Skip to main content

شهادة الحواريين

شهادة الرسل (الحواريين) للتعليم بألوهية "كلمة الله"

قبل أن نوضح ما قاله الحواريون عن ألوهية كلمة الله يستحسن أن نعرف ماذا عني المسيح بدعوة نفسه ابن الله وقد ذكر الرسل ذلك في كل رسائلهم ومما يجدر ذكره أن لقباً كهذا يمكن لغافل أو جاهل أو متعصب أن لا يفهمه قط ومما يساعد على سوء التفاهم هذا أن الوثنيين يعتقدون أن لآلهتهم جسماً هيولياً أي مخلوقاً من المادة تتسلط عليها ثورات الغضب والشر ولها زوجات وأطفال ولكن اليهود كما يعرف أهل العلم ليسوا كذلك ففي عصر المسيح لم يعبدوا الأوثان ولم يكونوا مشركين ولم تكن لهم آلهة ذات جسم هيولي مخلوق من المادة. إن تلاميذ المسيح كانوا قبلاً يهوداً خاضعين لناموس موسى وقد احترموا والمسيح أيضاً العهد القديم لأنه كلام الله فيصعب جداً لمتعلم عاقل أن يظن أن المسيحيين الأولين قبلوا إيماناً كفرياً يختص بالله أو فكراً أرضياً يختص ببنوة المسيح. إن المسيحيين في ذلك الزمن بل وفي جميع الأزمنة متفقون مع إخواننا المسلمين في ما يقولون أنه "بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة" (سورة الأنعام)- لم يقل المسيحيون أبداً أن المسيح "ولد الله" (والعياذ بالله من ذلك) بل قالوا أنه "ابن الله"- لأن قولهم أنه ابن الله أقرب للفهم من قولهم أنه "ولد الله" أن المسيح قد دعي ابناً لله في معنى كلمة الله وهذان اللقبان يظهران ذاته الإلهية ولكن لقب كلمة الله هو أفضل فلسفياً من لقب "ابن الله" غير أنه لا يعلمنا بوضوح شخصيته ولا يشير بوضوح عن المحبة التي وجدت منذ الأزل في أقانيم الوحدة الإلهية ولذا كان المسيح ورسله محقين في تفضيلهم لقب ابن الله عن غيره من الألقاب ويجب ألا نظن أنهم استعملوا ذلك اللقب في معناه الغير الحقيقي بقصد التعظيم والمغالاة. فعلاقة المسيح بأبيه السماوي هي علاقة حقيقية أعظم من علاقة الإنسان بأبيه الأرضي لأن الله الأعلى سرمدي أزلي وهو أعظم من الإنسان الترابي الفاني. وبما أن وجود الله هو سبب وجودنا كما أن حكمته وقوته هما المصدر الذي نستمد منه حكمتنا وقوتنا، فالأبوة الأرضية ما هي إلى ظل للأبوة السماوية والبنوة الأرضية ما هي إلا شعاع ضعيف أمام بنوة يسوع المسيح السماوية التي لا هي وقتية زائلة ولا هيولية فانية لأن الأمور الوقتية الهيولية في علاقة الآب بالابن ما هي إلى عرضية لا مطلقة. فيجب أن تمحى كل هذه الأفكار والتصورات عندما نتأمل في موضوع الذات الإلهية فهو الواحد الأبدي الغير متغير المنزه والغير محدود بزمان أو مكان.
إن المسيح يسوع لم يدع فقط ابن الله ولكنه دعي أيضاً ابن الله الوحيد لإظهار ما تفرد به عن باقي المخلوقات من المقام السامي والذات الإلهية وأن لا أحد معادل له من بني البشر (اقرأ يوحنا 1: 12 وغلاطية 3: 26 ورومية 8: 14-17).
إن كثيرين يصيرون أولاد الله بالتبني بواسطة الإيمان بوحيد الله الرب يسوع وبالولادة الروحية الجديدة بواسطة الروح القدس (اقرأ يوحنا 3: 3و5). ولكن ذلك لا يجعلهم معادلين للمسيح الذي كان منذ الأزل ابن الله وكلمته (اقرأ يوحنا 1: 1و2) وكما أن الابن الأرضي لا يخلقه أبوه بل يتخذ من أبيه طبيعته الإنسانية فهكذا أيضاً ابن الله الأزلي لم يخلقه الله لكنه أخذ من أبيه ذاته وصفاته الإلهية ولهذا السبب ندعو المسيح إلهاً وقد أُعطي له هذا اللقب في العهدين القديم والجديد وهو يعلمنا بنفسه أنه وأبوه واحد "وأنه في الآب والآب فيه" (يوحنا 14: 10 ومرقس 12: 29). وقد بينا ذلك صريحاً في ما ذكرناه من الآيات المختصة بهذا الأمر في الفصل الأول- والآن نأتي بشهادة الرسل التي وردت في رسائلهم إثباتاً لألوهية المسيح ولو أردنا أن نذكر ذلك تفصيلاً لكنا ننسخ العهد الجديد برمته تقريباً ولكننا نكتفي بذكر آيات قلائل لإظهار أدلتهم الصريحة التي توافق على خط مستقيم ما قاله المسيح عن نفسه.


