فرض القتال فى الدين
فرض القتال فى الدين
ما زال طول العهد بمكة ، حتى مطلع العهد بالمدينة يقول : " ل إكراه فى الدين " ( البقرة 256 ) . لكن منذ مطلع العهد بالمدينة يشرع : " كتب عليكم القتال " ( البقرة 216 ) ، و ليس القتال ضرورة عابرة ، بل انه ركن من اركان الاسلام ، نزل من الله لنصرة الله و رسله : " و انزلنا الحديد فيه بأس شديد ، و منافع للناس ، و ليعلم الله من ينصره و رسله بالغيب : إن الله قوى عزيز " ( الحديد 25 ) .
تلك نفحة ناشزة لها صدى فى التوراة ، و جاء الانجيل فقضى على القتال فى الدين . لكن القرآن يعود فيشرع القتال فى سبيل الدين ، و تتطور شريعة الجهاد و القتال حتى تملأ الدعوة و السيرة بالمدينة : " و الآيات القرآنية فى موضوع الجهاد قد شغلت من حيث كثرتها حيزا كبيرا يكاد يبلغ نصف القرآن المدنى . و فى هذا دلالة على ان هذا الموضوع كان من أهم أدوار السيرة النبوية فى العهد المدنى أو أهمها " ( 1 )
بهذا التشريع المتواتر صار الاسلام دين قتال ، بدل ان يظل دين سلام كما يؤخذ من اسمه .
و تبرير تشريع القتال فى الدين يزيد الأمر حرجا . فالغاية الأولى منه رد الفتنة عن الدين بالقوة : " و الفتنة أشد من القتل " ( البقرة 191 ) . إن الفتنة تبرر القتل : " و الفتنة أكبر من القتل " ( البقرة 217 ) . و قامت الحرب الأهلية بين العرب " حتى لا تكون فتنة ، و يكون الدين كله لله " ( البقرة 193 ) . إن الحرب الأهلية مفروضة مشروعة : " و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ، و يكون الدين كله لله " ( الانفال 39 ) . و يتبع ذلك قتل المرتد عن دينيه : " و من يرتدد منكم عن دينه . قيمت و هو كافر " ( البقرة 217 ).
و الغاية الثانية فى دين القتال المغانم الكثيرة : " وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ، فعجل لكم هذه ، و كف أيدى الناس عنكم ، و لتكون آية للمؤمنين " ( الفتح 20 ) . فالمغانم الكثيرة التى تجنى من فريضة الجهاد و شريعة القتال هى آية الله فى دينه !
تلك الغاية المزدوجة برهان على ان القتال لم يشرع فقط للدفاع عن حرية الدين ، بل فرض لفرض الاسلام بالقوة على العرب : " كانت مهمة النبى ، و هو يهاجر ، واضحة : و هى أن يكره قريش على الاسلام بحد السيف ، بعد ان بذل لها النصح ثلاثة عشر عاما فلم تزد إلا عتوا " ( 1 ) . فليس صحيحا أن " حروب النبى عليه السلام كانت كلها حروب دفاع ، و لم تكن منها حرب هجوم إلا على سبيل المبادرة بالدفاع ، بعد الايقان من نكث العهد و الاصرار على القتال ، و تستوى فى ذلك حروبه مع قريش ، و حروبه مع اليهود أو الروم " ( 2 ) . فبعد احتلال مكة و السيطرة على الحجاز ، ظلت الحروب قائمة : أللدفاع أم للهجوم ؟ و بعد تصفية اليهود بالمدينة ، هل كان غزو اليهود فى الشمال للدفاع أم للهجوم ؟ و بعد استضافة المهاجرين بالحبشة ، أكانت غزوة مؤتة ثم تبوك للدفاع أم للهجوم ؟ إن دولة فارس ، و دولة الروم كانتا قائمتين منذ الف سنة قبل الاسلام ، و لم يفكر أحد من الدولتين
بغزو الحجاز ، فهل توجيه المسلمين لحرب الروم ثم لحرب الفرس ، بعيدا عن جزيرة العرب ،كان للدفاع أم للهجوم لفرض دولة الاسلام فى العالم ؟
يقول العقاد ( 1 ) : " ان الاسلام إنما يعاب عليه أن يحارب بالسيف فكرة يمكن ان تحارب بالبرهان و الاقناع . و لكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف " سلطة " تقف فى طريقه و تحول بينه و بين اسماع المستعدين للاصغاء اليه ، لأن السلطة تزال بالسلطة ، و لا غنى فى اخضاعها عن قوة " . و فات الاستاذ أنه لم تقم " سلطة " بالحجاز فى وجه الاسلام ، بل قام سادة المشركين بمكة عليه لحماية شركهم و مصالح الحج و منافعه . وهب أنهم كانوا سلطة و قوة ، فهل هذا يبرر فى منطق الدين، لا فى منطق السياسة – قتالهم لحماية الدين منهم و فرض الاسلام عليهم ؟ و بعد خضوعهم بفتح مكة ، أى سلطة بقيت فى الحجاز تقف فى وجه الاسلام ؟ لقد ظل القتال مشروعا و قائما لفرض الاسلام على الحجاز كله و على الجزيرة كلها " لئلا يجتمع فى جزيرة العرب دينان " : " قل " للمخلفين من الاعراب : ستدعون الى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون " ( الفتح 16 ) . فليس أمام العرب من مهرب : القتال أو الاسلام .
