Skip to main content

الإعجاز من حيث الزمان والمكان معجزة

الإعجاز من حيث الزمان والمكان معجزة

"الله أعلم حيث يجعل رسالته" (الانعام 124)

منذ أن قال الجاحظ ، الفارسي المستعرب ، بإعجاز القرآن في لفظه ونظمه ، أخذوا يستنبطون المناسبة في معجزة موسى وعيسى ومحمد . فوجدوا إشاعة السحر في زمن موسى ، وإشاعة الطب ، أو الطب الروحاني ، في زمن عيسى ، وإشاعة سحر الكلمة في زمن محمد وبيئته . فكانت معجزات موسى ممّا يشبه السحر ويُعجزه ، ومعجزات عيسى مما يشبه الطب والابراء ويُعجزه ، ومعجزة محمد ممّا يشبه سحر الكلمة ويُعجزها .

وفي هذه المناسبة "زمان المعجزة ومكانها" كما يقول عبد الكريم الخطيب(1) : "كان من تدبير الحكيم العليم وتقديره أن تقع معجزات الرسل موقعها المناسب ، كي تطلع الثمر المرجو

منها (ص 83) . والذي كان يرصد مجرى الحياة العربية قُبيل البعثة النبوية ، كان يرى أن أوضح ظاهرة في هذه الأمة ، وأقوى قوة عاملة فيها هي الكلمة ... فما عرفت الحياة أمة من الأمم كانت الكلمة مالكة زمامها ، ومصرّفة أمرها ، ومنطلق حياتها ومسبح آلامها وآمالها ، كالأمة العربية منذ جاهليتها الى أن طلع عليها الاسلام ونزل عليها القرآن (ص 87) . وهنا يأتي دور الكلمة فتؤدّي رسالتها العظيمة في هذا المجال . إذ لا يملك العربي إذ ذاك شيئا غيرها : فلا رسم ولا نحت ، ولا تصوير ، ولا تمثيل ، ممّا تسمح به الحياة المستقرة المطمئنة ، الأمر الذي لم يكن ليتاح لأهل البادية وسكان الصحراء – ليس غير الكلمة إذن ... ونستطيع أن نؤكد أن العرب وحدَهم من بين سائر الأمم هم الذين استطاعوا أن يصوغوا الحياة كلها في تلك الكلمات التي أصبحت لغة مكتملة البناء راسخة الأركان ، بما أبدعوا وولدوا من أمهاتها وأصولها . ونستطيع أن نؤكد أيضا أن العرب قد استطاعوا أن يحمّلوا لغتهم كل ما تحمل الفنون الجميلة كلها من ملهمات وأسرار . فالموسيقى بألوانها وأنغامها ومقاماتها قد حواها الشعر العربي في تفاعيله وبحوره وقوافيه (ص 91) . فإن كان ما في الحياة من معطيات الفنون والاداب قد ضمته العربية اليها وجعلته بعضا منها ... فالشعر الجاهلي الذي أدرك الاسلام أو أدركه الاسلام هو الصورة الكاملة للبيان العربي ، وهو الشهادة القاطعة لما بلغته الكلمة في اللسان العربي من امتلاكها كل ما يمكن من قدرة على الابانة عن أدق المشاعر الانسانية ، وأعمق الأحاسيس ، بما لا تقدر عليه وسائل الابانة من لغة ورسم ونحت وتصوير وتمثيل متفرقة أو مجتمعة (ص 92) . ومن الواضح أن الشعر الجاهلي الذي حُفظ عن تلك الفترة اعتُبر الصورة الكاملة للشعر الجاهلي" (ص 94) .

"اللغة العربية ومكانتها بين اللغات . ولعلك تذكر هنا بلاغة اليونان وحكمة فارس والهند ، في القديم ‍ كما تذكر أساليب البيان الأوربّي وما نبغ فيه من كتاب وشعراء في العصر الحديث . لعلك تذكر هذا فتعترض على ما قلناه في البيان العربي وفي تفرّده بمنزلة لا يشاركه فيها غيره . لعلك تذكر هذا ، وربما نذكره نحن أيضا معك فإننا لا نبخس الناس حقهم حين نتمسك بحقنا وندافع عنه . ولكنا مع هذا لا نرى أن بلاغة اليونان وحكمة فارس والهند ، وبلاغة الأدب الاوربي الحديث ، لا نرى شيئا من هذا يعلو البيان العربي أو

يساويه !‍ وان وقفت منه بعض تلك الآداب موقفا مدانيا مقاربا وشاهدنا على هذا قائم بين أيدينا على مرّ الايام والسنين : وهو القرآن الكريم" (ص 113) .

