Skip to main content

حقيقة وإثبات تعليم الثالوث الأقدس

في حقيقة وإثبات تعليم الثالوث الأقدس
في الوحدة الإلهية

قبل أن نبدأ بهذا الفصل يجب على حضرات القراء المحترمين أن يفهموا كل الفهم أن الإيمان بالوحدة الإلهية هو أساس المسيحية وإن كنا قد بينا ذلك قبلاً ولكنا نذكره ثانياً لنلفت إليه أنظار إخواننا المسلمين الذين دائماً وأبداً ينسون هذه الحقيقة المهمة بل ويسيئون فهمها أيضاً. إننا معشر المسيحيين نؤمن كما يؤمن المسلمون بإله واحد قادر على كل شيء خالق السموات والأرض وجميع ما يُرى وما لا يُرى ونؤمن بذلك يقيناً لأن العهدين القديم والجديد يعلمانا إياه صريحاً ولنذكر هنا بعض الآيات إثباتاً لذلك:
إن ناموس موسى يعلمنا وحدة الله في قوله "اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد" (تثنية 6: 4) وقال الله في نبوة (أشعياء 45: 5) "أنا الرب وليس آخر لا إله سواي" (اقرأ عدد 14و18و21و22وص42: 8) وقد ذكر المسيح الآية الأولى في إنجيل (مرقس 12: 29و30) عندما سألوه قائلين "أية وصية هي أول الكل؟" فأجاب المسيح قائلاً "أن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك" ومكتوب في العهد الجديد أيضاً "نعلم أن ليس إله آخر إلا واحداً" (1كورنثوس 8: 4) وفي (أفسس 4: 6) يقول "إله وآب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم" هذا قليل من كثير من الآيات التي تظهر أن لا أساس ولا صحة في دعوى الشرك التي يرموننا بها واعتقادهم في أننا مشركون افتراء محض ناشئ عن عدم معرفة الكتاب المقدس وإننا نصرح على رؤوس الملأ أن الإنسان لا يمكن أن يكون مسيحياً ما لم يؤمن أن الله واحد لا إله سواه.
إن ما بيناه الآن هو تعليم الكتاب المقدس المختص بذات الله العلية ولكن هذا ليس كل التعليم الذي أرسله الله لبني البشر عن يد أنبيائه ورسله ولا يمكن للمؤمن الحقيقي أن يقبل جزءاً من التعليم دون باقيه ومن فعل ذلك فهو في ضلال مبين وليس من عبيد الله الأمناء- إن الله كما أنه أعلن لنا وحدته في الكتاب المقدس، أعلن لنا أيضاً ذاته المقدسة في نفس الكتاب في ثلاثة أقانيم وسمى لنا هذه الثلاثة الأقانيم –الآب والابن والروح القدس. والكتاب المقدس أطلق اسم "الله" على الثالوث الأقدس فقال "الله روح" ومعنى ذلك أن الله روح مطلق وكذلك قوله "الله محبة" (يوحنا 4: 24 و1يوحنا 4: 8و16) ولكنه أعطى أحد الأقانيم اسم "الآب" كما قال يسوع "الآب يحب الابن" (يوحنا 3: 35) وقوله "الآب الذي أرسلني" (يوحنا 5: 30) وأعطى أقنوماً آخر اسم "الابن" أو "ابن الله" وهذا اللقب أُعطي لكلمة الله ومعنى هذا أنه الحكمة الأبدية التي أعلن الله بواسطتها ذاته الخفية الغير منظورة ويقول العهد الجديد في (العبرانيين 1: 3) عن الابن "وهو بهاء مجده ورسم جوهره" لذا فيمكنا أن نقول أنه هو تجلي الذات الإلهية أو المظهر الإلهي أو معلن الآب. أما الروح القدس فليس هو الملاك جبرائيل أو أي مخلوق آخر كما يتوهم إخواننا المسلمون وإنما هو ذلك الروح الذي ينير ويقوي ضمائر وأرواح البشر وبواسطته يؤثر الله سبحانه