Skip to main content

القس والنبي في معترك الحياة

القس يزوج النبي

بعدما دخل محمد في خدمة خديجة بإلحاح من عمه ابي طالب الذي قال له يومها : يا ابن أخي أنا رجل لا مال لي وليس ما يمدنا وما يقومنا ولا تجارة طبقات ابن سعد 1 : 119 السيرة الحلبية 1 : 147

راح محمد يعمل في تجارة خديجة بصدق وأمانة وراحت هي تغدق عليه الأموال وتعطيه ضعف ما تعطي رجلا من قومه السيرة المكية 1 : 118 طبقات ابن سعد 1 : 129 الحلبية 1 : 147 تاريخ الطبري 2 : 181

ثم أرسلت إليه ذات يوم خادمتها نفيسة تفاوضه في الزواج منها وروت لتا نفيسة : أرسلتني دسيسا إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام فقلت يا محمد ما يمنعك من أن تتزوج ؟ فقال ما بيدي ما أتزوج به فقلت : وإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاية ألا تجيب ؟ قال ومن هي ؟ قلت خديجة وقال كيف لي ذلك ؟ قلت بلى و أنا أفعل فذهبت و أخبرتها فأرسلت إليه تعال الساعة كذا و كذا طبقات ابن سعد 1 : 131 السيرة الحلبية 1 : 152

وعندما بلغت الساعة الحاسمة أرسلت خديجة إلى أعمامها فحضروا و أرسل محمد إلى أعمامه فحضروا هم أيضا ابن هشام 1 : 174

وأجتمع الناس وخطب ولي أمره أبو طالب وقال ... وابن أخي له في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك وخطب القس ورقة ولي أمر خديجة وقال الحمد لله ألحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت وفضلنا على ما عددت فنحن سادة العرب وقادتها وأنتم أهل ذلك كله لا ينكر العرب فضلكم فأشهدوا يا معشر قريش : إني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله

وفرح أبو طالب فرحا شديدا وقال الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب ودفع عنا الغموم السيرة الحلبية 1 : 155 والمكية 1 : 123

وقال أيضا عن ابن أخيه وهو والله بعد هذا الزواج له نبأ عظيم وشأن خطير ابن هشام 1 : 194

نتوقف عند حدث الزواج هذا لنبدي بعض هذه الملاحظات فهو حدث خطير وهام في شأن القس والنبي وفي شأن المخطط الذي يتنفذ على يد أبي طالب وخديجة :

لقد وقع النبي على ما يبدو وقعة إلهية بين يدي أولياء أمره وتوالت عليه بعد حدث الزواج الإعلانات الصريحة عن نبوءته العتيدة ورسالته المقررة

ولم تبخل علينا كتب السير والأخبار في ما كان عليه القس والعم والزوج لقد كان لكل منهم دوره في ما دبر الله على أيديهم المباركة

يلاحظ أولا مقام القس ورقة في مكة وفي آل قريش : فهو سيد العرب وقائدهم من قوله نحن سادة العرب وقادتها ولقد إعتبرته كتب السير رئيس النصارى والمسؤول عنهم ونستدل على ذلك من أولويته في محفل الزواج ومن تقدمه على كافة الحاضرين والقس على ما نعلم محظوظ بثقة الناس موفور الإحترام

يلاحظ ثانيا أن القس لم يكن حاضرا حفلة الزواج ومتقدما على الحاضرين وحسب بل كان محتفلا بالعقد ومكللا فهو الذي أبرم العقد وشهد عليه

وأعلن على الحضور ما جرى : هو المحتفل الأول بالعقد أو قل هو الكاهن الذي ربط باسم الله ما لا يحله انسان بحسب تعليم انجيل الابيونيين

كاهن نصراني يبارك الزواج فعلى أى دين يكون الزوجان إذن ؟!!

يلاحظ ثالثا صيغة العقد التي تلاها القس على الزوجين و أمام الحضور أنها الصيغة المستعملة عادة عند النصارى مع عناصرها الأساسية لصحة الزواج

العنصر الأول : وجود القس وإشرافه المباشر اللذان اتضحا في صيغة المتكلم من قول ورقة :إني قد زوجت

العنصر الثاني رضى الزوجين الذي بدا أكيدا في حديث نفيسة مع كل من محمد وخديجة وفي عرض خديجة نفسها على محمد قائلة يا ابن عم إني قد رغبت فيك وفي رضى محمد الذي ذكر ذلك لأعمامه بفرح وسرور ابن هشام 1 : 173 السيرة الحلبية 1 : 153 وفي خطبة ابي طالب الذي أعلن رغبة ابن أخيه

العنصر الثالث وجود شهود عيان من آل قريش ومن الأقرباء والانسباء

العنصر الرابع اعلان القس لعقد الزواج اعلانا رسميا وصريحا أمام جمهور الحاضرين

العنصر الخامس والأخير استمرارية الزواج الذي ربط بين الزوجين حتى موت أحدهما وبالفعل كان ذلك إذ كانت خديجة أول إمرأة تزوجها رسول الله ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت ابن هشام 1 : 174

يلاحظ رابعا مقاصد القس في ما دبر على يد خديجة أنه زواج دبره القس ورغب فيه قبل أن ترغب هي فهو الذي أعلن قبل سواه هذه الرغبة في قوله : ورغبتنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم طبقات ابن سعد 1 : 133 ابن هشام 1 : 195 الحلبية 1 : 155

بالرغم من رفض والدها الذي تسائل قائلا : أنا أزوج يتيم أبي طالب ؟ ! لا لعمري فقالت له خديجة : ألا تستحي ؟ تريد أن تسفه نفسك عند قريش ؟ فلم تزل به حتى رضي طبقات ابن سعد 1 : 131 - 133

وفي رواية أن خديجة قالت : لمحمد اذهب إلى عمك فقل له تعجل إلينا بالغداة فلما جاءها ومعه رسول الله قالت له : يا أبا طالب تدخل على عمي ورقة فكلمه يزوجني من ابن أخيك محمد بن عبد الله

فقال أبو طالب : يا خديجة لا تستهزئي ! فقالت هذا صنع الله ( ؟؟؟ ) فقام وذهب وجاء مع عشرة من قومه إلى عمها السيرة الحلبية 1 : 154

ولن ندرك الآن مقصد القس في ذلك لعله وهو الأبيوني المذهب يريد الأهتمام باليتيم والفقير محمد ؟ أو لعله وهو قس مكة يريد أن يعد خليفة له من بعده ؟ أو يدبر قائدا وسيدا يخلفه على قريش ؟

ويلاحظ خامسا وقبل كل شئ كيفية زواج والد محمد المدعو عبد الله ؟ الذي كان يسعى وراء شريكة حياته وقد عرضت رقية أخت القس ورقة نفسها عليه وهي كما تخبر عنها كتب السير كانت تسمع من أخيها ورقة أنه كائن في هذه الأمة نبي ابن هشام 1 : 143 – 144 طبقات ابن سعد 1 : 95 الحلبية 1 : 62

.... ألا أنها لم توفق بالزواج من عبد الله ... وهذا ما يدل مرة أخرى على معرفة ورقة بمحمد و بآل محمد حتى قبل ولادة محمد كما يدل على أن في الأمر تدبيرا مدروسا ومصمما له هذا وأن في السيرة الهاشمية تأكيدا على أن الذي وجد محمدا هو ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش فآتيا به عبد المطلب وكان له من العمر خمس أو ست سنين وهذا معنى قوله : ووجدك ضالا فهدى ابن هشام 1 : 154 الحلبية 1 : 155

ويلاحظ سادسا دخول أبي طالب هو الآخر في مخطط القس وتدابيره وهو واضح في قوله : وهو محمد والله بعد هذا الزواج له نبأ عظيم وشأن خطير

