Skip to main content

دار الحرب ودار الإسلام

تامر باجن أوغلو

قبل أن أبدأ بمعالجة موضوعي أحب أن أوضح أنني أتناول هنا مكانة أهل الذمة في الفقه الإسلامي بمصادرها الأربعة من جهة, وظواهر تطبيق تلك القواعد والمبادئ الواردة في تلك المصادر على ساحة الواقع من جهة أخرى. علينا ألا ننسى أن ما نشاهده على ساحة الواقع قد يكون مختلفاً كل الاختلاف عما تنص عليه مصادر الإسلام, وذلك تارة لصالح أهل الذمة وأخرى بالعكس.

عندما أَستعمل كلمة الشريعة أقصد بها مصادر الفقه الإسلامي, أي القرآن والسنّة والإجماع والقياس. بعبارة أخرى ما ورد في مصادر الفقه في القضايا الحقوقية مما أورده الفقهاء في ضوء تلك المصادر. فإذاً سأحاول أن أبيّن لكم وضع أهل الذمة في الفقه الإسلامي والشريعة الإسلامية كموضوع قانوني بحت.

إذا خطر على بال أحدكم السؤال عن نفع وغرض هذا الموضوع, فيجيب عنه الأستاذ عبد الكريم زيدان في مقدمة مؤلفه أحكام الذميين والمستأمنين قائلاً: فإن الشريعة الإسلامية إذا كانت بالنسبة للمسلمين ديناً وقانوناً, فهي بالنسبة لغير المسلمين قانون ما داموا يعيشون في دار الإسلام, فمن الخير لهؤلاء أن يحيطوا بهذه الأحكام فيعرفوا هذا الجانب من جوانب التشريع الإسلامي . فلدينا مصطلح آخر: دار الإسلام. ولكي نستطيع أن نوضح الأمور يترتب علينا تفسير عدد من المصطلحات الأساسية التي تساعدنا في فهم الإسلام كعقيدة جامعة لها وجهات نظر خاصة بها. إن تلك المصطلحات التي لها أهمية كبرى ونحن بصدد حقوق أهل الذمة: دار الإسلام ودار الحرب وساكنوها, والأمان أو العهد, والجهاد.

دار الحرب ودار الإسلام

يقول القرآن: فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين. وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين (الجاثية 30 , 31).

إن النظرية الإسلامية الكلاسيكية للنظم الإجتماعية (أمثال الشافعي) تقسم العالم لقسمين. دار الإسلام ودار غير المسلمين والتي تسمَّى حسب الظروف بدار الحرب. أما وقت السلم الذي تحدد شروطه من خلال عهد تسمَّى بدار العهد أو دار الصلح.


أولاً: دار الإسلام:

كل بلد يعتنق أهله الإسلام ويتبع شرعه, يعتبر دار الإسلام. أما الأمور الفرعية التي تجعل بلداً ما دار الإسلام فليس هناك اتفاق بين الفقهاء. فيقول عبد القاهر البغدادي إن بلداً يؤمن أهله بالإسلام ويطبق أوامره ونواهيه يعود لدار الإسلام. والشرط الثاني عند البغدادي هو أن يشكّل المسلمون فيه الأكثرية الساحقة من سكان البلد, مما يعني أن الباقين تابعون لحكم الأكثرية. أما غير المسلمين فيحتمون بحماية الدولة التي نسميها الذمة . وهناك فقهاء آخرون يرون أنه يكفي أن يكون بوسع المسلمين القيام بواجباتهم الدينية لتسمية البلد دار الإسلام. إذا تمكن المسلمون من القيام بصلاة الجمعة بحريّة يُعتبر معياراً لكون البلد دار الإسلام أو دار الحرب. يقول الأحناف إن اعتبار أرض دار الإسلام ينتهي عند وقوع واحد من الأحوال التالية:

1- سيطرة التشريع الغير الإسلامي. عدم معاقبة الجرائم مثل الزنى والربا وشرب المسكرات.

2- تواجد بلد غير إسلامي حائل بين بلدين إسلاميين.

3- منع المسلمين من الإقامة فيه أو عدم إعطائهم الأمان.

غير أنه إذا رأى المسلمون أنه لم تحدث الحالات الوارد ذكرها في كتب الأحناف, وأنه بإمكان المسلمين القيام بواجباتهم الدينية بكل حرية, فالبلد يُعتبر دار الإسلام عندئذ, وإن لم يُطبَّق فيه شرع الإسلام.

هذا يعني أن المقياس في وصف أرض بدار الإسلام أو دار الحرب هو الشرع الإسلامي. فإن كانت الشريعة الإسلامية تُتبع وتُطبق من الدولة أو سكانها المسلمين بحرية, فالأرض إذاً دار الإسلام نظرياً. إلا أن بعض الفقهاء يقولون إنه من الضروري أن يكون وليُّ الأمر مسلماً. ذهب البعض إلى أن الأرض تُسمى دار الإسلام إن كان القاضي مسلماً, أو تم انتخابه من قِبل المسلمين, وإن كان بمستطاع المسلم القيام بواجباته الدينية. هذا ما وصل إليه الفقهاء في الهند تحت الحكم البريطاني.

