Skip to main content

حركات الإصلاح في الإسلام

حركات الإصلاح في الإسلام

يبدو تاريخ الإسلام الحديث للكثيرين مرآة صادقة للتأثير الغربي في المجتمع الإسلامي. لقد اعتبر معظم المسلمين الشريعة كياناً جامداً وأُصيب من الغرب بضربة قاتلة, أو نظام حقوق لا يمكن أن يواصل حياته إلا بتلقيحات من الغرب. كان الإسلام قد تعرض منذ البدء لتحديات دينية وثقافية. ولكن كان باستطاعته الوقوف بوجهها بنجاح, فهناك عديد من الآيات القرآنية التي لم تكن ليوحَى بها لو لم يتلق محمد اعتراضات من الجانبين النصراني واليهودي. وابتداءً من القرن الثامن حتى القرن العاشر اختبر الإسلام أزمات حضارية متعددة, أهمها تلك التي أحدثتها الأفكار الإغريقية. غير أن الإسلام أظهر القدرة الكافية على مواجهة تلك التهديدات. فتارة رفضها, وتارة اعترف بها بعد أن ألبسها حلة إسلامية, أو أدمجها كاملاً في كيانه. لكن الوضع تغير لما وجد الإسلام نفسه في القرن التاسع عشر وخاصة في القرن العشرين تحت الضغط والتأثير الغربيين. كان التأثير الغربي ذا وجهين: سياسياً وعسكرياً. إن الانزعاج أو النكسة التي ظهرت من جراء الهزائم السياسية العسكرية وما تلاها من تبعية للقوى الأجنبية, أصابت الإسلام بالشلل وأثارت الانطباع بأن الإسلام لا يستطيع تجديد نفسه ولا صدّ المواجهات.

يمكن أن نختصر ملامح حركات الإصلاح المشتركة في القرنين التاسع عشر والعشرين في الاقتناع بالانحطاط الداخلي, ومكافحة الخرافات, وتصفية الإسلام منها والتنبير على القيم المعنوية والأخلاقية. إن قادة تلك الحركات الإصلاحية (وهم بمثابة السَّلف للأصوليين المعاصرين) كانوا على يقين بأن عودة الأمة إلى القرآن وتعاليمه البسيطة الواضحة هي الحل الوحيد, الذي لا خلاص بغيره. نصادف في القرن التاسع عشر نزعات مختلفة بين قادة الفكر الإسلامي, كل فرقة لها وصفتها لحل المسائل. فيرى التقليديون وعلى رأسهم شيخ الإسلام أو قاضي القضاة للحكم العثماني أن الخلاص يتم فقط بالتمسك بما به اهتم السلف الصالح, إذ هم أقرب الناس من عهد النبوة, وليس بوسعنا أن نفهم القرآن كما فهموه. والصوفية تذهب إلى أن على المسلم أن ينجو بنفسه بعيداً عن السياسة وشؤونها, وعلى رأسها الشاذلية والنقشبدية. أما قادة الإصلاح أمثال جمال الدين الأفعاني فلا يقيمون وزناً لأعمال السلف, وها هو الأفغاني يغضب عندما يُقتبس في مجلسه ما يقول القاضي عياض حجة, وكأن ما كتبه وحي مُنزَل فيقول: يا سبحان الله! إن القاضي عياض قال ما قاله على قدر ما وسعه عقله وتناوله فهمه وناسب زمانه, فهل لا يحق لغيره أن يقول ما هو أقرب إلى الحق وأَوْجَه, وأصحّ من قول القاضي عياض أو غيره من الأئمة, وهل يجب الجمود والوقوف عند أقوال أناس أطلقوا لعقولهم سراحها فاستنبطوا وقالوا وأدلوا دلوهم في الدلاء وفي ذلك البحر المحيط من العلم, وأتوا بما ناسب زمانهم وتقارب مع عقول جيلهم - وتتبدل الأحكام بتبدُّل الزمان . ولما قيل له: إن ذلك يحتاج إلى الاجتهاد, وباب الاجتهاد عند أهل السنة مسدود لتعذُّر شروطه! تنفس الصعداء وقال: ما معنى باب الاجتهاد مسدود, وبأي نص سُدَّ باب الاجتهاد, أو أي إمام قال: لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يجتهد ليتفقّه في القرآن, أو أن يهتدي بهدى القرآن وصحيح الحديث.. .