وتعالى على الإنسان لعمل الخير وينقي ويطهر قلوب وحياة عبيده الأمناء. فالمسيحيون يعتبرون الله خالق جميع المخلوقات ومانح الحسنات والبركات ويعبدونه ويؤمنون أن الآب يمنح كل نعمة وكل حسنة بواسطة ابنه الوحيد كما يعلمنا الكتاب فالله لم يخلق العالم بواسطة ابنه ولم يحفظه ويعتن به فقط ولكن يخلص بواسطته عبيده من الخطية والهلاك الأبدي ويعطيهم خلاصاً أبدياً وسعادة حقة في دار الخلود وبواسطة الروح القدس يغير الله عقولهم ويطهرهم ويقودهم إلى معرفة الحقيقة والإيمان بالرب يسوع المسيح ويقدرهم على عمل الخير وهذا التعليم يسمونه المسيحيون تعليم الثالوث الأقدس. وإن لم تُذكر لفظة "الثالوث" في الكتاب المقدس، لكن هذا التعليم واضح بدون أدنى شك ومع أن المسيحيين قد تعلموا بواسطة إعلان الله لشعبة في الكتاب المقدس أنه يوجد بين الآب والابن والروح القدس فرقاً في أعمالهم إنما هذا الفرق هو في الأعمال الفدائية فقط لأنهم تعلموا أيضاً أن هذه الثلاثة الأقانيم ليست بثلاثة ذوات. ولا توجد إلا ذات إلهية واحدة وإله واحد كما أثبتنا ذلك من كلا العهدين القديم والجديد والقول بوجود ثلاثة آلهة إنما هو كفر وتجديف وتعاليم كهذه تناقض الكتاب المقدس ويمقتها المسيحيون.


إن كل عاقل متعلم يعرف جيد المعرفة أن الذات الإلهية غير محدودة وأن ذات الإنسان محدودة. إذاً فعقل الإنسان أصغر من أن يدرك أسرار الله العميقة الفهم- ولو لم تكن هذه المعرفة ضرورية لنا لما أعلن الله لنا نفسه في ثلاثة أقانيم ولو حاولنا أن ندرك هذا التعليم الذي أعطانا إياه الله فهذا يعتبر من قبيل التصلف والغطرسة فلنحاذر من أن نرفض شيئاً لم يستطع عقلنا إدراكه وأيضاً أن لا نقبل شيئاً لم يعلمنا إياه الله في كتابه الكريم. إن إخواننا المسلمين يؤمنون معنا بوجود الله القدير مسبب الأسباب الغير المحدود المنزه الأزلي والأبدي ولكننا عاجزين عن أن نتصور أمامنا نهاية سلسلة هذه السبيبة أو ندرك معنى أبدي وأزلي ولكن هذا لا يمنعنا من أن نؤمن بالله بكل قلوبنا وعلى هذا المثال نؤمن نحن المسيحيين بتعليم الثالوث لأن الله أعلنه لنا في كتابه "كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم" (2تيموثاوس 3: 16). وهذا التعليم يرشدنا إلى طريق الخلاص بواسطة يسوع المسيح ويجعلنا نعرف كيف نوفق بين ما يعلمه لنا الكتاب وما يعلمه لنا روح الله القدوس فيما يختص بوحدة الذات الإلهية. ولو لم يكن الله قد أعلن لنا هذا التعليم لما أمكن الإنسان أن يعرفه بنفسه كما أنه لا يمكنه أبداً أن يعرف من تلقاء نفسه بقيامة الأموات والحياة بعد الموت ولكن العقل يعلمنا أن الله الحق يعلمنا ما هو حق وسنبين الآن البراهين المثبتة لتعليم الثالوث الأقدس في الوحدة الإلهية كما جاء في الكتاب المقدس على النمط الآتي بيانه:
أولاً- أن الآب والابن والروح القدس واحد وأنهم إله واحد.
ثانياً- أن كلا من هذه الأقانيم الثلاثة له خاصية في عمل الفداء لا يشترك الآخر فيها.
ثالثاً- أنه لو فُصلت هذه الثلاثة عن بعضها (وذلك من المحال) لم يعبر أحدها وحده عن الله.
