Skip to main content

معجزة حفظ القرآن

معجزة حفظ القرآن

توطئة

إعجاز القرآن في نظمه قائم على معجزة

"حفظه" في حرفه

الإجماع على أن إعجاز القرآن في نظمه ، كما نادى بذلك أهل الاعجاز منذ الجاحظ . والاعجاز في النظم واللفظ يقتضي معجزة "حفظ" القرآن سالما كما نزل .

ويقولون : ان القرآن تنبّأ بمعجزة "حفظ " القرآن سالما كما نزل بقوله : "إنّا نحن نزّلنا الذكر ، وإنّا له لحافظون" (الحجر 9) . والواقع التاريخي في تدوين القرآن بالحرف العثماني شاهد على تتميم النبوة بحفظه ، وقيام المعجزة بحفظ القرآن بحرفه سالما كما نزل .

لكن ليس في آية "الحفظ" ركيزة قرآنية للقول بنبوءة ومعجزة في حفظ القرآن ؛ وليس في وسائل حفظ القرآن قبل جمعه من ضمانة كافية للقول بمعجزة في حفظه ؛ وليس في الرخص النبوية لقراءة القرآن قبل جمعه من طُمأنينة كافية للقول بمعجزة في حفظة ؛وليس في تاريخ تدوين القرآن ما يمكّن القول بمعجزة في حفظه . فقوله : "إنّا نحن نزّلنا الذكر ، وإنّا له لحافظون" (الحجر 9) ليس بمعجزة له .

لذلك فإن ما حُفظ من القرآن جليل يستحق التقدير ، لكن ليس في "حفظ" القرآن معجزة إلهية تميّزه وينفرد بها على كل تنزيل .


 

بحث أول

معنى آية الحفظ

إن معجزة إعجاز القرآن في حرفه تقوم على معجزة حفظه سالما كما أُنزِل . ويقولون إن في قوله : "إنّا نحن نزّلنا الذكر ، وإنّا له لحافظون" (الحجر 9) نبوءة عن حفظه ، وشهادة بمعجزة حفظه . وفاتهم أن القرائن القريبة والبعيدة لا تقتصر "الذكر" على القرآن ، بل هو مرادف للكتاب ، كما أن "أهل الذكر" مرادف "لأهل الكتاب" .

ترد آية الحفظ في ردّه عليهم في تهمة الجنون : "وقالوا : يا أيها الذي نزّل عليه الذكر ، إنك لمجنون ! لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين !

(ردّ اول) – ما نزّل الملائكة إلاّ بالحق ، وما كانوا إذًا منظَرين !

(جملة معترضة) – إنا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون

(ردّ ثانٍ) – ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين . وما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزِئون . كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ، لا يؤمنون به ، وقد خلق سُنة الأولين .

(ردّ ثالث) – ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ، لقالوا : "إنما سُكّرت أبصارنا ، بل نحن قوم مسحورون" ! (6 – 15) .

يعتبر المشركون ادعاء تنزيل الذكر على محمد جنونا ، ويطلبون شاهدا على صحة ادعائه من إتيان الملائكة معه . فيردّ عليهم أولا بأن نزول الملائكة مع القرآن سبب بلاء عظيم لهم . ويرد عليهم ثانيا بأن الاستهزاء بالرسل مرض قديم وأن سُنة الله هي تعذيبهم بتكذيب أنبيائهم (10 – 13) . ويرد عليهم ثالثا بأنه اذا فتح الله بابا من السماء فظل الملائكة فيه يعرجون ، لقالوا : انما سُكّرت أبصارنا ! بل نحن قوم مسحورون ! (14 – 15) .

فالأجوبة الثلاثة متناسقة مترابطة في الردّ عليهم . لكن ما صلة حفظ الذكر بالرد على تهمة الجنون أو تنزيل الملائكة ؟ إنها آية مقحمة على السياق ، فهي في غير موضعها .

ثم نلاحظ الاطلاق في تعبير "الذكر" في الآية (9) كما في الآية (6) . فليس التعبير خاصا بالقرآن حتى يكون تعهّد الله بحفظه خاصا بالقرآن وحده . فالذكر ، في لغة القرآن ، مرادف للكتاب . وعلى الحصر ، فهو مخصوص بالتوراة ، كقوله : "ولقد كتبنا في الزبور ، من بعد الذكر ، أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" (الأنبياء 105) ؛ كما هو مخصوص بالإنجيل كقوله : "ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم" (آل عمران 58) . "ذلك" أي قصص عيسى وآل عمران (33 – 58) . فالذكر الحكيم ، خلافا لما يتوهمه العامة ، مرادف للانجيل . وتخصيص الذكر بالكتاب ، أي التوراة والانجيل ، يتّضح من تسمية القرآن "أهل الكتاب" "أهل الذكر" : "فاسألوا أهل الذكر ، إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر" (النحل 43 – 44) ؛ كقوله دائما : "فاسألوا أهل الذكر ، إن كنتم لا تعلمون" (الأنبياء 7) . فالذكر على الاطلاق هو الذي عند أهل الكتاب ، أهل الذكر . وما الذكر الذي نزل على محمد سوى تفصيل للذكر الحكيم ، كما أن القرآن هو "تفصيل الكتاب" (يونس 37) . فإنه بعد استشهاده بأهل الذكر يقول للحال : "وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزل اليهم ولعلّهم يتفكرون" (النحل 44) . فالذكر نزل في الكتاب الإمام ، "والذكر الحكيم" نزل في الانجيل ؛ والقرآن انما هو بيان الذكر الذي نزل من قبل للناس . فتعهد الله بحفظ الذكر المنزل إنما يتعلّق أولا بالكتاب ثم بالقرآن .

ومطلع سورة الحجر يشهد بذلك : "آلر . تلك آيات الكتاب ، وقرآن مبين" . إن النبي ، كما يظهر من الاشارة "تلك" قد تلا "آيات الكتاب" في قرآن عربي مبين لها ، ثم علّق عليها بما تيسّر في سورة الحجر . فاسم الاشارة "تلك" يتعلق بما سبق ، لا بما يأتي . فالذكر الذي يتعهد الله بحفظه هو "آيات الكتاب وقرآنٍ مبين" ، قبل ما يأتي في سورة الحجر ، وسائر سور القرآن العربي .

وتنزيل "الذكر" الى النبي العربي ، تعبير متشابه لا يجزم بكيفيّة ، كقوله في السورة عينها : "وإن من شئ إلاّ عندنا خزائنه ، وما ننزّله إلاّ بقدر معلوم . وأرسلنا الرياح لواقح ، فأنزلنا من السماء ماء ، فأسقيناكموه ، وما أنتم له بخازنين" (الحجر 21 – 22) . فالله أنزل القرآن العربي ، كما أنزل من السماء ماء ، وكما ينزّل من كل شئ بقدر معلوم . فتنزيل القرآن هو "تفصيل الكتاب" (يونس 37) ، وهو "تيسير" القرآن أي الكتاب للذكر ، كما يردّد : "ولقد يسّرنا القرآن للذكر" (القمر 17 و22 و32 و40) ؛ وكما يُقسم : "والقرآن ذي الذكر" (ص 1) ، فلا يكون القرآن العربي المقسَم به والمقسَم عليه معا : فهو يقسم "بالقرآن ذي الذكر" على أمرٍ ما ، "وجواب هذا القسم محذوف" (الجلالان) . فالقرآن ذو الذكر هو الكتاب الإمام ! "والذكر الحكيم" هو الانجيل . فالذكر على الاطلاق الذي تعهّد الله بحفظه هو أولا الكتاب ، أي التوراة والانجيل ، ثم القرآن العربي ، لأنه "تفصيل الكتاب" (يونس 37) وتلاوة من آي "الذكر الحكيم" . هذا معنى آية "الحفظ في قرائنها القريبة والبعيدة . فليس فيها برهان على نبوءة بحفظ القرآن العربي ، ولا على معجزة في حفظه سالما .

وحفظ القرآن العربي قد يقوم بتواتر معناه من دون حرفه . فقد أجاز النبي ، وعمل الخلفاء الراشدون بإجازة قراءة القرآن العربي بالمعنى من دون الحرف . وهم إنما أجازوا قراءَة القرآن العربي بالمعنى من دون الحرف ، لأنها في نظرهم "لم تختلف في شئ من شرائع الاسلام ؛ ولا يتنافى هذا مع قوله جلّ شأنه (إنّا نحن نزّلنا الذكر ، وإنّا له لحافظون) لأن المراد بالحفظ مفهوم الألفاظ لا منطوقها ... لأن الألفاظ ما صِيغتْ إلاَّ ليُستَدلّ بها على معانٍ مخصوصة ، قُصد بها أوامر ونواه ، وعبادات ومعاملات . وجميعها مصان محفوظ مهما تقادم الدهر وتطاول العمر" .

فحفظ القرآن العربي لا يقتضي حفظ حرفه ، بل حفظ معناه . وهذه النتيجة الحاسمة ، القائمة على رخصة قراءَة القرآن بالمعنى من دون الحرف ، قبل جمعه ، شبهة قائمة على سلامة حفظ حرف القرآن من التحريف أو على اعجاز الحرف العثماني . فليس في آية "الحفظ" (الحجر 9) نبوءة بحفظ القرآن العربي ؛ وليس فيها شهادة بمعجزة حفظه سالمًا كما نزل .


