Skip to main content

هذا الكتاب - السلام

الصفحة 2 من 6: السلام

 

بسم الله الرحمن الرحيم

افتتحت كتابي إليك بالسلام عليك والرحمة، تشبُّهاً بسيدي وسيد الأنبياء محمد رسول الله (ص) فإن ثقاتنا رووا لنا عنه أن هذه كانت عادته، وأنه كان إذا افتتح كلامه مع الناس يبادئهم بالسلام والرحمة في مخاطبته إياهم، ولا يفرّق بين الذمّي منهم والأمي، ولا بين المؤمن والمشرك. وكان يقول إني بُعثت بحُسن الخلق إلى الناس كافة، ولم أُبعث بالغِلظة والفظاظة. ويستشهد الله على ذلك إذ يقول بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (سورة التوبة 9:128). وكذلك رأيتُ من حضَرْتُه من أئمتنا الخلفاء الراشدين يتتبعون أثر نبيِّهم ولا يفرِّقون في ذلك ولا يفضّلون فيه أحداً. فسلكتُ ذلك المنهج. والذي حملني إليك وحثَّني على ذلك محبتي لك، إذ كان سيدي ونبيي محمد يقول: محبة القريب ديانة وإيمان . فكتبتُ طاعةً له، ولِما أوجبه لك عندنا حق خدمتك لنا ونُصحك إيانا، وما أنت عليه من محبتنا، وما أرى أيضاً من إكرام سيدي وابن عمي أمير المؤمنين لك وتقريبه إياك وثقته بك وحسن قوله فيك، فرأيت أن أرضَى لك ما قد رضيته لنفسي وأهلي ووالديَّ، مخلصاً لك النصيحة وباذلها، كاشفاً عما نحن عليه من ديانتنا هذه التي ارتضاها الله لنا ولجميع خلقه، ووعدنا عليها حسن الثواب في المعاد والأمن من العقاب في المآب، إذ يقول تبارك وتعالى مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً (سورة البقرة 2:135) والَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (سورة الزخرف 43:69) ومَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (سورة آل عمران 3:67). فرغبت لك ما رغبت فيه لنفسي، وأشفقت عليك لما ظهر لي من كثرة أدبك وبارع علمك وتقدّمك على الكثير من أهل ملّتك أن تكون مقيماً على ما أنت عليه من ديانتك هذه. فقلت: اكشف له عما منَّ الله به علينا، وأعرّفه ما نحن عليه، بأَلْيَن القول وأحسنه، متَّبعاً في ذلك ما أذنني الله به إذ يأمرني: وَلاَ تَجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (سورة العنكبوت 29:46). فلست أجادلك إلا بالجميل من الكلام والحسن من القول والليّن من اللفظ، لعلك تنتبه وترجع إلى الحق وترغب في ما أتلوه عليك من كلام الله جل جلاله الذي أنزله على خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم نبينا محمد. ولم أيئس من ذلك، بل رجوته لك من الله الذي يهدي من يشاء، وسألته أن يجعلني سبباً في ذلك، ووجدت الله يقول في كتابه إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ (سورة آل عمران 3:19) ويقول الله أيضاً مؤكداً وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (سورة آل عمران 3:85) ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (سورة آل عمران 3:102).

وأنت تعلم أني رجل أتت عليَّ سنون كثيرة وقد تبحَّرْتُ في عامة الأديان وامتحنتها، وقرأت كثيراً من كتب أهلها وخاصة كتبكم معشر النصارى، فإني عُنيت بقراءة الكتب العتيقة والحديثة التي أنزلها الله على موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام. فأما الكتب العتيقة التي هي التوراة، وكتاب يشوع بن نون، وسفر القضاة، وسفر صموئيل النبي، وسفر الملوك، وزبور داود النبي، وحكمة سليمان بن داود، وكتاب أيوب الصدّيق، وكتاب إشعياء النبي، وكتاب الإثني عشر نبياً، وكتاب إرميا النبي، وكتاب حزقيال النبي، وكتاب دانيال النبي فهذه هي الكتب العتيقة.