(1) أن رسل المسيح (الحواريين) ينسبون إليه صفات إلهية لا ينسبوها لغيره من الناس. ففي إنجيل يوحنا قال البشير أن كلمة الله كان في البدء مع أبيه "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله" (يوحنا 1: 1و2). وفي (1يوحنا 1: 1-3) قال الرسول "الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة، فإن الحياة قد أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه ونخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح."
فواضح أن هذه الآيات تشتمل على ألقاب إلهية نسبت إلى يسوع المسيح وتبرهن لنا النقطة المهمة التي نحن بصددها الآن.
يقول أيضاً إنجيل يوحنا أن المسيح فيه حياة فقد قيل في ص1 عدد 4 "فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس" وقد شهد بطرس على أن المسيح هو المخلص الوحيد لبني آدم فقال في أعمال 4: 12 "وليس بأحد غيره الخلاص لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص."
يشهد كثيرون من الرسل أن المسيح عرف أفكار الناس ولا ينكر أحد أن هذه الصفة إلهية ولا يمكن أن تُنسب إلا لله عارف القلوب ولقد قال سليمان الملك في صلاته عند تدشين هيكل الله في أورشليم "لأنك وحدك قد عرفت قلوب كل بني البشر" ملوك الأول 8 عد39 ويقول الله في نبوة أرميا "أنا الرب فاحص القلب مختبر الكلى" (أرميا 17: 10) وقال بطرس في (أعمال 15: 8) "والله العارف القلوب شهد لهم" ويعني بذلك أنه بإعطاء الروح القدس للأمم المتجددين شهد الله لإخلاصهم وإيمانهم وكان الله يعلم ذلك يقيناً. وإنجيل متى إصحاح 9 يعلمنا أن اليهود فكروا في قلوبهم أن المسيح مُجدف لقوله للمفلوج الذي شفاه "ثق يا بني مغفورة لك خطاياك" ويقول الكتاب أيضاً "فعلم يسوع أفكارهم" وقد عرف أيضاً أفكار الإنسان المريض حيث أدرك أن المقصود ليس هو شفاء الجسد ولكن غفران خطيته وفي موضع آخر لما شفى المسيح المجنون والأعمى والأخرس وسمع الفريسيون بذلك أذاعوا بين الشعب أن "هذا لا يخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين فعلم يسوع أفكارهم" متى 12: 25 وقال لهم "كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب" وهنا يظهر جلياً صفة من صفات المسيح الإلهية.
كذلك نقرأ في إنجيل (يوحنا ص1: 45-51) لما كان نثنائيل مقبلاً نحو المسيح عرف طباعه قبل أن يقترب منه وقال عنه لتلاميذه "هوذا إسرائيلي حقاً لا غش فيه" فتعجب نثنائيل وقال له "من أين تعرفني" فأجاب المسيح وقال له "قبل أن دعاك فيلبس وأنت تحت التينة رأيتك" وكان هذا الكلام مشبعاً بالمعاني فقد كانت عادة الأتقياء من اليهود أن يذهبوا تحت شجرة التين ليتعبدوا لله بانفراد فكأن المسيح يقول لنثنائيل:
أن موضوع صلاتك كان خصوصياً ولم يكن معك أحد إلا الله إلا أن ذلك معلوم تمام العلم للرب يسوع.
فقال نثنائيل بعد ذلك "يا معلم أنت ابن الله أنت ملك إسرائيل" معترفاً به أنه المسيا المنتظر ولا غرو فإن معرفة المسيح لأفكاره وصلاة نثنائيل لله كانا سبباً في إيمانه بألوهية المسيح فقبل المسيح احترام نثنائيل له وصادق على إيمانه بقوله "هل آمنت لأني قلت لك أني رأيتك تحت التينة، سوف ترى أعظم من هذا".
ونقرأ أيضاً في إنجيل يوحنا أنه قبل أن يصلب المسيح بقليل قال له تلاميذه "الآن نعلم أنك عالم بكل شيء ولست تحتاج أن يسألك أحد، بهذا نؤمن أنك من الله خرجت." وقد شهدوا بذلك بعد أن سمعوا ما قاله المسيح جواباً على ما كانوا يفكرون به في قلوبهم واقتنعوا أنه عارف بما في القلوب وأنه جاء من الله. وشهد بطرس أيضاً بعد قيامة المسيح وهو من تلاميذه الأولين بقوله "يا رب أنت تعلم كل شيء أنت تعرف أني أحبك" (يوحنا 21: 17) وقد أيد المسيح هذه الأقوال بعد صعوده فقال "أني أنا هو الفاحص الكلى والقلوب" (رؤيا 2: 23).


