Skip to main content

ميزات التنزيل القرآنى

ميزات التنزيل القرآنى

فى القرآن و الحديث ، للتنزيل القرآنى ميزات تقوم عليها شبهات نورد منها ما تيسر ، لنرى مدى الاعجاز فى التنزيل .

أولا : بحسب القرآن

1 – الميزة الأولى : النسيان من القرآن .

أول ميزة تواجهنا فى تنزيل القرآن هى النسيان منه بعمل النبى ، أو بعمل الله : " سنقرئك فلا تنسى ، إلا ما شاء الله " ( الأعلى 6 – 7 ) . إن قضية النسيان أمر واقع للنبى ، فقد كان ينسى بعض الوحى ، و قضية مبدإ إلهى ، فقد يشاء الله أن ينسى النبى ، كما يدل الاستثناء : " إلا ما شاء الله " .

نقل البيضاوى : " روى أنه ص أسقط آية فى الصلاة ، فحسب أبى أنها نسخت ، فسأله ، فقال : نسيتها " . فإذا أوحى الله لعبده شيئا فهل يصح أن ينساه أو يتناساه ؟

و فى آية النسخ ، تصريح بأن الله قد ينسى نبيه عمدا بعض الوحى : " ما ننسخ من آية أو ننسها ، نأت بخير منها أو مثلها " ( البقرة 106 ) . فهل يصح أن يوحى الله شيئا ثم يأمر بنسيانه ؟

و بعد آية النسيان ( الأعلى 6 ) يأتى هذا التحذير : " إنه يعلم الجهر و ما يخفى " ( الأعلى 7 ) . فهل كان النبى يقصد النسيان ؟ إن آية التبديل ( النحل 101 ) و آية المحو ( الرعد 39 ) توحيان بأن النسيان من التنزيل قد يكون مقصودا من الله ، و من النبى أيضا .

فهل ميزة النسيان المقصود من التنزيل هو من الإعجاز فى هذا التنزيل ؟

2 – الميزة الثانية : استباق الوحى و التنزيل


هذه هى الظاهرة الثانية التى تطالعنا : كان محمد يستعجل الوحى و يستبقه ، فجاءه هذا التوبيخ : " لا تحرك ، لسانك لتعجل به ! إن علينا جمعه و قرآته ، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ، ثم إن علينا بيانه " ( القيامة 16 – 19 ) . فهذا العتاب يدل على أن النبى كان يستبق الوحى أحيانا . و كان يتدخل فى جمع القرآن و قراءته . و كان ينفرد أحيانا ببيان القرآن قبل كمال تنزيله .

فسره البيضاوى : " لا تحرك ، يا محمد ، بالقرآن لسانك قبل ان يتم وحيه لتأخذه على عجل ، مخافة أن يتفلت منك ... و هو اعتراض بما يؤكد التوبيخ على حب العجلة " .

و فى ( اسباب نزول ) الآية ( القيامة 34 ) نقل السيوطى مثالا على هذه العجلة المذمومة : " أخرج النسائى عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن قوله " أولى لك فأولى " أشىء قاله رسول الله ص من قبل نفسه أم أمره الله به ؟ قال : بل قاله من قبل نفسه ، ثم أنزله الله " .

و فسر البيضاوى قوله : " ثم ان علينا بيانه – أى بيان ما أشكل عليك من معانيه . و هو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب " . و خطاب منزل أو قرآن لا يفهمه النبى نفسه للحال ، بل هو بحاجة الى بيان متأخر عنه ، كيف يكون معجزا للناس ؟ و الاعجاز هو السهل الممتنع الذى تنزيله هو بيانه .

و يظهر ان استباق الوحى كان من عادة النبى ، فيعود الى تحذيره : " و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى اليك وحيه ! و قل : رب زدنى علما " ( طه 114 ) . قال البيضاوى أيضا فى تفسيره : " فيه نهى عن الاستعجال فى تلقى الوحى من جبريل ، و مساوقته فى القراءة حتى يتم وحيه . و قيل : نهى عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتى بيانه " .

