الخلفاء الراشدون مع غير المسلمين
نريد هنا أن ندرس بإيجاز تعامل الخلفاء مع أهل الكتاب, لأن هذا العهد من تاريخ الإسلام أساس استند إليه الولاة والحكام المتأخرون. نرى في المصادر الأولى وكتب السير المتأخرة نماذج للمعاهدات المعقودة بين الولاة والحكام أو القادة مع غير المسلمين. غير أن النصوص الأصلية لها ضاعت. بالاعتماد على ما نجد بين أيدينا من تلك النصوص يمكننا فقط أن نأخذ فكرة عامة وصورة غير واضحة عما جرى حينذاك. أما الناحية الأخرى التي تضفي على هذه المعاهدات أهمية في نظرنا فَرَأْي الفقهاء أنها مبنية على سنّة الرسول محمد.
شبه الجزيرة:
أهم نص في هذا الصدد هو المعاهدة مع أهل نجران, ومعاهدة الصلح مع بني تغلب. (كتاب الخراج).
نجران: عقد أهل نجران معاهدة مع محمد جددوها مع خليفته أبي بكر(634). غير أن عمر نقض المعاهدة وأمر بإجلائهم. الأسباب التي تورد في المصادر الإسلامية والتي تبرر تنحيتهم في نظر المسلمين تعتورها تناقضات! أهمها ما يلي:
1- تكاثر أهل نجران جداً حتى خاف المسلمون من هجوم من الجنوب. فحماية للمسلمين من هجوم محتمل من الجنوب قرر عمر ابعادهم.
2- لم يلتزموا بشروط العهد الذي عقدوه مع الخليفة, فكانت طاعتهم مشكوكاً في أمرها. غير أن كتاباً بعث به عمر كتب فيه وجوب حمايتهم وذلك لعهد أُعطوهُ من قبل المسلمين يفند صحة هذا الزعم.
نص آخر في المصادر يفيد بأن الأمر لا يتعلق إلا بقسم من أهل نجران (أي بسكان دعش) الذين اعتنقوا المسيحية بعد ما كانوا قد اهتدوا إلى الإسلام, فكتب عمر إلى واليه يعلى بن أمية بأن لا يعاقب الذين ارتدوا إن عادوا إلى الإسلام وهم تائبون.
تبرير آخر لطرد المسيحيين من الحجاز واليمن يكمن في حديث نبوي مفاده: لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً (رواه مسلم). وعن عائشة قالت: آخر ما عهد رسول الله: لا يترك بجزيرة العرب دينان (رواه أحمد). وفي مسنده عن علي قال رسول الله: يا علي, إن وليت الأمر بعدي فأخرج أهل نجران من جزيرة العرب . وعن عبد الله بن أحمد سمعت إبي يقول حديث النبي: لا يبقى دينان بجزيرة العرب .
بنو تغلب:
هذه القبيلة الشهيرة بسطوتها التزم أغلب أفرادها بالمسيحية, وكانت تقطن بالحدود مع بيزنطة ومملكة الفرس في شمال ما وراء النهر. عُقد معهم عهد يختلف عن العهود الأخرى محتواه اللين حيث أبى بنو تغلب عقد عهد الذمة مع المسلمين. واكتفى المسلمون كيلا يدفعوا بهم على التحالف مع الأعداء بجمع الزكاة المضاعفة تمييزاً إياهم من المسلمين, ولم يدفعوا الجزية وهو صاغرون . مما يوضح أن المعاهدات من هذا القبيل مع غير المسلمين ليست خاضعة لقواعد محدودة, بل يتغير محتواها حسب الظرف والمكان. تارة لصالح غير المسلمين إن كانوا أقوياء, وتارة لغير صالحهم إن لم يكونوا في وضع يمكّنهم من الدفاع عن أنفسهم. إن الذين خلفوا عمر راعوا هذا العهد مع بني تغلب.
في العراق - حيرة:
سنة 633 استسلمت حيرة للقائد الإسلامي خالد بن الوليد تحت معاهدة مفادها:
1- لأهل حيرة دينهم, لهم كنائسهم وصوامعهم ومعابدهم, ولهم حمل الصلبان ودق النواقيس.
2- لا يجوز لهم أن يساعدوا أعداء المسلمين, ولا أن يشيروا على هؤلاء ضعف المسلمين.
3- عليهم بالسلوك الصالح, ولهم لبس ما يشاؤون دون أن يتشبهوا بالمسلمين.
4- هم يعطون المسلمين ملجأ وسكنى, وعبيدهم يباعون في سوق المسلمين إن اهتدوا إلى الإسلام, والسِّعر لأصحابهم.