(2) شهد الرسل (الحواريون) أيضاً أنه كان للمسيح سلطة إلهية مثال ذلك أن جميع الملائكة القديسين خاضعون لله دون سواه مع ذلك يقول يوحنا الرسول في الرؤيا ص 1: 1 "إعلان يسوع المسيح الذي أعطاه إياه الله ليرى عبيده ما لابد أن يكون عن قريب وبينه مرسلاً بيد ملاكه لعبده يوحنا" وهذا يتفق تمام الاتفاق مع ما قاله المسيح عن نفسه في متى 13: 41 "يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم."
وقد علمنا بطرس الرسول أن الرب يسوع المسيح سيدين العالم في اليوم الأخير بقوله في أعمال الرسل 10: 42 "وأوصانا أن نكرز للشعب ونشهد بأن هذا هو المعين من الله دياناً للأحياء والأموات" وهذا يتفق مع ما قاله المسيح عن نفسه مراراً وتكراراً كما قال في إنجيل (متى 13: 41 وص 16: 17 وص 25: 31 ويوحنا 5: 22و23).
ويشهد يوحنا أيضاً أن المسيح خالق كل المخلوقات فقال "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان… كان في العالم وكون العالم به ولم يعرفه العالم (يوحنا 1و3و10)
وقد ذكر الحواريون في كثير من الآيات أن المسيح كانت له قوة على السماء والأرض على الأرواح الشريرة على الإنسان والملائكة كما أن البشائر الأربعة تذكر لنا آيات كثيرة عن السلطة التي كانت للمسيح وكيف أنه بكلمة أخرج الشياطين مرات عديدة وقد أدهشت السلطة التي كانت له جميع الناس فقال يوحنا المعمدان "الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع الذي من الأرض هو أرضي ومن الأرض يتكلم الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع وما رآه وسمعه به يشهد … لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح. الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده.الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله." (يوحنا 3: 31-36).
وقد شهد بطرس الرسول أيضاً عن المسيح فقال "هذا هو رب الكل" (أعمال 10: 36) وقال أيضاً "هو في يمين الله إذ مضى إلى السماء وملائكه وسلاطين وقوات مخضعة له" (بطرس الأولى 3: 22) وقال عنه يوحنا الرسول "الشاهد الأمين البكر من الأموات ورئيس ملوك الأرض" (رؤيا 1: 5).


(3) ثالثاً أن لقب الله وابن الله قد أعطاه له الحواريون فكتب بطرس الرسول في بطرس الثانية 1: 1-2 قائلاً "سمعان بطرس عبد يسوع المسيح ورسوله إلى الذين نالوا معنا إيماناً ثميناً مساوياً لنا ببر إلهنا والمخلص يسوع المسيح لتكثر لكم النعمة والسلام بمعرفة الله ويسوع ربنا" وقال يوحنا الرسول في إنجيله 1: 1 "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله." وكتب أيضاً قائلاً "شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح… إن سلكنا في النور كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية" (يوحنا الأولى 1: 3-7). وقال أيضاً "من هو الكذاب إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح هذا هو ضد المسيح الذي ينكر الآب والابن" (يوحنا الأولى 2: 22) وقال أيضاً في آخر رسالته (5: 5و13و20) "من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله… كتبت هذا إليكم أنت المؤمنين باسم ابن الله لكي تعلموا أن لكم حياة أبدية ولكي تؤمنوا باسم ابن الله… ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية." بل أننا نقرأ ما هو أوضح من ذلك في رؤيا ص1: 8 إذ يقول "أنا هو الألف والياء البداية والنهاية يقول الرب الكائن والذي كان والذي يأتي القادر على كل شيء." إن الحرفين الأول والأخير من حروف الهجاء يُستعملان للبداية والنهاية والكلمتان "والذي يأتي" إنما تشيران إلى المسيح لأنه وعد أن يأتي ثانياً الذي هو الأول والآخر وهو الله طبعاً لأن ذلك ما لا يستطيعه أحد ولو كان أعظم الملائكة. وتأييداً لذلك نأتي بأقوال الله في نبوة أشعياء إذ قال "أنا الرب الأول ومع الآخرين أنا هو" أشعياء 41: 4.
إن كلمة الكائن إنما تشير عما قاله الله في الخروج عن اسمه أنه "أهيه" وهي الكلمة العبرانية التي تترجم للعربية "بالرب" وفي هذه العبارة السالفة الذكر قد أعطي المسيح لقبين "الرب والكائن" ولزيادة الإيضاح قد أُعطي المسيح لقباً آخر وهو "القادر على كل شيء."