فهل فى استباق الوحى و التنزيل اعجاز هذا الوحى و التنزيل ؟

3 – الميزة الثالثة : إمكان فتنة الناس للنبى عن الوحى

ظاهرة خطيرة و مؤلمة ، و هى امكان فتنة الناس للنبى عن الوحى ، و امكان ركون النبى الى فتنتهم : " و إن كادوا ليفتنوك عن الذى أوحينا اليك لتفترى علينا غيره : و إذا لا تخذوك خليلا ! و لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا ، إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ! ثم لا تجد علينا نصيرا " ( الاسراء 73 – 75 ) .


يشهد القرآن ان هذه الإمكانية كادت تكون عند محمد أمرا واقعا فى شىء قليل . قال البيضاوى : " و الآية تدل على جواز السهو على الأنبياء و تطرق الوسوسة اليهم " .

و التحذيرات و التهديدات المتواترة فى أزمة الشك التى انتابت محمدا من التوحيد ، و من النبوة ، و من الوحى و التنزيل – كلها تدل على جواز فتنة محمد " عن الذى أوحينا اليك " ، كقوله فى السورة التالية نزولا : " فإن كنت فى شك مما أنزلنا اليك ، فسأل الذى يقرأون الكتاب من قبلك ، لقد جاءك الحق من ربك : فلا تكونن من الممترين ! و لا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله ، فتكون من الخاسرين " ( يونس 94 – 95 ) .

و لا عتاب إلا بعد ذنب . و هذا الشك من نتائج تلك الفتنة . فهل امكان فتنة النبى عن الوحى من الإعجاز فى هذا التنزيل ؟

4 – الميزة الرابعة : ترك بعض الوحى

إن الظاهرة الرابعة فى التسلسل التاريخى للنزول هى إمكان ترك النبى بعض ما يوحى اليه : " فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك ! و ضائق به صدرك ! أن يقولوا : لولا أنزل عليه كنز ، أو جاء معه ملك ؟ - انما انت نذير ، و الله على كل شىء وكيل " ( هود 12 ) . إن تحدى المشركين المتواتر للنبى بمعجزة كالأنبياء الأولين ، و عجزه المتواصل عنها مع الوعد بها ، حمله على ترك بعض الوحى ، و أفهم أنه نذير لا معجزة معه . فسره البيضاوى : " ليس عليك إلا الانذار بما أوحى اليك ، و ما عليك ردوا أو اقترحوا : فما بالك يضيق صدرك " .

أجل لا يلزم من توقع الشىء حدوثه ، و لكن مجرد التهمة شبهة . و ضيق صدر النبى من عدم وقوع المعجزة دليل على ما هم به من ترك بعض الوحى . و لولا عزم النبى على ترك بعض الوحى ، ما كان القرآن ليوبخه هذا التوبيخ اللاذع : فلا يليق بالله توبيخ بلا ذنب ، و لا معاتبة بلا زلة . فهل محنة ترك بعض الوحى من الاعجاز فى هذا التنزيل ؟

5 – الميزة الخامسة : التبديل فى آى القرآن

ظاهرة مذهلة تمس التنزيل فى صميمه ، و الآية صريحة لا تحتاج الى تأويل : " و اذا بدلنا آية مكان آية – و الله أعلم بما ينزل – قالوا : إنما أنت مفتر ! بل أكثرهم لا يعلمون " ( النحل 101 ) . فالتبديل فى آى القرآن أمر واقع ، بنص القرآن القاطع . و يشهد على حقيقة


التبديل أيضا فتنة الارتداد عن الاسلام التى انتابت الجماعة الصغيرة بعد الحادثة ، فاستنزلت غضب الله : " من كفر بالله بعد ايمانه ... فعليهم غضب من الله ، و لهم عذاب و ينقلها من الإمكان الى الواقع : مثل ترك النبى لبعض الوحى ، و فتنة الناس له عن بعض آخر ، و استعجال الوحى و استباقه ، و نسيان أو تناسى بعضه . و المشكل الأكبر فى التبديل أن التنزيل هو من اللوح المحفوظ : فأيهما المثبت فى اللوح المحفوظ المبدل أو المبدل به ؟ و إذا كان ما فى اللوح المحفوظ مكتوب منذ الأزل فكيف جرى تنزيل غيره ؟ إن المؤمن ليحار من واقع التبديل فى التنزيل حيرة لا شفاء منها . فهل التبديل من الاعجاز فى هذا التنزيل ؟