بعد تلك المقدمات يخلص الى القول : "ونستطيع بعد هذا ان ننتهي الى مقرّرات . أولا : أن القرآن الكريم معجزة في ذاته ، وأن معجزته محمولة في كلماته التي نزل بها . ثانيا : أن المعجزة القرآنية جاءت في زمانها ومكانها ... ولعل في قوله تعالى : "الله اعلم حيث يجعل رسالته" ما يشير الى هذا المعنى . فان كلمة "حيث" يعبّر بها عن المكان . والمكان يحويه زمان . ويعيش فيه اشخاص . وبهذا يكون استعمال القرآن لهذه الكلمة "حيث" معجزة تنطلق منها اشارات مضيئة ، تشير الى الرسول ، والى المرسل اليهم ، والى زمن الرسالة ومكانها . فقد اصابت الرسالة مكانها في شخص الرسول ، وفي العرب المرسل اليهم ، في زمان ومكان معلومين . ثالثا : ان الأدب الجاهلي ، وخاصة الشعر – هو المنظور اليه في معرض التحدي . وهو الذي وقع الاعجاز عليه ، إذ كان هذا الأدب ، وهذا الشعر ، غاية ما يمكن أن يرقى اليه فنّ القول في مجال العمل الإنساني ، في استصحاب الكلمة والتعامل بها" (ص 117 – 118) .

إنّ تعميمات الشيخ عبد الكريم الخطيب عن الآداب العالمية تجاه الأدب العربي ، وعن البيان العالمي تجاه الشعر الجاهلي ليس لها من أساس علمي . ولسنا ندري هل يقرّه علماء الآداب واللغات العالمية على سيادة اللغة العربية عليها ، خصوصا في الأدب الجاهلي وبيانه . فهل يقاس بما اعطته جاهلية اليونان من آداب وفنون من الياذة هميروس ، أو إلياذة فرجيل ، أو فردوس دانته ، أو اسطورة الدهور لفكتور هوجو ؟ ولا أظن أن الأدباء العرب يقرونه على تفضيل الشعر الجاهلي على الشعر العربي كله بدون استثناء . فالمقدمتان الكبرى والصغرى من قياسه ساقطتان .

والآن نبحث وجه الحكمة 1) في اختيار الجزيرة العربية 2) واختيار لسان العرب 3) وفي توقيت الرسالة المحمدية ، لنرى هل من معجزة في بيئتها : إذ "الله أعلم حيث يجعل رسالته" .



بحث أول
هل من معجزة في اختيار الجزيرة العربية للقرآن ؟

يصف القرآن عهد العرب قبله "بالجاهلية" (154:3 ؛ 50:5 ؛ 33:33 ؛ 26:48) . وهو تعبير نصراني يطلقونه على البلاد والشعوب التي لم يصلها نور الكتا ب والانجيل كما قال بولس الرسول في ندوة أثينا : "لقد اغضى الله عن أزمنة الجاهلية ، وها هو الآن ينذر جميع الناس ، في كل مكان أن يتوبوا" (سفر الاعمال 30:17) .

فجاهلية العرب لم تكن جهلا بالثقافة والأدب ، بل جهلا بالدين والتوحيد الخالص . وفي التوحيد كانت دعوة أهل الكتاب ، من يهودية ومسيحية ، قد عمت أطراف الجزيرة ، حتى تغلغلت الى الحجاز ، فحولته من الوثنية الى الشرك أي عبادة الله الواحد الأحد مع شريك من خلقه . وقد أمسى شركهم ظاهريا بشهادة القرآن : "ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا الى الله زلفى" (المز 3) . ونتيجة الدعوة الكتابية أن "عبادة أهل مكة هي عبادة محمد ، وتوحيدهم توحيد اسلامي ، أو توحيد قريب من التوحيد الاسلامي" . فليس في اختيار الجزيرة العربية للدعوة القرآنية من معجزة . يكفي شهادة على ذلك حديث ورقة بن نوفل ، قس مكة ، واستاذ محمد مدة خمسة عشر عاما قبل مبعثه ؛ وكان يدعو في مكة الى نصرانيته بترجمة الانجيل من حرفه العبراني الى العربية ، بحضور محمد ، زوج خديجة ، ابنة عمه ، في بيتها . وما كانت الدعوة القرآنية إلا "تفصيل الكتاب" للعرب (يونس 37) . غفلوا عن دراسته : "أن تقولوا : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، وإن كنّا عن دراستهم لغافلين" (الانعام 156) ؛ فدرسه محمد ليفصله لهم : "وكذلك نصرّف الآيات ! وليقولوا : درست ! – ولنبيّنه لقوم يعلمون" (الانعام 105) . فسكوته عن الرد على تهمة الدرس ، وعدوله الى بيان حكمته ، دليل على صحة الدرس والتدريس . ولذلك تتواتر الشهادات القرآنية ان الدعوة القرآنية إنما كانت "ليعلمهم الكتاب والحكمة" أى التوراة والانجيل (151:2 و129 ؛ 164:3 ؛ 2:62) .


فدين الكتاب ، دين ابراهيم وموسى وعيسى ، هو الدين الذي يشرعه القرآن للعرب : "شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا – والذي أوحينا اليك – وما وصّينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" (الشورى 13) . ودين موسى وعيسى دينا واحدا هو دين النصرانية الاسرائيلية التي تقيم التوراة والانجيل معا ، كما يدعو القرآن (المائدة 68) ؛ وكما يردّد : "لا نفرّق بين أحد من رسله ، ونحن له مسلمون" (136:2 و285 ؛ 84:3 ؛ 150:4) .