لو تأملنا بإمعان فقط في هذه الآيات بغض النظر عن جميع الآيات الأخر التي تظهر صريحاً الصفات والألقاب الإلهية المنسوبة لربنا يسوع المسيح لرأينا أن الروح القدس الذي وعد به المسيح لتلاميذه أعاد لهم ذكرى ما كانوا يسمعونه منه وقدرهم أن يبشروا الآخرين بما أمرهم أن يبشروا به ولو اهتم القارئ الكريم وراجع الآيات التي قالها عنه تلاميذه والآيات التي قالها المسيح عن نفسه وقارن بين هذه وتلك ورأى أنه لا يوجد لقب واحد أعطاه له تلاميذه إلا وكان المسيح طلبه لنفسه أولاً ورأى أيضاً أن شهاداتهم له لم يشهد بها واحد أو اثنان منهم فقط ولكن شهد بها كل من بقيت رسائله في أيدينا ولم يختلف واحد عن الآخر في شيء قط- حقاً أن تعليم ألوهية المسيح لم يظهره الرسل إلا بعد صعوده إلى السماء وقد نما هذا التعليم فيهم تدريجياً على مر الزمن ومما لا ريب فيه أنهم لم يفهموا ذات ومقام ربهم ومعلمهم إلا بعد صعوده إلى السماء كما بينا ذلك قبلاً ومع ذلك اتفق الجميع أن المسيح علمهم أنه والله واحد وقد جاء هذا التعليم بصريح القول في البشائر الأربعة وفي أعمال الرسل وفي سفر الرؤيا كما في رسائل رسل المسيح الأولين.
إن العهد الجديد مشحون برسائل بولس الرسول الكثيرة عدا الرسالة إلى العبرانيين التي إما أن يكون كتبها بولس بنفسه أو أحد تلاميذه ممن تلقوا التعليم من فمه وماذا تقول هذه الرسائل الكثيرة عن ألوهية المسيح؟ هل تعاليمها مغايرة لتعاليم تلاميذه الأولين؟ لقد جئنا بشهادة بولس الرسول آخر الكل أولاً لأن بولس صار مسيحياً بعد صعود المسيح (أعمال 9: 21). وثانياً لأن إخواننا المسلمين يتحاملون عليه ولا يؤمنون أنه رسول ولكن هذا خطأ فاحش فقد دُعي بولس رسولاً بحق وأرسله الرب يسوع كباقي الحواريين وأما كلمة رسول أو "حواري" فمعناها إنسان مُرسل والأخيرة تطلق على الذين أرسلهم المسيح للكرازة باسمه والسلطة الممنوحة للمسيح في إرساله الرسل لم تقف عند حدها بعد صعوده فيحق لبولس إذاً أن يُلقب نفسه برسول يسوع المسيح وقد اتفق على ذلك جميع المسيحيين على اختلاف مذاهبهم فنأتي الآن ببيان ما قاله في شهاداته عن الرب يسوع المسيح.


(1) يعلمنا أولاً عن وحدة وعظمة الله بقوله في 1تيموثاوس 1: 17 "وملك الدهور الذي لا يفنى ولا يُرى الإله الحكيم وحده له الكرامة والمجد إلى دهر الدهور آمين" وأيضاً في 1تيموثاوس 6: 15و16 "المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب الذي وحده له عدم الموت ساكناً في نور لا يُدنى منه الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه" وهذه الآيات جاءت مطابقة تمام المطابقة لما جاء في التوراة والإنجيل.

(2) أن بولس الرسول يوافق جميع الرسل في تعليم ناسوت يسوع المسيح ولاهوته الكاملين فقد قال أن المسيح وإن كان إنساناً فهو بلا عيب "إذاً نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه" (2كورنثوس 5: 20-21) وقيل أيضاً في الرسالة للعبرانيين (4: 14-16) "فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السموات يسوع ابن الله فلنتمسك بالإقرار لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا بل مُجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه" وقال أيضاً عن ناسوت المسيح "أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة" (غلاطية 4: 4) وقال عنه أنه من جهة الجسد صار من نسل داود "عن ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات يسوع المسيح ربنا" (رومية 1: 3و4).
وقال بولس الرسول عن صلبه أيضاً "لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس وإذا وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (فيلبي 2: 7و8) ولا حاجة بنا أن نذكر القارئ الكريم أن قصة صلب المسيح وردت بغاية الإيضاح في الإنجيل الطاهر وتكلم بولس في كثير من الآيات عن قيامة المسيح نقتصر على القليل منها- قال في (رومية 8: 34) "المسيح هو الذي مات بل بالحري قام أيضاً الذي هو أيضاً عن يمين الله الذي أيضاً يشفع فينا" وقال أيضاً في (رومية 14: 9) "لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش لكي يسود على الأحياء والأموات" وقال في (كورنثوس الأولى 15: 20-22) "ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين فإنه إذ الموت بإنسان، بإنسان أيضاً قيامة الأموات لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع" وقال في موضع آخر عن المسيح "الذي هو البداءة بكر من الأموات" (كولوسي 1: 18). ويعني بذلك أن المسيح أول من قام من الأموات بجسد خالد وبلا فساد ولا يتسنى لأحد من الأموات الحصول على ذلك إلا يوم القيامة. يعلمنا بولس الرسول أيضاً أن الجميع يخلصون بواسطة كفارة المسيح كما قال في (رومية 4: 24و25) "بل من أجلنا نحن (المسيحيين) أيضاً الذين سيحسب لنا الذين نؤمن بمن أقام يسوع ربنا من الأموات الذي أسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا". وفي (إصحاح 5: 1و6-11) "فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح… لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين لأجل الفجار فإنه بالجهد يموت أحد لأجل بار ربما لأجل الصالح يجسر أحد أن يموت ولكن الله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا فبالأولى كثيراً ونحن متبررون الآن بدمه نخلص به من الغضب لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه فبالأولى كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضاً بالله بربنا يسوع المسيح الذي نلنا به الآن المصالحة" ثم قال في عدد 17و19 من هذا الإصحاح) "لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد فبالأولى كثيراً الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح… لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبرارً." وقال أيضاً في (1تيموثاوس 2: 5-6) "لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع" وإذ كان بولس الرسول يبشر في أثينا قال عن يوم الدينونة الأخير أنه معطى للمسيح "لأنه أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل برجل قد عينه مقدماً للجميع إيماناً إذ أقامه من الأموات" (أعمال 17: 31) وقال أيضاً "لأنه لابد أننا جمعياً نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً." (2كورنثوس 5: 10) واعترف بولس بقيامة يسوع المسيح من الأموات بقوله في (أفسس 1: 20-22) "أجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً وأخضع كل شئ تحت قدميه" ولكي يحكم المسيح جميع الأشياء بالعدل في الأرض والسماء يجب أن لا يكون له كل القوة فقط بل كل الحكمة أيضاً. إن بولس الرسول يعلمنا أن المسيح له ذلك إذ قال عنه أنه "سر الله الآب والمسيح المذخر فيه كل كنوز الحكمة والعلم" (كولوسي 2: 2و3) وهذه الحكمة وهذا العلم لن يفارقاه قط لأن "يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد" (عبرانيين 13: 8).