6 – الميزة السادسة : الاستعاذة من الشيطان قبل قراءة القرآن

بمناسبة التبديل فى التنزيل يأتى النبى هذا الأمر : " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " ( النحل 98 ) . فذهبت سنة فى الأمة ، فهم يستعذون من الشيطان ، قبل الاستفتاح باسم الرحمان !

و كلام الله هو نفسه استعاذة تطرد الشيطان . أتكون الاستعاذة من المخلوق أقوى من الاستفتاح بذكر الخالق ؟ و هل للشيطان على الوحى و التنزيل ذلك التأثير حتى أنه ليفسده بتدخله ، اذا لم يستعذ النبى منه ؟ إن صح ذلك ، فهو فى التنزيل بلاء عظيم !

و سورة ( المؤمنون ) التى تلى سورة ( النحل ) يظهر هلع النبى من حضور الشيطان عنده و من همزاته له : " و قل : رب أعوذ بك من همزات الشيطان ، و أعوذ بك ، ربى أن يحضرون " ( 97 – 98 ) . فالاستعاذة هى إذن من حالة واقعية . و هنا ذروة الحيرة فى تنزيل يخشى من حضور الشيطان !

فهل حضور الشيطان للتنزيل من الاعجاز فى هذا التنزيل ؟

7 – الميزة السابعة : المحو من التنزيل

و هذه ظاهرة أخرى تبلبل الراسخين فى الايمان : " لكل أجل كتاب : يمحو الله ما يشاء و يثبت ، و عنده أم الكتاب " ( الرعد 39 ) .

يقول الجلالان : " أم الكتاب أى أصله الذى لا يتغير منه شىء ، و هو ما كتبه فى الأزل " ، و هذا كناية عن اللوح المحفوظ . قال السيوطى : " و معلوم أن ما نزل من الوحى نجوما جميعه فى أم الكتاب و هو اللوح المحفوظ " (الاتقان 1 : 21 ) .

وهذا المحو فى التنزيل قد يلحق المكتوب فى أم الكتاب ، أو المنزل عن أم الكتاب . و كيف يلحق المحو و الاثبات ما كتبه منه الأزل فى اللوح المحفوظ ؟ أم كيف يلحق المحو و الاثبات المنزل حرفيا أو معنويا عن اللوح المحفوظ ؟ و أيهما المكتوب فى أم الكتاب : هل الممحو أم المثبت ؟

أجل قد " تتبدل الأحكام بتغير الأزمان " ! لكن هل يتبدل الزمن مع نبى واحد و كتاب واحد ، و فى عهد واحد ، و ربما فى سورة واحدة ؟ أجل " لكل أجل كتاب " ، سواء فى التنزيل أم فى القضاء و القدر . و قد يمحو الله ما يشاء و يثبت من كتاب منزل الى كتاب آخر منزل ، أما فى الكتاب الواحد فلا يصح ذلك على الحكيم العليم . و التنزيل هنا من " أم الكتاب " : فما هو المكتوب فيها منذ الأزل ، هل الممحو أم المثبت ؟ و كيف يصح محوه من اللوح المحفوظ ؟ أم كيف يصح محوه من التنزيل عن اللوح المحفوظ ؟ و هل الاعجاز فى التنزبل هو فى المحو أم فى المثبت ؟ لا شك فى المثبت . فقد كان التنزيل الممحو اذن غير معجز ! فهل يصح تنزيل من الله لا إعجاز فيه ؟ و بما أن الممحو و المثبت هما من معدن واحد ، فالممحو من التنزيل شبهة على المثبت منه . فهل المحو فى التنزيل من الإعجاز فى هذا التنزيل ؟

