Skip to main content

أبناء الله

الفصل السابع عشر: أبناء الله

"أنا قلت إنكم آلهة وأبناء العلي كلكم!" هكذا يقول المزمور الثاني والثمانون. ولابد من وقفة نتذكر فيها أبا العلاء المعري عندما قال:

لا تقيد على لفظي فإني مثل غيري - تكلُّمي بالمجاز

ومن المجاز إطلاق الجزء على الكل، وعلى هذا التأويل نفهم أن الجانب الإلهي في الإنسان، هو أسمى ما فيه ولباب جوهره المكنون، وهو المبرر أن يُقال عن الناس إنهم آلهة على سبيل التذكرة بما ينبغي أن يرتفعوا إليه، إذ يكونون ربانيين، وإن هذه حقيقتهم الخالدة لا بشريّتهم الفانية، لأنه على صورة أزليته صنعهم.

وفي حسباني أن اللغة لو طاوعت كاتب ذلك المزمور وكان يكتبه بالعربية لكانت كلمة الربانيين أو الإلهيين أسبق إلى قلمه من كلمة الآلهة ولو على سبيل ما سُقناه مِن تأويلٍ بالمجاز.

لنقل إذاً إن المطلوب من البشر أن يرتفعوا إلى سمّوِ مصدرهم، ويكتشفوا حقيقتهم: إنهم إلهيون، وأبناء الله العلي بالروح الباقي لا بالجسم الزائل الفاسد المندثر.

والإلهي الحق هو من يتشبَّه بالله. والابن الحقُّ هو مَن يحاكي أباه. فأبناء الله إذاً ينبغي أن يكونوا كاملين كما أن الله كامل.

هذا هو تعليم الكتاب. وهذه هي وصية الكتاب . وتلك هي ميزة الكتاب . هاهو يوحنا الحبيب في رسالته الأولى يصيح بما عُهد فيه من حمية وحماسة، حتى لقد سمّاه السيد المسيح "ابن الرعد ": "كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ اللّهِ لَا يَفْعَلُ خَطِيَّةً، لِأَنَّ زَرْعَهُ يَثْبُتُ فِيهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ لِأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ اللّهِ. بِه ذَا أَوْلَادُ اللّهِ ظَاهِرُونَ وَأَوْلَادُ إِبْلِيسَ كُلُّ مَنْ لَا يَفْعَلُ الْبِرَّ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ" (1يوحنا 3: 9، 10). ولا عجب، فالمسيح نفسه قال في موعظة الجبل: "كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ" (متى 5: 48). ولما كان الله محبة - كما يعلِّمنا الكتاب - فأبناء الله الحقيقيون ينبغي أن تكون المحبة فطرتهم، للجميع بلا استثناء. نعم بلا استثناءٍ لمَن أراد أن يكون مولوداً من الله. هذا هو تعليم الكتاب. أَلاَ تقول الوصية الثانية من وصايا الناموس: "أحب قريبك حبك لنفسك"؟ (متى 22: 37). وهاهو المسيح يقول في موعظة الجبل: "سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: ‘تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُعَدُّوَكَ’. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: ‘أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوالَاعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الْأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الْأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ، لِأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هكَذَا؟!" (متى 5: 43-47).

الخاطئون أنفسهم يحبّون من يحبّهم وإن أحسنتم إلى من يحسن إليكم، فأي فضلٍ لكم؟ الخطاة أنفسهم يفعلون ذلك.. ولكن أحبوا أعداءكم، وأحسنوا وأَقرِضوا غير راجين شيئاً، فيكون أجركم عظيماً وتكونوا أبناء العلي حقاً، لأنه يجود على الجاحدين والأشرار. كونوا رحماء لأن أباكم رحيم!.

الله رب الجميع بلا استثناء وأب الجميع وكافلهم بلا استثناء. فالجميع إخوتك في الله بلا استثناء، العدو منهم والصديق. وليس من الله من لا يحب أخاه (1يوحنا 3: 10).

وعلى هذا النسق المتَّسق المتكامل تمضي فقرات رسالة يوحنا الأولى كنهرٍ من التِّبر، تتحدث عن المحبة الشاملة التي بها يصير الناس أبناء الله حقاً، لأنه سبحانه محبة.

