Skip to main content

مقدمة

أخي القارئ ، وأختي القارئة ، هذه دعوة ذكرها القرآن وهي شبيهة لدعوة مماثلة وردت في سفر أشعيا من الكتاب المقدس قبل ما يزيد على الستمائة عاماً من ولادة المسيح (تعالوا نتحاجج يقول الرب).
إذا كان الله هو الذي وجه هذه الدعوة فإنه ولا شك لا يمانع أن يستخدم الإنسان عقله وفكره والامتحان والمنطق في أمور الإيمان. لذلك فإننا ندعوكم قائلين "تعالوا إلى كلمة سواء". تعالوا لنحتكم إلى العقل. تعالوا لنحتكم إلى المنطق.

إن أفضل وأعظم ما ميز به الله الإنسان عن جميع المخلوقات هو منحة العقل وبالتالي القدرة على التفكير والتمييز والاختيار. إننا نستخدم هذه الهبة الإلهية في كل يوم من أيام حياتنا. فالإنسان يسعى دوما إلى ما هو أفضل وإلى ما هو أرفع وما هو أسمى في كثير من أمور الحياة الدنيا مستخدما في ذلك سلاح العقل والقدرة على التفكير وصنع القرار وقياس الأمور ومن ثم الإختيار من بينها. إذا كان هذا هو الحال في الماديات فكم بالحري الروحيات؟ إن مصير الإنسان الروحي لهو أهم بكثير من الحياة المادية الحاضرة و الفانية.
الحياة الروحية هي التي تقرر مصير الإنسان الأبدي. وهذه الحياة تشمل ما يعتقد ويؤمن به الانسان وبالتالي سلوك الإنسان المستمد من عقيدته وإيمانه. لذلك فإنه يجب علينا كما نهتم بأمور الحياة الدنيا أن تهتم أكثر وأكثر بمصيرنا الأبدي.
ومثل هذا الإهتمام يتطلب منا أن نستخدم ما وهبنا الله من قدرة على التفكير والتمييز والإختيار حتى يكون بمقدورنا أن نختار ما هو أفضل وما هو أسمى وما هو أجل وأرفع روحيا. ولأجل هذا الغرض ندعوكم قائلين:
تعالوا إلى كلمة سواء، تعالوا إلى كلمة الحق، تعالوا إلى كلمة عدل.