ونحن نسأل من أين لأبي طالب معرفة المستقبل و استنباط النبوءات ؟؟؟ من أين للعم أن يعرف ما سيكون عليه مصير ابن أخيه ؟ ثم أن أبا طالب رضي أن يزوج محمدا الشاب من أرملة لرجلين قبله رضي بذلك مسرورا

فأعلن : الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب ودفع عنا الغموم ونسأل : أكان النبي على عمه عالة أم أراد العم لأبن أخيه قصاصا وهو الذي كان يحبه حبا شديدا لا يحبه لولده وكان لا ينام إلا إلى جنبه وكان يحفظه ويحوطه ويعضده وينصره إلى أن مات طبقات ابن سعد 1: 119 – 121

كيف رضي له ذلك لولا مخطط القس المدبر الذي أراد أن يعوض محمدا عن الإجحاف العاطفي بتوليته قيادة روحية وسيادة زمنية على العرب ؟

ويلاحظ سابعا وأخيرا دخول محمد نفسه في تدابير القس : فتى في الخامسة والعشرين من عمره يتزوج من إمرأة تجاوزت الأربعين و أرملة لرجلين قبله وأم لعدة أولاد السيرة الحلبية 1 : 156

هذا الشاب مهما كان جريئا لا يخطر بباله وهو الخادم أن يتزوج من سيدته التي أشفقت عليه و استخدمته في تجارتها وقد كان وقد كان قومها حريصا على نكاحها لو قدر لهم ذلك

فقد طلبوها وذكروا لها الأموال فلم تقبل ولن يكون لمحمد ذلك لولا دافع دبر له المناسب ومن يكون هذا الدافع غير القس ؟ فلولا القس لما كان ما كان ومتى أراد القس شيئا كان


القس يدرب النبي


بعد أن ارتبط مصير محمد بمصير خديجة انحلت عقد كثيرة في مخطط القس لقد وقع النبي في قبضة القس وقعة إلهية لقد تمت الخطوة الأولى بنجاح وضع القس خبرته في خدمة نسيبه فزين له مستقبلا غنيا بالأماني والآمال

ولم تضن ثرية قريش بمالها لتنفيذ رغبات ابن عمها وتعاون الاثنان بما يملكان من خبرة ودهاء وجاه ومال على إعداد النبي للرسالة المقررة

وسار القس به على طريق النجاح المكفول والنجاح المكفول يصار إليه حثيثا والرسالة الخطيرة تتم بالتدريب المتواصل والتهيئة الباطنية !

فكان أول ما كان وأهم ما كان الخلوة والخلوة في غار حراء حيث اعتكف جده وندماء جده والحمس من آل قريش هناك في مدة تزيد على الخمسة عشرة سنة وراح القس والنبي يختليان ويصليان وينقطعان عن الناس ويفكران بالله شهرا كاملا من كل سنة ابن هشام 1 : 218

هناك تدرب النبي على يد القس الخبير بشؤون الله والناس

لم تكن الخلوة بعيدة عن طبع محمد لقد كان له ذلك منذ صغره على حد شهادة أقرب المقربين إليه وهي خطوة هامة نحو النجاح لقد شهدت مرضعته حليمة السعدية وقالت : لما ترعرع كان يخرج إلى الصبيان وهم يلعبون فيتجنبهم ولما قرب الزمن الذي أراد الله أن يرسله فيه ازداد محبة في الخلوة

لأن الخلوة تمكن من فراغ القلب والانقطاع عن الخلق لأنها تفرغ القلب من أشغال الدنيا لدوام ذكر الله فيصفو وتشرق عليه أنوار المعرفة ولم يكن شئ أحب إليه من أن يخلو وحده وكان يخلو بغار حراء فكان يتحنث فيه أى يتعبد فيه الليالي ذوات العدد مع أيامها السيرة الحلبية1 : 257 و 260 تاريخ الطبرى 2 : 298

وشهدت عائشة وقالت ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء ويتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فاجئه الحق وهو في غار حراء صحيح مسلم 1 : 78 – 79 صحيح بخاري 1 : 39 ابن سعد 1 : 194

وزاد ابن هشام بقوله فلم يكن شئ أحب إليه أى النبي من أن يخلو وحده ابن هشام 1 : 216 و أكدت خديجة ذلك بقولها حبب الله إليه الخلوة التي بها يكون فراغ القلب و الانقطاع عن الخلق السيرة الحلبية 1 : 258 ابن هشام 1 : 218

ولكن لم يكن محمد يعرف وحده أهمية الخلوة إعدادا للنفس و انقطاعا إلى الله لو لم يتعرف على أناس مارسوها قبله ولو لم يتبع في ذلك سيرة جده وندماء جده أمثال أبي أمية بن المغيرة والقس ورقة بن نوفل وغيرهما السيرة الحلبية 1 : 259

وعن هؤلاء أخذ محمد الطريقة وعلى خطواتهم سار في إعداد حياته الروحية ورسالته العلنية بين الناس وقد شهدت السيرة على خلوة محمد ومقوماتها كان رسول الله يجاور في حراء من كل سنة شهرا وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية

وبقول كتبة السيرة أيضا كان رسول الله يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من مساكين فإذا قضى جواره من ذلك الشهر كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك ثم يرجع إلى بيته حتى كان الشهر الذي أراد الله تعالى فيه ما أراد من كرامته نهاية الأرب 16 : 170 ابن هشام 1 : 219 الحلبية 1 : 259

لا نعرف بالحصر مقومات خلوة محمد في غار حراء و لا كيفيتها بحسب ما جاء على لسان السراج البلقيني في شرح البخاري : لم يجئ في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده السيرة الحلبية 1 : 259

إلا أنها قد وصفت بما وصفت به خلوة عبد المطلب والقس وغيرهما ممن قصد حراء للاعتكاف والتعبد والرياضة الروحية وفي كتب السير وصف لها بما يتفق والتقاليد النصرانية في ذلك الحين أهمها

1 - فيما بعد كلا شئ طمعا أو رغبة فيى لقاء الله بأيد نظيفة من علائق المادة ويقوم الجوار في حراء الجوار هو الاعتكاف والسجود خارج المسجد

على التخلى عن مجادلات الناس التى لا منفعة فيها والابتعاد عن اهتماماتهم الدنيوية لكي يكون كل شئ لديه مدعاة لطلب الحق من الله وحده كما يقوم على إفراغ القلب من أشغال الدنيا ودوام ذكر الله فيصفو وتشرق عليه أنوار المعرفة السيرة الحلبية 1 : 259

يشهد اوريجن على أن النصارى كانوا يؤثرون الجوار في المغاور لأجل العبادة لا لأجل التستر وكذلك كيرلس الاورشليمي يشير إلى العبادات في المغاور

2 - التحنث والتحنف يقومان على التفكر بالله وحده والتعبد له وإقامة أعمال الروح من صلاة وتأمل وتهجد وهذيان روحي و قراءة كلمة الله في كتبه المنزلة وسماع تفسيرها من مرشد خبير يساعده في معراجه الروحي والاعتكاف على شرحها وتأويلها وتفصيلها مع من يمكنه ذلك ولذلك قيل في مواضيع تحنث محمد بأنه كان يتعبد قبل النبوة بشرع ابراهيم ؟

وقيل بشريعة موسى وقيل بكل ما صح أنه شريعة لمن قبله المرجع نفسه 1 : 260 وهذا هو المعروف لدى النصارى القائمين على أحكام موسى وعيسى أو أحكام التوراة والانجيل !