وإذا ألقينا نظرة على وصايا الشريعة العشر، وجدنا وصايا الله وإكرام الوالدين ومحبة القريب هي وحدها الإيجابية، وبقية الوصايا سلبية: سلسلة من النواهي، كل وصية منها تبدأ بلا الناهية لا تقتل. لا تزن. لا تسرق )خروج 20: 13-15


وبرسالة المحبة المسيحية صار الأساس مختلفاً. لم تعُد شريعة موسى كافية، بل المطلوب شيء أعظم من طاعة الشريعة بكثير. المطلوب منك نفسك كلها - هذا ما يعلمنا الكتاب - لا أفعالاً محددة، أو طقوساً، أو اجتناب محرمات فحسب، فكل الفضائل من غير المحبة لغو!

هكذا حرِص بولس الرسول في الأصحاح الثالث عشر مِن رسالته الأولى إلى كورنثوس أن ينبّه المؤمنين بالمسيحية إلى المحبة، كي يفطن إليها من أُوتوا ذلك اللمح العقلي والروحي، فيقول: تشّوَقوا إلى المواهب العظمى، وإني أدلّكم على أفضل الطريق الأفضل: لو تكلَّمتُ بلغات الناس والملائكة، ولم تكن لديَّ محبة، فما أنا إلا نحاس يطن وصنج يرن .

بل يمضي بولس إلى ما هو أكثر من هذا. يمضي إلى النبوة نفسها وإلى الإيمان الكامل، فيقول إنها ليست شيئاً بغير المحبة! ولو وُهبَت لي النبوة، وكنتُ عالماً بجميع الأسرار، عارفاً كل شيء، ولي الإيمان الكامل أنقل به الجبال، ولم تكن لي المحبة، فما أنا بشيء! .

فإذا سألت الرسول بولس: ما هذه المحبة التي عنها تتكلم وفيها تُطنب؟ فلا يجد الرسول تعريفاً لِما هو بديهي بسيط، فيعرِّف المحبة بنفسها! فحسبك أن تقول للبصير النور حتى يدرك ما تعني، لأن لديه خِبرةٍ مباشِرةً بالنور! أما مَن تقول له النور فيسألك ما هو؟ فلا حاجة بك إلى أكثر من هذا الجواب لتعرف أنه كفيف، فتلجأ إلى الشرح، لعله يفهم شيئاً مما تعني. وهذا ما لجأ إليه الرسول بولس في شرح رائع: الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ، الْمَحَبَّةُ لَا تَحْسِدُ. اَلْمَحَبَّةُ لَا تَتَفَاخَرُ، وَلَا تَنْتَفِخُ، وَلَا تُقَبِّحُ، وَلَا تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلَا تَحْتَدُّ، وَلَا تَظُنُّ السُّؤَ، وَلَا تَفْرَحُ بِالْإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ. وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. اَلْمَحَبَّةُ لَا تَسْقُطُ أَبَداً" (1كورنثوس 13: 1-8).

هذه تعريفات بالصفات لا بالذات، وبالعرض لا بالجوهر. وإذ يكلم الرسول بولس مؤمنين استناروا بروح الله، لا يتردد في أن يقول لهم: الإيمان والرجاء والمحبة هي الثلاثة الباقية (وما عداها زائل). وبحسم قاطع يردف بقوله: وأعظمها المحبة! فاطلبوا المحبة وتشوَّقوا بعد ذلك إلى المواهب الروحية. وهو موقف يستأهل أن نتريَّث عنده. ذلك أن الذين لم يوهبوا نعمة المحبة، أي الذين لم تصبح المحبةُ طبيعتَهم الجديدة في المسيح، أشبه بمن ليست لهم أذن موسيقية . قد يرون أن تعلُّم الموسيقى مما يجدر بهم، فيقضون ليلهم ونهارهم في التدريب على العزف. ولكن مهما فعلوا لن يكون ما يخرج منهم فن، لأن الفن عطيةٌ إلهية وسليقةٌ طبيعية وحسٌ صادق.