فأما الكتب الحديثة فأولها الإنجيل وهو أربعة أجزاء، الأول منها بشارة متى العشار، والثاني بشارة مرقس ابن أخت سمعان المعروف بالصفا، والثالث بشارة لوقا المطبّب، والرابع بشارة يوحنا بن زبدي. فهذه أربعة أجزاء، منها بشارة رجلين من الحواريين الإثني عشر الذين كانوا ملازمين المسيح، هما متى ويوحنا، وبشارة رجلين من الحواريين السبعين الذين كانوا للمسيح، وبعثهم إلى الأمم دُعاةً له وهما مرقس ولوقا. ثم كتاب قصص الحواريين وأحاديثهم وأخبارهم من بعد ارتفاع المسيح إلى السماء الذي كتبه لوقا، ورسائل بولس الأربع عشرة. فهذه كلها قد قرأتها ودرستها وناظرت فيها تيموثاوس الجاثليق، الذي له فيكم فضل الرئاسة والعلم والعقل. وناظرتُ فيها من أهل فِرقَكم هذه الثلاث التي هي ظاهرة، أعني الملكية القابلين مركيانوس الملك على عهد الشقاق الواقع بين نسطوريوس وكيرلس، وهم الروم. واليعقوبية القائلين بمقالة كيرلس الإسكندري ويعقوب البردعاني وساويرس صاحب كرسي أنطاكية. والنسطورية أصحابك، وهم أقرب وأشبه بأقاويل المنصفين من أهل الكلام والنظر وأكثرهم ميلاً إلى قولنا معشر المسلمين، وهم الذين حمد نبينا (صلى الله عليه وسلم (؟ !)) أمرهم ومدحهم وأعطاهم العهود والمواثيق، وجعل لهم من الذمة في عنقه وأعناق أصحابه ما جعل وكتب لهم في ذلك الكتب وسجل لهم السجلات، وأكد أمرهم عندما صاروا إليه حين أفُضي الأمر إليه واستوثق له، فأتوه وتحرموا بحرمته وذكروه بمعونتهم إياه على إعلان أمره وإظهار دعوته. وذلك أن الرهبان كانوا يبشرونه ويخبرونه قبل نزول الوحي عليه بما مكن الله له وصار إليه. فلذلك كان يُكثر توادّه لهم وإطالة محادثتهم، ويُرَى كثيراً عندهم مخاطباً لهم في تردّده إلى الشام وغيرها. وكان الرهبان وأصحاب الأديرة يكرمونه ويجلّونه طوعاً ويخبرون أصحابهم بما يريد الله أن يرفع من أمره ويعلن من ذكره، وكانت النصارى تميل إليه وتخبره بمكيدة اليهود ومشركي قريش وما يبتغونه له من الشرّ، مع مودتهم له وإجلالهم إياه وأصحابه. فعند ذلك نزل الوحي على نبينا عليه السلام، وشهد الله لهم في القرآن قائلاً: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا (يعني مشركي قريش) وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (سورة المائدة 5:82). وعرف النبي عليه السلام بما أُنزل عليه من الوحي صحة ضمائرهم ونياتهم، وأنهم أصحاب المسيح حقاً السائرون بسيرته الآخذون بسننه، إذ كانوا لا يقبلون القتال ولا يستحلّون المال ولا يغشّون أحداً ولا يريدون بالناس سوءاً ولا مكروهاً، وأنهم طالبو السلامة ولا يصرّون على حقدٍ ولا عداوة. فأعطاهم نبينا لذلك ما أعطاهم من العهود والمواثيق، وجعل لهم من الذمة في رقبته ورقاب أصحابه، ووصَّى بهم تلك الوصية عندما أطلعه الله على ما أطلعه عليه من أمرهم وبراءة ساحتهم. فنحن مقرُّون بذلك غير جاحدين ولا منكرين، وناظرون لهذا الفعل وآخذون بهذه السُنَّة وقابلون لهذه الوصية وموجبون هذا الحق على أنفسنا.

