Skip to main content

قالوا ذكر القرآن لمحمد معجزات

لقد ثبت لنا ، مما تقدم من واقع القرآن و شهادة أئمة الاسلام فى عصرنا ، أنه لا معجزة فى القرآن ، سوى اعجازه " فى حسن تأليفه و عجيب نظمه " كما قال الباقلانى .
لكن ، بسبب شعور القوم الفطرى بأن المعجزة الحسية هى دليل النبوة الأوحد ، و أن القرآن وحده هو الخبر اليقين عن السيرة و الدعوة ، أخذوا يقبلون القرآن و يتدبرونه ليجدوا فيه معجزة . فوقعوا على بعض " آيات متشابهات " ، فانكبوا عليها يستدرجونها ليخرجوا منها معجزة تشهد بصحة النبوة و الدعوة . فوجدوا فى القرآن مثل هذه المعجزات .


أولا : " أسطورة شق الصدر " ( 1 )
جاء فى مطلع سورة ( الشرح ) : " ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذى أنقض ظهرك ، و رفعنا لك ذكرك " ( 1 – 4 ) .
و المتبادر الى الذهن أن " شرح الصدر " تعبير مجازى يدل عليه ما بعده : فقد شرح النبى صدرا بوضع وزره عنه و رفع ذكره .

فسرها الجلالان : " أى شرحنا لك يا محمد صدرك
بالنبوة و غيرها " . فلا ذكر عندهما لمعجزة شق الصدر و تطهيره . و كأن التطهير من الوزر عمل مادى ! و المعنى المجازى متواتر فى القرآن : " يشرح صدره للاسلام " ( الأنعام 125 ) ، " شرح بالكفر صدرا " ( النحل 106 ) .
فسرها البيضاوى : " ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق و دعوة الخلق فكان غائبا حاضرا . أو ألم نفسحه بما أودعنا فيه من الحكم و أزلنا عنه ضيق الجهل . أو بما يسرنا لك تلقى الوحى بعدما كان يشق عليك ؟ " . فليس فى هذا كله مجال لأسطورة شق الصدر . لكن البيضاوى يضيف : " و قيل انه اشارة إلى ما روى أن جبريل أتى رسول الله صلعم فى صباه ، أو يوم الميثاق فاستخرج قلبه فغسله ثم ملأه إيمانا و علما . و لعله إشارة الى نحو ذلك " . و هناك ضحى القاضى بعلمه ارضاء لأهل الحديث من العامة : فهل العلم و الايمان أشياء توضع فى القلب ؟ و هل يقوم القلب مقام العقل ؟ و كيف فاته قول القرآن بعد ذلك : " ووجدك ضالا فهدى " ( الضحى 7 ) .
لكن اصل القصة عند المفسرين كان فى تفسير الطبرى بالحديث . فروى أن القصة وقعت لمحمد فى سن الطفولة ، أو فى سن الكهولة نحو الأربعين و قبيل البعثة . و كيف فاته حديث سورة ( الضحى 6 – 8 ) التى توجز فترة ما قبل البعثة بقولها : " ألم يجدك يتيما فآوى . ووجدك ضالا فهدى . ووجدك عائلا فأغنى " . فلو كان هناك من حادث جرى ، أو معجزة وقعت لمحمد قبل البعثة لذكرها القرآن تسلية للنبى و تأييدا لدعوته .
و الاسطورة ترويها السيرة على لسان مرضعه حليمة السعدية ، أو على لسان ابنها ترب محمد فى الرضاعة ، أو على لسان محمد و كان عمره سنتين و نصف السنة . قالت حليمة : " فخرجت أنا و أبوه فوجدناه قائما ممتقعا وجهه . فالتزمته و التزمه أبوه . فقلنا له : ما لك يا بنى ؟ قال : جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعانى فشقا بطنى فالتمسا فيه شيئا لم أدر ما هو " . فهل الاثم شىء محسوس ؟ و هل يكون فى البطن ؟ و طفل دون الحلم هو غير مكلف و لا مسؤول عن وزر ينقض الظهر . و غسل الصدر أو البطن من وزر لا معنى له على الاطلاق - إلا أن يكون العماد " النصرانى " المستور بهذه الروايات .
و الاحاديث عن الاسطورة تختلف اختلافا كثيرا . قال الاستاذ عبد الله السمان ( 1 ) : " وحديث البخارى يقول : " ان الحادث وقع ليلة المعراج . و ابن حزم يعارض البخارى .
.
و قيل : و هو ابن عشرين سنة ، كما فى حديث ابن حيان و الحاكم . و قيل : حين كان مسترضعا لدى حليمة ، و أخوه من الرضاع ، و سنه لا تتعدى السنتين ، هو الذى شهد الحادث و نقله الى أمه حليمة . و الحافظ العراقى فى ( نظم السيرة ) يقول : فى عامه الرابع " . فلا يدرون متى وقع له الحادث و فى أى زمان و فى أى مكان . و اختلاف الاحاديث دليل تهافتها .
جاء فى صحيح البخارى : " بينا أنا عند البيت ، بين النائم و اليقظان – و ذكر بين الرجلين – فأتيت بطست من ذهب ملىء حكمة و إيمانا . فشق من النحر الى مراق البطن – أى أسفله – ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملىء حكمة و ايمانا " . لاحظ التهافت فى التعبير نفسه : محمد " بين النائم و اليقظان " ، فهل الرؤيا حادث واقعى ؟ و ما معنى شهادة من هو غائب عن وعيه ؟ و هل الحكمة و الايمان أشياء حسية يملأ بها طست من ذهب ؟ فيا ليت البخارى أسقط هذا الحديث مع آلاف الأحاديث التى نرفضها .