3 - الصيام قدوة بصوم موسى وإيليا على جبل حوريب وصوم عيسى في برية الأردن وصوم الأباء الأولين كان محمد يقضي شهره في الانقطاع عن الأكل أو في أكل وجبة واحدة في اليوم

وفي الاقتصار بهذه الوجبة على المآكل الخفيفة من الأعشاب والثمار والألبان وكسر الخبز اليابسة والنباتات التي يلتقطها من الصحراء و يأكلها لا للتنعم بطعمها بل لسد جوعه وحاجته الغذائية الماسة إليها وعرف عن محمد أنه كان يتزود لصيامه الكعك واللبن السيرة الحلبية 1 : 259

4 – اعمال البر والاحسان لم تخل خلوة النبي من عمل الحسنة تجاه من يراه بحاجة إليها لقد كان يطعم من جاءه من المساكين حتى أن طيور السماء ووحوش الجبال كانت تتنعم بشفقته وعطفه

هذه الناحية من حياة محمد كانت تستأثر باهتمامه وهو الذي ذاق مرارة البؤس والحرمان منذ صغره وهو الذي تعلم على جده و عمه و نسيبه قس مكة أن يكون شفوقا عطوفا سخيا في العطاء ولا يخفى ما في تعاليمه من حث على عمل الحسنات والصدقات والاهتمام بالآرامل والأيتام وأبناء السبيل

كما لا يخفى هجومه العنيف على مترفي مكة وأثرياءها الملأ الأعلى من قبيلة قريش ومنهم بعض أعمامه كأبي لهب وامرأته حمالة الحطب

5 – شهر رمضان هو شهر الخلوة والصيام والتعبد فيه كان النبي يعتكف في غار حراء وفيه كان يحظى بنعم الله وفيه كان يتحنث ويتفكر بالله ويتأمل في كتبه المنزلة

انه شهر الهدى الذي نزل فيه الوحي تلطفا لقد كان رمضان قبل التشريع القرآني شهر صيام نصراني وقد أشار الكتاب إلى ذلك بقوله كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم القرآن 2 : 183

6 – الطواف في البيت في نهاية شهر الخلوة والصيام كان ينزل محمد من على جبل حراء ويذهب إلى بيت الله للشكر والاحتفال بالعيد فيطوف الكعبة سبع مرات ثم يرجع إلى بيته وزوجته مطمئنا متمما واجبه المقدس !

تقول السيرة النبوية : كان إذا قضى جواره إلى شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة فيطوف بها سبعا ثم يرجع إلى بيته ابن هشام 1 : 219 الحلبية 1 : 260 نهاية الأرب 16 : 172

كما هو حال النصارى بعد صيامهم الأربعين يحتفلون بعيد الشعانين ويطوفون حول كنائسهم سبع مرات كذا في الأصل

هذه بعض مقومات خلوة النبي في غار حراء كلها عادات نصرانية لا يمارسها أي انسان من ذات طبعه ولا تكون لأجل غايات دنيوية كلها من شرع الله الذي أنزل على موسى وعيسي

أى التي كان يمارسها اليهود المتنصرون ولم يكن بوسع محمد أن يكتشفها وحده لولا اقتداؤه بمن سبقه في ذلك ولولا تدربه على يد مرشد خبير كالقس ورقة بن نوفل أقرب المقربين إليه

لقد كانت ممارسات محمد الروحية صعبة وأرادها كذلك لوفرة تدينه ! ولشدتها عليه كانت تحدث له إرهاصات كان منها جزعا وتنتابه نوبات عصبية شديدة خشي أن يكون الشيطان مسببا لها

ولطالما كانت بوادره ترتجف ووجهه يتربد ويتصبب منه العرق في الايام الباردة ويصاب بالاغماء ويغط كغطيط البكر ( البكر هو الفتى من الإبل ) ويسمع عنده دوي كدوي النحل ويطلب من زوجته أن تلفه بثياب دافئة ليذهب عنه الروع

انظر كيفية نزول الوحي على النبي وما كان يحدث له من أهوال ابن هشام 1 : 220 صحيح مسلم 1 : 98 طبقات ابن سعد 1 : 198 وغيرها الكثير

وهذه الحالات النفسية الشديدة أرته ما أرته من رؤى وأحلام ظن نفسه فيها جنيا أو شيطان - وكانت خديجه تعالجه وتستشير في أمره ابن عمها القس ورقة ابن هشام 1 : 220 – 223 الحلبية 1 : 267 المكية 1 : 183


القس يعلم النبي

على مدى أربع وأربعين سنة كان النبي يلازم القس ويتدرب على يده إنها المرحلة الهامة من حياة النبي وممارساته الروحية وتثقيفه الديني ولا عجب في أن يقوم التثقيف الديني على قراءة الكتــاب الذي كـــان ورقة ينقله من لغته العبرانية إلى العربية

ولكي نتأكد من ذلك لابد لنا من إبعاد شبهة استولت على عقول المسلمين وتجذرت فيها وهي أمية محمد

وتعنى في نظرهم أن محمدا كان يجهل القراءة جهلا تاما وتمسك المتدينون بهذه الأمية قصد الدلالة على

حقيقة النبوة

وفيما الحقيقة تدل على أن الله استعمل وسائط طبيعية لإعلان كلمته واستخدام انسان خبيرا علم

محمدا ما لم يكن يعلم وما آية النبي الأمي الواردة في القرآن ألا لتعني شيئا أخر غير الذي يقصده

المسلمون لذلك فأننا نميز بين أمرين : بين ما كان يعلمه محمد وبين ما كان لا يعلمه محمد ثم تعلمه

بعد حين أما العلم الذي كان يعلمه فهو علم القراءة والكتابة الذي اكتسبه في صغره وعلى ذلك أدلة

وأما العلم الذي كان يجهله ثم تعلمه فهو علم الكتاب المنزل أى علم الإلهيات والروحانيات والتشريع وهو

العلم الذي اكتسبه محمد من لدن خبير حكيم القرآن 11 : 1 وممن عنده علم الكتاب و من الراسخين

في العلم ونسمي العلم الذي يعلمه العلم الطبيعي و العلم الذي اكتسبه فيما بعد العلم الالهي

وكلا العلمين مكتسب

اولا العلم الطبيعي

كان محمد تعلمه منذ صباه وهو فى حمية و كفالة عمه وقد اراد

المتدينون إنكاره عليه قصد الدلالة على تدخل الله المباشر في النبوة

وقصد إظهار جدة القرآن و الإسلام و اعتبار كل شئ فيهما

من لدن الله و على هذا العلم ادله

أن الأمي بحسب القرآن هو من ليس له كتاب منزل فاليهود أبناء اسحق بن ابراهيم هم كتابيون في

حين أن العرب أبناء اسماعيل بن أبراهيم هم أميون ودل القرآن على هذا التمييز دلالة واضحة

وصريحة :

فهو يدعو الكتابيين والأميين إلى إتباع الإسلام قل للذين أوتوا الكتاب والأميين أ أسلمتم القرآن 3 : 20

وهو يشير إلى تمني الأميين معرفة الكتاب ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الا أماني 2 : 78

ويفتخر بأن بعثه الله رسولا من الكتابيين فيقول هو من بعث في الأميين رسولا منهم 62 : 2

وقد عرف أهل الكتاب أن التمييز بينهم والأميين شئ محتوم فقالوا : ليس علينا في الأميين سبيل 3 : 75

بهذا المعنى القرآني الصحيح يجب أن نفهم قول الكتاب عن أمية محمد في الآيتين التاليتين الذين

يتبعون الرسول النبي الأمي و آمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله 7 : 158

الأميون اذن هم العرب ابناء اسماعيل والكتابيون هم اليهود ابناء اسحاق وبالتالي أن أمية محمد

لا تعني جهله القراءة والكتابة بقدر ما تعني انتماؤه إلى العرب الأميين ابناء اسمعيل الذين ليس لهم

من الله كتاب منزل

يقول الشهرستاني :

وأهل الكتاب كانوا ينصرون دين الأسباط ويذهبون مذهب بني إسرائيل والأميون كانوا ينصرون دين

القبائل ويذهبون مذهب بنو اسمعيل الملل والنحل 1 : 208

والدليل الثاني في السورة الأولى من تاريخ نزول القرآن حيث يدعو الملاك جبريل محمدا قائلا :

اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان

ما لم يعلم القرآن 96 : 1-5

وأجمعت كتب تفسير القرآن وكتب أسباب النزول وكتب السير النبوية والأخبار والأحاديث والصحيح

وأجمع الباحثون مسلمون ومستشرقون على أن هذه السورة هي الأولى في تاريخ الوحي

واتفق الجميع على أن جبريل جاء محمدا يحمل إليه كتابا ويدفعه إليه ليقرأه ... فلولا معرفة محمد بالقراءة

ولولا صحة تاريخها وصحة ما جاء فيها لمل اتفق الجميع على سرد الوقيعة ولئن كان الله يمكر بالناس

وهو خير الماكرين أفيمكر أيضا بنبيه ويكلفه شيئا لا يستطيعه !!