رابعاً- أن كل أقنوم باتحاده مع الأقنومين الآخرين اتحاداً أزلياً وأبدياً غير منفصل هو الله.
خامساً- أن كل أقنوم إلهي هو من ذات ومقام الأقنومين الآخرين.
سادساً- أن الكتاب المقدس قد أعطى الأقنوم الأول لقب الآب والخالق وأعطى للأقنوم الثاني لقب كلمة الله وابن الله والفادي وأعطى للأقنوم الثالث لقب المقدس والمعزي ويجب أن تفهم أن كلها أسماء فدائية.
سابعاً- أنه بما أن الثلاثة الأقانيم واحد في ذاتها فهي واحد في مشيئتها وغرضها وقوتها وأبديتها وفي سائر صفاتها.
ثامناً- أنه وإن كنا نجد في الكتاب المقدس ما يُفهم منه حسب الظاهر أن الآب أعظم من الابن فذلك من جهة ناسوت الابن لا غير أما الآب والابن واحد في الذات.
ويمكنا أن نعبر عن تعليم التثليث في الوحدة الإلهية بما يأتي "لا إله إلا الله الحي الحق الأزلي الأبدي بلا جسد ولا أجزاء ذو قدرة وحكمة وقداسة غير متناهية وهو خالق كل شيء وحافظ كل شيء منظور وغير منظور. وفي وحدة هذا الإله ثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس والثلاثة واحد في الذات والقدرة والأزلية. آمين."
والآن بعد أن رأينا أن تعليم الوحدة قد ذُكر في العهدين القديم والجديد، وجب علينا أن نثبت أن وجود الثلاثة الأقانيم في الوحدة الإلهية قد أُعلن أيضاً في الكتاب المقدس.
أن المسيح نفسه قد أظهر ذلك وعلم أن تعليم الثالوث الأقدس فرض واجب على كل مسيحي أن يعتقد به لأنه قبل صعوده قال لتلاميذه عندما أرسلهم ليبشروا بالإنجيل في جميع أنحاء العالم "دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى 28: 18و19) وهنا يعلمنا المسيح أن الأقانيم ثلاثة ولكنهم واحد-هم ثلاثة ولكنهم متحدون في الوحدة الإلهية وفي هذا المقام يظهر تعليم الثالوث جلياً لأنه من المستحيل أن نتصور أن الابن والروح القدس مشتركان مع الآب في اسم الله العلي العظيم مع وجود تفاوت بينهم وقد بينا في الفصل الأول من هذا الكتاب أن العهدين القديم والجديد قد شهدا بألوهية المسيح كلمة الله ولنترك شهادة ألوهية الآب إذ لا حاجة بنا إليها لأنها ليست موضوع شك ولأن كل صفحة من صفحات الكتاب المقدس تشهد له كما وأن هذا الكون يشهد له والآن سنبين أن الكتاب المقدس شهد أيضاً بألوهية الروح القدس وهنا يجب أن نعلم أن الروح القدس مساو للآب والابن في ذاتهما ومقامهما وقد ذكر المسيح في بعض الآيات أن الروح القدس متحد به وبأبيه اتحاداً تاماً في (يوحنا 15: 26) "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي" هنا يشهد المسيح أن المعزي متحد به وبأبيه الله في مشيئتهما وغرضهما لذا فهو من ذات الابن والآب وقد ذكرت الثلاثة الأقانيم معاً في آيات كثيرة نكتفي بواحدة منها وهذه الآية تثبت أن الحواريين أطاعوا المسيح وعمدوا الناس باسم الثلاثة الأقانيم الذين هم ذات واحدة إذ قال الرسول بولس في أخر إحدى رسائله "نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم" (2كورنثوس 13: 14). ولو لم يتعلم المسيحيون الذين وُجهت إليهم هذه الصلاة تعليم الثالوث الأقدس قبل عمادهم وعلموا جيداً أن هذا التعليم هو جوهر الإيمان المسيحي لصعُب جداً عليهم فهمها. وإذ قد أثبتنا ألوهية ابن الله في الفصل الأول كما ذكرنا نبتدئ الآن في إثبات ألوهية الروح القدس إثباتاً صريحاً مما جاء في الكتاب المقدس- يعلمنا الكتاب المقدس ألوهية الروح القدس في طريقتين: (أولاً) بأن ينسب له صفات وأعمالً إلهية (ثانياً) بأن يتكلم عنه كأنه الله.