 

بحث ثان

أدوات حفظ القرآن قبل جمعه ليست مأمونة

في بيئة بدائية بدوية ، كبيئة النبي والقرآن ، كان الاعتماد في الحفظ أولا على الذاكرة ، ثم على بعض الأدوات البدائية التي لا تكاد تحفظ شيئا .

نحن في عصر الطباعة والكتب المكتوبة لا نقدّر حفظ الذاكرة من الحفظ حقَّ تقديره . فكل كتب الأقدمين ، منزلة وغير منزلة ، قد وصلت الينا أولا عن طرق الحفظ بالذاكرة . لكن الذاكرة قد استعانت بأدوات مادية للحفظ لم تتيسّر في الحجاز الجاهلي .

1 – ومهما كانت الذاكرة، كذاكرة البدائيين ، في قوة الحفظ ؛ فإنها لم تكن مأمونة لنقل حرف القرآن كما نزل . والذاكرة ، حتى ذاكرة النبي ، لم تكن المثال الأعلى للحفظ والنقل . فالقرآن يؤكد لنا بأن النبي كان ينسى من الوحي (الأعلى 6) . ويجاهد في حفظ الوحي ، ويضرع الى ربه أن لا ينسى (الكهف 24) .

ويأتيه الجواب أنه لا بدَّ من أن ينسى ، وقد يُنسيه الله نفسه (البقرة 106) . وفي (أسباب النزول) على آية البقرة : "ما ننسخ من آية أو نُنسِها" (البقرة 106) ورد : "ربما نزل الوحي على النبي بالليل ، ونسيه بالنهار" ! (السيوطي) . ونقل الطبري : "إن نبيَّكم أُقرِئَ قرآنا ثم نسيه" (473:1 – 480) . وكان محمد يصلّي : "اللهمّ ذكّرني منه ما نسيت ، وعلمني منه ما جهلت" . فإذا كان وسيط الوحي المصطفى قد ينسى الوحي ، ما بين ليلة وضحاها ، فكم بالأحرى المستمعون عَرَضاً واتفاقًا ، أو عن متابعة واستظهار !

وهناك ظاهرة ثانية تاريخية : كان حفظ القرآن موزّعًا على الصحابة ، وإن انفرد بحفظه بعض القراء . يقول محمد صبيح : "ولا بدَّ لنا هنا من أن نسأل سؤالاً آخر : هل كان

الصحابة جميعا يحفظون القرآن كله ؟ ورد في (فجر الاسلام) للأستاذ أحمد أمين : "ولم يكن شائعا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن جميعه كما شاع بعد ؛ إنما كانوا يحفظون السورة ، أو جملة آيات ، ويتفهمون معانيها ؛ فإذا حذفوا ذلك ، انتقلوا إلى غيرها . فكان حفظ القرآن موزّعا على الصحابة" . قال أبو عبد الرحمان السلمي : "حدَّثنا الذين يقرأون القرآن ، كعثمان بن عفان ، وعبد الله بن مسعود ، أنهم كانوا ، إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات ، لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل" . وقال أنس : "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدَّ في أعيننا – رواه أحمد في مسنده" . وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثماني سنين ، ذلك أنه إنما كان يحفظ ، ولا ينتقل من آية الى آية حتى يفهم" .

فهذه الآثار والأخبار دلائل على الشبهة القائمة على صحة حفظ الحرف القرآني بواسطة الذاكرة ؛ وعلى تفرّق القرآن بين الصحابة والقراء ، في ذاكراتهم .

2 – والوسائل الأثرية لحفظ القرآن من الضياع كانت هي أيضا بدائية تعجز عن حفظه . فقد نقل البخاري حديث زيد أول من كُلّف بجمع القرآن ، قال : "فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ ممّا أمراني به من جمع القرآن ... فتتبّعتُ القرآن أجمعه من العُسُب واللِخَاف ، وصدور الرجال" أي جريد النخل ، وصفائح الحجارة . وزاد السيوطي : "وقد تقدم في حديث زيد أنه جمع القرآن من العسب واللخاف . وفي رواية : والرقاع . وفي أخرى : وقطع الأديم . وفي أخرى : والأكتاف . وفي أخرى والأضلاع . وفي أخرى : والأقتاب" . فتأمل القرآن المكي ، موزعا على الحجارة ، وأكتاف الجمال والشاه ، وعلى أخشاب البعران ، بين جماعة مضطهدة مُلاحقة ، تسهر على حفظ كيانها قبل قرآنها ، كم حفظت لنا تلك الوسائل البدائية من القرآن المكي ؟ وكم كان يتقضي من جمل لحمل القرآن المكتوب على تلك الوسائل البدائية . يقول محمد صبيح تعليقا على هذه الوسائل البدائية في حفظ القرآن : "كتابة القرآن المكي على هذه الأدوات الخشنة كان مصحفا يحتاج الى عشرين بعيرا لحمله . ولم نعلم من أنباء الهجرة أن قافلة من الأحجار فرّت قبل النبي أو مع النبي ، ومعها هذا الحمل الغريب" . وكانت هذه الوسائل الخشنة هي المستعملة في المدينة أيضا . وهل كان لهم في المدينة بين الغزوات والحروب المتواصلة حتى آخر يوم من حياة محمد ، من فراغ كاف لتدوين القرآن المكي فالمدني عليها ؟ تلك هي أدوات حفظ القرآن قبل جمعه .

3 – وهذه هي حال القرآن عند وفاة النبي .

يقول الأستاذ دروزة : "إن هناك أقوالاً وروايات تفيد أن النبي توفي ولم يكن القرآن قد جُمع في شئ ، وأن جمعه وترتيبه إنّما تمّا بعد وفاته . وان ما كان يدوّن منه في حياته كان يدوّن على الأكثر على الوسائل البدائية مثل أضلاع النخيل ورقائق الحجارة وأكتاف العظام وقطع الأديم والنسيج . وان المدوّنات منه على هذه المواد لم تكن مضبوطة ولا مجموعة . وكانت على الأكثر متفرّقة عند المسلمين. وان المعوّل في القرآن كان على القراء وصدور الرجال" . وقد رأينا أن آفة الذاكرة النسيان ، كما يصف القرآن حال نبيه .

فليس في وسائل حفظ القرآن قبل جمعه ، وسط حياة حافلة بالاضطهاد في مكة ، والقتال المتواصل في المدينة ، من ضمانة كافية ، ولا من طمأنينة وافية ، لحفظ الحرف القرآني ، أو حفظ القرآن نفسه ، كما نزل . والشهادة المتواترة انه "ذهب منه قرآن كثير" ، وأن عثمان "غيَّر المصاحف" . فأين هي ركائز المعجزة في حفظ القرآن سالمًا ؟


 

بحث ثالث

الرخص النبوية الأربع لقراءة القرآن قبل جمعه

بعد الشهبة القائمة على وسائل حفظ القرآن ، تأتي الشبهة الضخمة على سلامة حرفه ، من الرخص النبوة الأربع لقراءَة القرآن قبل جمعه . وهذه الرخص الأربع قائمة على الشبهة الأساسية في نزول القرآن على سبعة أحرف ، وفي اجازة قراءَته على تلك الأحرف السبعة بهذه الرخص النبوية الأربع .

أولا : قراءَة القرآن بالمعنى ، من دون الحرف ، قبل جمعه

لقد نقلت الأخبار والآثار المتواترة أن النبي رخّص لجماعته قراءَة القرآن بالمعنى ، من دون حرف التنزيل ؛ وذلك على أحرفه السبعة التي نزل بها . وإن الصحابة ، من بعده ، قد أجازوا هم أيضا القراءَة بالمعنى ، وعملوا بها . فابن عباس ، ترجمان القرآن ، كان يجيز قراءَة القرآن بالمعنى . وهو مذهب الصحابة كمجاهد وأُبي بن كعب الذي كان يقرأ بدل "انظرونا" (الحديد 13) : "أمهلونا ، أخّرونا ، ارقبونا" ! وبدل "مشوا فيه" (البقرة 20) : "مروّا فيه ، سعو فيه" . والخلفاء الراشدون أنفسهم أجازوا تلك الطريقة وعملوا بها .

ويُبرّر ابن الخطيب القراءة بالمعنى ، وخروجها على مبدإ "حفظ الذكر" (الحجر 9) بقوله : "المراد بالحفظ مفهوم الألفاظ ، لا منطوقها ، لأن الألفاظ ما صِيغتْ إلاَّ ليُستدَلَّ بها على معان مخصوصة ، قُصد بها أوامر ونواه ، وعبادات ومعاملات ؛ وجميعها مصان محفوظ ، مهما تقادم الدهر ، وتطاول العمر" . وفات الاستاذ الخطيب ان صحة التنزيل في سلامة حرفه ، وأن صحة الاعجاز في القرآن في سلامة حرفه الذي يضيع في القراءَة بالمعنى . فإباحة القراءَة بالمعنى قد تقضي على حرف التنزيل القرآني ، وبالتالي على صحة التحدي بإعجازه . والاعجاز القرآني قائم على حرفه ، في فصاحة الفاظه ، وبديع نظمه ، ومحكم اسلوبه . فإذا ضاع الحرف المنزل ، في القراءَة بالمعنى ، ضاع معه الاعجاز .