أن العلم الطبيعي الذي تعلمه محمد لابد وأن يكون تعلمه في بيت عمه أبو طالب وتحت حمايته قيل في

أبو طالب في حبه لابن أخيه : لقد اختصه بفضل واحترام وتقدير وظل فوق أربعين سنه يعز جانبه ويبسط

عليه حمايته محمد الغزالى فى فقه السيرة ص . 67 وقيل أيضا : كان يحبه حب شديد لا يحبه لأحد

من ولده وكان لا ينام الا الى جانبه ويخرج فيخرج معه

وصب به أبو طالب صبابه لم يصب مثلها يشى قط وكان يخصه بحسن الطعام وقيل أ يضا كان ابو

طالب يحفظه و يحوطه و يعضده وينصره إلى أن مات أبن سعد 1 : 121

هذه العناية الجميلة اقتضت من أبي طالب اهتماما بالغا بشؤون ابن أخيه اليتيم الذي حظى في بيته ما

حظي به ابن عمه علي صاحب البلاغة المأثورة ومنتهج نهجها في أول كتاب في بابه باللغة العربية

وقد سمى نهج البلاغة ولا يعقل أن يمنع أبو طالب عن ابن أخيه ما تمتع به ابنه وبرع وأبدع في

مجالاته

ولئن فرق المتدينون بين ربيبي أبو طالب فلغاية في النفس لا مبرر لها سوى اظهار جدة النبوة في

كل شئ

فأبو طالب لم يكفل محمدا ليوفر له حاجاته المادية وحسب بل وفر له أيضا وقبل كل شئ ما وفره لأبنه
من علم وتربية وأخلاق ... هذا وأن محمدا قال يوما عن علي كلام علي دون كلام الخالق وفوق كلام

المخلوق فكيف اذا بمحمد الذي أعطي جوامع الكلم !؟؟

مهما تعددت تأويلات لفظة قرأ الواردة في أماكن عدة من القرآن فأن المقصود منها القراءة الكتابية أى

قراءة الكتاب والآيات التي تدل على معرفة محمد بالقراءة كثيرة نذكر منها فاذا قرأت القرآن فاستعذ

بالله من الشيطان القرآن 16 : 98 واذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا

مستورا

وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث 17 : 106 اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا 17 : 14

أنظر 96 : 1 و 3 - 87 : 6 ترد لفظة اقرأ ومشتقاتها في القرآن 17 مرة ولفظة القرآن 70 مرة

هذه الآيات وغيرها تفيدنا أن محمدا كان يعرف القراءة ويجيدها وكان يقرأ الكتاب الذي بين يديه فكانت

قراءته له قرآنا

ثانيا العلم الإلهي

أما العلم الذي كان محمد يجهله وتكفل القس ورقة باعطائه لتلميذه الروحي فهو علم الكتاب المنزل الذي
كان القس ينقله في حضور محمد طوال أربع وأربعين سنة هذا العلم درسه النبي على يد القس وفي

الانجيل العبراني ولفظة درس في القرآن مقصورة على دراسة الكتب المقدسة بهذا الدرس تحدى محمد

المجرمين الذين لا يستطيعون لا الحكم ولا الخيار لأن ليس لهم كتاب منزل قال :

أ فنجعل المسلمين كالمجرمين ؟ ما لكم كيف تحكمون ؟

أم لكم كتاب فيه تدرسون ؟ أن لكم فيه لما تخيرون القرآن 68 : 35 - 38

ولئن اتهم الدارسون في الكتاب محمد بأنه لا يأتيهم شيئا جديدا فأن تهمتهم ترد عليهم لأنه يعمل على

تصريف الآيات وتبيينها وتيسيرها فقط قال وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم

يعلمون القرآن 6 : 105

وكان محمد أحسن من درس وتعلم من العرب ذاك الكتاب الذي بعثه الله إليه قال : وإذ تتلى عليهم آياتنا

بينات قالوا ... أن هذا إلا سحر مبين

وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير 34 : 43

والذين درسوا في الكتاب الذي درس فيه محمد عليهم ميثاق ألا يقولوا إلا الحق ألم يؤخذ عليهم ميثاق

الكتاب أن لا يقولوا على الله الا الحق ودرسوا ما فيه 7 : 169

لذلك عليهم أن يعلنوا ما درسوا كما هو يعلن وهم يعلمون ما يعلنه خير علم وهو ينصحهم بأن يعملوا

بما يعلمون ويعلنون : كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون 3 : 79

كالفريسيين الذين اتهمهم المسيح أنهم يقولون ما لا يعملون متى 23 : 3

فعلم محمد للكتاب ودرس ما فيه وقراءة أخباره وتفصيل آياته وتبيينها كلها كانت له زادا ليحاجج الناس

الذين يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير القرآن 31 : 20

على ضوء هذه الأدلة يمكن الجزم بإلمام محمد بالقراءة والعلم الطبيعي وقد حصلهما منذ صباه بطريقة

الدرس والاكتساب لا بالحدس والإلهام الرباني

ومعرفة محمد بهذا العلم لا تقلل من دوره الرسولي لأن الله إذا ما اختار انسان ما لرسالة ما وفر له

المعطيات البشرية المناسبة لأداء هذه الرسالة

وما إشارة القرآن لتعلم محمد علم ما لا يعلم سوى علم ما لا يعلم من الكتاب المنزل

وهذا العلم هو أيضا لم يكن حدسا وإلهاما بقدر ما كان تعلما واكتسابا من الذين يقرأون الكتاب من قبل

محمد 10 : 94 وما رد محمد التهمة عنه إلا دليل آخر على ما تعلمه من أهل الكتاب

: ولقد نعلم إنما يعلمه بشر16 : 103 فرد بقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان

عربي مبين المرجع نفسه 16 : 103

وقد اعترف بذلك عندما قال أنه لا يعلم الغيب ولا عنده خزائن علم الله : قل لا أقول لكم عندي خزائن

الله ولا أعلم الغيب 6: 50 و 7 : 188

ويشهد على علم محمد بالكتاب جملة شهود الله والملائكة وأهل الكتاب وردد القرآن العربي هذه

الشهادات فيه : قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب 13 : 43

وقال : شهد الله والملائكة .... وأولوا العلم 3 : 18 وقال أيضا : شهد شاهد من بني إسرائيل على

مثله أى على مثل القرآن 46 : 10

وقال أيضا يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون 3 : 70

وقال أيضا : إ نا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون

والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء 5 : 44

وحين كان محمد يرتاب من علمه ومن وحي الله كان يتوجه إلى أهل الكتاب يسألهم ويستشيرهم : إن

كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك 10 : 94

وعندما يشك أتباعه في صحة علمه و وحيه ينصحهم أن يذهبوا هم أيضا إلى أهل الكتاب ويسألوهم

إسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون 16 : 43

وعندما يختلف المسلمون في كتاب محمد يقول لهم : وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه 5 : 47