لا شك أن الإسلام والمسيحية هما ديانتان عالميتان يتبع كلاً منهما الملايين من الناس. ولا شك أن هناك عنصر تنافس شديد بين الديانتين منذ أن وُجد الإسلام بعد ما يزيد على الستمائة عاماً من وجود المسيحية. ولقد دار الحوار بين أتباع الديانتين منذ أيام محمد وحتى يومنا هذا والظاهر بأنه سيستمر إلى نهاية العالم، سواء كان ذلك بين الناس العاديين أو بين القادة الروحيين من كلي الديانتين. وعادة يأخذ الحوار شكل الكلمة المكتوبة أو المواجهة الشخصية من خلال اللقاءات العامة أو الخاصة.
لقد جرت العادة منذ القديم في الحوار الإسلامي المسيحي على بحث مسائل لاهوتية شائكة وصعبةالإدراك بالنسبة للعقل البشري المجرد والمحدود، ومن هذه المسائل نذكر: الطبيعة الإلهية ومسألة التوحيد والتثليث وشخص المسيح إذا ما كان ذا طبيعة بشرية واحدة أو ذا طبيعة بشرية وإلهية. وهناك مسائل أخرى متعلقة بشخص المسيح مثل ولادته وموته وقيامته، وطبيعة وشخص الروح القدس. كذلك جرت العادة أن يحاول المسلمون إثبات صحة ديانتهم ورسالة نبيهم من خلال الكتاب المقدس بما فيه العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل). وكذلك يحاول المسيحيون إثبات عقائدهم من خلال القرآن. هذا وقد دونت الكثير من الكتب والمؤلفات في هذا الشأن.
إنني في هذا الكتاب لن أحاول القيام بأي من الأمور السابقة. إن من يحاول الحوار في نظري ابتداء من مسائل لاهوتية عميقة كما ذكرتُ سابقا يشبه من يحاول الوصول إلى ذروة جبل شاهق الارتفاع دون البدء من قاعدة الجبل . أو كمن يحاول إطعام طفل وليد لحوما وخضرا دون البدء بإطعامه الحليب. سأحاول في الكتاب البدء من القاعدة مركزا على مسائل أولية مثل شخصية وحياة محمد وشخصية وحياة المسيح وتطور الدعوة الإسلامية والدعوة المسيحية مرورا ببعض التعاليم والممارسات في كل من الإسلام والمسيحية. ومن أجل هذا الهدف سوف أعتمد بالكلية على المصادر الرئيسية وهي القرآن والحديث والسيرة النبوية في الإسلام والإنجيل في المسيحية. ولن أتعرض لكتابات الكتّاب ولا لأقوال العلماء وذوي الشأن من الجانبين سواء كان ذلك بالإيجاب أو السلب.
عندما اقتباس حديث من الأحاديث فإنني سأتبع غالبا سرد الحديث كاملا بما في ذلك أسماء رواة كل حديث كما ورد الحديث في صحيح البخاري أو صحيح مسلم أو السيرة أو تفسير القرآن ، هذه حسب علمي هي طريقة غير متبعة في معظم الكتب إذ أنها تزيد من حجم الكتاب. لكني اعتمدت هذه الطريقة من أجل الأمانة في النقل واتبعت كل منقول بإسم المصدر ورقم الجزء والصفحة التي ورد المنقول فيه.
وأيضا سوف نتناول كل موضوع من مواضيع الكتاب من الوجهتين الإسلامية والمسيحية مفسحين المجال للقراء كي يحكموا بسواء وحق وعدل في أي من الرسالتين أفضل وأسمى وأرفع وأجل، رسالة محمد أم رسالة المسيح والمسيحية.
قبل الإنتقال إلى تفصيل مواضيع الكتاب لا بد من توضيح مسألة هامة ألا وهي العلاقة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية، وفيما إذا كان من الممكن نسبة الديانتين إلى نفس المصدر أم لا. يؤكد الإسلام والمسلمون أن محمد هو "خاتم" الأنبياء والمرسلين وأنه أشرف بني البشر وأعلاهم مقاما عند الله، وإن ما جاء به محمد في رسالته هو مصدقٌ لما بين يديه أي الرسالتين السابقتين للإسلام وهما اليهودية والمسيحية. "والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدق بما بين يديه إن الله بعباده لخبير نصير" فاطر 31 وورد أيضا: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدقا لما معهم...إلخ" (البقرة: 89).
يفهم القارئ من الآيات القرآنية السابقة وغيرها أن هناك تطابق وتوافق بين رسالة محمد ورسالة المسيح. لكن الحقيقة الواضحة لكل من يدرس الرسالتين درسا وافيا هي غير ذلك. في الواقع هناك اختلاف كبير وتناقض هائل بين رسالة محمد ورسالة المسيح وذلك على الرغم من ادعاء بعض المسلمين وبعض المسيحيين بعكس ذلك. من عادة الإسلام والمسلمين نسبة هذا الاختلاف وعدم التوافق بين الرسالتين إلى كون أن المسيحيين قد حرفوا الإنجيل وغيروه وبدلوا كلامه، علما بأن بعض علماء المسلمين يُقرون بأن التحريف هو خطأ في التأويل وليس تغيير أو تبديل في النص. قال ابن عباس: "ليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله عز وجل ولكنهم يحرفونه ويتأولونه على غير تأويله" (البخاري ج ص 581). هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن القرآن يحث أهل الإنجيل على الحكم بما أنزل الله فيه "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل فيه ومن لم يحكم فأولئك هم الفاسقون" (المائدة: 47).
يا ترى إذا كان إنجيل المسيحيين محرفا ومزورا في زمن محمد فكيف يدعوهم الله في القرآن كي يحكموا بما أنزل فيه. وإذا كان الله هو الذي أنزل الإنجيل فكيف يسمح جل جلاله بأن يُحرف و يُزور؟ كيف يحمي القرآن ولا يحمي الإنجيل من التحريف؟ هل عنده محاباة؟