ما وراء النهر:
حسب البلاذري عقد أياد بن غنم مع رقاو روحا المعاهدة التالية:
بسم الله الرحمن الرحيم, منح أياد بن غنم يوم اجتمع مع أهل رقا الأمان للأفراد والضمان لأموالهم. لا تهدم كنائسهم ولا تستعمل للسكن, إن دفعوا الجزية المفروضة عليهم, وما قتلوا نفساً, وكفوا عن دق النواقيس, ولم يبنوا صوامع ومعابد, وما حملوا صلباناً. والله يشهد على ذلك وهو يكفي شهيداً .
بعلبك:
حسب المعاهدة التي عقدها أبو عبيدة (خالد بن الوليد) مع هذه المدينة منح سكان المدينة من الروم والفرس والعرب بالضمان لأرواحهم وأموالهم, كما التزم المسلمون بعدم هدم الكنائس وعدم مصادرة بيوتهم خارج المدينة. غير أن سكانها (حسب ابن العساكر) أُجبروا على التخلي عن نصف ما يملكون من بيوت وكنائس, ودفع الخراج مع الجزية.
القدس:
توجد لدينا من المعاهدة المعقودة بين المسلمين والقدس نسخ مختلفة جداً (عددها حوالي 630) نجدها مختصرة عند اليعقوبي والمصادر المسيحية. أما النسخة الواردة في الطبري فمشكوك في أمرها, رغم إنها تعتبر أكثرها تفصيلاً. فكما هو الحال في المعاهدات الأخرى منحت لسكان القدس حماية الدين والنفس, غير أنه كان عليهم أن يتعهدوا بأن لا يسكن معهم يهودي.
بلاد الفارس:
أصفهان: نقرأ في وثائق المعاهدات مع أهل أصفهان وري وجرجان أن البالغين منهم يدفعون الجزية سنوياً لوالي المدينة مباشرة, ويؤوون المسلم المسافر ليوم وليلة, ويقدمون المشاة من المسلمين و مطاياهم قنية سفر يوم واحد. من أهان مسلماً يعاقب عقاباً شديدا, ومن ضرب مسلماً يقتل! نرى الشروط نفسها في المعاهدة مع آذربيجان.
مصر:
سنة 641 تعاقد المسلمون مع سكان القاهرة, يمكننا أن نختصر نص تلك المعاهدة التي نقلها الطبري في تاريخه كما يلي:
يمنح المسلمون بحماية الناس والمال, وكذلك الضمان لكنائسهم وصلبانهم. أهل مصر يتحملون المسؤولية عما يقترفه قطاع الطرق من جرائم. ويدفعون جزية تقدر ب 50 مليون دينار. أما النوبيون فليس لهم أن يسكنوا مع المصريين. إن تعاقد النوبيون مع المسلمين على مثل هذا فلهم ما للمصريين وعليهم ما على هؤلاء. غير أنهم يتعهدون بتزويد المسلمين بعدد معين من العبيد والخيل, إن أرادوا أن يَسْلموا من هجوم المسلمين. إذا كان هذا التعاقد قد تم بعدما وافق المصريون عليه, أو مُنح لهم عهد الذمة من قبل الخليفة عمر بعد فتح مصر عنوة, فهذا موضوع نقاش بين الباحثين.
أخيراً أريد أن أذكر معاهدة بين عمر والمسيحيين في سورية. هذه المعاهدة اشتهرت بمعاهدة أو عهد عمر ولها أهمية كبرى إذ تحوي على شروط عمر فيما يتعلق بعلاقة المسلمين مع أهل الذمة. يقول سراج الدين الطرشوشي (1126): لما أمَّن عمر بن الخطاب إيانا نحن نصارى الشام (سورية), بعثنا بالكتاب الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب بعثنا به نحن نصارى الشام إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما أتيتم بلدنا, استأمنا منكم لأنفسنا ولذوينا ولأموالنا ولإخواننا في الدين, وتعهدنا بألا نبني كنائس ولا صوامع ولا بيعاً, ولن نعمر ما أشرف على الانهدام منها, ولن نصلح ما يقع منها في أحياء المسلمين. نؤوي المارة والمسافرين من المسلمين في بيوتنا, ونضيف المسلمين أجمعين ثلاثة أيام, ولن نقبل جاسوساً ولا عيناً في كنائسنا ولا في دورنا, ولن نخفي على المسلمين ما من شأنه الإضرار بمصالحهم. لن نعلّم أولادنا القرآن, ولن نحتفل بقداديسنا على مرأى الناس, ولن ننصح بذلك في عظاتنا, ولن نمنع أحداً من أهل ديننا من اعتناق الإسلام إن أراد. نعامل المسلمين بالبر والإحسان, ونقوم إذا جلسوا, ولن نتشبه بهم في الملبس, ولن نأخذ بلسانهم, ولن نكني أنفسنا ولا أولادنا, ولن نسرج ولا نحمل سلاحاً, ولن نضرب في خواتيمنا حروفاً عربية, ولن نتاجر بالمسكرات, ونحلق مقادم رؤوسنا, ولن نعرض كتبنا ولا صلباننا في أماكن المسلمين .
- عدد الزيارات: 11191