وقد تنبّه لهذا الأمر الخطير العلماء المسلمون والمستشرقون . قال الاستاذ بلاشير ، أحد أئمة مترجمي القرآن : إن نظرية قراءَة القرآن بالمعنى كانت بلا ريب أخطر قضية في التاريخ الاسلامي ، لأنها أسلمت النص القرآني الى هوى كل شخص يثبته على ما يهوى" . ففي الرخصة بقراءَة القرآن بالمعنى ، مدة ثلاثين الى خمسين سنة قبل جمعه وتدوينه ، شبهة لا تردّ على سلامة النص المنزل من التحريف ، وبالتالي على اعجازه .

ثانيا : إباحة القراءات المختلفة للنص الواحد

إن حديث الأحرف السبعة يجرّ وراءَه إباحة القراءات المختلفة على تلك الأحرف المختلفة . وحديث القراءات المختلفة للقرآن قبل عثمان غير قصة القراءات المتواترة للنص العثماني .

قال ابو شامة : "ظنَّ قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث (الاحرف السبعة) ؛ وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة . وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل" . فقد قرأ الصحابة ، بحضرة النبي ، القرآن ، بقراءات مختلفة ، وأقرَّها جميعا . وهذه التوسعة في قراءَة القرآن عمل بها الخلفاء الراشدون . وما اتفقوا على قراءَة واحدة ، قبل التوحيد العثماني . ونقل ابن الخطيب أمثلة متعدّدة على اختلاف القراءَة عند أبي بكر وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان ؛ ويليهم أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وابن عبّاس وابن الزبير . ويقول : "وهذه القراءات ثابتة في مصاحف أصحابها ومنقولة عنها ... وكذا مصاحف التابعين" . وقد بلغ اختلاف الخلفاء الراشدين في القرآن واختلاف الصحابة والتابعين الى الأمصار البعيدة ! "فأخذ أهل البصرة القرآن عن أبي موسى الأشعري ؛ وأهل الكوفة عن عبد الله بن مسعود ؛ وأهل دمشق عن أُبي بن كعب ؛ وأهل حمص عن المقداد بن الأسود . وكان كل قطر من هذه الأقطار يدّعي أنه أهدى سبيلا ، وأقوم طريقا" .

ولنا خير شاهد على فوضى قراءَة القرآن قبل عثمان ، من الفوضى التي نشأت بعد جمع عثمان الأمة على حرف واحد وقراءَة واحدة . فقد قامت قراءات مختلفة للحرف العثماني ، بلغت عند الإمام ابن مجاهد سبع قراءات ، وعند غيره عشر قراءات ؛ وأوصلها بعضهم الى أربع عشرة . "وذكروا في مصنفاتهم أضعاف تلك القراءات" . قال الزمخشري من قبله : "إن القراءات اختيارية تدور مع اختيار الفصحاء واجتهاد البلغاء" . والى اليوم بعد انتشار الخط ثم الطباعة ، "قد بلغ الاختلاف في القراءات حدًّا لا مزيد عليه" .

فتلك الحال من الفوضى ، بعد التوحيد العثماني للحرف القرآني أكبر شاهد على الفوضى البالغة في قراءَة القرآن قبل عثمان ، مع وجود الأحرف السبعة لنصه ، والرخص النبوية الأربع لقراءَة القرآن على كل من تلك الأحرف السبعة !

فإباحة قراءَة القرآن بالقراءات المختلفة إنما هي شبهة ضخمة على سلامة النص القرآني كما أُنزل ، وخصوصا كما أثبته عثمان ، وعلى سلامة إعجاز القرآن في حرفه الباقي .

ثالثا : الرخصة في قراءة القرآن بجميع لغات العرب

لم تكن اللغة العربية واحدة في الجزيرة ، ولا شعوبها واحدة ؛ ومهما اختلف الباحثون ، فقد أصبح واضحًا جليًّا أن اللغة العربية في الجاهلية لم تكن لغة واحدة يتفق نطقها وصرفها ونحوها . لم يبق هناك شك في أن جزيرة العرب كانت مستقر شعوب ، لا شعب واحد . وكانت هذه الشعوب تنطق بلغات كثيرة ، قد تتفق بينها بعض الألفاظ ، كما تتفق اليوم بعض ألفاظ اللغة الفرنسية والانجليزية ، ولكن كل لغة قائمة بنفسها مستقلة استقلالاً لا شك فيه" .

وكانت رخصة نبوية بقراءَة القرآن بجميع لغات العرب ، قبل الجمع العثماني . "أمّا جمع عثمان ر. فلم يكن إلاّ لكثرة اختلافهم في وجوه القراءَة ، حتى إنهم قرأوه بسائر لغاتهم ، على اتّساع تلك اللغات . فلما خشي عثمان تفاقم الأمر جمع المصحف مقتصرا على لغة قريش ، محتجًّا بأنه قد نزل بلغتهم" . نرى إذن كم اتسعت الفوضى في قراءَة القرآن بجميع لغات العرب المختلفة ، وكم يجب من معجزة وعصمة ، لا شاهد عليهما ، للاهتداء الى النص المنزل الصحيح .

وفي الحرف العثماني الموحّد على لغة قريش نجد ثلاث ظواهر تنبئ بما كان عليه أمر النص المنزل قبل التوحيد العثماني من فوضى : 1) غريب القرآن 2) ما وقع فيه بغير لغة الحجاز 3) ما وقع فيه بغير لغة العرب . والاختلافات في قراءَة النص العثماني خير

شاهد على سعة الاختلافات قبله ، لمّا "كانت المصاحف بوجوه من القراءات مطلقات ، على الحروف السبعة التي أُنزل بها القرآن" . جاءَ في شرح المواقف ص 490) أن في النص العثماني الموحّد "من الاختلافات ما يزيد على اثني عشر ألفا" . فكيف كان الأمر من الفوضى الضاربة أطنابها في قراءة القرآن قبل توحيد النص العثماني على حرف واحد وقراءَة واحدة ؟

أيجوز بعد ذلك الزعم بأن الحرف العثماني هو الحرف المنزل الصحيح سالمًا من التحريف ؟ إن سلامة النص العثماني من التحريف معجزة لا شاهد لها من قرآن ولا من حديث صحيح . فالرخصة في قراءَة القرآن بجميع لغات العرب ، نيّفًا وثلاثين سنة قبل الجمع العثماني ، القت على صحة النص المنزل شبهة عظمى لا مردَّ لها ، وبالتالي على صحة التحدي بإعجازه .

رابعا : بعد نزول القرآن على سبعة أحرف ، إباحة القراءَات بها

على أساس إباحة قراءَة القرآن ، قبل عثمان ، قراءات مختلفة بسائر لغات العرب المختلفة ، نجد حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ، وما يتبعه من إباحة قراءَته بهذه الأحرف السبعة، وكل حرف منه بجميع لغات العرب . قال السيوطي : "ليس المراد بالأحرف السبعة حقيقة العدد ، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة" . فالعدد الحقيقي أكثر من سبعة .

وكانت القراءات ، قبل عثمان ، مطلقات على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن . يقول ابن الخطيب : "ويرجع تاريخ الاختلاف بالقراءات الى زمن الصحابة ر. وهذا الذي حدا بعثمان الى كتابة مصحفه وجمْع الناس على قراءَة واحدة ... ولم يكتب عثمان المصحف إلاَّ خشية الاختلاف في القراءَات والتغالي فيها وتفضيل احداها على الأخرى ... فأمّا قبل عثمان فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءَات مطلقات على الحروف السبعة التي أُنزِل بها القرآن" . وهكذا مع تفرّق القرآن على سبعة أحرف وأكثر ،

جاءَت القراءَات المختلفة على كل حرف منها ، فزادت في فوضى النص المنزل ، حتى خشي عثمان من ضياع القرآن . فجمع القرآن على حرف واحد ، وجمع الأمة على قراءَة واحدة ، بالحديد والنار .