يقول الأستاذ السمان : " و قد اهتمت كتب السيرة بهذا الحادث دون التعقيب عليه . و ما كان لمنطق سليم أن يقره أو يعترف به . و رغم اضطرب الروايات ، لا يفوتنا أن هذه الأحاديث تتعلق بجانب غيبى – و هو الذى يمثله الملائكة – و لا يصح للتصديق بسوى الخبر المتواتر . و لا خبر متواتر فى القصة " .
لذلك يسميها الدكتور حسين هيكل : " أسطورة شق الصدر " لسبب ان محمدا لم يلجأ فى اثبات الى ما لجأ اليه من سبقه من الخوارق " .


ثانيا : الإسراء و المعراج
وجد بعضهم معجزة الاسراء فى هذه الآية :
" سـبـحان الذى أسرى بـعـبده لـيلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصا
الذى باركــنا حولــه لــنريــه من آياتنا ، إنه هو السميع البصير "
ووجد هذا البعض معجزة المعراج فى هذه الآيات :
" و لــــــــقد رآه أخرى عـــــــند سدرة المنتهى
عـــــندها جـــــنة المأوى اذ يــغشى الــسدرة ما يــغشى
ما زاغ الــبــصر و ما طــغى لـقد رأى مـن آيات ربـه الـكبرى "
( النجم 13 – 18 )
و على هاتين الإشارتين لفقوا ، فى الحديث و السيرة و التفسير ، هذه القصة : " بينما أنا فى المسجد الحرام ، فى الحجر ، عند البيت ، بين النائم و اليقظان أتانى جبريل بالبراق – أو من الحرم و سماء المسجد الحرام لأنه كله مسجد ، أو لأنه محيط به ، لما روى أنه كان نائما فى بيت أم هانى بعد صلاة العشاء " ( البيضاوى ) . و هند هى بنت عمه أبى طالب . و البراق " دابة أبيض فوق الحمار و دون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه " ( الجلالان ) ، " و هى الدابة التى كانت تحمل عليها الأنبياء قبله " ( السيرة لبن هشام 2 : 38 ) – و الكتاب و أسفار الأنبياء تجهلها . " فقال جبريل : أيها النائم ، قم . فانحنت الدابة ، و لها أجنحة كأجنحة النسر ، أمام رسول الله ، فاعتلاها و انطلقت به انطلاق السهم ، فوق جبال مكة ، و رمال الصحراء ، متجهة الى الشمال " ( حسين هيكل ، حياة محمد ) . " فسار بى حتى أتيت بين المقدس فربطت الدابة بالحلقة التى تربط فيها الأنبياء " ( الجلالان ) . " و بيت المقدس مهبط الوحى ، و متعبد الأنبياء ، محفوف بالأنهار و الأشجار " ( 1 ) ( البيضاوى ) . فصلى النبى بين الأنبياء ابراهيم و موسى و عيسى . ( 2 )
ثم أوتى بالمعراج فارتكز الى صخرة يعقوب ، و عليه صعد محمد سراعا الى السماوات يقوده جبريل ، و له ستماية جناح . فاجتاز السماء الأولى ، و هى من فضة خالصة ، علقت اليها النجوم بسلاسل من ذهب ، و قد قام على كل منها ملاك يحرسها حتى لا تعرج الشياطين . الى علو عليها ، أو يستمع الجن الى اسرار السماء ( حسين هيكل : حياة محمد ) . فرأى فيها رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل ، فى أيديهم قطع من نار كالأنهار ، يقذفونها فى أفواههم فتخرج من أدبارهم ( سيرة ابن هشام ) . و رأى فى غيرها عزرائيل ، ملاك الموت ، بلغ من ضخامته ان كان ما بين مسيرة سبعين ألف يوم ! و كان يسجل فى كتاب ضخم أسماء من يولدون و من يموتون ! و رأى فى أخرى ملاكا ضخما نصفه من نار و نصفه من ثلج . و فى

السماء السابعة رأى ملاكا أكبر من الأرض كلها ، له سبعون ألف رأس ، فى كل رأس سبعون ألف فم ، فى كل فم سبعون ألف لسان كل لسان ينطق بسبعين ألف لغة ، من كل لغة بسبعين ألف لهجة ، فسار النبى ما بين خلق و خلق ما مسيرته بتلك السرعة خمسماية عام ، حتى وصل الى حضرة القديم ، فكان ما بينه و بين العرش " قاب قوسين أو أدنى " . و ذلك عند " سدرة المنتهى ، فإذا أوراقها كآذان الفيلة ، و اذ ثمرها كالقلال . فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع يصفها من حسنها . قال : فأوحى الله إلى ما أوحى " ( الجلالان ) . هناك " رأى من آيات ربه الكبرى " – " فرأى من عجائب الملكوت رفرفا أخضر سد أفق السماء " . حينئذ مد العلى القدير يدا على صدر محمد ، و الأخرى على كتفه دليل الرضى و القبول . و فرض الله على أمته خمسين صلاة فى كل يوم و ليلة . و رجع بها محمد حتى لقى موسى ، فحذره موسى و قال : ارجع الى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك . فأخذ محمد يطوف بين الله و موسى ، حتى خفف الله الفريضة الى خمس مرات فى اليوم . أخيرا نزل محمد على المعراج الى الأرض ، و امتطى البراق الى مكة . " رواه الشيخان . و روى الحاكم فى ( المستدرك ) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلعم رأيت ربى عز و جل " ( الجلالان ) .
