محمد وأهل الكتاب في دولة المدينة
إن بلاغ محمد في المرحلة الأولى لنبوته يذكرنا بمنهج الوعاظ المسيحيين, فهو كان يعتبر نفسه من أقرب الناس من دين النصارى, مما يفسر بعثه بعدد من أصحابه إلى بلاد الحبشة (615) وهو تدليل على الرابطة الوثنية بينه وبين النصارى, يتكلم عن أحداث تهمّ أتباع هذا الدين مثل استشهاد النصارى في نجران (78:85) أو انتصار الروم على الفرس (5-2-30)
كان المسيحيون في المدينة أقلية ليست لها أهمية, بينما اليهود شكلوا جالية لها ثقلها. فحاول محمد كسب تأييدهم لأهدافه السياسية. لم يرد اليهود الاعتراف ببعثته واتهموه أنه ليس في مقدوره أن يحدثهم عما ورد في كتابهم دون أغلاط. عندما تيقن محمد أنه لا يمكن ربح اليهود إلى جانبه أعرض عنهم وبدأ من الآن فصاعداً بتطوير ما أتى به من تعاليم.
فيما يتعلق بعلاقة محمد مع المسيحيين فإنها امتازت لمدة طويلة بالإعجاب والمسامحة. لم يكن عدد المسيحيين مما يُعتد به ولم يشكلوا خطراً للإسلام. بالرغم من آيات قرآنية يهاجم فيها النصارى واليهود معاً, غير أن الصراع الدائر بين المسلمين والنصارى لم يكن حاداً إلى درجة يستحيل معها التعايش السلمي بين أتباع الديانتين. ولذا ليس من المستغرب أن يقول القرآن حتى في سورته الأخيرة: ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا, ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى, ذلك بأنهم منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون (المائدة 82).
غير أن محمداً تحت ضغط الأحداث السياسية غيَّر نهجه السلمي تجاه المسيحيين وتمكن في أيامه الأخيرة من السيطرة الكاملة على شبه الجزيرة. حسب رأيه لم يكن لتوجد في شبه الجزيرة ديانة أخرى إلى جانب الإسلام. بعد القضاء على اليهود كان على الأمة بذل الجهد لمنع النصارى من النشاط التبشيري أياً كان نوعه, واتخاذ تدابير لكيلا يضروا بوحدة المسلمين. إن غزوة ضد نصارى شمال شبه الجزيرة سنة 629 منيت بهزيمة شككت محمداً في ما يجب عمله. فإننا نراه من الآن حاد الأسلوب بل مهدداً. أخيراً جاء الأمر: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله وباليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون (التوبة 31). لكي يحقق أهدافه ويبين صرامته في هذا الأمر قام محمد نفسه بغزوة ظافرة ضد نصارى الشمال, واستولى على وادي تبوك ودومة الجندل.
إن تعامل محمد وتقريراته وأقواله وأحكامه التي تفوَّه بها بشأن الأمة الإسلامية في المدينة ونهج خلفائها هي الأساس الأهم لما قام به الفقهاء على مر الأيام من اجتهادات. إن تعامله مع المشركين واليهود والنصارى كان خاضعاً لظروف سياسية, وتغير إن جاز القول حسب هواه أو مزاجه آنذاك. فلهذا السبب يتعذر علينا أن نستنتج من تلك المعاملات المسجلة قواعد أساسية.
- عدد الزيارات: 10090