فالاسلام هو محور الدعوة القرآنية . وهذا الاسلام كان قائما في الحجاز ، بمكة والمدينة ، قبل القرآن ؛ وذلك بنص القرآن القاطع : "هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا" القرآن (الحج 78) . فقد "شهد الله أنه لا إله إلاّ هو ، والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط – لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم – أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) . وفي اصطلاح القرآن ، أولو العلم هم أهل الكتاب ؛ والقائمون منهم بالقسط هم النصارى من دون اليهود الظالمين لكفرهم بالمسيح ثم لمحمد . ويسميهم أيضا الراسخين في العلم ، ويميّزهم عن المؤمنين من العرب بمحمد ودعوته ، وعن اليهود بقوله : "فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم ... لكن الراسخون في العلم منهم ، والمؤمنون ، يؤمنون بما أنزل اليك" (النساء 106 – 162) – وهؤلاء النصارى الراسخون في العلم هم الذين يؤمنون بمتشابه القرآن مثل محكمه : "والراسخون في العلم يقولون : آمنا به كلٌ من عند ربنا" (آل عمران 7) . فالدعوة للاسلام هي دعوة النصارى الراسخين في العلم المنزل القائمين بالقسط في الايمان بالمسيح والانجيل ، وبمحمد والقرآن لأن دعوته من دعوتهم . فكان الاسلام القرآني قائما في مكة والحجاز قبل الدعوة القرآنية . وما الدعوة القرآنية سوى انتصار له لظهوره على اليهودية هناك : "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين : من أنصاري الى الله ، قال الحواريون : نحن أنصار الله . فآمنت طائفة من بين اسرائيل وكفرت طائفة : فأيدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين" (الصف 14) . فانتصرت النصرانية الاسرائيلية على اليهودية بفضل الدعوة القرآنية . فما الإسلام في القرآن سوى النصرانية الإسرائيلية التي تشهد مع الله وملائكته "أن الدين عند الله الاسلام" . والقرآن يشهد بشهادتهم .

فليس من معجزة في اختيار الجزيرة العربية للدعوة القرآنية . بل هي امتداد للدعوة النصرانية الاسرائيلية القائمة في مكة والحجاز ، وذلك بشهادة القرآن القاطعة .


 

بحث ثان
هل من معجزة في اختيار لسان العرب للقرآن ؟

تنزيل الله معجز بحد ذاته بأيّ لسان أُنزل . وقد نزل وحي الله باللسان العبري فالأرامي فاليوناني ، قبل أن يُفصّل في القرآن العربي . فمن حيث الأوّلية في التنزيل ليس من معجزة لاختيار لسان العرب للقرآن . وليس اختيار لسان العرب للقرآن لأنه أحق بالشفعة والامتياز للاعجاز اللغوي والبياني .

فالقرآن نفسه يشهد للكتاب بالإمامة في التنزيل ، ويشهد لنفسه بأنه تابع : "أفمن كان على بيّنة من ربه – ويتلوه شاهد منه ؛ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة – اولئك يؤمنون به ؛ ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده : فلا تكُ في مرية منه ، انه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" (هود 17) . إن القرآن يأمر محمدا بأن لا يشك من القرآن البالغ له لثلاثة أسباب : لأن مَن هم على بيّنة من ربهم في الوحي والتنزيل يؤمنون به ؛ ثم لأن "من قبله كتاب موسى إماما" ، فإمامة الكتاب للقرآن العربي برهان على صحته ؛ ويتلو القرآن العربي على محمد شاهد من قِبَله تعالى ؛ وهو مثل قوله : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" (الاحقاف 10) فمثل القرآن العربي عند بني اسرائيل النصارى – نقول النصارى لأنه على خلاف دائم مع اليهود ، ولأن القرآن يقسم بني اسرائيل الى طائفتين (الانعام 156) ، "فآمنت طائفة (بالمسيح) وكفرت طائفة" (الصف 14) – "ويتلوه شاهد منه" .

ما على محمد أن يشك بلقائه بالكتاب في القرآن العربي ، لأن أئمته يهدون محمدا اليه بأمر الله : "ولقد آتينا موسى الكتاب ، فلا تكن في مرية من لقائه ، وجعلناه هدى لبني اسرائيل ، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا" (السجدة 23 – 24) . فما على محمد أن يشك

بلقاء الكتاب في القرآن لأن الله جعل من بني اسرائيل النصارى أئمة يهدون الى هدى الكتاب الذي معهم . فمحمد بالقرآن العربي يهتدي الى هدى الكتاب بواسطة أئمة بني اسرائيل النصارى . لذلك فهو يسمّي هؤلاء الأئمة "الراسخين في العلم" ، وهو يستشهد بإيمانهم "بما أُنزل اليك وما أُنزل من قبلك" (النساء 162) ، ويستشهد بإيمانهم بمتشابه القرآن كما بمحكمه : "والراسخون في العلم يقولون : آمنّا به كلٌ من عند ربنا" (آل عمران 7) .