1 – تلك هى قصة الاسراء و المعراج فى الحديث و السيرة و التفسير . أصحيح ان النبى الصادق الأمين قد رواها ؟ ظاهرها يدل عليها : إنها من الاسرائيليات التى تزخر بها كتب اليهود المنحولة .
نعرف أن الملاك روح لا جسد له ، أو هو " من نار " كما يقول القرآن . فكيف يكون لعزرائيل رأس ، ما بين العينين فيه مسيرة سبعين ألف يوم ؟ و ما هذا الملاك الذى نصفه من نار و نصفه من ثلج ؟ و ذاك الملاك الذى هو أضخم من الأرض كلها ، و له سبعون ألف رأس ، فى كل رأس سبعون ألف فم ، فى كل فم سبعون ألف لسان ، و كل لسان ينطق بسبعين ألف لغة ، و من كل لغة بسبعين ألف لهجة ؟ ! و ما هو هذا البراق " الدابة فوق الحمار و دون البغل ، و له أجنحة كأجنحة النسر " ! و محمد يربط البراق " دابته بالحلقة التى كانت تربط بها الأنبياء " : و نعرف من التاريخ أنه لم يكن فى زمن محمد لا هيكل و لا حلقة ، بل أطلال على أطلال . و حديث الشيخين يضع عيسى فى السماء الثانية مع يحيى ابن خالته ، و يوسف فى الثالثة ، و ادريس فى الرابعة ، و هارون فى الخامسة ، و موسى فى السادسة و ابراهيم
فى السابعة . مع أن القرآن جمع " ابراهيم و موسى و عيسى " معا ( الشورى 13 ) ، و ميز عيسى عن سائر الرسل بأنه " كلمته ألقاها الى مريم و روح منه " ( النساء 171 ) فهل يكون كلمة الله و روح الله أدنى من سائر الرسل ، فى السماء الثانية ؟ ! و ما هو هذاالمعراج الحسى كالسلم يصل ما بين الأرض و السماء السابعة ؟ و هل يعقل أن يفرض الله على أمة محمد خمسين صلاة فى اليوم ؟ و اذا فرض الله فريضة فهل يراجعه العبد فيها ؟ لقد استذوق القوم دس " الاسرائيليات " و أخذوا يتغنون بها !
و يا ليتهم اكتفوا بالاسراء النبوى الروحى الذى حصل لبعض المرسلين كبولس الرسول الذى " أسرى به الى السماء الثالثة ، أبالجسد أم بدون جسد ، لست أعلم ، الله يعلم " ، " قد أسرى به الى الفردوس و سمع كلمات معجزة لا يحل لإنسان أن ينطق بها " ( 2 كور 12 : 1 – 4 ) . لكنهم ارادوا أن يستجمعوا لمحمد ما وزعه الله على جميع الأنبياء : كما صلى موسى و إيليا مع المسيح و شهدا له حين تجليه . و فاتهم تصريح القرآن : " إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى ... " !
2 – أما الاسراء و المعراج بحسب القرآن فقد اختلفوا فيها اختلافا كبيرا . قال الزمخشرى عن الحادث نفسه : " و اختلفوا فى وقت الاسراء . فقيل كان قبل الهجرة بسنة . و عن أنس و الحسن أنه كان قبل البعثة " . فما معنى المعجزة قبل البعثة ؟ و كيف يكون اسمى الوحى فى المعراج ، و لم يبعث محمد بعد ؟
" و اختلف فى أنه كان فى اليقظة أم فى المنام . فعن عائشة : " و الله ما فقد جسده ، و لكن عرج بروحه " . و عن معاوية أنه عرج بروحه . و عن الحسن كان فى المنام رؤيا رآها . و أكثر الأقاويل بخلاف ذلك " – و هذه الخلافات تثير الشبهات على الحادث نفسه .
و قال الاستاذ دروزة ( 1 ) فى هل يصح اعتبار الاسراء كما وصفه القرآن معجزة : " و اذا ما دققنا فى مدى آية الاسراء ، وجدنا أن الاسراء النبوى الذى أشارت اليه الآية لم يكن جوابا على تحد ، و انما كان حادثا خاصا بالنبى صلعم ليريه من آياته . و أنه لم يدركه و لم يشعر به غيره . و استطعنا بالتالى أن نقول : إنه لا يدخل فى مدى اصطلاح المعجزة ، و لا

يصح أن يعد و الحالة هذه ناقضا للموقف السلبى العام . و نصل الى النتيجة نفسها إذا ما دققنا فى مدى آيات ( النجم 13 – 18 ) التى قال بعض المفسرين إنها تضمنت خبر المعراج النبوى . و هذا بغض النظر عما هناك من أقوال و روايات مختلفة فى كيفية و ظروف الحادثتين . حيث هناك روايات بأن كليهما رؤيا منامية ، أو أنهما كانا فى اليقظة و الجسد و الروح أو بالروح دون الجسد . أو بأن الاسراء كان باليقظة و الجسد و الروح ، دون المعراج الذى كان مناما أو كان بالروح . أو بأن حادث المعراج النبوى لم يقع ، و انما الواقع الثابت هو حادث الاسراء ، أو بأن الاسراء كان فى وقت ، و المعراج فى وقت آخر ، أو بأنهما كانا فى ظرف واحد . و بأنهما وقعا فى أوائل البعثة ، و فى أواسطها ، بل هناك قول بأنهما وقعا قبل البعثة بسنة " .