إن كثيراً من هذه الآيات تثبت أن يسوع المسيح كان إنساناً ليس بحسب الظاهر فقط ولكن بالحقيقة أيضاً وهي أيضاً تثبت في نفس الوقت أنه كان أعظم من إنسان وأن كثيراً من الصفات الإلهية منسوبة إليه. فالله دون سواه غير متغير عارف بالغيوب حاكم وقاضي الكل وقد رأينا أن كل هذه الصفات للمسيح أيضاً كما سبق ذكره. وبولس الرسول لم يكن الوحيد الذي ذكر هذه الحقائق ولكن جميع الرسل الأولين نهجوا على هذا المنوال تماماً وقد بينها المسيح نفسه. وفي نفس الآيات التي قدمناها لإثبات ناسوت المسيح نرى إثباتاً صريحاً لألوهيته أيضاً والآن نتقدم لنثبت أن بولس الرسول قد أعطى المسيح لقب "ابن الله" و "الرب" و "الله" كما أعطاه إياها غيره من الرسل وهنا نجد أيضاً أن الجميع متفقون تمام الاتفاق في التعاليم المعلنة لهم بواسطة الروح القدس.


إن ألوهية المسيح ظاهرة واضحة في قول الكتاب المقدس"أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه" (كورنثوس الثانية 5: 19) وفي قوله "فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (فيلبي 2: 5-11) اقرأ أيضاً (يوحنا 16: 27و28و 17: 5و24).
أننا نستلفت نظر حضرات القراء الأحباء لتلك الآيات التي تثبت ألوهية المسيح بصريح العبارة. ونرجوهم أن يتأملوا في قول الكتاب المقدس "الذي إذ كان في صورة الله" أعني أنه كان إلهاً تاماً وأيضاً "وإذ وُجد في الهيئة كإنسان آخذاً صورة عبد" ومعنى ذلك أنه كان إنساناً بالمعنى الحقيقي وأيضاً قوله "معادلاً لله" أي هو والآب واحد وبعد ذلك يقول "وأعطاه اسماً فوق كل اسم" ومعنى ذلك اسم الله الذي لا يشاركه فيه أحد وقد اعتبره اليهود قديماً اسماً مقدساً لا يتجاسر أحد على النطق به.
وعند قراءة العهد القديم باللغة العبرانية نجد أن كلمة (أدوناي) ومعناها (الرب) تُستعمل بدلاً من النطق بلفظة "يهوه" اسم الله العلي القدير فقول الكتاب المقدس إذاً "أن يسوع المسيح هو رب" معناه أن يسوع المسيح هو صاحب ذلك الاسم العظيم أي أنه هو الله سبحانه وتعالى. ويعلمنا بولس الرسول في رسائله أن الملائكة ورؤساء الملائكة والأنبياء والرسل وجميع الأموات والأحياء سيجثون للمسيح ويعترفون بألوهيته حسب وعد الله أبيه. وقال في (رومية 1: 2-4) أن موضوع بشارة الله هو "ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات يسوع المسيح ربنا" ويقول أيضاً "من جهة الجسد" فالمسيح إسرائيلي ويقول عنه أيضاً أنه "الكائن على الكل إلهنا مباركاً إلى الأبد آمين" (رومية 9: 5) ويقول أيضاً أن الله الآب هو "الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته الذي لنا فيه الفداء بدمه غفران الخطايا الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة فإنه فيه خلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين الكل به وله قد خُلق الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل… لأنه فيه سرّ أن يحل كل الملء" (كولوسي 1: 13-17و19). وقول الرسول هنا "الذي هو صورة الله غير المنظور" مطابق تمام المطابقة لما قاله المسيح عن نفسه (الذي رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14: 9) أو بمعنى آخر فهو مُظهر الله الوحيد وقوله أنه (بكر كل خليقة) يعني أنه "وارثاً لكل شيء" كابن الله الوحيد وكما قال أيضاً في (كولوسي 2: 9-10) أن ملء اللاهوت حال فيه وهو خالق جميع الأكوان (فانه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً… الذي هو رأس كل رياسة وسلطان).