وهذا كله لأن القرآن العربي ليس إلاّ تصديقا للكتاب بلسان عربي : "قل : أرأيتم إنْ كان من عند الله ، وكفرتم به – وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم – إن الله لا يهدي القوم الظالمين ... ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ، وهذا كتاب مصدّق لسانا عربيا ، لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين" (الاحقاف 10 – 12) . فالقرآن من عند الله لأن شاهدا من بني اسرائيل النصارى "شهد على مثله" ، ولان "من قبله كتاب موسى إماما ورحكمة" ، فإمامة الكتاب للقرآن ، بعد "المثل" النصراني هما البرهان على أن القرآن العربي من الله ، وصفته الكبرى انه "كتاب مصدق لسانا عربيا" فميزته الخاصة تصديق الكتاب بلسان عربي ، ليس فيه سوى هذا . وهذا المعنى متواتر في القرآن . ففي هاتين الآيتين سر القرآن كله : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" (الاحقاف 10) ، "ويتلوه شاهد منه" (هود 17) . إن "مثل" القرآن عند انصارى من بني اسرائيل ، ويتلوه على محمد شاهد منهم بأمره تعالى . وبما أن ميزة القرآن العربي تصديق الكتاب ، عن طريق "المثل" ، بلسان عربي ، فليس من معجزة لاختيار لسان العرب للقرآن ، فهو ليس سوى مصدّق .

فتعريف القرآن العربي أنه "تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين" (يونس 37) . إنه "تفصيل الكتاب" أي تعريبه بلغة القرآن . فالميزة باختيار اللسان ليست للمفصِّل ، بل للمفصَّل ؛ وحسب النسخة المعرَّبة أن تكون مثل الإمام الأصْل ، طبق "المِثْل" الذي "يتلوه شاهد منه" ، "شاهد من بني اسرائيل على مثله" . وهذا المعنى متواتر أيضا في القرآن : فهو "تفصيل الكتاب" (يونس 37) ؛ "كتاب أحكمت آياته ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير" (هود 1 ) ؛ وتنزيل من الرحمان الرحيم "كتاب فُصّلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون" (فصلت 2 – 3) . فالتنزيل هو أولا في الكتاب الإمام ، وفي

"المثل" ، ثم تُرجمت آياته قرآنا عربيا ، بواسطة حكيم خبير . لذلك فهو يجزم : "وإنه لتنزيل رب العالمين ... وانه لفي زبر الأولين : أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني اسرائيل" النصارى (الشواء 192 – 197) . فالقرآن هو تنزيل رب العالمين لأنه في زبر الأولين ، أي "كتبهم كالتوراة والانجيل" (الجلالان) . وآية محمد أن الراسخين في العلم يعلمون ذلك ، ويشهدون به ، ويؤمنون به . وهذه الشهادة تكفيه : "ويقول الذين كفروا : لست مرسلا ! – قل : كفى بالله شهيدا ومن عنده علم الكتاب" (الرعد 43) . فشهادة القرآن لنفسه أنه تنزيل رب العالمين لأنه في زبر الأولين ؛ وأنه "تفصيل الكتاب" ؛ وانه تصديق الكتاب "لسانا عربيا" ؛ وأن إمامه الكتاب في الهدى والبيان ؛ وأن "مثل" القرآن عند بني اسرائيل النصارى يتلونه على النبي ويفصله له حكيم خبير – كلها ميزات يشهد بها القرآن ان الفضل للسان الإمام قبل أن يكون للسان المفصَّل قرآنا عربيا .

قد يقولون : إنَّ التحدي بالسان لم يقع في الكتاب الإمام ، بل بالقرآن العربي ، فالفضل للسان العربي على السنة العالمين . يُردّ عليه بأن التحدي بإعجاز القرآن لم يكن بلسانه بل بهداه : "قل فاتوا بكتاب من عند الله هو اهدى منهما أتّبعه ، إن كنتم صادقين" (القصص 49) . والفضل في الهدى للكتاب المفصَّل ، لا للكتاب المفصِل .وقد رأينا أن التحدّي بإعجاز القرآن كان بمكة وحدها للمشركين ؛ فلمّا تحوّل الخطاب في القرآن المدني لأهل الكتاب سكت عنه بعد (البقرة 23) ، ونسخه بالنسخ في أحكامه (البقرة 106) والمتشابه في اخباره وأوصافه (آل عمران 7) وهو أكثر القرآن . فالواقع القرآني نفسه يشهد بأنه ليس من معجزة في اختيار اللسان العربي للقرآن ، فهو "تفصيل الكتاب" للعرب ، وتعليمهم "الكتاب والحكمة" أي التوراة والانجيل .


بحث ثالث
هل من معجزة في توقيت الرسالة القرآنية ؟

فضل الرسالة القرآنية على العرب لا ينكره إلاّ أعمى لا يرى النور . فقد أنشأ منهم أمة عظيمة ، ودولة عظيمة ؛ وأتحفهم بالاسلام دينا ؛ وأودعهم القرآن دستور الدين والدولة والأمة . لكن ليس في توقيت الرسالة القرآنية من معجزة فيهم .