وما القرآن أخيرا إلا تبيان لما أنزل من قبل : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم 16 : 44

ومن البارزين في علم الكتاب والذين شهدوا شهادة حق في القرآن ونبيه كان القس ورقة بن نوفل أقرب

المقربين إليه وإلى زوجته وقد شهدت عائشة ناقلة الحديث الصحيح عن محمد بدور ورقة في قولها :

ولم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي

 


 

القس يعلن النبي خليفته

لم يخف القس مقاصده في ما دبر لمحمد منذ أن تعرف إليه ولم يخفي كتاب السير مقاصد القس هذه ولو بعد مائة وخمسين سنة لقد أدركوا مقاصد القس وعرفوا ما أدركوا وحاولوا تجنب خطر ما أدركوا وما عرفوا

وما تجنبوه من خطر كان إثباتا أخطر لما نبحث عنه لقد حاولوا إثبات نبوة محمد فيما هم في الحقيقة يثبتون نبوة القس

حاولوا إرجاع كل شئ إلى الله وهم في الواقع يثقون بقدرة القس ثقة عمياء بحثوا في علاقة محمد بالله فإذا هم يعلقون محمدا بالقس ... وأنت تدرك ذلك عندما تسمع الإعلان تلو الإعلان يطلقه القس على محمد ونبوته العتيدة

وعندما تسمع تنبؤات القس على مستقبل محمد تظن أن كتبة السيرة المحمدية يطلقون ذلك للدلالة على قدرة القس ودوره الخطير فيما هم يظنون التدليل على نبوة محمد

ولا غرابة في الأمر لأن كل شئ قد أعد إلى الآن على أحسن حال و القس قدير على كل شىء في كل حال وللناس ثقة بقدرة القس أى قس مما يثبت كل مخطط يرسمه وينفذ كل قصد يعزم على تحقيقه وقد تيسر له ذلك بسهولة لاعتبارات عديدة منها مقامه الوجيه وشرفه الوسيم بين الناس فهو من سادة العرب وقادتها ومنها رئاسته على جامعة مكه فهو رئيس النصارى ومنها علمه الواسع بالكتب والأمور الإلهية فهو يتتبع الكتب من أهلها ومنها انقياد الناس له و لأمثاله من القسيسين والرهبان لأنهم لا يستكبرون القرآن 5 : 82

واتخذهم الناس أربابا من دون الله القرآن 9 : 81 ومنها أخيرا سعي أصحاب الحاجة إليهم وطلب نصائحهم والالتجاء إلى صوامعهم والتماس الشفاء من أيديهم والاعتماد عليهم في اكتشاف الغيب واستطلاع الأسرار الخفية

واستغل القس ورقة اعتبارات الناس هذه وراح يدبر من يخلفه في مهمته فكان محمد بن عبد الله خير من دبر وأشرك في تدبيره هذا أقرب المقربين إليه وإلى النبي

أما الذين تعاونوا مع القس وسمعوا نداءه وذهلوا بتدابيره كانت خديجة زوجة النبي أهمهم وأولهم وأبو طالب عمه وكفيله وأبو بكر الصديق صديقه الحميم ووالد خديجة بعد رضاه وأخوها عمرو وغيرهم كثير كلهم انصاعوا لتدابير الله على يد قسه ووكيله في مكة واتحدوا فيما دبر وبارك الراهب بحيرا والراهب عداس النينوي وسلمان الفارسي هذا التدبير المكية 1 : 183 الحلبية 1 : 367

وساعدوا القس فيما أراد فتوالت التنبؤات عن مستقبل محمد من كل جانب على ألسنة السحرة والكهان والأنس والجن والشجر والحجر والحيوانات على أنواعها والملوك والأحبار والملائكة والبشر ....

ولم تبخل كتب السير والأخبار عن ذكر الكثير منها والبعض مما ذكر ينبئ عن الكثير مما حدث – وما كنا ندري شيئا مما حدث لولا القس يفسر لنا ما حدث

واستمرت الإعلانات تتوالى على مدى 15 عاما وقد أتى أهمها في ست مراحل هامة من حياة النبي ورسالته :

الإعلان الأول : قبل الزواج

قبل أن تتم مراسيم الزواج بين محمد وخديجة وفيما كان محمد يتاجر لخديجة في بلاد الشام رجع ميسرة غلامها الأمين يخبرها بما رأى وبما سمع من مذهلات جرت لمحمد ابن هشام 1 : 175 الكامل في التاريخ 2 : 39 ابن كثير 1 : 268 الحلبية 1 : 147

ولما انتهى من حديثه قامت خديجة للحال و أتت مسرعة تخبر ابن عمها ورقة ما سمعته من غلامها وللوقت وقف القس باطمئنان العارف بمشيئة الله يقول لئن كان هذا حقا يا خديجة فأن محمدا نبي هذه الأمة وقد عرفت ؟

أنه كائن لهذه الأمة ونبي منتظر هذا زمانه ابن هشام 1 : 175 الحلبية 1 : 151 لابد لنا من أن نسأل لا عن حقيقة نبوة محمد بل عن حقيقة نبوة ورقة من أين لورقة هذا ؟ كيف عرف مشيئة الله ؟ كان القسيسون في ذلك الزمان يدركون الغيب ومستقبل الناس ولم يعد لهم اليوم ذلك ؟ !

أم أنهم يمكرون كما الله خير الماكرين القرآن 2 : 54 و 27 : 50 و 14 : 46 و 8 : 30 و 10 : 21

من أين لكتبة السيرة أن يعرفوا تدابير القس ونبوءاته لو لم يكن لهم علم بأن الله يعلن عن أنبيائه بواسطة انسان خبير بمقاصد ه الإلهية ؟

وفي كل حال لقد عرفت خديجة أن تستسلم لتدابير ابن عمها فيما أراد وهي التي كانت تسترشد بأرائه على حد قول صاحب السيرة : كان ذلك لخديجة بارشاد من ورقة السيرة الحلبية 1 : 275

الإعلان الثاني : في بدء الوحي

لما كان محمد في غار حراء يتحنث ويصوم ويصلي ويتفكر بالله وقد بلغ الأربعين أتاه جبريل آخر الشهر يعلن له أبشر يا محمد أنا جبريل و أنت رسول الله لهذه الأمة ودفع إليه كتابا يقرأه فاعترى محمدا ذهول ثم انصرف عنه الملاك ورجع المرتاض قافلا إلى بيته يحدث زوجته بما سمع ورأى وللخال أعلنت خديجة هي الآخرى العارفة بمشيئة الله أبشر يا ابن عمي واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة

ثم قامت وجمعت عليها ثيابها وانطلقت إلى ورقة تخبره ما حدث لزوجها قبل أن تستكمل حديثها أعلن ورقة مطمئنا وقال : قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى إنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت ابن هشام 1 : 221 الحلبية 1 : 262 ابن سعد 1 : 195 تاريخ الطبري 2 : 301 الكامل لأبن الأثير 2 : 31

لقد تكاثرت الشهادات عن نبوة محمد من الأرض ومن السماء من جبريل ومن خديجة ومن القس ورقة في مضمونها ومقصودها واحدة

الكل يفسر الرؤيا تفسيرا واحدا والكل ينصح صاحبها بالثبات والاستمرار في ما هو عليه والكل يعلن نبوته العتيدة في الأمة العربية البكر فهو على خط موسى وعيسى وسيأتي بناموس للأميين كما أتى موسى وعيسى للكتابيين ولن يكون بين ما سيكون للعرب وبين ما هو لبني إسرائيل فرق _ الناموس هو إياه _ ليس لمحمد إلا أن يعلنه ويكون له رسولا و بشيرا و مبلغا