أن الإصحاح الأول من الرسالة للعبرانيين يعلمنا هذه التعاليم بعينها وقد دوّن الكاتب بعض الآيات المذكورة في العهد القديم مُظهراً بذلك أن الأنبياء الذين عاشوا قبل المسيح بزمان بعيد شهدوا بواسطة إلهام الروح القدس لعظمة المسيح الفائقة وذاته الإلهية. قال الرسول في (العبرانيين 1: 1-14) "الله بعد ما كلم الأباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم. لأنه لمن من الملائكة قال قط أنت ابني أنا اليوم ولدتك وأيضاً أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً وأيضاً متى أدخل البكر إلى العالم يقول ولتسجد له كل ملائكة الله وعن الملائكة يقول الصانع ملائكته ريحاً وخدامه لهيب نار وأما عن الابن كرسيك يا الله إلى دهر الدهور قضيب استقامة قضيب ملكك أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من شركائك وأنت يا رب في البدء أسست الأرض والسموات هي عمل يديك هي تبيد ولكن أنت تبقى وكلها كثوب تبلى وكرداء تطويها فتتغير ولكن أنت أنت وسنوك لن تفنى ثم لمن من الملائكة قال قط اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ أليس جميعهم أرواحاً خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص؟" (قارن هذه الأقوال بالأقوال التي جاءت في أشعياء 44: 34 ومزامير 2: 7 وصموئيل الثاني 7: 14 وتثنية 32: 43 ومزامير 104: 4 ومزامير 45: 6و7 ومزامير 102: 25-27 ومزامير 110: 1 ومتى 22: 41-46 ومرقس 12: 35-37 ولوقا 20: 41-44). ثم نقتصر أيضاً على ذكر بعض آيات أخرى في (تيطس 2: 11-13) وهي "لأنه قد ظهرت نعمة الله المخلصة لجميع الناس معلمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية ونعيش بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح" كل هذه الآيات وغيرها كثيرة تعلمنا عن ناسوت المسيح الكامل الذي بلا دنس ولا لوم وعن ألوهيته أيضاً.
وقد علم بولس ما قد علمه المسيح وما علمه غيره من الحواريين فتعاليم بولس إذاً هي نفس تعاليم الإنجيل لا فساد فيها ولا زيادة وهي لازمة لكمال الإنجيل. وأن ما قاله المسيح حق وأن تلك الآية الشريفة التي فاه بها هي جوهر الإنجيل وقلبه إذ تقول "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 3: 16) وقبل أن نختم هذا الفصل يجدر بنا أن نوضح ثلاث نقط ربما يتعسر فهمها على الباحث الغيور وأولها ما نسميه بالصعوبة الزمنية ومما لا ريب فيه أن الأب البشري أكبر من ابنه فإذا كان المسيح ابن الله فهل هذا يدل على أنه كان بعد أبيه؟ إذا كان الأمر كذلك فهو ليس إذاً بأزلي ولا يمكن أن يكون هو الله وإذا كان الأمر خلاف ذلك فكيف يكون المسيح ابناً؟ إن الجواب على هذا السؤال يدركه لأول وهلة كل من أوتي نصيباً من الفهم والإدراك لأن الفرق بين ( ) عمر الأب البشري وابنه كائن لأنهما من الخلائق المحدودة التي لوجودها بداية وإذا اعتقدنا أن هذا الفرق يسري على ابن الله فيكون قياسنا هذا محض اختلاق ومن وجهة أخرى فإن الكتاب المقدس الذي يعلمنا أن الرب يسوع المسيح هو كلمة الله وابن الله يعلمنا أيضاً أنه كان في البدء أي ابتداء مع الله وهذا يمحو من أمامنا الصعوبة التي نحن بصددها والتي ترجع إلى عجز الإدراك الإنساني لعدم مقدرته على إزالة تقسيم الزمن إلى ماض وحاضر ومستقبل من مخيلته مع أنه لمعرفة الله لا حاجة بنا إلى مثل هذا التقسيم فهو أزلي أبدي فقط ومن تأمل في عبارة "كلمة الله" علم أن "كلمة" "يشير إلى وجود متكلم" ولا