يقول العقاد أيضا ( 2 ) : إن الاسلام لم يحتكم الى السيف إلا فى الاحوال التى أجمعت شرائع الانسان على تحكيم السيف فيها : فالدولة التى يثور عليها من يخالفها بين ظهرانيها ماذا تصنع إن لم تحتكم الى السيف ؟ " إنما نحن فى الدين ، و شريعة الله ، لا فى الدولة و شرائع الانسان . و هل جاء الاسلام دينا أم دولة ، ليحتكم الى السيف فى من يخالفه ؟ ففى الاحتكام الى السيف تحول الدين الى دولة ، و النبوة الى إمارة .
إن فرض القتال فى الدين ، لا عهد لنا به فى دين . هل هذا هو الأعجاز فى الرسالة الدينية ؟
تحويل الدين بالجهاد الى دولة و نظام دنيا
بفرض القتال فى الدين ، تحول الدين الى دولة . لذلك يقولون : " الاسلام دولة . فى المدينة أصبح الاسلام دينا و دولة معا . فبدأت قواعد الدولة الاسلامية بالرسوخ . و أخذ الرسول يهتم بالأسس الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و العلمية التى يجب أن تقوم عليها الدولة . و سيبرز فى الوحى بعد ذلك ناحيتان : ناحية الجهاد لتثبيت الاسلام و انشاء الدولة الجديدة ، و ناحية التشريع ، لإدارة هذه الدولة " ( 1 )
و هذا هو القرآن المدنى كله : جهاد و تشريع لإقامة دينية . فاين هو الدين الخالص ، كما كان يقول : " ألا لله الدين الخالص " ( الزمر 3 ) . ففى مكة كان محمد " مخلصا له الدين " ( الزمر 11 ) ، " مخلصا له دينى " ( الزمر 14 ) . و كان يدعو جماعته ان يكونوا " مخلصين له الدين " ( 7 : 29 ، 10 : 22 ، 29 : 65 ، 31 : 32 ، 40 : 14 و 65 ، 98 : 5 ) . و فى المدينة تحول الدين الى دولة بجهاده و تشريعه : فالقرآن المدنى هو قرآن الدولة . ففى المدينة صار الدين جزءا من نظام شامل : " الاسلام دين و دولة ... و إنه تعرض لشؤون الحياة الدنيوية العلمية ، بأكثر مما تعرض للاعمال التعبدية ... إن الدين جزء من نظام الاسلام ، و الاسلام ينظمه كما ينظم الدنيا " ( 2 )
و هكذا فالاسلام نظام دنيا ، و نظام دولة ، و ما الدين فيها سوى " جزء من الاسلام " . فهل هذا هو الأعجاز فى الرسالة الدينية ، عند من كان الكتاب " إمامه " فى الهدى ؟ ( هود 17 ، الاحقاف 12 ) . هل ينزل الله كتابا يهدى الى الدين الحق ، أم الى نظام الدنيا ، و نظام الدولة ؟ و هل تنظيم الدنيا و تنظيم الدولة من الأعجاز فى الرسالة الدينية ؟
تحويل الدين الى سياسة
إذا كان الجهاد لإنشاء دولة جديدة ، و التشريع القرآنى لإدارة هذه الدولة ، كما نقلنا عن السيد عمر فروخ ، فهذا يعنى تحويل الدعوة الدينية الى دعوة سياسية . فهل هذا ما كان يهدف اليه محمد فى مكة ، فتم له فى المدينة ؟ ألا تصدق فى ذلك فراسة ابن خلدون فى مقدمته الشهيرة ( 1 ) : " إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية ، من نبوة ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة . و السبب فى ذلك أنهم لخلق التوحش الذى فيهم ، أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض ، للغلظة و الأنفة و بعد الهمة و المنافسة فى الرئاسة ".