يقول الإمام القاساني: سمّى أبو حنيفة موضعاً دار الإسلام حيث يجرى الناس على الشرع الإسلامي في معظم أحوالهم. أما بلاد الأعداء فهو يقدم بشأنها أحكاماً واضحة. إن بلداً لم يأمن فيه المسلم يعتبر دار الأعداء أو دار الحرب, ولو كان المسلمون يشكلون أغلبية سكانه.


دار الحرب:

وهي الأرض التي لا سلطان للمسلمين عليها, وفي هذا تقول الزيدية: وأعلم أن دار الحرب هي الدار التي شَوْكتها لأهل الكفر والذمة من المسلمين عليهم. وعند بعض الفقهاء: هي الدار التي تجري عليها أحكام الإسلام, ولا يأمن من فيها بأمان المسلمين. أو هي الدار التي لا سلطان علينا ولا نفوذ لأحكامه فيها بقوة الإسلام ومنعته, وأهل دار الحرب هو الحربيون. والحربي لا عصمة له في نفسه ولا في ماله بالنسبة لأهل دار الإسلام. لأن العصمة في الشريعة الإسلامية تكون بأحد الأمرين: الإيمان أو الأمان, وليس للحربي واحد منهما.

الأمان والجهاد:

الجهاد في الفقه الإسلامي فرض على الكفاية, أو فرض الكفاية الذي يُرفع عند قيام بعض المسلمين به عن الجميع. والجهاد تجب تأديته كل سنة مما يعني وجود حالة الحرب الدائمة بين دار الإسلام ودار الحرب التي يجوز إيقافها بمهادنة تستمر عشر سنوات على أعلى تقدير. غير أن مهادنة مثل هذه يجوز عقدها فقط إن كان المسلمون أقلية, أو غير قادرين على تذليل الأعداء, أو بحاجة إلى وقت لإعداد قوى ضاربة, أو إذا اقتضت ذلك مصلحة من مصالح المسلمين.

فالأمان إذاً باب من أبواب الجهاد, وأصله قول القرآن: وإن أحد من المشركين استجارك فأجِرْه حتى يسمع كلام الله, ثم ابلغه مأمنه ذلك بأنهم لا يعلمون (التوبة 6). أما شروط الأمان فهي: أن يكون المسلمون ضعافاً والأعداء أقوياء وذلك لكون قتال الأعداء فرضاً. بينما يحوي الأمان على تحريم القتال. ويقول الغزالي تحت باب الكف عن القتل والقتال بالأمان : إن الأمان خدعة من خدع الحرب (الوسيط). مما يفسر سبب معالجة هذا البحث عادة في كتاب الجهاد أو السير عند الفقهاء. وإن كان الأمان انقطاع الجهاد فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: من الذي يقرر إذا ما وجدت مصلحة فوجب إعطاء الأمان, أو كما يقول الفقهاء أمان من يجوز, .

الجواب: كل مسلم بل أدناهم بمقدوره إعطاء الأمان. هناك خلاف بين الفقهاء حول عدد أهل الحرب الذين يمكن أن يمنح لهم الأمان من قبل مسلم أو مسلمين. يجوز للمسلم إعطاء الأمان فقط بإذن أمير الجهاد أو الإمام عند الشيعة. أما إعطاء الأمان فيتم إما قولاً أو تحريرياً أو إشارة توهم القصد. بينما على الحربي أن يظهر موافقته على ذلك. والعبارات التي يمكن اللفظ بها هي مثل: لا تخف, أو لا سبيل عليك, أو لا بأس عليك, أو آمنتك, أو أجرتك أو أنت آمن, أو أنت في أمان, أو أنت في ذمة الإسلام, أو تعال. كما يجوز استعمال لغات أجنبية مثل الفارسية أو اليونانية أو النبطية مثل: مترس (لا تخف) أو رومترس: اذهب دون أن تخاف, أو بuُزْمترس: اطلب النعمة ولا تخف!

إذا قيل افتحوا الباب وأنتم آمنون فالأمان يدخل مع فتح الباب في حيز التنفيذ. أما إذا قيل افتحوا الباب فأنتم آمنون, فالأمان ساري المفعول قبل فتح الباب. أما ما يتعلق بمنح الأمان بالإشارة فالمقصود هو تحريك اليد مما يوميء قبول أو تبني المرء في المأمن.

لا يجوز أن يستغرق الأمان أكثر من سنة. إن غير المسلم الذي يريد الإقامة في دار الإسلام أكثر (أطول من سنة) عليه دفع الضرائب القائمة لغير المسلمين المقيمين في دار الإسلام. ويعتبر مع الوقت من أهل الذمة. مدة الأمان قد تستغرق عشر سنوات عند الحنابلة, وهي بنفس الوقت أقصى مدة لانقطاع الجهاد أو عقد المهادنة.