8 – الميزة الثامنة : النسخ فى التنزيل

إن النسخ فى أحكام القرآن ميزة انفرد بها على كتب الله . و هو قضية مبدإ و قضية أم واقع : " ما ننسخ من آية ، أو ننسبها ، تأت بخير منها أو مثلها " ( البقرة 106 ) . نذكر هذه الميزة هنا ، و سنفرد لها بحثا آخر . نقول فقط : أين الاعجاز فى التنزيل ، هل هو فى المنسوخ أم فى الناسخ ؟ و ما هو المثبت فى اللوح المحفوظ ، هل المنسوخ أم الناسخ ؟ تتبدل الاحكام بتغير الأزمان ، من عهد الى عهد ، و من نبى الى نبى ، و من كتاب الى كتاب . و لكن هل يصح النسخ فى الكتاب الواحد و عند النبى الواحد و فى العهد الواحد ، و فى السورة الواحدة ؟ فهل هذا النسخ فى التنزيل من الاعجاز فى هذا التنزيل ؟

9 – الميزة التاسعة : المتشابه فى التنزيل

يقسم القرآن تنزيله الى محكم و متشابه ، و يقتصر المحكم فى التنزيل القرآنى على الأحكام فيه ، و ما سواها فهو من المتشابه ، أى أكثر القرآن . و فى هذا المتشابه يصرح جازما : " هو

الذى أنزل عليك الكتاب : منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات : فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ، ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله . و ما يعلم تأويله إلا الله . و الراسخون فى العلم يقولون : آمنا به ، كل من عند ربنا . و ما يذكر إلا أولو الألباب " ( آل عمران 7 ) .

نعلق هنا بكلمتين . الأولى : إن الآيات المحكمات " هن أم الكتاب " . و نعلم ان " أم الكتاب هى أصله الذى لا يتغير منه شىء ، و هو ما كتبه فى الأزل " ( الجللن ) ، و أم الكتاب كناية عن اللوح المحفوظ . فإذا كانت الآيات المحكمات هن أم الكتاب ، و اللوح المحفوظ ، فالآيات المتشابهات ، و هى أكثر القرآن ، من أين نزلت ؟ هل هى من عند النبى نفسه ؟ و الثانية ، يقول : إن المحكم و المتشابه ، " كل من عند ربنا " ، و المتشابه غير معجز على الاطلاق ، لأنه " ما يعلم تأويله إلا الله " : فهل " عند ربنا " تنزيل معجز ، و تنزيل غير معجز ؟

إن تنزيل المتشابه غير المعجز هو شبهة على تنزيل المحكم المعجز ! فهل المتشابه فى التنزيل ، و هو أكثره ، من الاعجاز فى هذا التنزيل ؟

10 – الميزة العاشرة : القاء الشيطان فى التنزيل

أغرب ميزات القرآن ظاهرة القاء الشيطان فى تنزيله : " و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبى ، إلا إذا تمنى ( قرأ ) ألقى الشيطان فى أمنيته ( قراءته ) . فينسخ الله ما يلقى الشيطان ، ثم يحكم الله آياته ، و الله عليم حكيم ، يجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض ، و القاسية قلوبهم ، و ان الظالمين لفى شقاق بعيد ، و ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك ، فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ، و ان الله لهاد الذين آمنوا الى صراط مستقيم " ( الحج 52 – 54 ) .

آيات ملأى بالغرائب . العجيبة المذهلة أن الشيطان قد يلقى فى قراءته القرآن . فهل من ضامن بعد ذلك لسلامة التنزيل الربانى ، و إن أحكم الله آياته بعد الإلقاء الشيطانى ؟ الغرابة الثانية أن تدخل الشيطان فى الوحى قد جرى لكل رسول و نبى . و ليس فى الكتاب و لا فى الانجيل من شاهد على ذلك . انما هى ميزة انفرد بها التنزيل القرآنى ، بنص القرآن القاطع . الغرابة الثالثة أن القاء الشيطان فى التنزيل فتنة منه تعالى للمنافقين " الذين فى قلوبهم مرض " ، و للكفار " القاسية قلوبهم " ، و لليهود " الظالمين ، فى شقاق بعيد " . إنه يعلل

الغرابة بأغرب منها : فهل التنزيل من الرحمان الرحيم للفتنة أم للرحمة ؟ أما النصارى " الذين أوتوا العلم " فإنهم يؤمنون به و تخبت له قلوبهم . و إن جماعة محمد " الذين آمنوا " فيهديهم الله ، فى هذه المحنة ، الى صراط مستقيم ، على آثار الذين أوتوا العلم .