ففي التوراة قال النبي موسى بإلهام الله مبينا كيف خلق الله العالم "في البدء خلق الله السموات والأرض وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه" (تكوين 1: 1-2) وهنا يعلمنا الكتاب المقدس أن الروح القدس ليس بكائن قبل خلق العالم فقط بل كان يرف على وجه المياه عند خلق الأرض، لذا فهو مشترك مع الله في خلق العالم ولكنا نعلم أن خلق الخليقة عمل الله لا سواه إذاً فيكون للروح القدس الذي اشترك في خلق الخليقة ألوهية الله التي أيضاً للمسيح كلمة الله الذي "به كل شيء كان".


انه توجد آيات كثيرة في العهد القديم تشير إلى الروح القدس ولكنها قليلة جداً بمقارنتها مع ما جاء في العهد الجديد من الآيات المختصة بهذا الموضوع ويجب هنا أن نلاحظ أن إعلان الله نفسه كان تدريجياً فالآخر منها هو الأتم ويصعب علينا أن نذكر كل الآيات التي تتكلم عن ذات وصفات وعمل الروح القدس ولذا نكتفي بالقليل المشهور منها وقد أشار الله في (1كورنثوس 12: 4-11) عن المواهب المعطاة لشعبه فقال "فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد وأنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل ولكنه لكل واحد يعطى إظهار الروح للمنفعة فإنه لواحد يعطي بالروح كلام حكمة ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد ولآخر إيمان بالروح الواحد ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد ولآخر عمل قوات ولآخر نبوة ولآخر تمييز الأرواح ولآخر أنواع ألسنة ولآخر ترجمة ألسنة. ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء."
من هذا نفهم أن النبوات وعمل المعجزات هي بواسطة حلول الروح القدس إذاً فلابد أن يكون الروح القدس له صفات الألوهية. وأيضاً نقرأ في نفس الرسالة "ما لم تر عين ولم تسمع إذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه فأعلنه الله لنا نحن بروحه لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله لأن مَن من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟ هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله" (1كورنثوس 2: 9-11)ومن هنا نتعلم أيضاً أن الروح القدس هو علام الغيوب وهذه الصفة صفة العلم بالغيب صفة إلهية لا تكون في مخلوق أبداً وقد دعا المسيح الروح القدس باركليت أن معزياً ومعيناً لأنه يرشد أبناء الله إلى الحق ويقودهم إلى سواء السبيل.
وقد أعطي للروح القدس لقب الله أيضاً فقد قال الرسول بطرس لحنانيا الذي كان قد باع ملكاً واختلس من الثمن مدعياً أنه مكرس لخدمة الله "يا حنانيا لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس وتختلس من ثمن الحقل؟ أليس وهو باق كان يبقى لك ولما بيع ألم يكن في سلطانك؟ فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر؟ أنت لم تكذب على الناس بل على الله" (أعمال 5: 3-4). وهنا يظهر لنا بطرس صريحاً ألوهية الروح القدس.
يقول الكتاب المقدس أيضاً "أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم. إن كان أحد يفسد هيكل الله فيفسده الله لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو" (1كورنثوس 3: 16-17). وهنا يذكرنا الرسول أن الروح القدس يسكن في قلوب المسيحيين الحقيقيين ويملك عليها ويطهرها من كل خطية وشر جاعلاً أيضاً أجسادهم طاهرة مقدسة منقذاً إياهم حتى لا تتنجس أنفسهم وتهلك بسبب الخطية لأنها هياكل الله وسيقع العقاب المخيف على كل من ينجس قلبه وجسده الذي هو هيكل لله ولكن من جهة أخرى لا يمكن أن تكون هياكلنا طاهرة إلا عند حلول الله فيها لأن هيكل سليمان الفاخر العظيم الذي بناه في أورشليم لم يعتبر هيكلاً إلا بعد أن حل الله بعظمته فيه. وإذا لم يكن روح الله إلهياً لما أمكن لحلوله أن يحول قلب التقي هيكلاً لله كما تقول الآية التي نحن بصددها فنتيجة الكلام حينئذ أن الروح القدس هو الله.
