Skip to main content

شهادة القرآن لصحة الكتاب المقدس - توضيح

الصفحة 3 من 3: توضيح

 

وقد أكثرنا من إيراد هذه الشهادات القرآنية لنوضّح:

(1) كانت التوراة والإنجيل والزبور متداولة ومتواترة بين أيدي الناس في عصر محمد. وهل يُعقل أن محمداً كان يحضّ الناس على وجوب التمسّك بها وهي مفقودة، أو هل كان يستشهد بها ويمدحها وهي مبدَّلة؟ ألم يقل في المائدة 5: 68 إن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يقيموا التوراة والإنجيل؟ وفي عدد 43 كيف يحكِّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله . وإن الله أنزل التوراة والإنجيل فيهما هدىً ونور، ومن لا يحكم بهما، فهم الكافرون والظالمون والفاسقون.

(2) أورد محمد منها بعض الأحكام واستشهد بها كثيراً في أقواله.

(3) أوضح محمد البركات التي تحصل لمن يقيم حدودهما من غفران السيئات وحلول البركات (المائدة 5: 66).

(4) اعترف محمد بأن من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، ثم مدحهم (آل عمران 3: 113 ، 114).

(5) جاء القرآن من أوله إلى آخره مصدِّقاً للكتب المقدسة. فهل يصدِّق على شيء لا وجود له أو مُلفَّق؟

(6) يقولون إن الله أمر محمداً أن يستفهم من أهل الكتاب عن القضايا التي ارتاب فيها (يونس 10: 94).

(7) ذكر محمد التوراة والإنجيل بكل تعظيم، فقال إن التوراة إمام ورحمة (هود 11: 17) والإنجيل “الكِتَابَ المُسْتَبِينَ وَالكِتَابِ المُنِيرِ ; (الصافات 37: 117 وآل عمران 3: 184) وقال إن الكتاب المقدس “هُدىً وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ ; (غافر 40: 54) و “نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ; (الأنعام 6: 91) وإنه “نزل تماماً عَلَى الذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ ; (الأنعام 6: 154) و “بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً ; (القصص 28: 43) وقال عنه إنه “الفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ; (الأنبياء 21: 48) و “وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ; (المائدة 5: 46) وغير ذلك.

فهل يصف التوراة والإنجيل بمثل هذا الكلام إذا كان يعتقد ضياعهما أو تحريفهما أو تغييرهما وتبديلهما؟

فإذا اعترض أحد بأن القرآن قال إن أهل الكتاب حرَّفوا كتبهم، قلنا إن اليهود قاوموا محمداً أشد المقاومة، وكثيراً ما كانوا يمتحنونه بأسئلة كثيرة عجز عن الإجابة عنها. وإذا استفهم منهم عن شيء من كتابهم ضنّوا عليه به، أو كتموا المعاني، أو فسّروا الأقوال حسب أهوائهم، فتضايق منهم محمد. ولما قوي وزاد حزبه توهَّم ورود شيء عنه في الكتب الإلهية. ولا يتوهَّم المُطالع أن اليهود أتوا شيئاً خلاف العادة، فالعهد أن كل حزب يؤيد رأيه ومذهبه من الكتاب الواحد بدون أن يمسّ النص الأصلي بشيء.

وهذا مثل قول محمد في البقرة 2: 75 “وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ; وورد في النساء 4: 46 “مِنَ الذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ ; وكذلك ورد في عدد 41 فقال المفسرون إن اليهود كانوا يحرّفون كلام الله، يؤوِّلونه ويفسرونه حسب أغراضهم. وقال البخاري في تفسير قوله: يحرّفون الكلم عن مواضعه يزيلون وليس أحدٌ يزيل لفظ كتابٍ من كتب الله، ولكنهم يحرّفونه أي يفسرونه على غير معانيه. وقيل في فتح الباري: سُئِل ابن تيمية عن هذه المسألة فأجاب في فتواه أن للعلماء في هذا قولين، أحدهما وقوع التبديل في الألفاظ، وثانيهما لا تبديل إلا في المعاني، واحتجّ للثاني . وقال الفخر الرازي (في تفسيره للنساء 4: 46) فإن قيل كيف يمكن التحريف في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب؟ قلنا يُقال إنّ القوم كانوا قليلين، والعلماء بالكتاب غاية في القِلّة، فقدروا على هذا التحريف. والثاني المراد بالتحريف إلقاء الشبهة الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحِيَل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذهبهم، وهذا هو الأصح. ومن الآراء في ذلك أنهم كانوا يدخلون على محمد ويسألونه عن أمرٍ فيخبرهم ليأخذوا به، فإذا خرجوا من عنده حرَّفوا كلامه .