يكون المتكلم متكلماً إلا إذا تكلم وأن نطق الكلمة أو الكلام يحدث في نفس الوقت الذي يكون فيه الناطق متكلماً ومما لا يحتاج إلى برهان أن المتكلم كائن قبل كلامه ولكن لا يعتبر متكلماً إلا إذا تفوه بكلامه. فالتكلم والكلام في وقت واحد ولزيادة الإيضاح نأتي بمثل آخر أوضح من الأول وهو مثل النور فقد قال يوحنا الرسول أن "الله نور" (1يوحنا 1: 5) وقال يعقوب أنه "أب الأنوار" (يعقوب 1: 17) وقال المسيح عن نفسه "أنا قد جئت نوراً إلى العالم" (يوحنا 12: 46) ومما لا جدال فيه أنه عند مقارنة النور بشعاعه لا يوجد بينهما لا متأخر ولا متقدم فلا نور بدون أشعة ولست بمخطئ إذا قلت أن الأشعة هي أشعة النور لأنك تعني بذلك أنها تتولد من النور ولكنها هي والنور حادثة في وقت واحد ومن السخافة أن نقول أن هذا النور يتغير أو ينقص لأن الأشعة تتولد منه وزيادة على ذلك فإن النور لا يظهر إلا من أشعته. ومن المسلم أنه لا يمكن مقارنة العلي العظيم بإحدى مخلوقاته وحيث أن حذق ومهارة وصفات الصانع تظهر في عمله فنحن نتعلم شيئاً عن الله من ذلك النور الذي هو من أعظم وأجمل أعمال الخلق فهل نحن مخطئون بعد في إيراد هذا المثل طالما الله نفسه ألهمه لعبده في كتابه المقدس؟
الأمر الثاني أن الإنجيل يذكر أن المسيح جاع وعطش وتعب وتألم بل ومات ولم يعرف الساعة ولا اليوم الذي تكون فيه دينونة العالم ونما في الحكمة والقامة كسائر البشر وقد صلى لله أبيه وقال عن نفسه أنه وسيط بين الناس والله فكيف يتفق هذا كله مع ما عرف عن الله وصفاته ذلك الإله الحكيم الذي لا يتعب ولا يموت الذي لا يتغير ولا يفوقه أحد في عظمته وقدرته؟ فكيف تكون للمسيح الذات الإلهية مع وجود الفرق العظيم بين صفاته وصفات الله تعالى؟ فالجواب على هذا لا يحتاج إلى تعب كثير وقد ذكرناه آنفاً. فإن تعاليم يسوع المسيح وتلاميذه هي أنه إذ كان منذ الأزل كلمة الله واحد مع أبيه أخذ هيئة إنسان وهو معصوم من الخطية وصار الإنسان الكامل كما أنه كان الله الكامل أيضاً "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان… والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً" (يوحنا 1: 1-3و14). نعم أن الذات الإلهية لا تموت ولا تعطش ولا تجوع ولا تنمو في الحكمة ولكن كل هذه من حيثية الإنسانية ولكن لكي يتألم المسيح كلمة الله ويموت من أجل خطايا العالم للكفارة عن خطايا جميع الناس وفتح أبواب الملكوت أمامهم تجسد وأخذ طبيعتنا فبالطبيعة الإنسانية أكل المسيح وشرب ونام وقام وتحمل الأتعاب والآلام وتمتع بالأفراح كإنسان وبهذا أظهر صفاته الإنسانية ولذا قال في الإنجيل أن الآب أرسل الابن فسمى نفسه ابن الإنسان (اقرأ يوحنا 5: 23و36 و6: 44 و15: 36 و12: 49 و17: 3 و20: 21). وهكذا وُلد المسيح من مريم العذراء وتحمل الآلام وصلب ومات وقام من بين الأموات في اليوم الثالث ثم صعد إلى السماء ونظرته عيون التلاميذ وهكذا قال المسيح يسوع "لأن أبي أعظم مني" (يوحنا 14: 28) وقال أيضاً "لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني" (يوحنا 6: 38) وصار المسيح وسيطاً وشفيعاً لنا فصلى من أجلنا لما كان هنا على الأرض. ويقول كاتب رسالة العبرانيين "وهو حيّ في كل حين يشفع في الذين يقتربون إلى الله بواسطته" وكل ذلك طبعاً نتيجة اتحاد إنسانيته الكاملة التي بلا عيب مع ذاته الإلهية والصعوبة التي أمامنا الآن تتلاشى عندما نقبل تعاليم المسيح المعلنة لنا في الإنجيل.