ولكن بعد تلك الفوضى في القراءات المختلفة ، على الفوضى في الأحرف السبعة المختلفة ، أنّى لعثمان ولجانه المتتابعة من العثور على النص الصحيح المنزل ، بدون تحريف ؟ وليس ثمَّتَ من شاهد في القرآن ، ولا من أثر أوجز في الحديث ، ينص على أن كتبة الوحي ، أو القراء ، أو الصحابة ، أو الخلفاء الراشدين ، أو جامعي القرآن من لجان عثمان ، كانوا معصومين ليهتدوا الى النص المنزل . فلا ضامن لاختيار عثمان الحرف المنزل الصحيح ، ولا عصمة لهم في صحة اختيار الحرف الصحيح والقراءَة الصحيحة . واذا كان كل حرف أي نص من القرآن ، ظل يُقرأ نحو نصف قرن قبل عثمان ، بجميع لغات العرب ، نرى الفوضى التي لا مثيل لها ، والتي وصل اليها النص المنزل . قال ابن عبد البرّ في اختلاف نصوص القرآن وفي شرط القراءَة بها : "إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها ، أنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها ، لا يكون في شئ منها معنى وضده ، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافا ينفه ويضاده ، كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده" . فالشرط الوحيد لاختلاف الأحرف القرآنية وإباحة القراءَة بها ان لا يكون في شئ منها معنى وضده ، كآية عذاب بدل آية رحمة . فهل من ضابط بعد هذه التوسعة لحفظ نص القرآن المنزل ؟ وهل يمكن بعدها ، وبعد وفاة كتبة الوحي وأكثر القراء الأوائل ، العثور على النص الأصلي بدون تحريف ؟ إن ذلكم ضرب من المعجزة ومن العصمةلا شاهد لهما من قرآن أو من حديث .

وهذه شواهد قاطعة نقلوها لقراءات القرآن المختلفة عن الأئمة . نقل الطبري مثلا على تصرف أنس بن مالك في قراءَته . قرأ "إن ناشئة الليل هي أشدّ وطأً وأصوب قيلا (المزّمل 6) . فقال له بعضهم : "يا أبا حمزة ، إنما هي : أقوم ! فقال : أقوم وأصوب وأهيا ، كلها واحد" . ونقل السيوطي عن أبي بكر أنه كان يقرأ : "كلما أضاءَ لهم مشوا فيه" ،

مرّوا فيه ، سعوا فيه ... وكان ابن مسعود يقرأ : "للذين آمنوا ، انظرونا ، أمهلونا ، أخرونا" . فهذه الشواهد تدل على أنهم تصرّفوا بنص القرآن على هواهم وبحسب سليقتهم العربية ، وألسنتهم المختلفة . وهذا التصرف بقراءَة القرآن على سبعة نصوص مختلفة فما فوق ، وبجميع لغات العرب المختلفة ، أضاع النص الأصيل ، أو أدخل عليه التحريف الطويل . لذلك ، لمّا كلّف أبو بكر وعمر ، لأول مرة ، زيد بن ثابت بجمع القرآن ، صُعِق وقال : "فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ ممّا أمراني به من جمع القرآن .

ففي هذه الإباحة والرخصة بقراءَة القرآن بجميع لغات العرب المختلفة ، على كل حرف من نصوصه السبعة ، شبهة قائمة دائمة على صحة النص المنزل ، وعلى إعجاز القرآن نفسه في الحرف العثماني .

والنتيجة المذهلة الحاسمة القاطعة التي نصل اليها بعد تلك الرخص الأربع لقراءَة القرآن ، على سبعة أحرف ، وقراءات مختلفة ، وبجميع لغات العرب ، وبالمعنى من دون الحرف واللفظ ، هي : 1 – الشبهة القتّالة على سلامة النص المنزل من التحريف ؛ 2 – الشبهة المريبة على "حفظ" القرآن ، الذي يعتبرونه معجزة ؛ 3 – الحجة القائمة التي لا مردّ لها لاستحالة التحدي بإعجاز القرآن ، لأن هذا الاعجاز يقوم ، في نظرهم ، لا على المعنى ، بل على اللفظ والنظم والاسلوب أي على الحرف ، وهذا الحرف لا يمكن أن يسلم في تلك الفوضى ، مدة نصف قرن تقريبا ، التي خلقتها الرخص الأربع لقراءَة القرآن قبل أن يجمع عثمان الأمة على حرف واحد وقراءَة واحدة ، بلغة واحدة . فهذا الحرف العثماني الباقي ، لم يكن هناك من معجزة تعصمه في صحةالاختيار بين سبعة أحرف ، على قراءات مختلفة ، بجميع لغات العرب ، وأحيانا بالمعنى من دون اللفظ المنزل ، وذلك مدة ثلاثين الى خمسين سنة قبل جمعه وتدوينه .

فأين الاعجاز في التنزيل المعصوم من التحريف ؟ وأين المعجزة في حفظه كما نزل ؟ فحق لهم أن يقولوا : إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوة !


 

بحث رابع

في معرفة حفّاظه ورواته (الإتقان 72:1)

إن واقع البيئة ، وواقع السيرة النبوية ، يدلاّن على أن حفظ القرآن قام على حفظه في الصدور ، لا على تدوينه في الأحجار والقشو ر . فصحة حفظه تقوم على "معرفة حفّاظه ورواته" . وقد جمع السيوطي من الأحاديث ما يحمل على الشبهة والريبة .

الواقع الأول : "روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : خذوا القرآن من أربعة (من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبَي بن كعب) . أي تعلموا منهم . والأربعة المذكورون اثنان من المهاجرين ، وهما (ابن مسعود وسالم) واثنان من الأنصار (معاذ وأبي) . وسالم هو ابن معقل مولى أبي حذيفة ؛ ومعاذ هو ابن جبل ... وقد قتل سالم ، مولى أبي حذيفة في وقعة اليمامة ؛ ومات معاذ في خلافة عمر ؛ ومات أبي وابن مسعود في خلافة عثمان . وقد تأخر زيد بن ثابت وانتهت اليه الرئاسة في القراءَة ، وعاش بعدهم زمنا طويلا" . فالنتجية الحاسمة لهذا الحديث الصحيح أن زيد بن ثابت لم يوصِ النبي بأخذ القرآن عنه . ولم يحضر نزول القرآن بمكة ، لحداثة سنه ، وهو انصاري . فإسناد رئاسة قراءَة القرآن وجمعه اليه موضوع نظر . ولمّا جمع زيد بن ثابت القرآن الجمع الأخير على زمن عثمان كان القراء الأربعة الذين أوصى بهم النبي قد توفوا . فلم يبق له من سند لا شبهة عليه .

الواقع الثاني : أجل لا نحصر حفظة القرآن بالأربعة الموصى بهم . لكن جاء "في الصحيح في غزوة بئر معونة ان الذين قتلوا بها من الصحابة كان يقال لهم القراء . وكانوا سبعين رجلا ... وقال القرطبي : قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء ، وقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد" . فعلى عهد النبي ثم في حروب الردّة على أيام أبي بكر كان قد قُتل من القراء نحو أربعين وماية قارئا . وذلك قبل أن يباشر زيد بن ثابت بأمر أبي بكر ، على نصيحة عمر ، بجمع القرآن . فالنتيجة الحاسمة الثانية أن أكثر حفظة القرآن قد ماتوا قبل جمعه وتدوينه . وحفظته من الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين كانوا يحفظون شذرات ، ولا يحملون القرآن كله ، وأنّى لهم الفراغ مع النبي وبعده .

الواقع الثالث ، في ثلاثة أحاديث متعارضة :

"روى البخاري أيضا عن قتادة قال : سألتُ أنس بن مالك ، مَن جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أربعة كلهم من الأنصار ، أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد . قلتُ : مَن أبو زيد ؟ قال أحد عمومتي . وروى أيضا من طريق ثابت عن أنس : مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة ، أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد (عم أنس بن مالك) . وفيه المخالفة لحديث قتادة من وجهين حدهما التصريح بصيغة الحصر في الأربعة . والآخر ذكر أبي الدرداء بدل أبي بن كعب . وقد استنكر جماعة من الأثمة الحصر في الأربعة" .

والظاهر أنه جمع حفظ ، لا جمع تدوين – وإلاّ فلا معنى لتدوين زيد بن ثابت . والمشكل أنهم "كلهم من الأنصار" ، لم يشهدوا التنزيل في مكة ؛ وليس بينهم عبد الله بن مسعود ولا سالم ، وكلاهما من المهاجرين . والتعارض الأكبر بين هذين الحديثين ، والحديث البخاري الأول أنه ليس بينهم أحد – سوى أبي زيد – ممن أوصى النبي بأخذ القرآن عنهم . ولا ذكر لأبي زيد في قصة تدوين القرآن . وفي قول أنس أنه "لم يجمعه غيرهم" . وهو متعارض مع حديث وصية النبي بأخذ القرآن عن غيرهم . فممّن أخذوا القرآن ؟

ويأتي الحديث الثالث فيغمرنا بالظلمة : "أخرج ابن اشته بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال : مات أبو بكر ولم يُجمع القرآن ؛ وقتل عمر ولم يُجمع القرآن . قال ابن اشته : قال بعضهم يعني لم يُقرأ جميع القرآن حفظا ؛ وقال بعضهم هو جمع المصاحف" . وحديث ابن سيرين ينقض قصة جمع القرآن وتديونه بواسطة زيد بن ثابت على أيام أبي بكر وعمر .

والنتيجة الحاسمة الكبرى أن حفظ القرآن ثم جمعه يقومان على أكتاف زيد بن ثابت ، وهو فتى أنصاري على حياة النبي ؛ ولم يوصِ النبي بأخذ القرآن عنه . فرئاسته في قراءَة القرآن وجمعه وتدوينه محل شبهة ، بسبب سنه على حياة النبي ، وبسبب وصية النبي في أخذ القرآن عن غيره . فهل التاريخ الثابت من الحديث الصحيح يدل على معجزة في حفظ القرآن ؟


 

من تاريخ جمع القرآن وتدوينه

إن تاريخ جمع القرآن يُلقي ظلاًّ ثقيلا على سلامة حرفه ، موضوع اعجازه .