ولكن لابد لنا أن نسأل لا عن نبوة محمد بل عن نبوة خديجة التي أعلنت لزوجها نبوته التي عرفت بمشيئة الله وفسرت الرؤيا كعالمة بأسرار الغيب فمن أين لها ذلك ؟ أ من الله أم من ابن عمها ورقة ؟ الله أعلم

الإعلان الثالث : في بدء الرسالة

لما نزل محمد من على جبل الخلوة والصلاة في نهاية شهر رمضان أتى الكعبة ليطوف بها سبع مرات قبل أن يرجع إلى بيته وزوجته بحسب عادته كل مرة فيما هو يطوف كان القس يطوف أيضا بادره القس بالسؤال يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت وأخبره رسول الله

فأعلن القس باطمئنان العارف بمشيئة الله وقال : والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة لقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى _ ولتكذبنه ولتؤذينه ولتحرجنه ولتقاتلنه ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى أرسه منه وقبل بأفوخه ثم انصرف محمد إلى منزله مطمئنا ابن هشام 1 : 222 تفسير الطبري 2 : 49 الحلبية 1 :163 وعند الطبري هذا التوضيح قد زاده ذلك من قول ورقة ثباتا وخفف عنه بعض ما كان فيه من الهم تاريخ 2 : 302

أن يثبت وحسب بل أن يكون مطمئنا أيضا متى بلغت الطمأنينة قلب محمد استطاع القس أن يعلن لأنصرن الله نصرا يعلمه واستحق الشاب الوديع قبلة من القس على رأسه

وبهذه الطمأنينة التي حققها محمد بشر في رسالته العتيدة عندما قال بذكر الله تطمئن القلوب 13 : 28 وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به 3 : 126 و 8 : 10

وقال أو لم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي 2 : 260 وبهذه السكينة الباطنية أيد الله محمدا وجماعته : فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود .... 9: 40 و 48 : 4 وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين 48 : 26 و 9 : 26

وهكذا انتصر القس نصرا من عند الله لنصر تلميذه ولينصرك الله نصرا عزيزا 48 : 3

الإعلان الرابع : عند نزول الوحي

بعد هذا النصر انطلق محمد برفقة أبي بكر إلى القص ورقة طالبا منه تفسير ما يعرض له من نوبات و اغماء وإرهاصات فهو لا يدري من أين هي وممن هي وما معانيها

وأخبر محمد ورقة مسترشدا : إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فانطلق هاربا إلى الأرض وللحال راح القس يرشده وينصحه ويهدئ من روعه ويطمئن نفسه ويقول له : لا تفعل إذا أتاك فأثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني الحلبية 1 : 263

ورجع النبي قافلا إلى بيته ورجعت عليه الرؤى واضطربت نفسه وكثرت الاغماءات وتعددت النوبات العصبية ثم يعود إلى مرشده يسأله عن سبب اضطراباته هذه أهي أضغاث أحلام القرآن 21 : 5 يأتي بها الشيطان أم هي جنة 7 : 184 و 23 : 25 و 34 : 8 و 37 : 158 و 44 : 14 في العقل يسببها عفريت من الجن ؟

أم هي سحر ساحر يسحره ؟ القرآن 6 : 7 و 10 : 67 و 11 : 7 و 27 : 13 أم هي الهامات شعرية لشاعر ملهم القرآن 36 : 69 و 21 : 5 و 37 : 36 و 52 : 30 و 69 : 41 أم كهانة كاهن يبتغي معرفة خزائن الله وعلم الغيب ؟ 52 : 29 و 69 : 42 و 6 : 50 و 7 : 188 أم أنه يعلمه رجل ؟ 16 : 103

أم أنه يروي أخبارا من القديم ؟ 25 : 5 أم هي أخيرا الهامات ربانية ورؤى إلهية ووحي منزل كانت تجيئه كما كانت تجئ أنبياء الله الأقدمين ؟؟ !!

لم تتوانى خديجة عن البحث والاستشارات لتهدئ روع زوجها فقد كانت تذهب به إلى القس ورقة تارة وإلى عداس النينوي طورا وأمت هذا الأخير في أحد الأيام تخبره عما يجري لبعلها فقال لها يا خديجة : أن الشيطان ربما عرض للعبد فيريه أمورا _ خذي كتابي هذا وانطلقي به إلى صاحبك وإن كان مجنونا سيذهب عنه وإن كان من الله فلن يضره وانطلقت بالكتاب معها ورجعت إلى زوجها الحلبية 1 : 267 المكية 1 : 183

ثم كتبت خديجة إلى بحيرا الراهب تسأله عن جبريل وأجاب بحيرا : قدوس قدوس با سيدة نساء قريش ! آ ني لك بهذا الاسم ؟ فقالت بعلي وأبن عمي أخبرني أنه يأتيه الحلبية 1 : 268 ويقال أن جبريل نزل على محمد 26 ألف مرة الحلبية 1 : 269

ومما يذكر أن مثل حالات الاغماء هذه كانت تعتريه قبل الوحي والبعثة وكان يرقى من العين كل مرة وروى لنا ابن اسحاق عن شيوحه هذا الحديث بقوله : أنه أى محمدا كان يرقى من العين وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن قلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه قبل ذلك الحلبية 1 : 275- 267

وكانت خديجة تقول له باستمرار أوجه إليك من يرقيك ؟ ويضيف ابن اسحاق لم أقف على من كان يرقيه ولا على من كان يرقى به المرجع نفسه

وذكر لنا أيضا ابن الجوزي أنه صلعم في سنة سبع من مولده أصابه رمد شديد وعولج في مكة ولم يغن وقيل لعبد المطلب يوجد في ناحية عكاظ راهبا يعالج الأعين فركب إليه ومعه رسول الله

فنادى عليه ولم يجب وكان ديره مغلق فتزلزل ديره حتى خاف الراهب أن يسقط الدبر عليه فخرج مبادرا وقال : يا عبد المطلب إن هذا الغلام نبي هذه الأمة ( ؟ ) ولو لم أخرج إليك لخر الدير وانهار ثم عالجه وأعطاه ما يعالح به الحلبية 1 : 183 ويذكر أيضا عن راهب آخر بين مكة والمدينة شفاه من الرمد الحلبية 1 : 184

ومحمد نفسه كان يتخوف من حالاته هذه ويخشى هواجس طفولته وكان يردد مرارا : لقد خشيت على نفسي الحلبية 1 : 276 وأخشى أن أكون كاهنا صحيح البخاري 1 : 18 وصحيح مسلم 1 : 97 وأخشى أن يكون في جنن طبقات ابن سعد 1 : 185 الحلبية 1 : 258 وأخشى أن يكون في لمة السيرة الحلبية 1 : 136

ومع هذا لا نزال نحن نؤمن بتلك الطمأنينة التي أيد بها القس ورقة محمدا راجين أن نظل عليها في مطلق الأحوال

الإعلان الخامس : بعد بدء الرسالة

ثبت النبي على نصيحة القس واطمأن وراح يباشر مهمته الرسولية وينذر وابتدء يعلن للناس بعض ما نزل عليه من سور القرآن بلسان عربي مبين ولكنه لم يتمكن من حمل عبء الرسالة الملقاة على عاتقه وراح يضطرب من جديد ففيما هو مرة يقرأ وينذر ويتوعد أخذت بوادره ترتجف ووجهه يتربد وتنتابه الخشية

فرجع إلى بيته مذعورا مرعوبا ودخل على خديجة يقول لها زملوني زملوني أى لفوني بالثياب الدافئة ابن سعد 1 : 195 الطبري 2 : 48 القرآن سورتي المزمل والمدثر صحيح البخاري بدء الوحي 1 : 4