الأمر الثالث اعتراضات البعض بقولهم "كيف يتسنى لله أن يصير إنساناً ويظهر بصفات بشرية؟ كيف يقوم الحادث مقام القديم ويصير الخالق مخلوقاً والمطلق مقيداً والغير محدود محدوداً؟" ورداً على ذلك نقول أن الكتاب المقدس مع أنه يعلمنا تجسد كلمة الله لم يقل أصلاً أن الذات الإلهية قد تغيرت إلى ذات إنسانية أو فقدت شيئاً من صفاتها الإلهية فالمسيحيون يعتقدون كما يعتقد المسلمون أن غير المحدود لا يصير محدوداً والخالق لا يصير مخلوقاً. ولكن الكتاب المقدس الذي أعطاه لنا الله بإعلان روحه القدوس يعلمنا أن القدير قد جعل نفسه في علاقة مع المخلوقات أمكنه بها إعلان نفسه لهم وإن حاولنا أن ننكر هذا فكأننا رفضنا كل وحي وجعلنا كل الأنبياء والرسل كذابين منافقين- وإذا أراد الله ربح محبة الناس ورأى من الضروري إعلان محبته لهم أفلا نؤمن أن الله الذي لا تحد حسناته قد تنازل وأرسل كلمته فأخذ صفات إنسانية لكي يفهم الناس معنى الكلمة الإلهية وبواسطته نعرف ونحب أباه السماوي- إن تعليم الثالوث الأقدس ربما يُسهل علينا فهم معنى التجسد فلا تبقى صعوبة بعد أمام المسلم الذي لا يؤمن بهذه التعاليم التي يقبلها العقل السليم وتطابق كلام الله وإن أنكرنا إمكانية تنازل الله هذا فكأننا قد اعترفنا بأن الله غير قادر على كل شيء. وأما الذين يقولون أن هذا التنازل مغاير لمقام الله الأسمى فالأولى بهم أن يفهموا أن الله الحكيم قادر أن يحكم لنفسه بالأمور اللائقة أكثر منهم. لقد أظهر الله أن الغير مستطاع لدى الإنسان مستطاع لديه تعالى فالإنسان لا يفهم كيف أن الروح الغير الهيولي يدخل في جسم هيولي. نعم وإن كان يعرف أن فيه روحاً وهذا الروح متسلط وحاكم على الجسم لكنه يجهل كيفية اتصالهما ببعض ولو لم نختبر ذلك لكنا نعتقد أنه من المستحيلات. أنه وإن كان كل من الجسم والروح له سلطة على الآخر في زمن الحياة فقط ولكن الروح الغير هيولي غير مخلوط ولا مركب مع الجسم الهيولي. وعلى هذا القياس فإن طبيعة كلمة الله الإلهية لم تصر بواسطة التجسد مخلوطة أو مركبة مع ذات المسيح الإنسانية.
بل وأكثر من ذلك أن الله لم يدخل في علاقة مع مخلوقاته فقط بإرساله الوحي على رسله ولكن بخلقه الكون. ولا يمكنا أن ننكر وجود علاقة بين الخالق والمخلوقات التي صنعها. إننا نعرف أنه توجد علاقة ولكننا لا نفهم هذه العلاقة ما لم نؤمن بتعليم الثالوث الأقدس وإن أنكرنا هذه العلاقة فكأننا نعلن أننا كفرة ملحدون.
وكما أنه لم يحدث تغيير في ذات الله الكاملة الطاهرة من جراء خلقه وحفظه للعالم بعد أن جعل نفسه في علاقة مع المخلوقات كذلك لم يحدث أي تغيير في طبيعة كلمة الله الإلهية بعد أن دخلت في علاقة مع بني البشر. وكلتا هاتين المسألتين الهامتين اللتين هما خلق العالم وتجسد كلمة الله الإلهية هما من المعضلات العويصة الفهم في ذات الله الغير المدركة ولذا كان فوق عقل الإنسان المحدود أن يدركها تماماً فعلى كل عاقل تقي أن يتحد مع صاحب المزامير مسبحاً الله العلي العظيم بقوله: "إلى دهر الدهور سنوك. من قدمٍ أسست الأرض والسموات هي عمل يديك هي تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب تبلى كرداء تغيرهن فتتغير وأنت هو وسنوك لن تنتهي" (مزمور 102: 24-27). أن أشعة الشمس تصل وتؤثر في كل ما على الأرض ولكن اتصالها مع هذه الأشياء لا يغير أبداً في طبيعتها. أيتجاسر أحد إذاً أن يحد حكمة الله وقوته ومحبته وحنوه ويقول (يستحيل أن أؤمن بتجسد كلمة الله في المسيح لأن عقلي لا يقبل تعاليم كهذه لكونها محقرة لله تعالى بأنها تظهر أنه يتغير وهو الغير متغير). أقول أنه يحسن بك أولاً أن تصير إنساناً عاقلاً تقياً باحثاً عما علمه لنا بواسطة أنبيائه ورسله في ما يختص بهذا الموضوع الهام ثم بعد ذلك يمكنك أن تقبل هذه التعاليم تعاليم الله إله الحق- إن حكمة الله وقوته وحسناته لا تقصى ولا تستقصى فهي غير محدودة ولكن الإدراك البشري صغير محدود وكما أن الفنجان الصغير لا يمكن أن يسع ما في الأوقيانوس الواسع هكذا لا يمكن لعقل الإنسان أن يدرك أعمال وأفكار الله العظيمة الغير محدودة.
وسنوضح بمشيئة الله في الفصل الأخير من الباب الثاني أن إعلان الذات الإلهية في المسيح يسوع ربنا هي جامعة لرحمة الله وعدله ومحبته وقداسته. والآن لنذكر شهادة العهد القديم لألوهية المسيح حتى نرى هل تتفق أقوال الأنبياء في العهد القديم مع ما علمه كلمة الله نفسه وما علمه الرسل أيضاً في ما يختص بهذا الموضوع.

  • عدد الزيارات: 16755