إن الخلاف قائم فى أساس الحادث و فهمه ، فهو مشبوه ، و لا تقوم معجزة على مشبوه . و القرآن لا يذكر المعراج ، و لا يجعل الاسراء الليلى معجزة له .
3 – و عندنا أن الدلائل القرآنية تنقض المعجزة فى الحادث ، و تنفى الحادث نفسه بمعناه الحسى .
النص يقول حرفيا : " سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصا " . فالتعبير " أسرى ليلا " يدل على أنه " رؤيا منامية " ، لا حادث تاريخى . و التعبير الآخر " الى المسجد الاقصا " ينقضه التاريخ العام ، فجميع التواريخ تشهد بأنه لم يكن فى بيت المقدس ، على أيام محمد ، مسجد أقصى غير كنائس النصارى . و ما يسمى " المسجد الاقصى " بدأ بناءه عبد الملك بن مروان . فإن هيكل سليمان ، الى الغرب من الصخرة الشهيرة ، كان قد هدمه الرومان فى القرن الأول الميلادى ، فى حرب السبعين ، و لم تقم له قائمة ، حتى بناه بنو أمية . فإلى أى مسجد أسرى بمحمد ؟ هل أسرى به الى كنائس المسيحيين ، و لم يكن فى بيت المقدس حينئذ سواها ، ليرى فيها " من آيات ربه الكبرى " ؟
و اذا كان لالااسراء فى الآية أساس لغوى ، فليس فى آيات ( النجم 13 – 18 ) من أساس للمعراج فى الاطلاق : فإنها تصف نزول القرآن على محمد فى غار حراء ، فى " ليلة مباركة " ، " ليلة القدر " ، " من شهر رمضان " – فالقرآن كله ينقض قصة المعراج . " تنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين " ( الشعراء 192 – 193 ) بوسيط ووسط . فالتعابير الحرفية تنقض تعابير العروج و المعراج . و ما توهموه فيها من عروج و معراج تنقضه الآية فى
سورة الاسراء : " أو ترقى فى السماء : و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرأه ! – قل : سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا " ( 93 ) . فتحديهم له ، و اقراره بعجزه يقضيان قضاء مبرما على أسطورة المعراج ، بصريح القرآن . و القرآن نفسه يشترك فى تعجيز محمد عن أى فكرة عروج و معراج : " و ان كان كبر عليك اعراضهم ، فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الأرض ، أو سلما فى السماء ، فتأتيهم بآية " ( الانعام 35 ) – فافعل : المعنى أنك لا تستطيع ذلك " ( الجلالان ) . قوله : " سلما فى السماء " هو تعريف حرفى بالمعراج ، و نقض مبرم لحدوثه.
و القرآن نفسه يعتبر أن " الاسراء " كان " رؤيا للفتنة " و التخويف ، مثل رؤيا شجرة الزقوم فى قعر الجحيم : " و ما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناسو الشجرة الملعونة فى القرآن . و نخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " ( الاسراء 60 ) . ففى السورة كلها ليس من رؤيا إلا " أسرى ليلا " ، فالاشارة فى الآية ( 60 ) تعود الى هذا الاسراء الذى تصفه السورة " برؤيا منامية " ، فليست بحادث تاريخى . يزيد ذلك يقينا مقابلتها مع رؤيا شجرة الزقوم فى قعر الجحيم ، و كلاهما رؤيا للتخويف ، لا للتحقيق : " و تخوفهم " . أبعد صريح القرآن ، نجرؤ على إقامة الأساطير ؟ ! و قوله " رؤيا ، و نخوفهم " يجعل تعبير " أسرى بعبده ليلا " تعبيرا مجازيا ، لا أمرا واقعيا .
و جل ما يقال فى آية الاسراء انها " رؤيا منامية " كالرؤيا المنامية التى رآها فى المدينة بدخوله الحرم : " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق : لتدخلن المسجد الحرام ، إن شاء الله ، آمنين محلقين روؤسكم و مقصرين ، لا تخافون " ( الفتح 27 ) . فكلاهما رؤيا منام ؟ لكن القرآن يصرح بأن الله " صدق رسوله الرؤيا بالحق " أى بالواقع فى دخوله مكة . لكن القرآن لا يصرح أبدا بتحقيق رؤيا الاسراء ، فظلت طيف ليل .
و ليس لتلك الرؤيا المنامية معنى المعجزة و لا معنى المكاشفة .
فلو كان لآية الاسراء معنى المعجزة لكان النبى أعطاها كمعجزة كلما تحدوه بمعجزة ، و طالما تحدوه . و السورة نفسها ترد على تحدياتهم بمعجزة ( 90 – 93 ) بالاقرار بالعجز عن كل معجزة : " قل : سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا " ( 93 ) و السورة نفسها تعلن منع المعجزة مبدئيا عن محمد : " و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون " ( 59 ) . فهذان المنع الربانى و العجز المحمدى عن كل معجزة برهان قاطع أن ليس فى " الاسراء " من معجزة . فسورة الاسراء نفسها تنفى الاعجاز فى الحادث ، و المعنى الحسى فيه .