إن إخواننا المسلمين يفرقون بين "روح الله" و"الروح القدس" فيقولون أن روح الله هي لقب من ألقاب المسيح أما الروح القدس فهو الملاك جبرائيل ولكن أولئك الذين لهم معرفة بالكتاب المقدس يعرفون أن ذلك خطأ مبين فلم يذكر المسيح أبداً في الكتاب المقدس أنه روح الله ولكن اللقبان "روح الله" و"الروح القدس" خاصان بالأقنوم الثالث. ولنذكر هنا بعض شواهد الكتاب إيماء لذلك ففي (المزامير 51: 11) مكتوب "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني" وفي (أفسس 4: 30) "لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء" ففي الآية الأولى يطلب داود من الله خلاصه من الخطية ونجاته منها بواسطة قوة الروح القدس وفي الآية الثانية يحذر الرسول المسيحيين أن لا يحزنوا روح الله القدوس الذي به ختموا كورثة للخلاص وكلا الروحين فيهما القوة المقدسة ويستنتج من ذلك أن الروح القدس وروح الله واحد في المعنى وفي الذات.
ويفهم مما ذكرناه من الآيات أن الآب والابن والروح القدس ليسوا ثلاثة أسماء للوحدة الإلهية بل للدلالة على وجوب التمييز بين كل أقنوم وآخر أعني أن أقنوم الآب هو غير أقنوم الابن وأقنوم الآب أو الابن هو غير أقنوم الروح القدس. وفي الشواهد العديدة التي اقتبسناها من الكتاب تسمى الآب- الله- والابن –الله- والروح القدس- الله- لأن الوحدة بين الثلاثة في الجوهر لا تنفصم- فلم يقل المسيح قط أنه بدون الآب بل كان بالحري يشير دائماً إلى وحدته مع الآب كما في (يوحنا 10: 30) "أنا والآب واحد" وقال في يوحنا 14: 11 "صدقوني أني في الآب والآب فيّ" وقال في يوحنا 17: 10 "وكل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي" وقد تكلم المسيح أيضاً عن الروح القدس فقال انه مع الآب والابن الكل واحد في المشيئة والإرادة كما قال في (يوحنا 16: 13-15) "وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم. كل ما للآب هو لي لهذا قلت أنه يأخذ مما لي ويخبركم بعد قليل لا تبصرونني ثم بعد قليل أيضاً تروني لأني ذاهب إلى الآب" ( ) وبسبب هذه الوحدة الأزلية لهذه الذات الإلهية دعي الروح القدس روح الآب ودعي أيضاً روح الابن كما قال المسيح لتلاميذه "لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم" (متى 10: 20) وكتب الرسول قائلاً "بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب" (غلاطية ص4: 6).
وقد أُعطي الروح القدس هذين اللقبين معاً في آية واحدة كما جاء في رومية 8: 9 "وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح إن كان روح الله ساكناً فيكم. ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له."