فقد يظن بعضهم ويحلو لهم أن يقولوا بأن القرآن نقل العرب من "جاهليتهم" الى الاسلام ؛ ويفسّرون ذلك بأنه نقلهم من الوثنية والهمجية الى التوحيد والحضارة التي دوّخت العالم دهرا من الزمن . وفاتهم جميعا ان كلمة "الجاهلية" اصطلاح قرآني موروث عن النصارى من أهل الكتاب . فقد كانوا يقسمون العالم ، مثل اليهود ، الى أهل الكتاب والأمّيين الذين ليس لهم الكتاب المنزل كما في قوله : "وقل للذين أوتوا الكتاب والأمّيين : أأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا" (آل عمران 20) ؛ وكما في تسمية محمد "النبي الأمّي" (الاعراف 157 و 158) أي من الأميّين الذين ليس لهم كتاب منزل : "هو الذي بعث في الأمّيين (العرب) رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة" أي التوراة والانجيل (الجمعة 2) . وقد كان النصارى يسمون زمن الأمم قبل الايمان بالكتاب والانجيل "جاهلية" الأمم ، لا الجهل في المعرفة ، بل الجهل بالعلم المنزل ، ولذلك يسمون أنفسهم أهل الكتاب وأولي العلم ، كما وصفهم القرآن أيضا . وفي تسمية القرآن – والنصارى – زمن العرب قبل الايمان بالعلم المنزل "الجاهلية" لا يقصد الجهل بالمعرفة ، بل الجهل في الدين والايمان والاسلام .

وكانت جاهلية العرب بالحجاز في نهضة عارمة قومية وثقافية وتجارية ، مهّدت السبل لقيام الدعوة القرآنية في ذروتها ، كما يشهد بذلك الواقع القرآني . فقد تمّيزت مكة ، بعد تضعضع اليمن بخراب سد مأرب واحتلال الحبشة مرتين لليمن ، وبالتجارة الدولية بين اليمن والشام وبين الشرق والغرب . وقد أشاد القرآن بفضل الله "لإيلاف قريش ، ايلافهم رحلة الشتاء والصيف" . وقد ازدهرت هذه التجارة الى دولة الفرس والى دولة الروم . بفضل الحياد الايجابي العربي بين الدولتين . ولمّا شعروا أن في الدعوة القرآنية ميلا إلى أهل الكتاب فدولة الروم ، ردّوا على دعوة القرآن : "إن نتّبع الهدى معك نُتَخطّف من أرضنا" (القصص 57) . فاستقلالهم السياسي يقتضي استقلالهم الديني عن أهل الثنوية : "لا تتّخذوا الهين اثنين" (النحل 51) ، وعن أهل التثليث : "ولا تقولوا : ثلاثة" (النساء 171) . فصراع أهل مكة مع محمد سياسي ديني ؛ لذلك يبين لهم القرآن أن التوحيد الاسلامي ينفي الثنوية وتبعيتها ، والتثليث وتبعيته. وهذه النهضة القومية والتجارية يرافقها نهضة ثقافية تمثلت في الشعر الجاهلي ، في القرنين الخامس والسادس م . كما قامت أسواق الأدب الى جانب أسواق التجارة ، في مواسم الحج . وهذا هو المظهر الأكبر للنهضة

الجاهلية في مظاهرها الثلاثة القومي والتجاري والثقافي . ومواسم الحج دليل أيضا على النهضة الدينية . ويفيض القرآن بوصف نعمة الله عليهم بالبلد الحرام ، والبيت الحرام ، وموسم الحج الذي يفيض عليهم بالخير بالبركات : "وقالوا : إن نتّبع الهدى معك نُتخطّف من أرضنا ! – أولم نمكّن لهم حَرَمْا آمنّا – يُجبي اليه ثمرات كل شئ ، رزقا من لدنّا ، ولكن أكثرهم لا يعلمون" (القصص 57) ؛ "أولم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنا ، ويتخطّف الناس من حولهم" (العنكبوت 67) .

بتلك النهضات الأربع ، صارت مكة "أم القرى" ، حول الحرم (القصص 59) . لكن تلك النهضة الدينية كانت تدرجًا من الوثنية الى التوحيد الكتابي . والبرهان الأثري الأكبر هو الشعر الجاهلي الخالي من الوثنية والشرك . والقرآن خير برهان على بلوغهم الى التوحيد: "ولئن سألتهم : مَن خلق السماوات والأرض ، وسخَّر الشمس والقمر ؟ – ليقولُنّ الله" (العنكبوت 61 ؛ قابل 25:31؛ 38:39؛ 9:43) ؛ "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ، فلما نجّاهم الى البرّ ، إذا هم يشركون" (العنكبوت 65) . لقد بلغوا الى التوحيد ، لكنه لم يزل مشوبا بشرك . مع ذلك فهو شرك ظاهري أكثر ممّا هو حقيقي ، فهو من رواسب الماضي : "ألا لله الدين الخالص ‍! والذين اتّخذوا من دونه أولياء – ما نعبدهم إلاّ ليقربونا الى الله زلفى" (الزمر 3) . فالقرآن يدعوهم الى الاخلاص في الدين والتوحيد ، كما يدعو محمد نفسه : "إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق : فاعبد الله مخلصا له الدين" (الزمر 2) .

تلك هي حال أهل مكة حين الدعوة القرآنية في نهضتهم الدينية والثقافية والسياسية والقومية : فهل من معجزة في توقيت الدعوة القرآنية الى التوحيد الخالص ؟

وهنا نتساءَل : ما هو سر هذه النهضة الجاهلية الشاملة ؟ قد يفسرونها بسيطرة مكة على طرق المواصلات والتجارة الدولية ، بعد ضعف اليمن وانشغاله بالحرب السجال بين الفرس والحبشة على احتلاله ، ومحاولة الحبشة من اليمن احتلال الحجاز ، في عام الفيل سنة 670 ، سنة مولد محمد . لكن هذا السبب لا يفسّر كل مظاهر النهضة الجاهلية ، خصوصا من الناحية الدينية . والقرآن في خطاب اليهود والنصارى يشهد بوجودهم النافذ في مكة والمدينة والحجاز كله . وفي تضامن القرآن والدعوة "النصرانية" ، حلُّ سرّ النهضة الجاهلية كلها بالحجاز .