إذا ما رجعنا إلى الإنجيل في هذا الأمر فإن الإنجيل ينفي عن ذاته صفة التحريف والتغيير والتبديل نفيا قاطعا. قال المسيح "ولكن زوال السماء والأرض أيسر من أن تسقط كلمة واحدة من هذا الناموس" (لوقا 16: 17). وقال أيضا "السماء و الأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول" (لوقا 21: 33). وجاء في سفر الرؤيا "لأني أشهد لكل من يسمع أقوال نبوة هذا الكتاب إن كان أحد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب. وإن كان أحد يحذف من أقوال هذه النبوة يحذف نصيبه من سفر الحياة والمدينة المقدسة ومن المكتوب في هذا الكتاب" (رؤيا 22: 18-19).
إذا كان هذا هو حال الإنجيل، فماذا عن القرآن؟ بينما ينفي الإنجيل عن ذاته التحريف والتبديل والتغيير، فإن القرآن ينسب لذاته النسخ والتبديل والنسيان كما في الآية "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير" (البقرة 106). وجاء في أمر التبديل "وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون" (النحل: 101).
ليس من الغريب أن يتهم القوم محمدا بالإفتراء لأنه يأتيهم بآيات متخالفات. من الطبيعي والمنطقي أنه إذا وقف شخص أمام القاضي وغير أقواله أن يتهمه بالإفتراء. صحيح أن الله على كل شيء قدير، ولكن حاشا أن يكون الله متقلب الهوى. بالإضافة إلى الآيات السابقة فإن هناك عدة أحاديث تؤيد ما جاء في القرآن. من الأحاديث عن النسيان قال ابن جرير عن الحسن: "إن نبيكم قرأ قرآنا ثم نسيه". و عن ابن عباس قال: "كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار" (إبن كثير ج1ص 104). ويُروى أيضا أن محمدا كان ينسى القرآن ويحتاج إلى من يُذكره به. حدثنا محمد بن عبيد بن ميمون أخبرنا عيسى بن يونس عن هشام بن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ القرآن في المسجد فقال: "رحمه الله لقد ذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا وكذا" (البخاري ج3ص210). كذلك توجد رواية عن سور بأكملها ضاعت واندثرت: "حدثني سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن داود عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن فقال أنتم خيار أهل البصرة وقراؤها فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم. وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها: "لو كان لإبن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب". وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المُسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها: "يأ أيها الذين آمنوا لم تقولوا ما لا تفعلون فكتب شهادة في أعناقكم فتُسألون عنها يوم القيامة" (مسلم ج7 ص 139). و أخيرا هناك رواية تذكر أن قرآنا نزل ثم نُسخ ثم ضاع: حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني مالك عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين غداة (يوما) على رعل وذكوان و عُصية عصت الله ورسوله. قال أنس: أنزل في الذين قتلوا ببئر معونة قرآن قرأناه ثم نُسخ بعد: "بلغوا قومنا أنه قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه" (البخاري ج3ص282 رواه مسلم أيضا). من الجدير بالذكر أن الآيات السابقة الذكر لا وجود لها في مُصحف عثمان المتداول بين الناس اليوم. إذاً نستنتج مما سبق أنه إذا كان هناك تحريف أو تبديل أو تغيير في النص فإن ذلك من صفة القرآن وليس من صفة الإنجيل.
وخلاصة القول: إذا كان هناك أي تناقض بين رسالتين فلا يمكن أن تكون الرسالتان من نفس المصدر. إنه مما يتنافى مع العقل والمنطق القول بوجود رسالتين سماويتين متضاربتين ومتناقضتين تناقضا تاما. إذا قبلنا مثل هذه الفرضية فإن ذلك يعني أن الله المطلق الكمال والعلم والمعرفة والحكمة يناقض نفسه. وحاشا أن يكون التناقض من صفات الله.
إذا كانت هناك رسالتان تُنسبان إلى الله ولكنهما متناقضتان تماما فلا يمكن أن تكونا كلتيهما من عند الله. ولا بد أن تكون إحدى الرسالتين من مصدر آخر غير الله. إذا كانت هناك رسالتان مثل الإسلام والمسيحية تدعي كل منهما بأنها الرسالة الحقيقية من الله على الرغم من التناقض الواضح بينهما فكيف يكون باستطاعتنا التمييز بينهما؟ إن الله قدوس وسامي. إذاً مقياس الحكم يجب أن يكون القداسة والسمو. وعليه ، لا بد وأن تكون الرسالة التي من الله هي الرسالة الأفضل والأرفع والأسمى والأجل في تعاليمها وممارستها العملية. إنه لا يُعقل ولا يرتضيه عقل بشري أن تكون رسالة أرضية محرفة ومُزورة أو من أي مصدر آخر غير الله هي رسالة أفضل وأرفع وأسمى وأجل من الرسالة الإلهية الحقيقية. وعلى هذا الأساس ، فإنه لا يُمكن أن يكون الإسلام والمسيحية من نفس المصدر على الرغم من بعض أوجه الشبه بينهما وادعاء بعض المسيحيين والمسلمين بأن الإسلام والمسيحية هما ديانتان سماويتان. إن هذا الادعاء غير صحيح على الإطلاق حيث أن الديانتين مختلفتان ومتناقضتان تماما. إذاً لا بد أن نحكم أي الرسالتين أفضل وأسمى وأجل لأنه على أساس هذا الحكم يتوقف مصير الإنسان وحياته الأبدية.

  • عدد الزيارات: 8532