إن القاء الشيطان فى التنزيل القرآنى فتنة مقصودة تبلبل الأمة . فهل القاء الشيطان فى التنزيل من الاعجاز فى هذا التنزيل ؟

أخيرا الميزة الجامعة المانعة للتنزيل القرآنى أنه قليل من العلم المنزل : " و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا " ( الاسراء 85 ) .

فى اصطلاح القرآن " العلم " هو العلم المنزل ، و " أولو العلم " هم أهل الذكر و أهل الكتاب ، الذين يسميهم فى السورة نفسها " الذين أوتوا العلم من قبله " ( 107 ) . فهؤلاء عندهم الكتاب " الإمام " ( الأحقاف 12 ، هود 17 ) ، فعندهم فيه " العلم " كله . و بما أنه يصف اليهود " بالظالمين ، فى شقاق بعيد " ( الحج 53 قابل العنكبوت 46 ) ، النصارى بأولى العلم قائما بالقسط ( آل عمران 18 ) ، الراسخين فى العلم " ( آل عمران 7 ) ، فالعلم المنزل الكامل هو عند هؤلاء " الراسخين فى العلم " . و برهان ذلك ان القرآن نفسه " هو آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم ، و ما يجحد بآياتنا إلا الظالمون " ( العنكبوت 49 ) .

فالتنزيل الكامل هو عند " الراسخين فى العلم " أى النصارى . أما فى القرآن ، " ما أوتيتم من العلم إلا قليلا .

تلك هى ميزات التنزيل القرآنى ، و كلها دلائل قاطعة على أنه ليس من الاعجاز فى التنزيل .
إن " دلائل الاعجاز " ، قبل ان تظهر فى النظم و البيان ، يجب أن تكون فى التنزيل نفسه .


 

ثانيا : بحسب الحديث

لقد وردت أحاديث عن النبى تزيد الشبهات على " دلائل الاعجاز " فى التنزيل ، و على موقف النبى من التنزيل القرآنى .

1 – جاء فى الصحيح عن أنس : " ان نصرانيا كان يكتب الوحى لمحمد ، و كان هذا النصرانى يقول : لا يريد محمد إلا ما كتبت أنا " !


2 – و جاء فيه عن عبد الله بن سعد بن أبى شرح ، و كان من كتبة الوحى أيضا ، أنه كان يقول : " كنت أصرف محمدا حيث أريد ! كان يملى على ( عزيز حكيم ) ، فأقول ( عليم حكيم ) ، فيقول : نعم ، كل صواب ! حتى قال لى آخر الأمر : اكتب كيف شئت " !

و فى ( اسباب النزول ) ، على الآية 93 من الأنعام : " سأنزل مثل ما أنزل الله " ، نقل السيوطى " أنها نزلت فى عبد الله بن سعد بن أبى شرح . كان يكتب للنبى ص ، فيملى عليه ( عزيز حكيم ) ، فيكتب ( غفور رحيم ) ، ثم يقرأ عليه ، فيقول : نعم سواء . فرجع عن الاسلام و لحق بقريش " .

3 – و على آية الانعام نفسها ( 93 ) نقل الطبرى (قايل السيوطى أيضا : اسباب النزول على ( الانعام 93 )) ، عن السدى ، نحوه . ثم زاد : " قال : إن كان محمد يوحى اليه ، فقد أوحى إلى ، و إن كان الله ينزله ، فقد أنزلت مثل ما أنزل الله ! قال محمد ( سميعا عليما ) فقلت أنا : ( عليما حكيما ) " .

4 – و كان عبد الله بن مسعود من كتبة الوحى أيضا . و قد روى عنه أن محمدا أملى عليه آية فكتبها . ثم التمسها ثانى يوم فى مصحفه فلم يجدها ، و كانت الصحيفة خالية . فأخبر النبى ص فقال له : " إنها نسخت من ليلتها " .

