Skip to main content

البيئة وفِقه الأقلية

الصفحة 1 من 3

الفصل الرابع: البيئة وفِقه الأقلية


ينبغي عند دراسة تاريخ الدولة الإسلامية التي أقامها محمد في المدينة بعد الهجرة، أن نميّز بين مرحلتين مرَّت بهما الدعوة الإسلامية لقيام مجتمعٍ قائمٍ على تعاليم الإسلام هما: المرحلة المكية، والتي استمرت ثلاثة عشر عاماً، والمرحلة المدنيّة والتي بدأت عقب الهجرة إليها وحتى وفاة محمد.

عندما أراد محمد أن يُقيم دولته الإسلامية وأن يُطبّق شريعته التي أعلن أنها مُنزَلةٌ عليه من السماء - وكان حينئذ في مكة، حيث الأقلية الإسلامية وسط الأغلبية الجاهلية - وضع في اعتباره أمرين:

إنه في بيئة غير مواتية، ولا تصلح لتطبيق قوانين شريعته.

إنه لا يمتلك السلطة في هذا المجتمع المكي، والتي تؤهّله لتغيير المجتمع بالقوة، وفرض شريعته أو تطبيقها تطبيقاً فورياً.

وكان لوضوح هذين الأمرين عند محمد أثر بالغ في توجيه المسار الحركي لدعوته الإسلامية، يتضح فيما يلي:

لم يفرض محمدٌ على أتباعه الجدد أي شرائع أو قوانين تنظم حياتهم الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية.

لم يلزم أتباعه بمنهج أخلاقي جديد كالذي سيفرضه عليهم في المدينة، بعد توفير البيئة المناسبة لها.

لم يأمر أتباعه بأكثر من استيعاب عقيدة التوحيد والدعوة إليها، والصبر على الابتلاء الناجم عن ذلك. مجرد دراسة واستيعاب، لم يترتب عليهما أي تطبيق فعلي لمتطلباتهما.

أمر أتباعه بالالتزام بالعادات والتقاليد الحسنة الموجودة في المجتمع المكي.

فلا اندهاش حين نسمع أن أتباع محمد (الصحابة) في المجتمع المكي - وهم المسلمون الأوائل - شاركوا المجتمع كل معاصيه، فكانوا (وفيهم أميرهم محمد) يشربون الخمر، ويلعبون الميسر، دون أن يحسّوا أن هناك تناقضاً بين سلوكهم وبين العقيدة الجديدة التي أُمروا بدراستها والإيمان بها، ما داموا في بيئةٍ لا تسمح لهم بالترفّع والسمو. ذكر ابن الجوزي في كتابه "زاد المسير": "أنزل الله تعالى في الخمر أربع آيات: نزل بمكة قوله: "وَمِنْ ثَمَرَاتِ ا لنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً" (النحل 16: 67). فكان المسلمون يشربون الخمر في أول الإسلام وهي لهم حلال. ثم نزل (بالمدينة) قوله: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" (البقرة 2: 219) فتركها قومٌ لقوله: قل فيهما إثم كبير وشربها آخرون لقوله: ومنافع للناس !

ثم أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً ودعا إليه ناساً من أصحاب محمد فأطعمهم وسقاهم الخمر. فلما حضرت صلاة المغرب قدّموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون.. أعبد ما تعبدون أي حذف "لا" فنزل قوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون" (النساء 4: 43). فحرّم الله السكر في أوقات الصلاة، فكان الرجل يشرب الخمر بعد صلاة العِشاء فيصبح وقد زال سكره. ثم أن عُتبان بن مالك صنع طعاماً، ودعا إليه رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، فافتخروا، وتناشدوا الأشعار. فأنشد بعضهم قصيدة فيها افتخر قومه وهجا الأنصار. فأخذ رجلٌ من الأنصار لحي بعير فضرب به رأس سعد فشجَّه، فانطلق سعد إلى محمد يشكو الأنصار. فأنزل الله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ" (المائدة 5: 90). إلى قوله "فهل أنتم منتهون" فقال عمر بن الخطاب: "انتهينا ربنا انتهينا".

كان المسلمون الأولون، وأميرهم محمد، يتاجرون في الخمور
الصفحة
  • عدد الزيارات: 7106