فسارعت خديجة وزملته حتى ذهب عنه الروع وارتاحت أعصابه وطابت منه أن يطلعها على ما جرى وأخبرها محمد فقالت للحال قول العارف بالأمور ومجريات الأحداث : كلا فأبشر فوالله لا يخزبك أبدا أنك لتصل الرحم وتصدق الحديث ةنحمل الكل لغيرك وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ... صحيح مسلم 1 : 97 الحلبية 1 : 267 والبخاري 1 : 3

وأرادت خديجة أن تتثبت مما تقول وأن تؤكد لزوجها حجتها وكالمعتاد ذهبت به إلى ابن عمها القس ورقة تقول له : أى عم إسمع من ابن أخيك واستوضح ورقة محمدا : يا ابن أخي ماذا ترى ؟

أخبره محمد ما رأى ف أسكن القس روعه مجددا وراح يردد عليه قوله السابق : هذا الناموس الذي أنزل على موسى وأضاف هذه المرة يا ليتني فيها جذعا وأكون في زمن الدعوة ثم التفت ورقة إلى محمد يحذره من مستقبل شديد ويقول : نعم لم يأت رجل بما جئت إلا عودي

الحلبية 1 : 263 الطبري 2 : 298 وقد تقرأ : لم يأت رجل بما جئت ( يا خديجة ) ألا عودي بمحمد إلى بيتك مطمئنة إلى ما سيجري الله على يده من أحداث

وعادت خديجة ماسكة بيد زوجها والطمأنينة في نفسيهما و أبلغنا القس عن تمنياته بعدما تحقق اليسير منها

الإعلان السادس : عند بدء الجهاد

عن علي ابن أبي طالب قال : لما سمع محمد النداء : قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال محمد لبيك ثم : قل الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين

لما سمع محمد ذلك اضطرب وقام وأتى القس وذكر له ما سمع قال ورقة : أبشر ثم أبشر إني أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم إنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل وأنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك ولئن ادركني ذلك لأجاهدن معك الطبري 1 : 298

يبدو أن هذا الإعلان أطلقه القس بعدما أمر محمد بالجهاد وذلك بعد مضي زمن غير يسير على بدء الدعوة قد يتراوح بين السنتان والثلاث سنين و كان ورقة قد أصبح ضريرا أصم

وفي هذا الإعلان اطمئنان آخر لمحمد لن يكون وحده في جهاده ضد المنافقين والمترفين من قريش فالقس إلى جانبه رغم كبر سنه يرشده ويعضده وينصحه بألا يستعجل الأمور

لأن المهم في سبيل النجاح الصبر وعدم العجلة وهي نصيحة ثمينة ذكره بها القرآن فيما بعد : أصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل 46 : 35

وعلى محمد أن ينتصح وألا يترك الرسالة الملقاة على عاتقه مهما ضاق بها صدره : لعلك تارك ما يوحى إليك وضائق به صدرك 11 : 12

الله لن يترك نبيه بلا عضد ولن ينساه أو يودعه : ما ودعك ربك وما قلى 93 : 3 وعلى محمد ألا ينسى ما يقرأ عليه من الكتاب : سنقرأنك فلا تنسى 87 : 6

وهكذا صارت الأمور وما كان ليحدث هذا لولا رحمة الله التي دبرت كل شئ على أحسن حال ولئن صح ما جاء في الأخبار أم لم يصح فروايات السيرة وتسلسل الأحداث وشهادة القرآن لها والوساطة الطبيعية التي يستخدمها الله لإعلان وتبليغ كلمته :

جميعها تؤكد لنا وقوع محمد وقعة إلهية في مخطط القس ورقة وتدابيره وبتنفيذ من خديجة سيدة نساء قريش التي وفرت له المال والجاه والشرف والجمال والكفاية والحنان

لقد دبر القس كل شئ ونفذت خديجة كل شئ بدقة وعلى أكمل وجه فهي التي كانت تسعى بين القس والنبي تسمع النبي وتشجعه تذهب إلى القس وتسترشده ويكفي أن يقال عنها : أن ذلك من خديجة كان إرشاد من ورقة السيرة الحلبية 1 : 275

ورقة وخديجة وأبي طالب لعبوا في حياة محمد ورسالته دورا كبيرا لا ريب فيه وبموتهم فقد محمد العضد والسند والمرشد والمنعة والحنان :

بموت القس ورقة فتر الوحي صحيح البخاري بشرح الكرماني 1 : 38 أو 1 : 4

وبموت خديجة تتابعت على رسول الله المصائب إذ كانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها سيرة ابن هشام 2 : 45

هي التي آمنت به وصدقت ما جاء به من الله وآزرته على أمره وكانت أول من آمن بالله وبرسوله وصدق بما جاء منه فخفف الله بذلك عن نبيه لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك حتى يفرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس ابن هشام 1 : 224

وبموت أبو طالب نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبو طالب ... إذ كان لأبن أخيه عضدا وحرزا في أمره ومنعة ونصرا على قومه ابن هشام 2 : 45 - 46

القس دبر والزوجة نفذت والعم عضد والنبي استسلم لإرادة الله على

هؤلاء قامت الدعوة الجديدة وكان لها النجاح وهذا أيضا كان من الله ويعود إلى الله _

والحقيقة تقال أن الله إذا ما أراد اختيار أنبيائه يهيئ لهم الظروف المناسبة ويكفل لهم النجاح في مهماتهم الصعبة


 

القس النبي والنبي القس

نسأل ماذا كان في نية القس أن يعلن ؟ نبوة محمد أم قسوسيته ؟ لقد استترت نية القس على كتبة السيرة ولا يعود استتارها إلى سوء نية عندهم بقدر ما يعود إلى نقل ما وصل إليهم منحولا بعد 150 سنة من بدء الرسالة وتوسعها في معظم بلاد اسيا وافريقيا

لقد بلغهم بعض ما قام به القس من دور في نبوة محمد ولكنهم لم يحققوا في ما بلغهم وبالتالي لم يدركوا نيته ولم يعرفوا كيف تعلن النبوة ولا كيف تنتقل القسوسية في النصرانية من سلف إلى خلف

ولم يعلموا أن النبوة لا تحتاج إلى من يدافع عنها ويقضي بصحتها ولو علموا كل ذلك لما اضطروا إلى اثبات نبوة محمد بألف ألف دليل والدفاع عنها بألف ألف حجة

ونزعا لأى شك على نبوة محمد أرجعوا الأدلة عليه إلى زمن آدم وقرءوا اسمه في السماء تحت سدرة المنتهى وسمعوا الأخبار والرهبان والكهنة والسحرة والجن والشياطين والحيوانات والأشجار والحجارة ... تعلن نبوته !!!

ورأوا اسمه في التوراة والانجيل واستطلعوا أخباره عند ملوك العجم والعرب ... كل هذا كان لأجل الدفاع عن نبوة محمد

وهل يحتاج نبي الله إلى من يبرر له نبوته ويدافع عنها ؟؟؟

ومن جهة ثانية من أين للقس ورقة أن يعلن محمدا نبيا ويشرك معه خديجة وأبا طالب وأبا بكر وعليا ؟

هل القس هو الذي أطلق على محمد اسم نبي ؟ أم تبدلت الأسماء فيما بعد وتحرفت المعاني وتغيرت النيات واستبدت الأحداث السياسية بالأمور الدينية ؟

لئن صح إعلان القس لنبوة محمد يكون القس مخبولا حقا ويكون النبي فيما صدق من القس صاحب جنن وغرور _ وحده الله يختار أنبيائه ووحده النبي يعرف بنبوته وتعاليمه تعلن عنها وأعماله تدعم تعاليمه ! وما من نبي في التاريخ احتاج إلى دفاع عن نبوته كما هو الأمر مع محمد

والحقيقة أن القرآن المكي لا يسمي محمدا نبيا بل بشيرا ونذيرا ومبلغا رسالة ربه وهو ما يؤكد لنا أنه لا القس ولا النبي استمتعا بالنبوة بحسب مفهومها في العهد القديم فماذا يكون الأمر إذن ؟؟