و ليس فى " الاسراء " أيضا شىء من معنى المشاهدة أو المكاشفة ، فى قوله : " لنريه من آياتنا " ( الاسراء 1 ) ، " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " ( النجم 18 ) . فما رواه الحاكم فى ( المستدرك ) عن ابن عباس : " قال رسول الله صلعم رأيت ربى عز و جل " ، فإن عائشة تكذبه تكذيبا قاطعا ، باسم القرآن نفسه : " من قال إن محمدا رأى ربه فقد كذب : ألا ترى إلى قوله : و لا تدركه الأبصار " ! و القرآن كله " تنزيل " من " لوح محفوظ " بواسطة جبريل : فهو تنزيل بوسيط ووسط ، لا وحى مباشر ، و لا تكليم ، و لا كشف ، و لا مشاهدة . فليس فى رؤيا " آياتنا " ( الاسراء 1 ) أو رؤيا " آيات ربه الكبرى " شىء من معنى المشاهدة أو المكاشفة فى عالم الغيب ، أنما تقصد آيات عالم الشهادة أى الكون و الخلق ، كما هو الاسلوب المتواتر فى القرآن ، " اسلوب لفت النظر إلى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها على وجود الله " و توحيده ، كما يقول دروزة ( 1 ) ، أو كما يصرح القرآن نفسه : " سنريهم آياتنا فى الآفاق و فى انفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " ( فصلت 53 ) . و أشد من ذلك وقعا أن فى السورة نفسها عتابا لمحمد بأنه كاد يركن " شيئا قليلا " الى فتنة المشركين له عن الوحى ( الاسراء 73- 75 ) ، و الى فتنتهم له عن التوحيد الخالص ( 110 – 111 ) ، فهذا الواقع المزدوج المرير لا يتفق مع المشاهدة أو المكاشفة " لآيات الله الكبرى " فى ذاته أو فى ملكوته السماوى ، و لا مع اسراء أو معراج !
و هناك واقع قرآنى لا يفطنون له : إن آية الاسراء نفسها لا تمت بصلة الى السورة ، فهى لا تمت الى ما بعدها بصلة ، حيث الآية التالية تبدأ قصة موسى . و روى الآية ذاته يختلف عن روى السورة كلها . و اختلافهم فى زمن حدوث " الاسراء " دليل على أن آيته ملصقة بالسورة . يؤيد ذلك أن آية الاسراء لا تمت أيضا الى ما قبلها بصلة ، لا فى النسق الحالى ( بعد سورة النحل ) ، و لا فى ترتيب النزول ( بعد سورة القصص ) . فآية الاسراء معلقة بالسورة تعليقا .
هل لنا أن نذهب الى أكثر من ذلك ؟ سمعت من بعض شيوخ العلم أن الحجاج بن يوسف ، عميل بنى أمية ، و الذى تم آخر اصدار للقرآن على يده – و ما أدراك ما الحجاج ! – قد يكون هو الذى دس الاسراء على السورة ، عند اصدار القرآن و إتلاف النسخ
العثمانية ، ليصرف حج أهل الشام الى بيت المقدس ، عن مكة المكرمة حيث كانت الفتنة تفتنهم عن بنى أمية . و قد كانت السورة تسمى " بنى اسرائيل " كما فى الاية التى تستفتح قصص موسى ( 2 ) ، على ما نقل البخارى عن ابن مسعود : " قال النبى صلعم ان بنى اسرائيل و الكهف و مريم و طه و الأنبياء هن من العتاق الأول ، و هن من تلادى " ( 1 ) فصارت تسمى " أسرى " أو " الاسراء " . و نحن نقول : هذا تخريج قد يكون له دلائل ، لكن ليست له أخبار ثابتة .
فمن الثابت ، بالبراهين القرآنية التى قدمنا ، أن ليس فى آية الاسراء معجزة ، و لا حادث تاريخى . إنما " الاسراء " بنص الآية نفسها " رؤيا منامية " لم يحققها الواقع و التاريخ ، كما حقق رؤيا دخول مكة يوم الفتح الاعظم . و لا يقوم اعجاز التنزيل و لا معجزته على " رؤيا منامية " . و جل ما فى القصة أنها تعبير مجازى لاتجاه محمد فى دعوته الى " بيت المقدس ، مهبط الوحى ، و متعبد الأنبياء " .


ثالثا : معجزة الغار
جاء فى سورة ( التوبة – براءة ) قوله : " إلا تنصروه فقد نصره الله ، إذ أخرجه الذين كفروا ، ثانى اثنين ، إذ هما فى الغار ، إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا . فأنزل الله سكينته عليه ، و أيده بجنود لم تروها . و جعل كلمة الذين كفروا السفلى . و كلمة الله هى العليا . و الله عزيز حكيم " ( 40 ) . ففى الآية إشارة الى حادث اختفاء الرسول مع أبى بكر ، فى غار " ثور " ، جبل الى الجنوب من مكة ، فى طريق هجرتهما الى المدينة .
و فى سورة ( الانفال ) فسر عناية الله بالنبى بقوله : " و اذ يمكر الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك . و يمكرون و يمكر الله ، و الله خير الماكرين " ( 30 ) . فقد أنجى الله محمدا بعنايته الخاصة . و ليس فى الآيتين ذكر لمعجزات حسية جرت على فم الغار لحجب من فيه عن أعين المطاردين .
و قوله : " ايده بجنود لم تروها " يكفى لإبعاد كل معجزة حسية . لكن بعض أهل الحديث أتوا بجنود من الله محسوسة ملموسة : كنسيج العنكبوت على باب الغار ، و نماء شجرة على فمه ، و بيض الحمائم فيها . لكن السنن الصحاح لم يرد فيها ذكر لشىء من ذلك .