بعد وفاة النبي ظهرت محاولات فردية ثم رسمية لجمع القرآن .

أولا : المحاولات الفردية لجمع القرآن

إن تعدّد أنواع الجامعين ، وتنوّع المصاحف المجموعة المختلفة تثير شبهات .

1 – في المحاولات الفردية اختلفوا في أول مَن حاول جمع القرآن .

قيل أن أول مَن حاول جمع القرآن علي بن أبي طالب . بعد بيعة أبي بكر قعد في بيته . فقيل لأبي بكر : كره بيعتك ! فأرسل إليه فقال : أكرهتَ بيعتي ؟ قال : لا واللهِ ! قال : ما أقعدك عني ؟ قال : رأيتُ كتاب الله يُزاد فيه فحدّثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلاّ لصلاة حتى أجمعه . قال له أبو بكر : فإنك نِعم ما رأيت ! – هذا حديث محمد بن سيرين عن عكرمة . وقيل جمع علي القرآن كما أُنزِل الأول فالأول ، بحسب تاريخ نزوله . وأخرجه ابن أشته في (المصاحف) من وجه آخر عن ابن سيرين أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ .

ويُرجع أهل السنة الفضل في جمع القرآن لأبي بكر الصديق . "أخرج ابن أبي داود في (المصاحف) بسند حسن عن عبد خير قال : "سمعت عليًّا يقول : أعظم الناس في المصاحف أجرًا أبو بكر . رحمة الله على أبي بكر هو أول مَن جمع كتاب الله" ! لكن ابن أبي داود ينقل أيضا الحديث المناقض لابن سيرين عن عكرمة أن عليًّا كان أول من جمع القرآن .

"وأخرج ابن أبي داود من طريق الحسن أن عمر بن الخطاب سأل عن آية في كتاب الله فقيل : كانت مع فلان قُتل يوم اليمامة . فقال : إنّا لله ! وأمر بجمع القرآن فكان أول مَن جمعه في المصحف" . يفسّره السيوطي : "المراد بقوله (فكان أول مَن جمعه) أي أشار لجمعه" .

وهكذا ينسبون الأولية في جمع القرآن الى كلٍّ من الخلفاء الراشدين الأربعة .

لكن لم يكن لهم في مهام خلافتهم متّسع من الوقت للاهتمام شخصيا بجمعه . لذلك أخرج ابن اشته في كتاب (المصاحف) عن ابن بريدة قال : "أول من جمع القرآن في مِصحف سالم ، مولى أبي حذيفة ، أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فجمعه . ثم ائتمروا ما يسمونه . فقال بعضهم سمّوه : السفر . قال ؛ ذلك تسمية اليهود ، فكرهوه ، فقال : رأيتُ مثله في الحبشة يُسمى المصحف ، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف" . فسّره السيوطي : "وهو مجمول على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر" .

لاحظ الاختلافات وكثرة الاحتمالات في قصة جمع القرآن .

والحديث المعتمد عن صحيح البخاري أن أبا بكر الصديق ، بإشارة عمر ، أمر زيد بن ثابت في جمع القرآن ؛ "فتتبعت القرآن أجمعه من العُسب واللخاف وصدور الرجال ... فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر" . فيكون زيد بن ثابت هو أول جامع للقرآن . والشبهة الكبرى في ذلك أن زيدا ، على حياة النبي ، لم يكن قد بلغ الحلم بعد .

2 – وذكروا أيضا أنّ أمهات المؤمنين ، أزواج النبي ، قد حاولن هنّ أيضا جمع القرآن .

فذكروا أن عمر بن رافع ، مولى حفصة ، بنت عمر وزوج النبي ، جمع لها مصحفا ، عُرف باسمها . وهذا يُلقي شبهة أخرى على الصحف التي جمعها زيد بأمر أبي بكر وعمر ، "فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر" كما نقل البخاري من حديث زيد بن ثابت .

وذكروا أيضا أن أبا يونس ، مولى عائشة ، بنت أبي بكر وزوج النبي المفضّلة ، جمع لها مصحفا عُرف أيضا باسمها . وقد روى عروة بن الزبير حديثا عن عائشة : "إن سورة الأحزاب كانت تُقرأ في زمن النبي مئتي آية . فلما كتب عثمان المصاحف لم نُقدر منها إلاّ ما هو الآن" ، أي (73 آية) . وروي عن حميدة بنت أبي أوس قالت : "قرأ عليَّ أبي ، وهو ابن ثمانين ، في مصحف عائشة : (يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليمًا – وعلى الذين في الصفوف الأولى) ، وذلك قبل أن يغيّر عثمان المصاحف" .

فعليُّ يشهد بأن كتاب الله يُزاد فيه ؛ وعائشة تشهد بأن عثمان غيّر المصاحف .

فهناك تيّار ينسب جمع القرآن الى كل من الخلفاء الراشدين . وهناك تيار ينسبه الى موالي أمهات المؤمنين .

3 – وهناك تيار ثالث ينسب مصاحف أخرى لأئمة القراء الذين أوصى بهم النبي : مصحف عبد الله بن مسعود ، ومصحف أُبي بن كعب ، ومصحف معاذ ، ومصحف سالم ، مولى حذيفة . وأشهرهما مصحف ابن مسعود ، ومصحف أُبي . "وإن المصحفين ظلاّ موجودين يُقرأان إلى ما بعد عثمان بمدة طويلة ، وإن ترتيب سور كل منهما مغاير لترتيب الآخر من جهة ، ومغاير لترتيب المصحف العثماني من جهة أخرى . وإن في أحدهما زيادة ، وفي أحدهما نقص" . فلم تكن الفاتحة ، ولا خاتمة القرآن (المعوذتان) في مصحف ابن مسعود ، وكان يحكهما ويقول ؛ إنهما ليستا من كتاب الله . فابن مسعود يشهد بأن (الفاتحة) ليست من القرآن .

وفي مصحف أُبي ، كانت سورة اسمها "الحفد" وأخرى اسمها "الخلع" وكان عليّ يعلّمهما الناس ، وعمر بن الخطاب يُصلّي بهما . وقد أسقطهما عثمان في الجمع الأخير .

4 – وهذا هو الواقع القائم بين هذه التيارات : كان الناس في الأقطار يقرأون القرآن بقراءَة القرّاء المختلفة . روى ابن الأثير (86:3) أن الأمة قبل عثمان كانت تقرأ القرآن في أربع نسخ مختلفة : نسخة أُبي في دمشق ، ونسخة المقداد في حمص ، ونسخة ابن مسعود في

الكوفة ، ونسخة الأشعري في البصرة . وممّا يدل على اختلافها البعيد اقتتال أهل الشام وأهل العراق في معارك أذربيجان ، بسبب قراءاتهم المختلفة للقرآن الواحد . وهذا ما أفزع القائد حذيفة (وكان مولاه سالم قد جمع له قرآنا) ففزع الى عثمان بن عفان يحرّضه على توحيد المصاحف .

وحديث الأحرف السبعة ، يرفع النصوص المختلفة من أربعة الى سبعة .

قال حذيفة بن اليمان : "غزوتُ مرج أرمينية فحضرها أهل العراق والشام . فإذا أهل الشام يقرأون بقراءَة أُبي بن كعب ، فيأتون بما لم يسمع به أهل العراق ، فتكفرهم أهل العراق . وإذا أهل العراق يقرأون بقراءَة ابن مسعود ، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام ، فتكفّرهم أهل الشام" .

وهذا الاختلاف والاقتتال والتكفير في حرف القرآن ، في الثغور والفتوحات ، قد وصل الى الغلمان والمعلمين في بيوت حفظ القرآن . "وقد رُوي حديث عن أنس بن مالك جاء فيه : إنّ الناس اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون . فبلغ ذلك عثمان ، فقال : عندي تكذبون وتلحنون فيه ! فمن نأى عني كان أشدّ تكذيبا ولحنا ! يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إمامًا" .

فالتكفير والاقتتال في مدارس القرآن ، وفي غزوات الفتح ، على صحة حرف القرآن ، شهادة قائمة على وقوع التحريف في نص القرآن ، قبل الجمع العثماني . وأنى لعثمان ولجانه المختلفة الوصول الى النص الأصلي المنزل ، بعد أن أمسى قبل جمعه سبعة أحرف ، أي سبعة نصوص ، بقراءات مختلفة . إن إتلاف عثمان ، برضى الصحابة لجميع المصاحف سوى مصحفه ، برهان قاطع على اختلافها في حرف القرآن ، ودليل قائم على استحالة الوصول الى النص الصحيح المنزل المعجز .