ولقيتُ جماعةً من الرهبان المعروفين بشدة الزهد وكثرة العلم، ودخلتُ كنائس وأديرة كثيرة وحضرت صلواتهم تلك الطوال السبع التي يسمّونها صلوات الأوقات، وهي صلاة الليل، وصلاة الغداة، وصلاة الثالثة التي هي صلاة السَحَر، وصلاة نصف النهار أعني صلاة الظهر، وصلاة التاسعة التي هي قريبة من وقت العصر والعِشاء، وصلاة الشفع وهي صلاة العِشاء المفروضة، وصلاة النوم التي يصلّونها قبل أخذهم مضاجعهم. ورأيت ذلك الاجتهاد العجيب والركوع والسجود بإلصاق الخدود بالأرض وضرب الجبهة والتكتُّف إلى انقضاء صلواتهم، خاصة في ليالي الآحاد وليالي الجُمَع وليالي الأعياد التي يسهرون فيها منتصبي الأرجل بالتسبيح والتقديس والتهليل الليل كله، ويصلّون ذلك بالقيام نهارهم أجمع، ويكثرون في صلواتهم ذكر الآب والابن والروح القدس، وأيام الاعتكاف التي يسمونها أيام البواعيث (صلوات الاستمطار) وقيامهم فيها حفاة على المسوح والرماد باكين بكاءً كثيراً متواتراً بانهمال دموع من الأعين والجفون منتحبين بسحق عجيب. ورأيت عملهم القربان، كيف يحفظونه بالنظافة في خَبْزهم إياه ودعائهم عند عمله الدعاء الطويل مع التضرع الشديد عند إصعاده على المذبح في البيت المعروف ببيت المقدس مع تلك الكؤوس المملوءة خمراً. ورأيت أيضاً ما يتدبر به الرهبان في قلاليهم أيام صياماتهم الستة، أعني الأربعة الكبار والاثنين الصغيرين، وغير ذلك. فهذا كله كنت له حاضراً ولأهله مشاهداً وبه عارفاً عالماً.

ورأيت أيضاً مطارنة وأساقفة مذكورين بحُسن المعرفة وكثرة العلم، مشهورين بشدة الإغراق في الديانة النصرانية، مظهرين غاية الزهد في الدنيا. فناظرتُهم مناظرةً نصفة طالباً للحق، مسقِطاً بيني وبينهم اللجاج والمكابرة والصلف بالحسب، وأوْسعتُهم أمناً أن يقوموا بحجّتهم ويتكلموا بجميع ما يريدونه، غير مؤاخذٍ لهم بذلك ولا متعنّت عليهم في شيء كمناظرة الرعاع والجهال والسفهاء من أهل ديانتنا، الذين لا أصل لهم ينتهون إليه ولا عقل فيهم يعولون عليه، ولا دين ولا أخلاق تحجبهم عن سوء الأدب، وإنما كلامهم العنَت والمكابرة والمغالبة بسلطان الدولة بغير علم ولا حجة. وكانوا إذا أنا ناظرتُهم وسألتُهم مسألة بحث فاحصاً عن قولهم، وكانوا لشدة ورعهم ودعتهم واعتقادهم يصدقونني عن أمرهم ولا يكذبونني في شيء مما كنت أسائلهم عنه وأجادلهم فيه. وكنت قد عرفت من بواطنهم مثل الذي قد عرفته من ظاهرهم، فكتبت إليك بهذا الشرح بعد الاستقصاء والبحث، ليعلم من وقع في يده كتابي هذا أني عالم بالقضية.

الدعوة إلى الإسلام
الصفحة
  • عدد الزيارات: 11260