يُرفع الأمان إما لدى انقضاء مهلته, أو مغادرة دار الإسلام. وللإمام أو خليفته أن ينهي الأمان في أي وقت إذا تبين من نوايا سيئة عند المستأمَن, أو إذا رأى أن إقامته في دار الإسلام تشكل خطراً لمصالح المسلمين. انقضاء مهلة الأمان تأتي من ورائه نتائج فقهية. فإذا غادر المستأمَن دار الإسلام تاركاً فيها أموالاً أو عقاراً, فلا يحق لورثته الانتفاع بها. لأن التركة تصادرها الدولة الإسلامية. وحق التوارث يبقى قائماً إذا مات المستأمَن في دار الإسلام, مما يعني إضفاء الضمان على أمواله أيضاً.

أما الذي يدخل دار الإسلام بدون أمان فلا يتمتع بحماية القانون أبداً. للمرء أن يقتله أو يستعبده أو يغتصب أمواله, لأن سلوك المسلم تجاه الأجنبي ليس بموضوع الفقه أبداً. فهو كما يقول الفقهاء مباح, ولا يمكن أن تزول إباحته إلا بالأمان الذي يجعل نفسه وأمواله حراماً على المسلمين. بينما يجوز قتل الأجنبي المسافر بدون أمان أو استعباده, وملكه فيء . وإن دخل الأجنبي دار الإسلام سهواً أو ضرورة مثل غرق سفينة (أو سقوط طائرة) فللحاكم الإسلامي أن يقرر بحقه ما يشاء. إن أراد يطلق سراحه أو يستعبده أو يعدمه.

بعد أن عالجنا القضايا المتعلقة بدار الإسلام والحرب والأمان, علينا أن نذكر شيئاً عن الجهاد بإيجاز قبل أن ندخل في موضوعنا الأساسي. فيمكن اعتبار الجهاد أهم نقطة نأخذها بعين الاعتبار في كل باب من أبواب بحثنا. إذ هو الذي يطبع طبيعة العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في الحرب والسلم.

والجهاد كما ذكرتُ سابقاً فرض كفاية على المسلمين كافة, وكاد أن يكون ركناً سادساً من أركان الدين, أو فرض عين. إن التطور التدريجي الذي نلاحظه في تقرير الجهاد كواجب يطلعنا على أن صاحب القرآن أبدى استعداده في البداية للتعايش السلمي يوم كان أتباعه ضعفاء, الأمر الذي أدى إلى نزول آيات (مكية) يدعو محمد أصحابه فيها إلى الصبر على العدوان. ولكن الأمر تغيّر عندما استولى محمد في المدينة على نفوذ وتمكن من جمع القبائل حوله, فنزلت أولاً الرخصة لردّ العدوان, تلتها الآية الآمرة بقتال المشركين من أهل مكة (أي أعداء محمد) وإخضاعهم.

إن الجهاد شأنه شأن معظم القضايا الفقهية فكرة تطورت على مدى الأجيال. وما نقوله هنا عنه هو ما ذهب إليه الفقهاء ابتداءً من الفتوح الإسلامية, فقالوا إن الجهاد فرض كفاية على كل مسلم حر بالغ صحيح العقل والجسم - أي كل مسلم توفرت له أسباب بلوغ جيش المجاهدين. على المسلمين مواصلة الجهاد إلى أن يدخل الناس كافة في حكم الإسلام, ويكون الدين كله لله (البقرة 193). ومن الضروري أن يتولى الجهاد أو يقوم عليه حاكم مسلم أو إمام, ولما كان امام الشيعة مستتراً فلا جهاد لهم حتى يظهر. هذا يفسر لماذا سمّى إيران الحرب التي قام بها ضد العراق بالحرب المفروضة (الحرب المحملة) وليست جهاداً. فحربهم حرب دفاع فقط سواء كانت ضد العراق أو الولايات المتحدة. إن الخميني هو الوحيد الذي تجرأ على تسمية الكفاح المسلح الذي قام به الشعب الإيراني ضد حكم الشاه جهاداً. هذه كانت أحدوثة بالنسبة للفقه الشيعي.

إن شرط الجهاد يتم أداؤه إذا قام الإمام بغزوة مرة كل عام. والبعض يقول يكفي لتوفر شرط الجهاد أن يهيئ الإمام جيش الإسلام لقتال أعداء الإسلام. ومن الضروري إعلام العدو بأن جيش الإسلام يقصد قتالهم. فيدعون إلى اعتناق الإسلام, فإذا أبوا فهم مخيَّرون بين القتال وبين الدخول في حكم الإسلام وهم صاغرون (التوبة 29). فيؤدون الجزية والخراج ويؤمنون على حياتهم وذويهم وأموالهم, ولكنهم يكونون دون المسلمين مرتبة.

والأمة يجب عليها القيام بالجهاد ضد الفرق التالية حسب الأولوية:

1- ضد المرتدين أو أهل الردة.

2- ضد العصاة (أو البغاة).

3- ضد المشركين.

4- ضد أهل الكتاب.

  • عدد الزيارات: 26395