ففي الوضع القائم للقرآن على سبعة أحرف ، عند وفاة النبي ، شبهة أولى ضخمة على صحة حرف القرآن . وفي الوضع الذي انتهوا إليه عند الجمع العثماني شبهة أخرى ضخمة

على صحة حرف القرآن . وهذه الشبهات التاريخية القائمة لا يصح معها ادّعاء وسلامة الحرف القرآني ، موضوع التنزيل ، وموضوع التحدي بإعجاز القرآن . فالتحدي بإعجاز حرف القرآن ، لا أساس له . والواقع التاريخي "لحفظ" القرآن ينقض معجزة "حفظه" المزعومة .

ثانيا : المحاولات الرسمية لجمع القرآن

إن المحاولات الرسمية لجمع القرآن تمت على مراحل تثير أيضا الشبهات .


 

1 – الاصدار الرسمي الأول للقرآن ، في زمن أبي بكر .

يؤخذ من حديث زيد بن ثابت ، في صحيح البخاري أنه كان أول جامع للقرآن ، بأمر أبي بكر الصديق ، بناءً على نصيحة عمر بن الخطاب ، "فإن القتل قد استمرّ يوم اليمامة بقراء القرآن ، وإني أخشى أن يستمر القتل بالقراء في المواطن" . وشعور زيد بهذا التكليف يدل على استحالة الجمع بعد أن استمر القتل بقراء القرآن : "فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مِمّا أمراني به ، من جمع القرآن" !

والشبهة الثانية على هذا الجمع الأول هي في تكليف زيد بن ثابت ، وقد كان غلاما لم يبلغ الحلم بعد على حياة النبي . لذلك أيضا قال قوله السابق ! فما السر في تكليف زيد بن ثابت بجمع القرآن على عهد أبي بكر ، ثم على عهد عمر ، ثم على عهد عثمان ، ولم يكن زيد من الذين أوصى النبي بأن يأخذوا القرآن عنهم ؟ فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن العاص قال : "سمعت النبي يقول : خذوا القرآن من أربعة ؛ من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبي بن كعب" . وهما اثنان من المهاجرين واثنان من الأنصار . وقد قُتل سالم مولى أبي حذيفة في وقعة اليمامة . ومات معاذ في خلافة عمر . ومات أبي بن كعب وابن مسعود في خلافة عثمان وكانا يشنّعان عليه في طريقة جمعه للقرآن ، وتولية زيد بتلك المهمة ؛ "فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن . هو ، فيما كان يقول ، قد أخذ من فم النبي نفسه سبعين سورة من القرآن ، ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد" .

ففي سنّ زيد ، جامع القرآن الرسمي ، شبهة ضخمة على صحة جمعه . وفي ما أسندوه اليه من عمل شبهة أخرى . جاء عنه في صحيح البخاري : "فتبعت القرآن أجمعه ... فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر" . وينقل البخاري عنه حديثا ثانيا ينقضه : "قال ابن حجر : ووقع في رواية عمارة بن غزية أن زيد بن ثابت قال : فأمرني أبو بكر فكتبتُه في قطع الأديم والعُسُب ؛ فلما توفّي أبو بكر وكان عمر كتبت ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده – قال : والأول أصح ؛ إنما كان في الأديم والعُسُب أولا قبل أن يُجمع في عهد أبي بكر ، كما دلت عليه الأخبار الصحيحة المترادفة" .

فهل كان القرآن الذي جمعه زيد ، على زمن عمر ، في صحف أم في صحيفة واحدة ؟ ثم ، لمّا توفي عمر ، هل كانت الصحف عند حفصة بنت عمر ، كما في صحيح البخاري ، أم كانت في ربعة عمر ، من حيث جاءَ بها عثمان ؟ كما أخرج أبو داود في سنته . وهذا الجمع الأول لم يوقف الخلاف في حروف القرآن ، حتى عمّ التكفير والاقتتال .


 

2 – الاصدار الثاني للقرآن كان على زمن عثمان بن عفان ، عام 25 بعد الهجرة .

رأينا أن سبب جمع عثمان الجديد للقرآن كان بسبب اقتتال الغلمان والمعلمين في المدارس ، واقتتال وتكفير المحاربين بعضهم بعضا في الحروب والفتوحات .

ولدينا روايتان على الجمع العثماني . الرواية الأولى أن اللجنة العثمانية لجمع القرآن كانت من أربعة : زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص وعبد الرحمان بن الحارث . روى البخاري : "فأرسل الى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها اليك . فأرسلت بها حفصة . وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : اذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن ، فاكتبوه بلسان قريش ، فإنه إنما نزل بلسانهم . ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، ردّ عثمان الصحف الى حفصة . وبعث الى كل أُفق بمصحف ممّا نسخوا . وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق" .

الرواية الثانية أن اللجنة العثمانية كانت من اثني عشر رجلا من قريش والأنصار ، وأن صحف زيد كانت في ربعة عمر ، لا عند حفصة . "أخرج أبو داود حديثا جاء فيه : "لمّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف ، جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار ، فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيئ بها" .

وهنا تنهال علينا الشبهات تترى في الجمع العثماني .

أولا : بما أن عمل اللجان العثمانية يقتصر على نسخ مصحف زيد ، فلِم وصية عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : "إذا اختلفتم أنتم وزيد في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنه إنما نزل بلسانهم" – فالخلاف في القرآن واقع ، والاختلاف في تدوين حرفه منتظر . فهذه شهادة على شبهة مزدوجة : إن في مصحف زيد قرآنا ليس بلسان قريش ؛ وأنّ بمصادر القرآن التي يجمعونه منها ما ليس بلسان قريش الذي نزل به .

ثانيا : إذا كان الجمع العثماني مجرد نسخ للصحف التي كتبها زيد على زمن أبي بكر ، أو الصحيفة التي كتبها على زمن عمر ، فكيف يمكن الاختلاف فيما بين الجامعين ؟ فلم يكن الأمر إذن مجرد نسخ ، بل هو جمع جديد للقرآن ، كما قال : "يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما" (الطبري 60:1) . والجمع الجديد دليل الشبهة على الجمع الأول ، كما أن الجمع الأول دليل الشبهة على الجمع الثاني : فلو كان الجمعان واحدا ، لما وقع الخلاف .

ثالثا : في الروايتين على الجمع العثماني تعارض في تكوين اللجنة من أربعة أم من اثني عشر رجلا ، وفي وجود صحف زيد في بيت حفصة أم في ربعة عمر .

رابعا : إذا كان الخلاف محذورا في اللجنة الرباعية ، فهل يكون مأمونا في اللجنة الاثنعشرية ؟

خامسا : والشبهة الكبرى في إمامة زيد للجان العثمانية ، ولم يكن زيد قد بلغ الحلم في زمن النبي ؛ ولم يكن من الأربعة الذين أوصى بأخذ القرآن عنهم .

يقول طه حسين : "وقد يمكن أن يُعترض عليه في أنه كلّف كتابة المصحف نفرًا قليلا من أصحاب النبي ، وترك جماعة من القراء الذين سمعوا من النبي وحفظوا عنه ،

وعلّموا الناس في الأمصار . وكان خليقا أن يجمع هؤلاء القراء جميعا ويجعل إليهم كتابة المصحف . ومن هنا نفهم غضب ابن مسعود . فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن وهو فيما كان يقول قد أخذ من فم النبي نفسه سبعين سورة من القرآن ، ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد ! فإيثار عثمان لزيد بن ثابت وأصحابه ، وتركه لابن مسعود وغيره من الذين سبقوا إلى استماع القرآن من النبي وحفظه عنه ، قد أثار عليه بعض الاعتراض . وهذا شئ يفهم من غير مشقة ولا عناء"

وسادسا : إن أمر عثمان في طريقة جمع القرآن وتدوينه كانت أمره للرهط القرشيين الثلاثة : "إذا اختلفتم أنتم وزيد في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم" . وإعجاز القرآن يقوم على التحدي "بمثله" . وعند اختلاف الجامعين كانوا يكتبون القرآن بلسان قريش ، فهم اذن في تدوين القرآن قد أتوا "بمثله" .

سابعا : والشبهة الضخمة على المصحف العثماني هي تحريق ما عداه من المصاحف ، حتى مصاحف الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين . وهذه الشبهة الضخمة ذات حدين : فهي تلحقه لأنه قضى عليها ؛ وهي تلحقها لأنه يعارضها . ولو كانت المصاحف واحدة لما احتاج عثمان إلى تحريقها !

وكان الصحابة يتمسكون بمصاحفهم بسبب الحديث الشريف : "نزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف" ! "فعثمان حين حظر ما حظر ، وحرَّق ما حرّق من الصحف ، إنما حظر نصوصا أنزلها الله ، وحرَّق صحفا كانت تشتمل على قرآن أخذه المسلمون عن رسول الله . وما ينبغي للإمام أن يلغي من القرآن حرفا أو يحرق من نصوصه نصًّا" . وهذا ، في رأينا ، سبب الفتنة البعيد الذي أودى بحياة عثمان في الثورة عليه وقتله . فقد "أنكر ابن مسعود ، وأنكر معه كثير من الناس ما كان تحرق المصاحف . واشتد نقد ابن مسعود لعثمان . وكان يخطب الناس يوم الخميس من كل أسبوع . وكان يقول في ما يقول . "إن أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدى وكل ضلالة في النار" ! فكأنه أفتى باغتياله .