أما الصعوبة الثانية فنراها في ما يجب على المسلم عمله تجاه شؤون السياسة. فهل الإسلام دين لا يهتم إلا بالأمور العبادية, وهل القرآن كتاب لا يحوي سوى توجيهات أخلاقية وليس له صلة بالحكومة, وصف قادة الإصلاح الخلاف بينهم وبين أهل التزمت بالصراع بين العقل والنقل واتهموا غيرهم بالتمسك الأعمى بنص القرآن. وهناك من يقول, وخاصة في أيامنا هذه بضرورة فهم القرآن فهماً يتناسب والعصر.

هذا كفر مستور عند الأصوليين. والذي يقول به واحد من إثنين: إما أبله لا عهد له بالقرآن, أو مراءٍ يطعن في الإسلام في كِسْوَة المصلح. ربما يحق للأصوليين القول بأن هؤلاء المسلمين المنفتحين الذين عندما يتحدثون عن وجوب تكيف القرآن بمتطلبات العصر لا يأبهون بدعائم الإسلام أبداً, فلا أمكنهم إظهار كفرهم لما ينتظر المرتد من عقاب إلا بتمييع وتجويف القرآن من خلال تفسيرات غريبة كل الغرابة وذلك تحت شعار الانفتاح والإسلام العصري.


 

القادة الأوائل لحركات الإصلاح

إن أول مصلح دعا الأمة الإسلامية إلى الرفع بمستواها الحضاري والروحي في مواجهة السياسة التوسعية للغرب المستعمر هو جمال الدين الأفغاني (1839-1897) رغم أنه لم يهدف بتاتاً إلى تحديث نظري للإسلام بمعنى تخطي الأصل. لقد رأى أن من واجبه الأساسي الاعتناء بنظام التدريس, وطالب بإدخال العلوم الحديثة في البرامج المدرسية, كما أشار إلى ما للفلسفة من أهمية كمادة للتدريس. ودافع بقوة وهو يجادل علماء الشريعة المقلِّدين عن العلوم الحديثة والعقل قائلاً إن العقل وكل ما يصدر عنه يلائم مبادئ الإسلام الأساسية. أو نراه يقول إن على المرء يعتني بتربية خصاله الحسنة ويحب الناس ويخدمهم بِتفانٍ.

تبنَّى المصلح المصري محمد عبده هذا المزج من الأحكام القرآنية عن الأخلاق والنزعة الإنسانية الحديثة وأعطاه طابعاً معاصراً. وقام العالم الهندي سيد على خان أيضاً بتمثيل الأفكار نفسها: إن لم نتخلّ عن هذا التقليد البغيض ولم نَسْعَ إلى استضاءة أنفسنا وغيرنا من القرآن والسنّة فقط, فليس للإسلام في الهند مستقبل .

كان سيد على خان متأثراً بالتفسير الحديث إلى حد بعيد, حيث حاول أن يجد لكل اختراع في عالم العلم آية في القرآن تخبرنا بذلك, مما جلب انتقاد المسلمين الشديد. هذه النزعة الغريبة التي تبحث عن وصفة مفصَّلة في القرآن لكل ما استجدّ في ميدان العلوم تجد حتى في أيامنا هذه أَتباعاً لها. أظن أن عدم وجود معجزات أو خوارق للعادة في حياة النبي محمد هو السبب الأساسي لهذا التحري الدؤوب. فإن الأخبار التي تُنسَب إلى محمد والتي تنقل لنا ما تمَّ على يديه من معجزات مشكوك في أمرها, والأحاديث بهذا الشأن أغلبها ضعيفة وموضوعة.

أما عميد كلية الأزهر السابق الشيخ محمد عبده فتجرأ وقال إن الإسلام لا يناقض العقل, ما لم يتجاوزا حدودهما! فهو كان أكثر واقعياً من علي خان . لقد قوبلت آراء عبده المنفتحة بل الثورية في مجال الشريعة والتي أوردها في دروسه ومجالسه بأسلوب ليِّن وبترحاب, ووجدت أَتباعاً لها بين المثقَّفين. وليس من المشجع أن نرى أن ما كان من الممكن في أوائل العشرينات من هذا القرن, قد يستحيل علينا اليوم ونحن على عتبة القرن الحادي والعشرين!

  • عدد الزيارات: 21572