هل تكون الدعوة القرآنية فترة فى المنافسة على الرئاسة بمكة بين بنى أمية و بنى هاشم ؟ كانت حامية قبل مبعث محمد . و كانت سبب المقاومة الكبرى فى وجه محمد . و بعده بعثت فى مكامنها و صبغت التاريخ الاسلامى بالدماء . يظهر انها كانت كذلك فى نظر زعماء المشركين ، كما يتضح من قول زعيم مكة أبى سفيان للعباس عم النبى قبل اسلامه : " لقد أصبح ملك ابن اخيك الغداة عظيما " .
فمهما يكن الأمر ، فإن فرض القتال فى النبوة و الدين كان : انقلاب النبوة الى امارة و انقلاب الرسالة الى سياسة و انقلاب الدين الى دولة و انقلاب الدعوة الدينية الى حرب أهلية و انقلاب الاسلام الى نظام دنيا و نظام دولة و انقلاب فكرة الله الرحمان الرحيم الى فكرة الإله الجبار فى القتال ، و بكلمة : انقلاب الدين الى سياسة و دولة . هذا ما فصلناه فى فصل " الأعجاز فى الشخصية النبوية " .
و هكذا ففى تشريع الجهاد ، و فرض القتال فى سبيل الدين ، " من هناك منذ ذلك الوقت خرج ( الاسلام ) الى العالم قوة حربية سياسية " ( 2 ) . فتحولت الدعوة الى سياسة .
فهل هذا من الأعجاز فى الرسالة ؟ رسالة دين الله ؟
الجهاد أسلوب غريب فى الدعوة لدين الله
سار محمد على طريقة أنبياء الكتاب العهد بمكة فى الدعوة " بالحكمة و الموعظة الحسنة " ، و كان القرآن يقول على لسانه " ما كنت بدعا من الرسل " . و بالهجرة الى المدينة بدأ أسلوبا غريبا فى الدعوة لدين الله بالجهاد ، و تشريع القتال ، ليظهر الاسلام القرآنى على الدين كله ، و لو كره المشركون و الكافرون .
و تشريع الجهاد جعل الاسلام القرآنى دين القتال ، مهما غلفنا هذه الشريعة الحربية فى الدين بغلافات البيئة ، و ضرورات الحاجة ، و ملزمات الدعوة ، و شروط الشريعة . فكل الموجبات و المفارقات تذوب فى الصورة الأخيرة لشريعة القتال ، فى اسمها ، " براءة " و فى موضوعها القتال العام الدائم : " براءة من الله و من رسوله الى الذين عاهدتم من المشركين : فسيحوا فى الأرض أربعة أشهر ، و اعلموا أنكم غير معجزى الله ، و أن الله مخزى الكافرين ( ... ) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " حتى يسلموا ( براءة 1 و 2 و 5 ) . قال ابن حزم : " نسخ بهذه الآية ماية و أربع عشرة آية ، فى ثمان و أربعين سورة ! و نقل ( الاتقان 2 : 24 ) : " قال ابن العربى : كل ما فى القرآن من الصفح عن الكفار ، و التولى و الاعراض و الكف عنهم ، منسوخ بآية السيف " .
فآية السيف هى إذن روح القرآن ، و هدفه البعيد الحقيقى ، كما جاء فى الحديث عن الرسول : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله . فإذا قالوها عصموا منى دماءهم و أموالهم ، إلا بحقها ، و حسابهم على الله " . و يقول حديث آخر : " دينى بالسيف و مع السيف و فى السيف " . فلا حرية بعد للانسان تجاه الاسلام . فآية السيف تنقض مبدأه : " لا اكراه فى الدين " . فالحديث و القرآن يجعلان الاسلام دين القتال ، فليس له شأن فى اجتناب القوة كشأن كل دين ، و عن المؤمن ، إذ يبيح قتل المرتد . فالإكراه فى الدين من روح الجهاد و حرفه .