أغلب الظن أن نية القس كانت غير ذلك ووعي محمد كان هو الآخر في بدء أمره غير ادعاء النبوة والذي بدل المقاصد والنيات هو مصحف عثمان وكتبة السيرة

وكان قصد النبي أن يعلن محمدا خليفة له على جماعة مكة النصرانية ! وأدلتنا على ذلك من سيرة القس والنبي بتمامها وكمالها

القس اختار محمدا وتبناه ثم زوجه من خديجة على الطريقة النصرانية ودربه على الصوم والصلاة في غار حراء وعلمه التوراة والانجيل وناموس موسى وعيسى ونقل له الانجيل العبراني بلسان عربي مبين

وقد وعى محمد اختياره هذا وعرف مهمته فراح ينذر الناس ويبشرهم ويثقفهم ويعلمهم مل لا يعلمون من الكتاب ويبين لهم الصراط المستقيم ويهديهم إلى الدين القيم ويعظ فيهم عن أحوال الحساب والعقاب والجنة والنار والقيامة ويحرضهم على فعل الحسنات والصدقات

ويقرأ عليهم ما تيسر من قصص الكتاب وأخبار الأنبياء لقد كان يعلم أن مهمته تقوم على أن يذكر الناس بتعاليم التوراة والانجيل :

ذكر إنما أنت مذكر وكتابه هو ذكر وذكرى وتذكرة وتفصيل وتصديق للكتاب العبراني الذي كان بين يدي القس ويحضر محمد تعريبه طوال 44 سنة

لقد أراد القس أن يكون محمد خليفته على نصارى مكة يكمل عمله الروحي بين العرب ويحافظ على استمرارية النصرانية في الحجاز ويعمل على جمع شمل النصارى من بني إسرائيل

ويوحد شيعهم وأحزابهم ويوحد كتبهم وعقيدتهم .. وكان له ذلك بما أوتي من تجرد وذكاء وجرأة وإقدام وساعده على إتمام مهمته زوجته بما كان لها من شرف وجاه ومال وأعانه عمه أبو طالب أيضا ولبي الدعوة الحمس من قريش وجاهد معه فقراء مكة وأذلتها واستضافه النجاشي ملك الحبشة بعدما قاومه الملأ الأعلى وأعزة مكة

حتى أصبح محمد بعد وفاة القس رئيس النصارى الموحدين وأول المؤمنين أى زعيمهم الروحي والمسئول عنهم وقد قال أمرت أن أكون أول المسلمين القرآن 39 : 12

على هذا بعد وفاة القس ورقة انتقلت الزعامة الروحية إلى محمد وأصبح محمد أول المسلمين وبوفاة القس ورقة خشي محمد أن يتركه الله وينساه إذ فتر الوحي مدة من الزمن وعاوده بعد ذلك مع كثير من التغيير في المواقف والتبديل في التعليم والتشريع بما يتناسب وشخصية محمد واستقلاله عن معلمه وبما يتوافق مع الظروف وأحوال البيئة والمجتمع العربي وأعلن القرآن عن عودة الوحي بقوله : ما ودعك ربك وما قلى القرآن 93 : 3

وما يؤكد لنا خلافة محمد للقس هو أن الإسلام في بدء أمره وكما كان في أيام القس وتحت تأثيره لم يكن دينا جديدا ولم تكن دعوة محمد دعوة لدين جديد بل كانت تعاليم من التوراة والانجيل وتعاليم إبيونية في الحسنات والصدقات وتبشير بالجنة والنار والقيامة ووعيد بالعقاب وتذكير بأحوال الساعة الأخيرة على ما عرفنا عند الشيع النصرانية الغنوصية المتعددة

ولم يكن في نية محمد أن ينزل وحيا من السماء أو أن يدعي معرفة خزائن الله وعلم الغيب بقدر ما كان يقصد إعلان كلمة الله الأعجمية بلسان عربي مبين مفصلة وميسرة للحفظ والذكر

فالوحي المحمدي هو إذن وحي لاحق لوحي سابق وكتابه العربي هو تصديق لما بين يديه من التوراة والانجيل ودعوته كانت قبله مع أهل الكتاب وإلهه هو إله بني إسرائيل قال : لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل 10 : 90 وهكذا .....

هذا هو قصد القس ومنطق الأحداث وتلك هي مقاصد أهل السيرة فلا نغفل عن الحقيقة ولو تنكر لها المنكرون وتجاهلها المتدينون

جل ما في الأمر أن القس يريد خليفة له على جماعة مكة النصرانية فكان محمد بن عبد الله يتيم قريش خليفة القس ورقة على كنيسة مكة ومع هذا يريد مؤرخو حياة محمد إلى اليوم أن يكون الأمر غير ذلك ظنا بالنبوة والدين الجديد فأغفلوا وجود القس وأنكروا عليه لقاءاته المتعددة مع محمد وتجاهلوا إعلاناته

والشيخ صبحي الصالح لم يقر إلا بلقاء واحد جرى بين القس والنبي إذ قال : فما عسى أن يكون النبي تعلم في هذين اللقاءين لقاء مع الراهب بحيرا ولقاء مع القس ورقة من علوم الغيب والتاريخ ؟ مباحث في علوم القرآن ص 45 بيروت

وعندما يستشهد الشيخ بالبخاري يأخذ ما بناسبه ويغفل ما يزعجه فينقل : ولم يلبث ورقة أن توفي ويترك وفتر الوحي المرجع نفسه

ويستنتج أن محمدا تعرف على ورقة في آخر أيام حياته ورآه عجوزا ضريرا لا تصلح همته لأى شئ وكذلك هو الأمر مع محمد حسنين هيكل في موسوعته حياة محمد فقد تجاهل أمر القس ورقة ودوره ولم يذكر من اللقاءات والإعلانات سوى اثنين وبطريق العرض محمد حسنين هيكل حياة محمد ص 135 القاهرة

لماذا هذا التنكر ؟ إن كان جهلا فهو طعنة في واقع التاريخ وإن كان تجاهلا فهو طعنة في صميم الحقيقة

بقي أن نسأل عن قصة الراهب بحيرا : لماذا يجتهد مؤرخو حياة النبي في التركيز على الراهب بحيرا حتى تحولت أنظار الناس إليه على حساب القس ؟ الناس اليوم بلهجون باسم الراهب بحيرا ويجهلون كل شئ عن القس ورقة فما سبب ذلك وما القصد منه ؟

أن في الأمر تضليلا وتمويها للواقع : وبحيرا على مكانته العظمى في النصرانية وعلى كونه إنتهى إليه علم النصرانية في ذلك الزمان ورغم تردد تجار قريش على صومعته في بصرى لم يكن له ذلك الأثر الفعال لأن رحلات محمد إليه لم تكن كافية للدلالة على تثقيفه على يده

ومهما يكن من أمر فاللقاءات المحدودة التي حدثت بين محمد وبحيرا لا تعطي النتائج التي نستطلعها في تعاليم القرآن ولا تستحق أن يعيرها الناس أهمية بالغة ويتوقفوا عندها هذا يمكن نقضه بسهولة

وبالفعل توقف مؤرخو حياة النبي على دور الراهب فتوقفوا في نقضه أو رفضه كما توقفوا في التركيز عليه على حساب القس وتركيزهم على الراهب وتحويل أنظار الناس إليه وردهم على ما استنبطوا من أضاليل حوله أعطى أهمية لبحيرا دون ورقة وبهذا تم فقد أثر الأثنين معا

وضاع الباحثون بين الراهب والقس ولسهولة رفض أثر الراهب ظن الناس أن أثر القس هو أيضا يرفض بالسهولة نفسها _ نأمل أن نكون قد حققنا القصد في كشف هذا الضلال المكنون

  • عدد الزيارات: 19180