5 – و على الآية : " و لقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ، ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين ، ثم أنشأناه خلقا آخر ... " و طلب النبى فاصلة ....

روى الطبرى عن عبد الله بن سعد بن أبى شرع أيضا أنه قال : " فقلت : ( تبارك الله أحسن الخالقين ) ، فقال محمد : اكتبها ، كذلك نزلت . فشك عبد الله و قال : لئن كان محمد صادقا ، لقد أوحى إلى كما أوحى اليه ! و لئن كان كاذبا ، لقد قلت كما قال " ! و أورد السيوطى فى ( اسباب نزولها ) : " أخرج ابن أبى حاتم عن عمر قال : وافقت ربى فى أربع ، منها ، نزلت ( و لقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ... ) فلما نزلت ، قلت أنا : تبارمك الله أحسن الخالقين " . و كثرة الطرق دليل على أن للقصة أصلا .

6 – و قصة عمر بن الخطاب فى تنزيل القرآن قصة ذات مغزى كبير . جاء فى الحديث ، عن ابن عمر ، قال : " ما نزل بالناس أمر قط ، فقالوا و قال ، إلا نزل القرآن على

ما قال عمر " ! و أخرج ابن مردويه ، عن مجاهد ، قال : " كان عمر يرى الرأى فينزل به القرآن " ! و هكذا ، إن صحت الاحاديث ، فإنهم يجعلون لعمر بن الخطاب يدا فى معانى القرآن ، و فى تعابيره و الفاظه .

و قد حاول بعضهم حصر دور عمر فى التنزيل فى ثلاث أو أربع موافقات ، كما نقل النجارى و غيره عن عمر : " وافقت ربى فى ثلاث . قلت : لو اتخذنا من مقام ابراهيم مصلى ، فنزلت : ( و إتخذوا من مقام ابراهيم مصلى ) . و قلت : إن نساءك يدخل عليهن البر و الفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ! فنزلت آية الحجاب : ( و اذا سألتموهن متاعا ، فاسألوهن من وراء حجاب ، ذلك أطهر لقلوبكم و قلوبهن ) . و اجتمع على رسول الله ص نساؤه فى الغيرة ، فقلت لهن : عسى ربه ، إن طلقكن ، أن يبدله أزواجا خيرا منكن ! فنزلت كذلك : " عسى ربه ، إن طلقكن ، أن يبدله أزواجا خيرا منكن " !

إن دور عمر فى تنزيل القرآن لم يقتصر على تلك الموافقات الثلاث كما يظهر من الحديثين السابقين . و هذا الدور الثابت من الحديث يترك فى النفس ريبة تكاد لا تنتهى .

7 – و فى قصة أسرى بدر ، و شورى الصحابة فى أمر قتلهم أو فدائهم ، قال عمر بالقتل ، و أشار أبو بكر الصديق بالفداء . فنزل القرآن بالمقالتين معا ، مع تفضيل رأى أبى بكر بقبول الفداء . قابل ( اسباب النزول ) للسيوطى ، فى القصة . و قد تكون المرة الوحيدة التى نزل بها القرآن على خلاف ما قال عمر ، اذا استثنينا قصة صلح الحديبية .

8 – و على الآيتين 13 و 14 من سورة الواقعة : " ثلة من الأولين و قليل من الآخرين " ، نقل السيوطى فى ( اسباب النزول ) : " أخرج أحمد و ابن المنذر و ابن أبى حاتم ، عن أبى هريرة قال : " لما نزلت ( ثلة من الأولين و قليل من الآخرين ) ، شق ذلك على المسلمين فنزلت : " ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين " ( الواقعة 39 – 40 ) .

و أخرج ابن عساكر فى ( تاريخ دمشق ) عن جابر بن عبد الله ، قال : " لما نزل ( ثلة من الأولين ، و قليل من الآخرين ) ، قال عمر : يا رسول الله ، ثلة من الأولين ، و قليل منا ؟ فامسك آخر السورة سنة ، ثم نزلت ( ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين ) . فقال رسول الله ص : يا عمر تعال فاسمع ما قد أنزل الله " !