وبمطالعة الكتاب المقدس يتضح لنا أن خلق العالم وفداء الجنس البشري وغفران الخطايا وقيامة الموتى والدينونة الرهيبة تارة تنسب للآب وتارة للابن وأحياناً أخرى للروح القدس بطريقة تثبت أن الثلاثة الأقانيم متحدون في الذات والمقام والقوة والمشيئة وهؤلاء الثلاثة هم الله الواحد لا إله إلا هو وقد بينا ذلك في آيات كثيرة ونأتي هنا بآيات أخرى حتى تكون الفائدة أعظم ففي نبوات أشعياء مكتوب "أنت يا رب أبونا ولينا (فادينا) منذ الأبد اسمك" (أشعياء 63: 16) وفي (لوقا 1: 68-69) "مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداء لشعبه وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه" وفي كولوسي 1: 12-14 "شاكرين الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته الذي لنا فيه الفداء بدمه غفران الخطايا" وفي (روميه 3: 21-26) "أما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس مشهوداً له من الناموس والأنبياء بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون لأنه لا فرق إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله لإظهار بره في الزمان الحاضر ليكون بارا ويبرر من هو من الإيمان بيسوع" وفي (1كورنثوس 6: 14) "والله قد أقام الرب وسيقيمنا نحن أيضاً بقوته" وفي (رؤيا 14: 6-7) "ثم رأيت ملاكاً آخر طائراً في وسط السماء معه بشارة أبدية ليبشر الساكنين على الأرض وكل أمه وقبيلة ولسان وشعب قائلاً بصوت عظيم خافوا الله وأعطوا مجداً لأنه قد جاءت ساعة دينونته" وفي (يوحنا 5: 21-23) "لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحي كذلك الابن أيضاً يحي من يشاء لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب".
من كل هذه الآيات المتشابهة نتعلم أن الله القدير الواحد يعلن نفسه ويجري عظيم أعماله بين خلقه كالحفظ والفداء والتجديد والدينونة والرحمة بواسطة الكلمة الأزلية الابن والروح القدس أيضا وكما أن الله ذات واحدة فله مشيئة واحدة أيضاً متفقة في سائر أعماله وأن الآب والابن والروح القدس هم الله الواحد القدير إله العدل والحكمة إله الخلاص والرحمة الذي له المجد والكرامة والملك والحمد إلى الأبد. آمين.
قد قلنا أن العهد القديم لا يوضح تعليم التثليث كما يوضحه لنا العهد الجديد وذلك يدل على أن إعلان الله نفسه كان تدريجياً على قدر طاقة الإنسان وإدراكه وأيضاً لأن الإسرائيليين عاشوا في الزمن القديم بين الوثنيين واستمروا زماناً طويلاً يميلون إلى عبادة الأصنام والاعتقاد بتعدد الآلهة. فلو كان الله أعلن لهم تعليم الثالوث الأقدس قديماً قبل مجيء المسيح لأساءوا الفهم وعبدوا ثلاثة آلهة. فالله في حكمته الواسعة لم يعلن هذا التعليم صريحاً في العهد القديم غير أنه وجد شيء ليس بالقليل لا يمكن فهمه على حدة بدون تعليم العهد الجديد وقد ذكرنا في الباب الأول من هذا الكتاب جملة آيات من هذا العهد تثبت لنا ألوهية مسيا المنتظر ولكن توجد آيات أخرى أيضاً تظهر لنا تعدد الأقانيم في وحدة الذات الإلهية.
ومن بين هذه الآيات توجد آيات ذُكر فيها الضمير أو الفعل جمعاً مشيراً إلى الله سبحانه وتعالى ففي (تكوين 1: 26) يقول "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" ثم في عدد 27 يستعمل المفرد بدل الجمع فيقول "خلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه" وفي (تكوين 3: 22) قال الله لآدم بعد أن أكل من الشجرة المنهى عنها وعرف الشر من الخير "هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر" وقال أيضاً عند بناء برج بابل "هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم" (تكوين 11: 7) وهذا القول مشابه تمام المشابهة لأقوال المسيح إذ قال "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يوحنا 14: 23).
ومن أهم الآيات التي جاءت في العهد القديم عن ذلك السر العظيم سر الثالوث المقدس في وحدة الذات الإلهية ما يأتي:
(أولاً) الآيات التي فيها أمر الله موسى أن يكلم هرون وبنيه بالكلام الذي يجب عليهم أن يباركوا به بني إسرائيل "وكلم الرب موسى قائلاً كلم هرون وبنيه قائلاً هكذا تباركون بني إسرائيل قائلين لهم يباركك الرب ويحرسك
يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك
يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلاماً" (عدد 6: 22-26).
ربما يظن البعض أن تكرار اسم الله العظيم ثلاث مرات يُقصد به التأكيد ولكننا نرى من نور الإنجيل أن هذا يشير إلى تعليم الثالوث الأقدس وإن لم يكن برهاناً عليه.