لقد انقسم أتباع المسيح ، على زمن الرسل الحواريين ، الى شيعة وسُنّة . فالذين اهتدوا الى الانجيل من الأمميّين سُمّوا "مسيحيّين" في العالم كله ؛ والذين اهتدوا الى الانجيل من بني اسرائيل دُعوا "نصارى" . ومؤتمر الرسل الحواريين عام 49 م . حرَّر "المسيحيّين" من شريعة موسى والختان شعارها ، وترك النصارى من بني اسرائيل أحرارًا لم يبتّ في أمرهم ، فكانوا يقيمون التوراة والانجيل معًا ، والعماد المسيحي والختان الموسوي معا ؛ وقد أمّروا عليهم أساقفة آل بيت المسيح . وهكذا تشيّعوا لآل البيت وللتوراة . فكان النصارى من بني اسرائيل شيعة ؛ وكان المسيحيون من سائر الامم سُنّة لاتباعهم سُنّة الرسل الحواريين في مؤتمرهم . وهذا كله موجود في سفر "اعمال الرسل" من العهد الجديد .

ولمّا ثار اليهود على الرومان في الثورة الأولى عام 70 م ، وفي الثورة الثانية عام 133 ، أجلى الرومان اليهود و"النصارى" من اورشليم ، فتشتتوا في البلاد . ووقع النصارى بين نارين : نار بني قومهم اليهود ، ونار بني دينهم المسيحيين .

ولمّا اهتدت الدولة الرومانية الى المسيحية ، فكاد لها اليهود ، وكانوا الطابور الخامس للفرس عند العرب والروم ، أمر القيصر ثاوضوسيوس بإجلاء اليهود وشيعة النصارى عن دولة الروم ، في منتصف القرن الخامس . فهاجر اليهود الى فارس . ولم يبق أمام النصارى من بني اسرائيل سوى الحجاز ، لأن أطراف الجزيرة العربية كانت في غالبيتها على المسيحية . فهاجر النصارى من بني اسرائيل الى الحجاز . وفي خبر سلمان الفارسي بالسيرة الهاشمية دلائل على انسحاب آخر النصارى الى الحجاز . وفي حديث ورقة بن نوفل قسّ مكة النصراني ، وخبر ترجمته الانجيل من الحرف العبراني الى العربية – وهو الانجيل الوحيد الذي كانوا يعترفون به ، أي الانجيل بحسب متى في حرفه العبراني ، ولغته الأرامية كما دوّن في الأصل ، قبل ترجمته الى اليونانية – الخبر اليقين على إقامة النصارى وتنظيمهم بمكة جماعة دينية مستقلة ، تدعو أهلها الى "النصرانية" . وزعامة ورقة بن نوفل للجماعة النصرانية ، وترجمة الانجيل للعربية ، البرهان على تغلغل "النصرانية" ، في قريش ، وعلى سيطرتها بمكة . فقد كانت السيدة خديجة ، ابنة عم ورقة ، سيدة تجار قريش ، وكانت تجارتها تعدل تجارة قريش . ففي يد آل نوفل "النصارى" الزعامة الدينية والتجارية بمكة حين البعثة المحمدية .

ففي مدة قرن ونصف توصّل النصارى من بني اسرائيل الى السيطرة الدينية والتجارية والثقافية على مكة . وفي انخراط محمد في تجارة خديجة ، بأمر عمه ، ثم في تثقّفه بالتوحيد

الكتابي و"النصراني" بجوار ابن عمها ورقة قس مكة ، بعد زواجه منها ، مدة خمس عشرة سنة قبل مبعثه ، دلائل على ذلك .

ومن الدلائل على ذلك أيضا "بناء الكعبة على الطراز الحبشي ، في سنة 608 ميلادية ، ووجود الصور المسيحية التي كانت تحلّي باطنها ، وقيام معمار حبشي ببنائها" . وبحسب السيرة النبوية كان من روم الشام ، وقد أمروه : "ابنها لنا ببناء أهل الشام" أي على شكل كنيسة – وقد كانت الكعبة على عهد محمد ودعوته كنيسة مسيحية ، للنصارى من بني اسرائيل فيها الحجر الاسود رمز المسيح الى جوار صورة مريم العذراء تحتضن السيد المسيح على عادة المسيحيين الشرقيين في كنائسهم . واشتراك المسيحيين والنصارى من بني اسرائيل في مقام الكعبة دليل على سيطرة الفريقين في مكة وعلى الصراع الخفي بينهما ، وهو من أسباب مقاومة قريش للدعوة الاسلامية "النصرانية" .