فكان ما كان مما لستُ أذكره فظن خيرًا ولا تسأل عن الخبر !

ثامنا : وهذه هي ميزات توحيد النص العثماني :

  • شهد علي بن أبي طالب : "رأيت كتاب الله يزاد فيه" فنقّحه ، فلم يأخذ عثمان بذلك .
  • وكتب علي في مصحفه الناسخ والمنسوخ كله ، فأسقط عثمان من المنسوخ كثيرا .
  • شهد ابن عمر أنه بعد الجمع العثماني "ذهب منه قرآن كثير" !
  • وشهدت عائشة أنه كان من القرآن "قبل أن يغيّر عثمان المصاحف" .
  • وعدل عثمان عن الترتيب التاريخي الذي أخذ به علي وآل البيت ، الى الترتيب التنسيقي بحسب الطول فالقصر ، كما اعتمد جماعة بني أمية . والترتيب ناحية من الإعجاز فتلك الميزات في التوحيد العثماني للنص القرآني شبهات عليه .

تاسعا : يقول السيوطي بأن في الحرف العثماني الناجي ما هو "بغير لغة الحجاز" ، وما هو "بغير لغة العرب" ، مع أن القرآن نزل بلغة قريش ، وقد أمر عثمان بكتابته بلسانهم . وهذه الرواسب دلائل على أن حرف التنزيل لم يبق سالمًا في المصحف العثماني مع ما بذلوه من حرص حين جمعه وتدوينه .

عاشرا : ما معنى تعدّد جمع القرآن ؟ يقول محمد صبيح : "لماذا لم يأمر أبو بكر أو عمر بنسخ صور ممّا كتب زيد بن ثابت ؟ ...ولماذا لم يحرص كبار الصحابة على أن يكون لكل واحد منهم ، أو لدى بعضهم على الأقل ، نسخ من هذه الصحف ؟ – الجواب على هذا السؤال عسير" . وأعسر منه الجواب على هذا السؤال : لماذا فُضّل مصحف زيد بن ثابت ، وكان غلاما لم يبلغ الحلم بعد في حياة النبي ، على مصحف عليّ بن أبي طالب ، وهو الشاهد الأسبق للقرآن والدعوة والسيرة ؟ وعلى مصحف ابن مسعود ، وهو الذي "لزم النبي لزوما متصلا في سفره وإقامته ، حتى كاذ يُعدّ من أهل بيته . فكان أثناء إقامة النبي صاحب اذنه ؛ وكان اذا قام النبي ليخرج ألبسه نعليه ومشى بين يديه بالعصا فإذا بلغ مجلسه خلع نعليه فوضعهما في كمه ودفع إليه العصا وقام على إذنه . وكان في السفر صاحب فراش النبي وصاحب وضوئه . وكان النبي يحبه حبًّا شديدًا ويوصي بحبه" . فكأن محمدا يسلك سلوك اسقف النصارى في جماعته ، وابن مسعود "قوّاصه" !

وأعسر أكثر الجواب على هذا السؤال أيضا : لقد رضى أبو بكر ثم عمر بمصحف زيد : فَلِمَ يرفضونه في زمن عثمان ، كما يظهر من وصيته لجامعي الحرف العثماني : "اذا اختلفتم أنتم وزيد في شئ من القرآن" ، ويفرضون بالحديد والنار المصحف العثماني ؟ يحق لنا أن نقول : ألا يترك هذا التصرف شبهة لا تزول على مصحف زيد ثم على المصحف العثماني الناجي معا ؟

أخيرا ، بعد نزول القرآن على سبعة أحرف ، وبعد الرخص النبوة الأربع بقراءة القرآن على سبعة أحرف ، "وقد كانت المصاحف بوجوه القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أُنزل بها القرآن" ، وإجازة القراءات المختلفة ، على الحروف المختلفة بلغات العرب جميعها ، وإباحة القراءَة بالمعنى من دون الحرف ، وذلك مدة أربعين سنة ، منذ بدء التنزيل حتى الجمع العثماني سنة خمس وعشرين للهجرة كما روي عن ابن حجر ، بعد هذا كله واختلافهم في حرف القرآن حتى التكفير والاقتتال قبل التوحيد العثماني –هل كان بإمكان اللجان العثمانية ، وقد مات أكثر حفظة القرآن وقرائه ، وجميع الجامعين غير معصومين ، أن تصل الى النص المنزل الذي لا تشوبه شائبة ؟ إن البرهان القاطع على أنه لا يمكن أن تصل اليه أن عثمان قد أتلف سائر المصاحف ليحمل الأمة على مصحفه . وقد استأذن السيدة حفصة في خرق الصحف التي جمعها زيد بأمر أبي بكر وعمر ، وكانت أمانة عندها من أبيها عمر بن الخطاب . كلها شبهات يحار فيها العقل والايمان ، ولا جواب لها . والنتيجة الحتمية لهذا كله شبهة على صحة الحرف العثماني ، وعلى صحة التحدّي بإعجازه .


 

3 – الموقف التاريخي من الجمع العثماني

إننا نوجز الموقف التاريخي من الجمع العثماني بما قاله أبو جعفر النحاس : "إن رسول الله قال : (أُنزِل القرآن على سبعة أحرف) . فرأى عثمان (ر.) أن يزيل منها ستة ، وأن يُجمع الناس على حرف واحد . فلم يخالفه أكثر الصحابة ... وأراد عثمان أن يختار من

السبعة حرفا واحدا هو أفصحها ويزيل الستة . وهذا من أصح ما قيل فيه ، لأنه مروي عن زيد بن ثابت"

فيحق لنا أن نتساءَل : هل اتلاف ستة أحرف منزلة من الأمانة لحفظ القرآن ؟ هل كانت لجان عثمان معصومة لاختيار "أفصح" الأحرف السبعة ؟ يصح الجزم بأنها لم تكن معصومة ، والنبي وحدَه كان يعلم الأفصح ، ولم يبيّنه ، بل أطلق القراءَة بها جميعا لأن كل حرف منها "كافٍ شافٍ" . فإن اتلافها شبهة قائمة على صحة الاعجاز في الحرق العثماني .

قال الحارث المحاسبي في كتاب (فهم السنن) : فإن قيل : كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال ؟ قيل : لأنهم كانوا يُبدون عن تأليف معجز ونظم معروف قد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة . فكان تزوير ما ليس منه مأمونا ، وإنما كان الخوف من ذهاب شئ من صحفه" . إنّما لو صحّ أنهم "يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف قد شاهدوا تلاوته من النبي" لما اختلفوا في حرف القرآن حتى الاقتتال والتكفير ؛ ولما أتلف عثمان الأحرف الستة وسائر المصاحف غير مصحفه .

أجل لم يخالف عثمان "أكثر الصحابة" . لكنه خالفه أئمتهم كعلي بن أبي طالب وابن مسعود . ويذكرون أنه أبي كابن مسعود أن يُسلّم نسخته الى عثمان لينقحها أو يتلفها ، بحجة أنها كانت كاملة وكان ابن مسعود يقول : "يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عندكم وغلّقوها" . وكذلك أبى أُبَي بن كعب أن يسلّم مصحفه . وأنس بن مالك يُهمل المصحف العثماني ويصطنع لنفسه مصحفا على مثال مصحف ابن مسعود ، ومصحف أُبي . وهذه المصاحف الأربعة كانت متقاربة في اختلافها مع المصحف الأميري العثماني المفروض . وفي تقاربها بعضها لبعض أو في اختلافها جملة مع المصحف العثماني شهادة عليه .

وهذا الموقف ، بعد الجمع العثماني ، يلقي الشبهة على عصمة الحرف العثماني وصحته وإعجازه ، فلا يصح التحدي به .

وتلك المصاحف الأربعة سلمت من الاتلاف العثماني لتقع في غيره .


 

4 – الإصدار الأخير القائم للقرآن هو من الحجّاج

كان الحجاج بن يوسف ، من بني ثقيف ، عميل الأمويين المروانيين على العراق . وأحد دهاة السياسة العالميين عبر التاريخ ، ومن أكبر جزّاري البشرية . يقول دروزة : "هناك رواية أن المصحف المتداول ، إنما هو مصحف الحجاج وجمعه وترتيبه ... وأن الحجاج قد جمع المصاحف المتداولة ، ومصاحف عثمان وأبادها" . ويقول ابن الخطيب (الفرقان 49 – 50) : "قيل : أن أول من أمر بنقطه وشكله هو عبد الملك ابن مروان . فتصدّى لذلك عامله الحجاج بن يوسف الثقفي . فأمر الحسن البصري ويحيى بن يعمر ففعلا ذلك . وقيل إن أول من نقطه أبو الأسود الدؤلي . وقيل : نصر بن عاصم الليثي . وقيل غير ذلك . والقول الأول هو الأرجح" .