و نجاة محمد و صاحبه من المطاردة انما كان لمهارة محمد و صاحبه أبى بكر فى ذلك . جاء فى السيرة لابن هشام : أن النبى يوم هجرته من مكة أضجع عليا على فراشه ببردته ليوهم الناس انه لم يذهب . و أمر أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه نهاره ، ثم يريحها عليهما اذا أمسى ، فى الغار ، كما امر ابنه عبد الله أن يستطيع لهما أخبار قريش ، ثم يأتيهما اذا أمسى فيقص عليهما ما علم منها . فاذا غدا عبد الله من عندهما الى مكة عفى الراعى عامر بآثار الغنم على آثار عبد الله ابن أبى بكر . هكذا " يمكرون ، و يمكر الله ، و الله خير الماكرين " . و حماية الله لمحمد فى الغار ، " بجنود لم تروها " ، ليس حادثا مشهودا يمكن التحدى به كمعجزة ، بنص القرآن القاطع .
و هنا تسعفنا السنن الصحيحة ، و سيرة ابن هشام التى وضعت بعد مئتى عام من الحادث : فجميعها لا تذكر شيئا من المعجزات الثلاث التى اختلقوها .
و لو أن القرآن نفسه علم فى الأمر معجزة لنوه بها كلما تحدوه بمعجزة ، و لما سكت عنها الى آخر سورة ( التوبة – براءة 40 ) . و ينسون على الدوام ان المعجزات منعت عن محمد منعا مبدئيا مطلقا ( الاسراء 59 ) ، و امتنعت عليه امتناعا واقعيا مطلقا ( الاسراء 93 ) .
لذلك يرى العلماء ، و منهم الاستا دروزة ، أن ليس فى حادث الغار من معجزة ، انما هو عناية ربانية : " و الآية ( براءة 40 ) تتضمن التنويه بالعناية الربانية بالنبى أولا ، و بما كان من رباطة جأشه فى هذا الموقف العصيب ثانيا ، ثم بما كان من أثر إفلاته ، و نجاحه ، و التحاقه بالمدينة ، فى قوة الاسلام و انتشاره و كبت اعدائه " .
فليس فى الحادث عنصر من أركان المعجزة : لا حادث مشهود ، و لا معجزة معهود ، و لا تحد مقصود . إنما هى حاجة الأمة للخوارق لإثبات النبوة بالمعجزة ، لم يجدوها فخرقوها . و الاساطير تحط من هيبة النبوة ، و لا ترفعها .


رابعا : معجزة " الرمى " فى بدر
نزلت سورة ( الانفال ) فى ملابسات غزوة بدر ، التى كانت أول نصر فى الاسلام . و جاء فى وصفها :
" و إذا يعدكم الله احدى الطائفتين أنها لكم ، و تودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم و يريد الله أن يحق الحق بكلماته و يقطع دابر الكافرين ( 7 ) .
" إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم : انى أمدكم بألف من الملائكة مردفين : و ما جعله الله إلا بشرى ، و لتطمئن قلوبكم . و ما النصر إلا من عند الله … ( 9 – 10 ) . " إذا يغشيكم النعاس أمنة منه ،
" و ينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به و يذهب عنكم رجز الشيطان و ليربط قلوبكم و يثبت به الأقدام ( 11 ) .
" إذ يوحى ربك الى الملائكة : إنى معكم فثبتوا الذين امنوا ، سألقى فى قلوب الذين كفروا الرعب . فاضربوا فوق الاعناق ، و اضربوا منهم كل بنان ( 12 ) .
" فلم تقتلوهم ، و لكن الله قتلهم ! و ما رميت ، و لكن الله رمى ، و ليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا : ان الله سميع عليم ( 17 ) .
" إذ يريكهم الله فى منامك قليلا ، و لو أراكم كثيرا لفشلتم و لتنازعتم فى الامر ( 43 ) .
" و إذ يريكموهم ، إذ التقيتم فى اعينكم قليلا و يقللكم فى اعينهم ، ليقضى الله امرا كان مفعولا . و الى الله ترجع الأمور " ( 44 ) .
فى هذا الوصف القرآنى لمعركة بدر رأى المفسرون الأقدمون فى قوله : " و ما رميت إذ رميت ، لكن الله رمى " معجزة قال الجلالان : " و ما رميت يا محمد أعين القوم اذ رميت بالحصى ، لأن كفا من الحصى لا يملأ عيون الجيش الكثير برمته بشر ( و لكن الله رمى بإيصال ذلك اليهم ، فعل ذلك ليقهر الكافرين " .
و قال البيضاوى : " روى أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال صلعم : هذه قريش جاءت بخيلائها و فخرها يكذبون رسولك : اللهم انى اسألك ما وعدتنى . فأتاه جبريل و قال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها . فلما التقى الجمعان تناول كفا من الحصباء ، فرمى بها فى وجوههم و قال : شاهت الوجوه ! فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه ، فانهزموا ، و ردفهم المؤمنون يقتلونهم و يأسرونهم .
" ثم لما أنصرافوا أقبلوا على التفاخر ، فيقول الرجل : قتلت و أسرت ! فنزلت : ( و ما رميت ) يا محمد ( إذ رميت ) أتيت بصورة الرمى ( و لكن الله رمى ) أتى بما هو غاية الرمى ، فأوصلها الى أعينهم جميعا ، حتى انهزموا و تمكنتم من قطع دابراهم .