إن أقصى ما يقدر عليه هؤلاء هو الاجتهاد، ولكنهم في ضلال إن حسبوا ذلك أن يُوصّلهم إلى شيء بغير الموهبة الأصلية. وقصاراه أن يخلق قيمة مزيَّفة وبِرّاً مصنوعاً، له من البر مجرد مظهره وحَرْفه، ولكن ليس له جوهره وروحه! مثل هؤلاء يدورون في فلك الحرف . والحرف يُميت، ولكن الروح يُحيي كما يعلّمنا الكتاب (2 كورنثوس 3: 6). ومن قصاراهم أن يدوروا في فلك الحرف أي ظاهر أعمال البر التي توصف لهم، فيجتهدون في تنفيذ الشريعة، أي شريعة تحدد لهم أفعالاً محمودة يطيعونها لأنها أوامر وزواجر. ولذا نجد بولس الرسول لا يتردد في تلويم الشريعة التي هي أمر وزجر ليس غير، فيقول إنها: خدمة الموت المنقوشة حروفها في حجارة (2 كورنثوس 3: 7) والناس بهذه العقلية المظهرية، وبأفعالٍ تصدر عن خوف لا عن محبة قد يفهمون تعاليم البر فهماً حرفياً سطحياً، فالسيد المسيح يقول لغنيٍّ يريد أن ينجو بنفسه: إذا أردتَ أن تكون كاملاً فاذهب بِعْ ما تملكه وتصدَّق بثمنه على الفقراء، فيكون لك كنزٌ في السماء، وتعال اتبعني . فاستصعبَ الشاب النصيحة، فقال المسيح له: الحق أقول لكم: يعسُر على المتّكل على الغِنَى أن يدخل ملكوت السموات. وأقول لكم: لئن يدخل الجمل في سم الخياط أيسر من أن يدخل الغني ملكوت السموات (مرقس 10: 17-27).

فما تراهم يفعلون بفهمهم الحرفي؟ قصاراهم أن يقسموا أموالهم بين الفقراء، يظنون أن ذلك العمل بِحدّ ذاته بِرٌّ ولكن بولس الرسول يصيح لهم محذّراً مخيّباً آمالهم: وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَل كِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَا أَنْتَفِعُ شَيْئاً (1كورنثوس 13: 3).

أيعني ذلك أن الفعل بذاته ليس شيئاً؟ بلى!

لا قيمة للثمرة إلا أن تكون طبيعية، أي نتيجة نمو طبيعي من بذرةٍ في جوف الثرى أنبتت ساقاً وأوراقاً وزهراً فثمراً. الباعث هو الأساس، ولا بناء بغير أساس. إن الثمر الصالح هو الذي تؤتيه شجرةٌ حية، من شأنها أن تثمر مثل ذلك الثمر باضطراد.

إن العمل الصادر عن النفس، قيمته أنه تعبير عن مدلولٍ باطن وفطرةٍ نبيلة، وليست قيمته في ذاته. وبذلك ترتدُّ القيمة إلى موضعها الصحيح. إنها للإنسان، لا للفعل الجامد المقطوع عن بواعثه.

فما أكبر الفرق بين فعلٍ لا يصدر عن باعثٍ حي وشعورٍ جيّاش، وبين فعلٍ تدعو إليه النفس وتجد تحقيقها وراحتها فيه. وكل قيمة للفعل بغير الباعث السماوي هي ظاهرةٌ صوتيّة وعلى ذلك تكون هباءً وغباراً. وإن تكن مقصودة فهي نفاقٌ ورياء! هذا ما يقدمه ويعلّمه الكتاب .

ويدخل في عِداد البِرّ المزيَّف أو الخير الميّت غير النابع مِن تطّوُع النفس المُحِبَّة، ذلك النمط مِن الفضيلة الذي يستحق اسم الفضيلة المأجورة طمعاً في ثواب أو رهبةً مِن عقاب. وحيث يكون الفعل غير خالص لوجه الخير لا يكون الفاعل إلا عبداً يسلك سلوك العبيد، يغريه الطمع، ويردّه الفزع. يحيا في خوف من النقمة أو من فوات النعمة. لهذا يقول الكتاب في معرض الحديث عن الشريعة إنها خدمة الموت المنقوشة حروفها على حجارة . أما عن النعمة فيقول: لا خوفَ في المحبة، بل المحبة الكاملة تنفي الخوف، لأن الخوف يعني العقاب، ومن يخَفْ لم يكن كاملاً في المحبة (1يوحنا 4: 18)

ولا عجب! فالخوف من صفات العبيد وأما المحبة فمن صفات الأبناء.


إن تعليم الكتاب عن الحب والمحبة ليس سهلاً ولا قريب المنال لمن أراده، بل هو في جملته ثمرة جهدٍ وعرقٍ، ورياضةٌ روحية، تبدأ كما قلتُ بذرةً في جوف الأرض، ثم تنمو شيئاً فشيئاً حتى تظهر الثمرة الطيبة. وعندما طالعت الكتاب مؤمناً به، ثقُل عليَّ هذا التعليم السامق، وأحسست بثقله عندما أردت أن أواجه به الحياة، فكيف أحب من عاداني، وأصلّي من أجل الذي يبغضني، وأبذل صفحاً مسامحاً لمن يضطهدني؟ إنها آداب أكبر من طاقاتي ونفسي، وما رُبِّيتُ عليه. الحق أقول إني واجهت مأزقاً صعباً وعر الطريق.