(ثانياً) أنه توجد آيات مهمة جداً في نبوات أشعياء ولا يمكن أن تفسر تفسيرا كافيا إلا بمقارنتها بآيات العهد الجديد التي تتكلم عن تعليم الثالوث ففي (أشعياء 48: 12-13و16) يقول الله "اسمع لي يا يعقوب وإسرائيل الذي دعوته أنا هو أنا الأول وأنا الآخر ويدي أسست الأرض ويميني نشرت السموات. أنا أدعوهن فيقفن معاً… تقدموا إلي اسمعوا هذا لم أتكلم من البدء في الخفاء منذ وجوده أنا هناك والآن السيد الرب أرسلني وروحه" وهنا يقول الأول والآخر خالق السموات والأرض أن السيد الرب قد أرسله وروحه لقضاء مهمة إلهية معينة منذ البدء وهنا تظهر الأقانيم الثلاثة بأجلى بيان وجميع هذه الآيات تتفق تمام الاتفاق مع تعليم العهد الجديد إذ يقول فيه المسيح "أنا هو الأول والآخر والحي" (رؤيا 1: 17). ويعلمنا أن الآب أرسله ويرسل روحه القدوس ليحل في قلوب المسيحيين الحقيقيين ويرشدهم إلى معرفة الحق.
وفي العهد القديم آيات كثيرة تشير إلى تعليم الثالوث ولكنها لا تظهر أمامنا واضحة إلا بمطالعة العهد الجديد مُكمل العهد القديم وإن كان هذا التعليم غامضاً في العهد القديم إلا أنه يطلب من كل مؤمن بالله بالحق أن يقبل ما أعلنه في كتابه المقدس. والعهد الجديد هو نور يستضيء به الإنسان وبه يدرك ما أشكل عليه فهمه من العهد القديم إذ أن العهدين مكملان بعضهما بعضاً ولا يُستغنى عن أحدهما. فاليهود لا يمكنهم أبداً أن يفهموا أسرار العهد القديم الذي يؤمنون به ويجلونه ما داموا يرفضون الإنجيل وتعاليمه.
فكتاب العهد الجديد قد وضح تعليم الثالوث توضيحا ظاهرا وقد رأى الله علام الغيوب من حكمته الواسعة أن لا ضرورة لذكر أكثر من ذلك لإعلان نفسه للبشر وقد علمنا الله في هذا المقام كما في أمور أخرى كالحياة بعد الموت والقيامة من الأموات ما هو كافياً لإنجاز الواجب المفروض علينا لا اتباعاً لرغبتنا في المعرفة وفضوليتنا وحيث أن عقل الإنسان عاجز عن إدراك أسرار ذات الله الغير المحدودة فلا يمكن لأحد أن يقول أكثر مما أعلنه الله في كلامه. أما عقلنا فهو قادر فقط أن يرشدنا لنقبل ما هو حق وما أعلنه الإله الحق يرشدنا أن نعلم أن ليس إله إلا واحد وأن في الوحدة الإلهية ثلاثة أقانيم وهم الآب والابن والروح القدس. ولا تستحوذن علينا الغرابة إذ لم يمكنا أن نسبر هذه الأسرار لأن الله عليم يزن الأشياء بميزان العلم والمعرفة وهو نفسه لا يمكن أن يُعرف هو الحكيم ومن فرط حكمته المتناهية تظهر حكمة الإنسان كأنها نقطة في بحر أمام تلك الحكمة الواسعة وما إدراك الإنسان الروحي إلا ذرة من بهاء مجده الساطع الذي يفوق كل وصف.
وإن كنا نجد صعوبة في توضيح تعليم الثالوث توضيحاً تاماً ولكنا نؤمل بإرشاد روح الله أن نوضح ذلك في الفصل الثاني حتى يفهم أولئك الذين يفتشون عن الحق ذلك التعليم الذي أعلنه الله في كتابه والذي لا يناقض العقل أبداً وإن كنا لا نقدر على إدراكه لضعف عقولنا ولا نقدر أن نفهمه من تلقاء أنفسنا لو لم يعلنه الله لنا.

  • عدد الزيارات: 21499