" و قيل : معناه ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ، و لكن الله رمى بالرعب فى قلوبهم .
" و قيل : إنه نزل فى طعنة طعن بها أبى بن خلف يوم أحد ، و لم يخرج منه دم ، فجعل يخور حتى مات . أو رمية سهم رماه يوم حنين نحو الحصن ، فأصاب ابن أبى الحقيق على فراشه . و الجمهور على الأول " .
و أنت ترى اختلاف القوم أولا بموضوع الرمى هل هو حصباء ، أم طعنة سيف ، أم رمية سهم ، و ثانيا فى زمن الحادث ، هل كان فى بدر أم فى أحد أم فى خيبر ، أم فى حنين . و ثالثا هل كانت الحصباء التى رمى بها من الأرض أم من السماء ؟ بعضهم قال : من الأرض ، و بعضهم من السماء كما " روى ابن جرير ( الطبرى ) و ابن أبى حاتم و الطبرانى عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء الى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت فى طست . و رمى رسول الله صلعم بتلك الحصباء فانهزمنا . فذلك قوله ( و ما رميت اذ رميت ) . و أخرج أبو الشيخ نحوه عن جابر و ابن عباس و لابن جرير من وجه آخر مرسلا مثله ( أسباب النزول ، للسيوطى ) . فترى تهافت التخريج و التفسير .
لكن ليس للحادث المعنى المعجز الذى يتوهمون : فرمى الحصباء فى وجه العدو ، مع الهتاف بالمعركة : " شاهت الوجوه " ! هو اشارة الى الزحف و الهجوم ، على عادة القوم . فهجم المؤمنون و هم قلة ، على قريش و هم كثرة ، فهزموهم شر هزيمة ، لأنها كانت فى نظر المسلمين مسألة حياة أو موت استبسلوا فى سبيلها حتى الاستشهاد . فليس للحادث معنى المعجزة ، و ليس فيه عنصر من أركان المعجزة : فلا الحادث عمل معجز ، و لا سبقه تحد ليكون له صفة المعجزة ، و القرآن نفسه لم ير فى الحادث معجزة له . ففى السورة نفسها يتحدونه بمعجزة " إذ قالوا : اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ! أو أئتنا بعذاب أليم " ( 32 ) . فلا يرد عليهم القرآن بمعجزة ، و لا يقدم لهم معركة بدر ، و حادث الرمى ، كمعجزة . و فى نظر المشركين ، لا معجزة و لا اعجاز : " و اذا تتلى عليهم آياتنا قالوا : لو نشاء لقلنا مثل هذا : إن هذا الا أساطير الأولين " ( الانفال 31 ) .
و فات القوم تحليل الوصف القرآنى كله لمعركة بدر . إنه وصف صوفى يرى يد الله فى أحداثها ، و تدخل الله و ملائكته فى وقائعها . و ما قصة " الرمى " إلا إحدى هذه الرؤى الصوفية للمعركة :
إمدادهم " بألف من الملائكة مردفين أى مترادفين متتابعين يردف بعضهم بعضا ، وعدهم بها أولا ثم صارت ثلاثة آلاف ، ثم خمسة كما فى آل عمران " ( الجلالان ) . و هذا التفاوت فى تحقيق عدد الملائكة دليل على الرؤيا الصوفية ، لا على الرؤية الواقعية .
و النعاس الذى " يغشاهم أمنة " مما حصل لهم من الخوف قبل المعركة هو أيضا عناية ربانية .
و المطر الذى ينزل عليهم فجأة ليستعيضوا به عن ماء بدر هو أيضا تدخل ربانى .
ثم وحى الله فى أثناء المعركة للملائكة بإلقاء الرعب فى قلوب المشركين ، و أمر الله إلى ملائكته ليضربوا المشركين فوق الاعناق و كل بنان . و هذا هو الحديث الغيبى كأنه محسوس !
ثم رؤيا محمد للمشركين فى المنام قليلا كى لا يفشل قومه من كثرة عددهم !
ثم ، فى أثناء المعركة ، يتدخل الله مع الجيش بالرؤيا ليرى المسلمين عدوهم قليلا و يرى المشركين عدوهم كثيرا ليتم القتال و النصر . فالرؤيا الغيبية تصبح شاملة .
فى هذا الجو الحماسى من الرؤى الصوفية لأحداث المعركة ، يجب أن نفهم مقالة الرمى : " و ما رميت ، إذ رميت ، و لكن الله رمى " ، مهما كان موضوع الرمى . فهى مثل قوله فى الآية نفسها : " فلم تقتلوهم و لكن الله قتلهم " ! فهو رد على تفاخرهم بعد المعركة ، حيث " كان الرجل يقول : قتلت و أسرت " ! فقد قتل من قتل ، لكن فى حقيقة الأمر " الى الله ترجع الأمور " ( 44 ) . على ضوء هذا المبدأ فسر القرآن أحداث المعركة و معنى " الرمى بالحصباء " ، و هو عمل مألوف إشارة الى الهجوم .
فليس فى هذه الأحداث كلها المشهودة و الغيبية من حادث معجز – و الأحداث الغيبية المقرونة بالمشهودة برهان قاطع على أنها تحليل صوفى للمعركة .
فليس للرمى بالحصباء من معنى المعجزة شىء ! و لا من أركان المعجزة شىء! فلم يأت الرمى جوابا على تحد بالمعجزة ، و فى السورة عينها لما تحدوه بمعجزة لم يرد عليهم " بمعجزة الرمى " !