لقد خلق نظام حياة فريدا فى النقل و العقل : فقد مزج الدين بالدنيا و فرض صبغها بمظاهر الدين ، فجع المجتمع الاسلامى ينفرد عن كل مجتمع ، و لا يندمج بأى مجتمع . و قد دمج الدين بالقومية ، و خلق قومية دينية فوق القومية العنصرية ، فلا مجال فى أرضه لقومية أخرى غير قوميته الدينية . و تسامحه فى الوطن الواحد يجعل أبناء دين آخر أبناء جارية ، لا من أبناء " الست " ، و مواطنين مشبوهين بين المواطنين المسلمين . و بذلك اخضع الدين لتقلبات القومية ، و عرضة لصراع الدين و القومية . و قد حول الدين الى دولة دينية ، ليس منها من هو فيها على غير دين . و ليس ابناؤه فى دولة غير دولته إلا طارئين أو دولة ضمن الدولة . فخضع الدين الى تقلبات الدولة و كان عرضة لصراع الدين و الدولة . و قد اصطبغ الدين بالسياسة ، فكان على المسلم أن يهتم بالسياسة اهتمامه بالدين ، و كان الاهتمام بالسياسة من صميم الدين . فخضع الدين لتقلبات السياسة كما شهدنا فى التاريخ ، و كما نشهد فى الواقع . و كان عرضة لصراع السياسة فى نفس كل مؤمن ، و كل مجتمع ، و كل دولة . و خضع الاجتماع و الاقتصاد للدين ، كما خضع الدين للاجتماع و الاقتصاد . و مع تطور الحياة و مفاهيم الحياة ، خلق الصراع بين الدين و الاجتماع ، و خلق الصراع بين الدين و الاقتصاد . فتجمد الاجتماع و الاقتصاد على أحكام الدين كما ظهر فى بيئة محدودة ، أو تطور الاجتماع و الاقتصاد على حسابأحكام الدين .
فهل هذا كله من الأعجاز فى الرسالة ؟ رسالة دين الله ؟
معجزة " الحديد " هى الإعجاز فى الرسالة
آن لنا أن نتساءل : هل نجحت الرسالة المحمدية و ثبتت نبوتها بإعجاز القرآن أم بسيف الاسلام ؟
شهادة الواقع التاريخى ان الرسالة المحمدية فشلت بمكة " بالحكمة و الموعظة الحسنة " ، و نجحت فى المدينة بشريعة القتال و سيف الاسلام . و شهادة القرآن المدنى كله ان الدعوة المحمدية نجحت بالقتال و الفتح . بعد تحدى المشركين بمكة – فى فترة عابرة – بإعجاز القرآن ، نسخ هذا التحدى فى المدينة ، بالناسخ و المنسوخ فى أحكام ( البقرة 106 ) و بالمحكم و المتشابه فى أوصافه ( آل عمران 7 ) . و تحدى العالمين بمعجزة " الحديد " : " إنا أنزلنا الحديد ، فيه بأس شديد و منافع للناس ، و ليعلم الله من ينصره و رسله بالحق " ( الحديد 25 ) . فبدون السيف لا نصرة لله ، و لا نصر لرسوله ، ولا منافع لأتباعه ! فتحول الاسلام ، فى رسالة النبى العربى ، من دين السلام – كما يعنى اسمه – الى دين القتال : " كتب عليكم القتال و هو كره لكم " ( البقرة 216 ) . و صارت رسالة السلام رسالة الحرب ، و تحول " نبى المرحمة " الى " نبى الملحمة " : " محمد رسول الله ، و الذين معه ، أشداء على الكفار ، رحماء بينهم " ( الفتح 29 ) .
وشهادة القرآن فى ختام الرسالة و الدعوة أن الناس دخلوا فى الاسلام " بنصر الله و الفتح " : " اذا جاء نصر الله و الفتح ، و رأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك ، و استغفره ، إنه كان توابا ( سورة النصر ) . و الأمر بالاستغفار ، بعد النصر و الفتح ، دليل على ان اسلوب الدعوة بالقوة مشبوه .
فنجاح الرسالة قام بسيف الإسلام، لا بإعجاز القرآن، و هذا بنص القرآن القاطع في آخر سورة نزلت منه. فلم يكن الإعجاز معجزة محمد والقرآن. فلم تنجح الدعوة القرآنية " بالحكمة والموعظة الحسنة "، كما هو سبيل الدعوة الدينية، بل " بالحديد الذي فيه بأس شديد و منافع للناس ". و لم تنجح بالمعجزة الحسية، بحسب " سُنة الأنبياء الأولين ". و لم تنجح بالمعجزة الشخصية. و لم تنجح بإعجاز القرآن، بل بشرعة القتال و سيف الاسلام.
فهل هذا هو الاعجاز في الرسالة، رسالة دين الله؟
- عدد الزيارات: 11024