وكانت مفارقة غريبة إذ أني - وبعد أن قبلت المسيح مخلِّصاً لحياتي - كنت أتحدث مع بعض الأساتذة الأفاضل الذين تولّوا تربيتي الدينية السابقة، وكنت أتحدَّث إليهم وأنا أُكِنّ لهم حقداً وكراهية لا حدَّ لهما، لأني كنت أحسُّ بداخلي أنهم هم المضلِّلون الذين كادوا يُلْقون بي في حلبة الجحيم ويحجبون عني نور السماء. حاولتُ أن أهدم قاعدتهم، وأحطم بنيانهم، وأدمّر أساساتهم، وأنا أوهم نفسي أني بذلك أُرشدهم إلى الحق الذي أُبلِغْتُه. لكني في واقع الأمر كنت أنتقم لنفسي وآخذ منهم قصاصي. وفي ليلةِ تحّوُلٍ روحيٍّ حقيقي في حياتي عُدت إلى منزلي بعد مناقشةٍ مع أحد أئمتي السابقين، طالت ساعات، أخذت الكتاب وبدأت أقرأ. وإذا بالرب يكلّمني على لسان بولس الرسول تارة، ويوحنا الحبيب تارةً أخرى، وأنا أقلّب صفحات الكتاب، فلا أجد سوى توجيه التوبيخ واللوم والإدانة لموقفي هذا. كانت كل كلمة من الكتاب تقول لي: لا! ليست هذه هي المسيحية. أنت مخطئ. أنت بحاجة إلى "السلوك في جِدَّة الحياة" (رومية 6: 4). وتعجبت! ألم أتجدَّد بعد؟ لقد آمنتُ بأُلوهيّة المسيح وبنوّته لله وصلبه وقيامته، كما أني أتوقّع بشوقٍ مجيئه ثانيةً. وأنا أمارس الفضائل المسيحية بقدر ما أعرف. وهل المسيحية أو غيرها إلا كذلك: إيمان وعمل؟ وهنا أجابني المسيح: نعم لقد تجددتَ يوم فتحتَ لي قلبك فصرتَ خليقةً جديدة. لكنك تحتاج أن تتجدّد كل يوم لتكون على صورة محبتي لك. وأنت تحتاج أن تعبِّر عن محبتي للجميع، كما أحبك أنا . ثم علَّمني مرة أخرى بلسان الرسول بولس في أصحاح المحبة: "وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ الْإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ، وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَسْتُ شَيْئاً، وَإِنْأَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَا أَنْتَفِعُ شَيْئاً" (1كورنثوس 13: 2، 3).

وعندما انتهيت من القراءة أحسسْتُ بالحاجة إلى تلك الحياة التي رسمها سيدي في كتابه. لكني شعرتُ بالثّقل والبُعد. واتجهتُ إليه في صلاة. طلبت العون والغوث طلبت منه أن يعينني ويساعدني لأصل إلى حياة الكمال التي وصفها في كتابه. لقد سلَّمت لسيدي في تلك الليلة عرش حياتي يتصرف فيَّ كيف يشاء. أعطيته السلطان فإذ بي أجد أن الحياة المسيحية التي أراها مستحيلة صعبة لا يحياها إلا الآلهة، أو أبناء الآلهة، يحياها المسيح فيَّ ومِن خلالي. ومِن هنا علمتُ أن المسألة لا تتوقف على ما أفعله أنا، بل على ما يفعله سيدي، لأنه يعطي القوة، ونحن الآلات التي تنطلق فيها تلك القوة، وهنا تحقق معي اختبار الرسول بولس: مَعَ ا لْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لَا أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الْآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الْإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللّهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِي" (غلاطية 2: 20).

تعلمت أن تجديد الحياة لا يعني إدخال بعض الأعمال الصالحة أو النيَّات الحسنة وسط جملةٍ من العادات والأخلاق السيئة، فهذا الخلط لا ينشئ به المرء مستقبلاً حميداً ولا مسلكاً مجيداً، ولا يدل على كمالٍ أو قبول، فإن القلوب المتحجِّرة قد تَرْشح بالخير، والأصابع البخيلة قد تتحرك بالعطاء ولا يُسمَّى ذلك اهتداءً. إنما الاهتداء هو حياةٌ تجدَّدت بعد بلى، ونقلةٌ حاسمة غيّرت معالم النفس كما تتغيَّر الأرض الموات المقفرة وقد هطلت عليها أمطارُ السماء.

  • أنشأ بتاريخ .
  • عدد الزيارات: 7488