خامسا : معجزة انشقاق القمر
نختم هذا البحث بذكرهم معجزة انشقاق القمر . فقد رأى بعضهم فى مطلع سورة ( القمر ) معجزة خارقة : " اقتربت الساعة ! و انشق القمر ! و إن يروا آية يعرضوا و يقولوا : سحر مستمر " ! ( 1 – 2 ) .
جاء الحديث فوثق الخبر ، فتداولته الكتب الصحاح . و صحيح البخارى يجعل المعجزة بناء على طلب الكفار . و مسند أحمد يذكر المعجزة لكن لا يشير الى طلب الكفار لها ، فهى عنده خالية من عنصر التحدى . و أكثر الروايات تؤيد أحمد فى مسنده .
و فى حديث البخارى أن أهل مكة سألوا محمدا آية فانشق القمر بمكة مرتين ! إنما حرف الآية يقول : " أتت الساعة و انشق القمر " . فانشقاق القمر مرتبط بقدوم الساعة . و ان " الساعة " فى لغة الكتاب ، و فى لغة القرآن ، كناية عن يوم الدين . و انشقاق القمر من أشراط الساعة ؟ فليس هو حادث يجرى فى حياة الرسول ، هذا بنص القرآن القاطع .
قال القرطبى فى تفسيره : " قال قوم : لم يقع انشقاق القمر بعد . و هو منتظر . أى اقترب قيام الساعة و انشقاق القمر . و أن الساعة إذاقامت انشقت السماء بما فيها من القمر و غيره . و كذا قال القشيرى . و ذكر الماوردى : ان هذا قول الجمهور. وقال : لأنه اذا انشق ما بقى أحد إلا رآه ، لأنه آية و الناس فى الآيات سواء . و قال الحسن : اقتربت الساعة ، فإذا جاءت انشق القمر بعد النفخة الثانية … و قيل : " و انشق القمر " أى وضح الأمر و ظهر ، و العرب تضرب بالقمر مثلا فيما وضح . و قيل : انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه فى أثنائها ، كما يسمى الصبح فلقا لانفلاق الظلمة عنه " .
ففى نظر المفسرين المدركين ، تعبير " انشق القمر " إما حقيقى ، و هو من أشراط الساعة فى اليوم الآخر ، و إما مجازى فليس فيه من حادث طبيعى .
و قال محمد عبد الله السمان ( 1 ) : " و لو سلمنا جدلا بأن الانشقاق قد حدث ، فهل من العقل و المنطق بألا ترى الدنيا بأسرها هذا الانشقاق ! لأن القمر للدنيا كلها و ليس لمكة وحدها ، إن هذا حدث ضخم ، و ليس بالأمر الهين اليسير . و لو حدث حقا لكان على
الأقل دونته كتب التاريخ المعاصر ، و تغنى به الشعراء المعاصرون و ما كثرهم فى جزيرة العرب يومئذ " .
و نقول : لو حدث شىء من مثل ذلك ، لآمن العرب من دون جهاد و قتال ، و لعرفه الفرس و الروم و آمنوا بالنبى العربى ، من دون فتوحات و حروب !
لا يسعنا إذن أن رنى فى الآية القرآنية ، على نقيض حرفها و معنااها ، حادثا تاريخيا جرى على يد محمد معجزة له ! فهذا يناقض علم الفلك ، و ارتباط عالمنا الشمسى بجاذبية واحدة ، و ارتباط هذه الجاذبية الشمسية بالجاذبية الكونية . و لنفكر فى ما يترتب على انشقاق القمر من احداث و أخطار فى مدار القمر كما فى مدار الأرض ، فى الهواء كما فى البحر ، فى النبات و الحيوان و الانسان .
إن انشقاق القمر شرط من اشراط الساعة : هذا كل ما فى آية القرآن . و من الظلم للقرآن و العقل و العلم أن ننسبللقرآن ما هو منه براء .
تلك نماذج خمسة من المعجزات التى يستنبطونها للنبوة فى القرآن ، و تهافتها فى ذاتها يقضى عليها قضاء مبرما . إنما هى الحماسة التى تدفع بالشعب و من يجاريه من العلماء بالحديث و التفسير ، الى استنباط معجزات من " آيات متشابهات " فى القرآن ، لأنهم يشعرون بالفطرة ، مثل أهل مكة أنفسهم ، أن المعجزة دليل النبوة الأوحد ، " سنة الأنبياء الأولين " ، " السلطان المبين " من لدن الله ، و انه لا نبوة بدون معجزة . فإذا لم يجدوها فى القرآن خرقوها بالحديث و التفسير .
و صريح القرآن هو بمنع المعجزة عن محمد منعا مبدئيا مطلقا ( الاسراء 59 ) ، و امتناع المعجزة عنه امتناعا واقعيا مطلقا ( الاسراء 93 ) . لذلك وقف المعتزلة قديما بوجه الحماسة الشعبية تجاه أهل الكتاب ، و حماسة المحدثين و المفسرين ، بإعلانهم : لم يجعل الله القرآن دليل النبوة . و علماء العصر فى التفسير و السيرة ، اضطروا إلى أن يعلنوا موقف القرآن السلبى من كل معجزة ، و أن يصرحوا مثل الاستاذ دروزة كما نقلنا : " إن حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة سيدنا محمد عليه السلام ، و برهانا على صحة رسالته و صدق دعوته "
أجل لم " يذكر القرآن لمحمد معجزات " على الاطلاق .

  • عدد الزيارات: 17958