فهجرة النصارى من بني اسرائيل الى مكة والحجاز كانت سبب النهضة الجاهلية الشاملة ، وسبب تخلّص أهل مكة من الوثنية وتحولهم الى التوحيد . فقد أطلق هؤلاء النصارى على دعوتهم أولا اسم "الحنيفية" أي الميل عن الوثنية لإيلاف قريش والعرب . وهذا سبب الترادف الذي نراه في المصادر في صفة ورقة بن نوفل تارة بالحنيف وتارة بالنصراني . وقبيل الدعوة القرآنية ، ربما على زمن ورقة بن نوفل ، وصفوا "نصرانيتهم" بالاسلام ، وسموا أنفسهم "المسلمين" ، كما يتّضح من القرآن نفسه الذي يشهد مع الله وملائكته وأولي العلم قائما بالقسط ، أي الراسخين في العلم ، – وهم النصارى من بني اسرائيل ، بحسب القرائن القرآنية كلها –"أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 17 – 18) ولذلك خالفه اليهود من أهل الكتاب "من بعد ما جاءَهم العلم بغيًا بينهم" (آل عمران 18) ، ولذلك أيضا كانوا "يقتلون الذين يأمرون بالقسط" كما كانوا يقتلون النبيين من قبلهم (آل عمران 22) . فالقرآن يشهد للاسلام بشهادة النصارى من بني اسرائيل ، بعد أن جاءَه الأمر بالانضمام اليهم وقراءَة قرآن الكتاب معهم : "وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن" (النمل 90 – 91) . فالمسلمون موجودون بمكة قبل محمد وهو يُؤمر بالانضمام اليهم ، ليشهد معهم "أن الدين عند الله الاسلام" .

فالسلام كان قائما بمكة قبل محمد ، وقد أُمر محمد برؤيا غار حراء بالهداية النهائية اليه والدعوة له (الشورى 52 مع 15) . وجاءَت الدعوة القرآنية نصرة "للنصرانية" على اليهودية في الحجاز ، بنص القرآن القاطع : "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين : مَن أنصاري الى الله ؟ وقال الحواريون : نحن أنصار الله . فآمنت طائفة من بني اسرائيل (النصارى) وكفرت طائفة (اليهود) : فأيدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين" (الصف 14) . لقد ظهرت النصرانية على اليهودية في الحجاز بفضل الدعوة القرآنية . فما اسلام القرآن سوى اسلام هؤلاء "النصارى" .

هذا هو الواقع التاريخي والقرآني . فهل من معجزة في توقيت زمن الدعوة القرآنية ؟ والرسالة المحمدية ؟ إن القرآن دعوة "نصرانية" .


بحث رابع
اصطفاء محمّد للدعوة القرآنية فضل من الله أم معجزة شخصية ؟

أجل إنه لفضل عظيم من الله تعالى على محمد باصطفائه للدعوة القرآنية بالاسلام . ولهذا الاصطفاء الفضل الكبير بنجاح الدعوة وسيطرتها على العرب . فقد عجزت اليهودية ثم المسيحية ثم النصرانية الاسرائيلية عن السيطرة التامة على الحجاز ، عرين العرب . ولكن ، بعد اصطفاء الله محمدا ، فطرتُه ونشأته وزواجه من السيدة خديجة ، وتلمذته على علاّمة مكة ورقة بن نوفل مدة خمس عشرة سنة ، جعلت محمدا أهلا وقابلا لاصطفاء الله له ، "واللّه أعلم حيث يجعل رسالته" (الانعام 124) . فقلّما عرفت البشرية بطولة كبطولة النبي العربي .

وعين اللّه الساهرة عليه لغايتها دبّرت له نشأة سليمة على الفصحى الخالصة . يقول الاستاذ العقاد : "ثم عُهد به الى حليمة بنت ذؤيب تستتم رضاعته في بادية قَومها بني

سعد ، على سُنّة العلية من أشراف مكة ، يبتغون النشأة السليمة واللغة الفصحى بعيدا من اخلاط مكة وأهوائها . ولم يكن الطفل اليتيم على يسار لأن أباه مات في مقتبل الشباب ، ولكن أسرة أبيه وأسرة أمه تكفّلتا بنشأته كما ينشأ أبناء السراة في قريش ... ولبث معها الى الخامسة أو قبلها بقليل . وتكلّم وجرى لسانه بالعربية الفصحى وهو بين بني سعد ، فذاك فخره بعد النبوة اذ يعجب الصحابة من فصاحته ، فلا يرى عليه السلام عجبًا في فصاحة عربي نشأ في بني سعد ، وتربّى في الذؤابة من قريش" .

وعين اللّه الساهرة عليه لغايتها، دبّرت له زواجه من السيدة خديجة التي كانت تجارتها تعدل تجارة قريش ، فجاءَه معها المال والجمال وهناء البال . وتروي السيرة النبوية لابن هشام أن السيدة خديجة قد استشارت ورقة بن نوفل بصفته ابن عمها ، وبصفته قسّ مكة ، في أمر زواجها من محمد . "فقال ورقة : لئن كان هذا حقا ، يا خديجة ، إن محمدا لنبيُّ هذه الأمة" . يقول ورقة ذلك قبل مبعث محمد بخمس عشرة سنة . فهل كان ورقة نبيّا ليعرف مصير محمد بعد خمس عشرة سنة ؟ وبعد خمس عشرة سنة يرى محمد رؤياه في غار حراء ، فيرجع الى خديجة ترتعد فرائصه . "فقالت : أبشرْ يا ابن عم واثبتْ ، من الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمة" . فهل كانت خديجة ايضا نبية لتعرف قبل محمد أنه نبي هذه الأمة ؟ ففي موافقة ورقة وخديجة على زواجها من محمد تصميم على تهيئة محمد لمهمة الدعوة ، وتسلّمها من ورقة والقيام بها من بعده .