واختلافهم في صاحب تنقيط القرآن وتشكيله ، يهدم هدم الأستاذ دروزة لرواية مصحف الحجاج : "ولعل الرواية محرفة من حادثة عناية الحجاج بإعجام القرآن أو نقطه ، ممّا صار نساخ المصاحف بعدها يأخذون به" . ينقضه أيضا ما ثبت أنه "قد غيّر الحجاج بن يوسف الثقفي في المصحف اثني عشر موضعا" . فلم يقتصر دور الحجاج على التنقيط والتشكيل .

وقد سمعتُ من بعض الراسخين في العلم أن جمع الحجاج الجديد للقرآن إنما كان لإسقاط ما بقي بعد إسقاط عثمان ممّا لا يليق بحق بني أمية ، وخصوصا لإقحام آية الإسراء في مطلع سورة "بني اسرائيل" ، وذلك لتحويل حج أهل الشام من مكة إلى بيت المقدس ، اتقاءً للفتنة المستعرة بمكة على بني أمية . فصارت سورة "بني اسرائيل" سورة "أسرى" ثم "الاسراء" . وفي آية الاسراء شاهد على هذا الاقحام فهي لا تمت بصلة الى السورة ، ولا إلى ما قبلها في النسق أو في ترتيب النزول .

والبرهان الأكبر على أن إصدار الحجاج للقرآن لم يقتصر على إعجام القرآن وتنقيطه هو إتلاف المصاحف العثمانية وسائر المصاحف المتداولة . فلو لم يكن في جمع الحجاج من

تصحيف أو تحريف ، لما كان من داع لاتلاف المصاحف العثمانية وهي في حرفها واحدة مع نسخ الحجاج !

وليس من المعقول أن تضيّع الأمة نسخ المصحف الإمام ! ولا أن تسهر عليها كأثمن ما في الوجود ! إن ضياعها من الوجود جميعا كان بقدرة قادر ، هو الحجاج ! يقول الأستاذ دروزة : "من المحتمل أن لا تكون إحدى نسخ مصاحف عثمان الأصلية موجودة اليوم ؟ – مع ما يُقال عن وجود بعضها قولا غير مؤيَّد بشاهد ، ووصف عياني ، موثوقين" . ويقول الدكتور صبحي الصالح : "وإن الباحث ليتساءَل : أين أصبحت المصاحف العثمانية اليوم ؟ – ولن يظفر بجواب شاف عن هذا السؤال ، فوجود الزركشة والنقوش الفاصلة بين السور ، أو المبيّنة لأعشار القرآن ، ينفي أن تكون المصاحف الأثرية في دار الكتب بالقاهرة عثمانية ، لأن المصاحف العثمانية كانت مجرّدة من كل هذا" .

والنتيجة الحاسمة لفقدان النسخ العثمانية – وهي المصحف الأميري الذي أجمع الأمة على تلاوته الخلفاء الراشدون – أن الحجاج قد أتلفها ، وما أتلفها إلاّ ليحرّف فيه !

ومن لا يتورع عن هدم الكعبة ، بيت الله ، هل يتورّع عن مسّ القرآن ، كتاب الله ؟ مَن يُعدّون من ضحاياه نحوًا من ماية وثلاثين ألفا أسلمهم للجلاّد ، ومَن مات وسجونه تعج بنحو خمسين ألفا من الرجال ، وثلاثين ألفا من النساء ، هل يتورّع في تصفية القرآن من الإشارات الجارحة لبني أمية ؟ ومن إقحام ما اقتضت مصلحتهم بإقحامه كآية الإسراء ؟

لا شك أن الخصومة التي قامت في الجاهلية بين بني أمية وبني هاشم ، ثم امتدت الى الاسلام ، وكان من نتائجها انقسام الأمة والحروب الأهلية المتواصلة ، التي نخرت عظام الدولة الاسلامية منذ قيامها حتى القضاء عليها . وخروجها من يد العرب ؛ وكان من نتائجها أيضا دون شك إصدار القرآن الأول على يد زيد بن ثابت من دون أئمة الصحابة كعلي وابن مسعود ، واصدار القرآن الثاني على يد عثمان والثورة عليه وقتله ، وإصدار القرآن الثالث والأخير ، الحي الباقي ، على يد الحجاج – قد لعبت دورها في تصفية القرآن كما وصل الينا . فليس في العالم اليوم ، بعد الحجاج ، إلاّ "القرآن المصفّى" .

وبما أن القرآن الحالي المتداول هو أخيرا من جمع الحجّاج وإخراجه – كما يتضح من إتلاف أو ضياع المصاحف العثمانية – فكفى بالحجاج شبهة دائمة على صحة الحرف القرآني وعلى صحة إعجازه .

وإننا لنصرّح : إن هذا التحفّظ لا يمنع صحة القرآن الجوهرية التي ندين بها ، ونشهد لها .

لكن بما أن إعجاز القرآن قائم على صحة حرفه المنزل ، فبعد نزوله على سبعة أحرف وإتلاف ستة منها ، وبعد قرائَته بحسب الرخص النبوية الأربع ، وبعد تصفيته بالعرضات النبوية السنوية ، والاصدارات الثلاثة التاريخية التي كان مسك الختام فيها إصدار الحجّاج ، وبعد الاتلاف الشامل لسائر النسخ الأخرى على يد عثمان ، والاتلاف الكامل على يد الحجاج ، فلا يصح القول بإعجازه منزل في حرف القرآن ، ولا بمعجزة في "حفظه" . وادعاء ذلك إنما هو التجنّي على التاريخ الثابت من المصادر الاسلامية نفسها .


 

بحث سادس

"القرآن المصفّى"

إن القرآن الحالي ليس القرآن كله نزل على محمد ؛ بل هو "القرآن المصفّى" ، بعد التصفيات الثلاث التاريخية التي تنطق بها الأخبار والآثار .

التصفية الأولى للقرآن كانت التصفية النبوية عينها التي كان يقوم بها النبي العربي كل سنة ، في عرْضات القرآن السنوية مع جبريل ، كما نقلوا . وظواهرها متعدّدة ، من نسيان الى تبديل الى محو ؛ ومن رفع قرآن من التلاوة الىاسقاط منسوخ منه ، حتى "ذهب منه قرآن كثير" كما سبق تفصيل ذلك .

التصفية الثانية للقرآن كانت التصفية العثمانية التي أتلف فيها الخليفة الثالث ستة أحرف من "الأحرف السبعة" التي أقرأ بها النبي القرآن للناس ؛ والتي أبدل فيها ترتيب

القرآن التاريخ بالترتيب التنسيقي ، فظهر تيّار بني أمية في "حفظ" القرآن على تيار أهل البيت ؛ والتي أسقط فيها عثمان كثيرا من المنسوخ الذي كان يحتفظ به مصحف الإمام علي بن أبي طالب ، حتى اتهموه بأنه "غيّر المصاحف" ، وأتلف مصاحف الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين ، ومصاحف التابعين لهم بإحسان .

التصفية الثالثة هي تصفية الحجاج بن يوسف ، عامل الأمويين وعميلهم ، الذي أسقط من القرآن كل ما كان فيه بحق بني أمية ، وغيّر بعض المواطن كما ذكروا بعضها الى اليوم ؛ والذي أتلف المصاحف العثمانية نفسها ، وقد أجمع الصحابة على جعلها "إمامًا للناس" . وتصفية تأتي على يد الحجاج إنما هي موضوع شبهة قتّالة لا تزول .

فبعد هذه التصفيات الثلاث لم يبق بين أيدي المسلمين إلاّ "القرآن المصفّى" . وإعجاز التنزيل ومعجزته يقومان على "حفظه" كما نزل . وبما أن القرآن الحالي هو "القرآن المصفّى" فلا يصح التحدّي به . وكم كان صادقا قول المعتزلة : إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوة .


 

خاتمة

هل في ذلك الواقع التاريخي من معجزة في "حفظ" القرآن ؟

ذلك ما نقلته لنا الأخبار والآثار الاسلامية عن جمع القرآن وتدوينه . فبعد ظواهر التنزيل من نسيان وإسقاط وتبديل ونسخ ومحو ؛ وبعد الرخص النبوية الأربع في قراءَة القرآن ، تلك التي جعلت النص المنزل سبعة أحرف أي نصوص "باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني" ، وقد تُقرأ بالمعنى لا بالحرف ؛ "وقد كانت المصاحف بوجوه من القراءَات المطلقات على الحروف المسبعة" ؛ وبعد الاصدارات الثلاثة المختلفة التي يُحرِّق بعضها بعضًا ، حتى لم يسلم إلاّ "القرآن المصفّى" بتصفيات ثلاث نبوية وعثمانية وحجاجية ، هل من معجزة في "حفظ" القرآن سالمًا كما نزل ؟ وبما أن إعجاز القرآن في نظمه قائم على سلامة حرفه كما نزل ؛ وبما أن القرآن الحالي هو "القرآن المصفّى" ؛ فلا يصح التحدّي بإعجازه في حرفه ونظمه .

والقول الفصل ، أننا لا نشك في حفظ القرآن وصحته الجوهرية . إنما نقول : ليس من معجزة في "حفظ" القرآن . وتاريخ جمعه وتدوينه في تصفيات ثلاث خير شاهد عليه .

  • عدد الزيارات: 32411