدوام إلى جانب إطلاق حرية الاعتقاد والشعائر والممارسات، وهو ما يستفيد منه الجميع حتى عبدة الشيطان وطبقات أهل الفجور، إذ أنهم بغير هذا الموقف سيخسرون مجال حركتهم، وبالتالي فإنهم اعتمدوا المنطق الذي يقول

"لنبْقَ مع الحرية حتى لو أدى ذلك إلى وقوع ما يخدش عقائدنا وأخلاقنا".

ومن هذا يتضح أن أصحاب "فقه الأقلية" يتحدثون عن الوضع في البلاد التي تعلن صراحة أنها ليست إسلامية كأوربا وأمريكا، بينما يتحدث غيرهم عن الوضع في المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها إسلامية، والتي تؤكد بعض مظاهرها الخارجية ذلك.

ونحن نرى أن الاتجاهين متشابهان إلى حد بعيد في جوهر القضية المطروحة، وكلاهما يؤكد عجز شريعة الإسلام على التطبيق خارج نطاق البيئة المُعدَّة لها، المصنوعة خصيصاً من أجلها. وهم قد قضوا، بقصدٍ أو بغير قصدٍ، على فكرة صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان. وهناك اتجاه التريُّث والتمهيد والإعداد للمجتمع حتى يصبح قادراً على استيعاب تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية. وهذا يعني بالطبع حل مشكلة التنمية والبطالة والفقر والجوع والإسكان والتعليم ومعظم المشكلات التي نكافح منذ عشرات السنين لنعالجها، دون أن تبدو في المستقبل القريب بارقة أمل لحلّها! وحتى لو أمكن حل هذه المعضلات والتغلب على جميع الصعاب والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعاني منها مجتمعنا الحالي.. فهذا يعني أننا قد قمنا بحل مشاكلنا الرئيسية بوسائل أخرى غير الشريعة، وبذلك تختفي الأسباب التي كانت تستوجب تطبيقها، محطمين بذلك الأسطورة الثانية التي يقول أصحابها إن الشريعة هي مشروع الإنقاذ الوحيد القادر على حل معضلات الحياة كلها!!

الصفحة
  • أنشأ بتاريخ .
  • عدد الزيارات: 7107