وقد بيّنا في كتاب آخر أن أميّة محمد قول لا نستطيع الأخذ به . ولا تضير الثقافة النبوة ، فقد كان موسى قبل مبعثه قد تثقّف بكل ثقافة المصريين في بيت فرعون ، وثقافة الكنعانيين مدة أربعين سنة في مدين ، قرب شيخها وكاهنها ، وهو يرعى له أنعامه .

وفي حديث ورقة بن نوفل في صحيح البخاري وغيره ، نرى صلة محمد بورقة وتلمذته للقس العلامة مدة خمس عشرة سنة ، من زواجه بخديجة الى مبعثه في سن الأربعين . وذلك في قوله في ختام الحديث : "وما نشب أن توفّي ورقة وفتر الوحي" . فهو يجعل وفاة ورقة سبب فتور الوحي . وما هذا سوى دليل على تأثير ورقة البالغ في محمد ودعوته .

ويأتي القرآن بالقول الفصل ، فيشهد أن محمدا درس الكتاب ليعلمه للعرب : وكذلك نصرّف الآيات ‍! وليقولوا : درست ! – ولنبيّنه لقوم يعلمون" (الانعام 105) . فهو لا يرد التهمة ، وسكوته عنها وعدوله الى بيان غاية الدرس برهان على صحة واقع الدرس . غفلوا هم عن دراسة الكتاب (الانعام 156) فدرسه محمد ليدَرّسهم إياه ، "ويعلّمهم الكتاب والحكمة" أي التوراة والانجيل (البقرة 129 ؛ آل عمران 164 ؛ الجمعة 2) ، "ويعلّمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" (البقرة 151) . لذلك كان يستعلي على المشركين بعلم الكتاب المنير وهداه : "ومن الناس من يجادل في الله بغير هدى ولا علم ولا كتاب منير" (الحج 8 ؛ لقمان 20) . ويتحدى المشركين بقوله : "أم لكم كتاب فيه تدرسون" (القلم 37) ، فهو عنده الكتاب فيه يدرس . ويتحداهم أيضا بقوله : "أم عندهم الغيب فهم يكتبون" (القلم 47 ؛ الطور 41) ؛ فهو عنده الغيب في الكتاب يكتب منه . وهذا ما لاحظه أهل مكة وقالوه له : "وقالوا : اساطير الأولين اكتتبها ، فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا" (الفرقان 5) . وكان استعلاؤه الدائم على المشركين قوله : "وما آتيناهم من كتب يدرسونها" (سبأ 44) ممّا يوحي بأنه هو كان له كتب يدرسها .

أجل إن محمدا على أثر رؤيا في غار حراء اهتدى نهائيا الى الايمان بالكتاب (الشورى 52) ؛ وأُمر بالانضمام الى المسلمين ، النصارى من بني اسرائيل ، يدعو بدعوتهم الى قرآن الكتاب : "وأمرتُ أن أكون من المسلمين ، وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) ؛ وكان يشهد معهم "أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) .

وهذا الواقع التاريخي والقرآني يشهد بأنه ليس من معجزة في اصطفاء محمد للدعوة القرآنية بالاسلام ، إلاّ الاصطفاء والرؤيا ؛ وهذه حال كل أنبياء الله . فما عدا الاصطفاء بالرؤيا للايمان بالكتاب ، (الشورى 52) ، والأمر بالدعوة له ولاسلامه (النمل 91) ، كان محمد في شخصيته عبقرية دينية ، وعبقرية سياسية ، وعبقرية دبلوماسية ، وعبقرية عسكرية ، وعبقرية إدارية ، وعبقرية تشريعية ، وعبقرية أدبية . وهذه العبقريات هي التي أهلته للقيام

بالدعوة القرآنية خير قيام . وهذه العبقريات التي قد لا تجتمع لرجل ليست من الوحي والتنزيل في شئ . لذلك نستطيع أن نقرّر أن محمدا ليس معجزة من معجزات القرآن ، ولا وجها من وجوه اعجازه . ولا دليلا من أدلة هذا الاعجاز .


 


خاتمة


معجزات ليس النبي ولا القرآن بحاجة اليها

أجل "الله أعلم حيث يجعل رسالته" . وقد فطر محمدا على مجموعة من العبقريات ، تجعله يقوم بمجموعة من البطولات . ولكن اصطفاء الله للمصطفى لا يجعله معجزة شخصية "من معجزات القرآن" . وليس في توقيت الرسالة المحمدية ، والدعوة القرآنية من معجزة زمانية . وليس في اختيار لسان العرب للقرآن العربي من معجزة لغوية . وليس في قيام الدعوة القرآنية بالحجاز في جاهلية العرب من معجزة مكانية . إن القرآن والحديث والسيرة تشهد بأن بيئة القرآن والنبي كانت ناضجة لقيام محمد بالدعوة القرآنية ، بعد فضل الله عليه باصطفائه لها . فليس من معجزة للقرآن في بيئة النبي والقرآن . انما اعجاز القرآن في ذاته ، بالنسبة الى المشركين .

  • عدد الزيارات: 14481