و أخرجه ابن ابى حاتم عن عروة بن رويم مرسلا " .

و هنا يظهر عمر لسان حال الجماعة فى التنزيل .

9 – جاء فى ( أسباب النزول ) للسيوطى عن آية المحاسبة على الوسوسة ( البقرة 284 ) : روى أحمد و مسلم و غيرهما عن أبى هريرة ، قال : لما نزلت ( و إن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه ، يحاسبكم به الله ) ، اشتد ذلك على الصحابة ، فأتوا رسول الله ص ثم جثوا على الركب فقالوا : قد أنزل عليك هذه الآية و لا نطيقها ! ... فنسخها ، و أنزل : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت ) .

" و روى مسلم و غيره عن ابن عباس نحوه " .

و كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا . فإن صحت ، فهذا بلاء عظيم فى التنزيل : أينزل الوحى بما يفرض الله على عباده ، أم بما يشتهون ؟ ! أتنزل الشريعة بما يريد الله أم بما يريدون ؟ !

10 – و فى ( اسباب النزول ) نقل السيوطى أيضا فى الآية : " و امرأة مؤمنة ، إن وهبت نفسها للنبى ، إن أراد النبى أن يستنكحها ، خالصة لك من دون المؤمنين " ( الاحزاب 50 ) ، " ان أم شريك الدوسية عرضت نفسها على النبى صلعم ، و كانت جميلة ، فقبلها . فقالت عائشة : ما فى امرأة حين تهب نفسها لرجل خير ، فنزلت . فلما نزلت هذه الآية ، قالت عائشة : إن الله يسرع لك فى هواك " !

11 – و نقل أيضا فى ( اسباب النزول ) : " أخرج الشيخان عن عائشة أنها كانت تقول : أما تستحى المرأة أن تهب نفسها ؟ فأنزل الله ( ترجىء من تشاء منهن ، و تؤوى اليك من تشاء ) . فقالت عائشة : أرى ربك يسارع لك فى هواك " !

فالله تعالى ، فى التنويل القرآنى ، يسارع فى هوى النبى ، و فى هوى جماعته .

12 – و فى ما أسقط النبى أو الصحابة من القرآن ، قد ورد حتما أكثر من ذلك .
روى المسور بن محزمة أن عبد الرحمان بن عوف قال : " ألم نجد فى ما أنزل علينا ( جاهدوا كما جاهدتم أول مرة ) ، فإنا لا نجدها . قال : أسقطت فى ما أسقط من القرآن " .

(1) 13 – و روى عن ابن عمر : " لا يقولن أحدكم : ( أخذت القرآن كله ) ، و ما يدريه ما كله ! قد ذهب منه قرآن كثير ! و لكن ليقل : قد أخذت منه ما ظهر " (عن دروزة : القرآن الكريم ص 59) !

و النتيجة الحاسمة : أن تلك الميزات و تلك الاحاديث شبهات على الاعجاز فى التنزيل .

و فى الصحيحين ، و فى كتب ( اسباب النزول ) كثير من هذه الأحاديث . و مهما كانت درجتها من الصحة ، فإن فيها شيئا من الواقع التاريخى ، و إلا كان القوم على النبوة و على التنزيل يكذبون .

و النتيجة الحاسمة منها أن للمخلوق ضلعا فى التنزيل القرآنى ، و يدا فى ما بقى من القرآن ، و فى ما أسقط منه .

فمهما رقت شهادة الحديث و ( أسباب النزول ) ، فهل تدل على إعجاز فى التنزيل ؟ و بما أن القرآن قد نزل أحيانا " على ما قال عمر " ، فقد ضاهى عمر اعجاز القرآن .

إن تلك الشبهات من الحديث ، و تلك الميزات فى القرآن ، ليست دلائل على الاعجاز فى التنزيل . إنما هى شبهات تترك المؤمن و غير المؤمن فى حيرة لا تنتهى من أمر التنزيل فى القرآن .

  • عدد الزيارات: 7456