وورد في البقرة 2: 174 “الذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتَابِ" قال المفسرون إن أئمة اليهود كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا، فلما جاء محمد خافوا انقطاعها فكتموا صفة محمد والبشارة به. قال الرازي: قال ابن عباس: إنهم كانوا يحرّفون التوراة والإنجيل. وعند المتكلمين هذا ممتنع لأنهما كانا كتابين بلغا في الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذَّر ذلك فيهما. بل كانوا يكتمون التأويل لأنه قد كان فيهم من يعرف الآيات الدالة على نبوة محمد، وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة ويصرفونها عن محاملها الصحيحة (الرازي في تفسيره للنساء 4: 174).

وورد في آل عمران 3: 78 “وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ “قال الواحدي: يحرّفون الكتاب عما هو عليه بألسنتهم معناه أن يعمدوا إلى اللفظة فيحرّفونها في حركات الإعراب تحريفاً يتغير به المعنى، وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية . قال الرازي: كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس؟ الجواب: لعله صدر هذا العمل عن نفرٍ قليل. إلى أن قال: ولكن الأصوب هو أن الآيات الدالة على نبوة محمد كان يُحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب، والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوّشة والاعتراضات المظلمة، فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين. واليهود كانوا يقولون مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم، فكان هذا المراد بالتحريف وبِلَيّ الألسنة، وهذا مثل ما أن المُحِق في زماننا إذا استدلّ بآية من كتاب الله، فالمبطِل يورد عليه الأسئلة والشبهات، ويقول: ليس مراد الله ما ذكرت. فكذا في هذه الصورة (الرازي في تفسيره لآل عمران 3: 78).

وقال في محل آخر: التحريف يحتمل التأويل الباطل، ويحتمل تغيير اللفظ. وقد بيّنا في ما تقدَّم أن الأول أوْلَى، لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتَّى تغيير اللفظ، فكل عاقل يرى أن تغيير الكتاب المقدس كان متعذراً لأنه كان متداولاً بين أناس كثيرين مختلفي المِلل والنحل، فكان في أيدي اليهود الذين كانوا مشتَّتين في أنحاء الدنيا، بل كان منتشراً بين المسيحيين في أقاصي الأرض. فلو فُرض أن اليهود الذين كانوا في بلاد العرب غيّروا شيئاً من أقوال الله، لقاومهم باقي اليهود، بل كان المسيحيون يتصدّون لهم بالتشنيع والتقريع. ولكن لم يحصل شيء من هذا. ومع ذلك فلا ينكر أن اليهود كانوا يمتحنون محمداً ويخفون أحكام شريعتهم عليه ليروا إذا كان عارفاً أو جاهلاً بها، والدليل على ذلك ما رواه المفسرون، وهو أن شريفاً من يهود خيبر زنى بشريفة، وكانا محصَّنين، فكرهوا رجمهما، فأرسلوهما إلى محمد، ووضعوا له وسادة فجلس عليها، ثم قال: ائتوني بالتوراة فأُتي بها، فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال: آمنت بك وبمن أنزلك . ثم قال: ائتوني بأعلمكم فأُتي بشاب قال محمد له: أنشدك الله الذي لا إله إلا هو، الذي فلق البحر لموسى، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكم وأغرق آل فرعون، والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ قال: نعم . فأمر محمد بالزانيين فرُجما عند باب المسجد. وفي رواية أنهم لما حكّموا محمداً دعاهم بالتوراة، وجلس حَبْرٌ منهم يتلوها، وقد وضع يده على آية الرجم، فضرب عبد الله بن سلام يد الحَبْر، ثم قال: هذه يا نبي الله آية الرجم، يأبى أن يتلوها عليك. فقال لهم محمد: وَيْحكم يا معشر اليهود! ما دعاكم إلى تَرْك حكم الله وهو في أيديكم؟ وقال محمد: فأنا أول من أحيي أمر الله وكتابه وأعمل به، ثم أمر بهما فرُجما عند باب المسجد (ابن كثير في تفسيره للمائدة 5: 43 ، وسنن أبي داود حديث رقم 4449).

فمن هنا يُرى أن القارئ أخفى بيده شريعة الرَّجْم المدوَّنة في التوراة (لاويين 20: 2 10 وتثنية 22: 23 ، 24) ولكنه لم يقل إن تلك العبارة كانت مشطوبة أو محذوفة من التوراة، ونحن نعرف أنها باقية إلى يومنا هذا.

فينتج مما تقدَّم أنه: (1) لم يجسر أحد على تحريف الكتاب المقدس أو تغييره، بل حافظ عليه أهل الكتاب وكانوا يتباهون به، وإنما كانوا يُلبسون بعض الحقائق على محمد، أو يكتمونها، أو يفسرونها حسب أغراضهم في أثناء مجادلاتهم أو امتحانهم له، كما يُعلَم ذلك من أسباب النزول الذي ألَّفه الواحدي أو السيوطي. (2) لم يقُل محمد ولا غيره إن الكتاب المقدس ضاع أو فُقِد أو تغيَّر، والدليل على ذلك أن محمداً وضع التوراة على الوسادة، وقال لها: آمنت بك وبمن أنزلك . وهذا يعني وجود توراة شهد محمد بسلطانها وبصحّة ما جاء بها.

الصفحة
  • عدد الزيارات: 14592