Skip to main content

مقدمة

حمداً وشكراً للواحد البار العزيز القهار ملك الملوك ورب الأرباب الأبدي الغير متغير الساكن في نور لا يُقترب إليه الذي لم يُر ولن يرى له القوة والمجد إلى الأبد آمين.
أما بعد، فإن الله تعالى الموجود في كل مكان الغير منظور الأبدي الكامل الحكيم القدوس القادر الجواد قد أعلن نفسه لعبيده أبناء البشر وتنازل من رحمته وحبه العظيمين أن يقترب منهم رغبة في إرشادهم إليه تعالى. فأرسل إليهم أنبياءه وبواسطتهم وهب العالم كلامه المقدس.

فمن أهم الأمور الضرورية في العالم لأولئك الذين يفتشون عن الحق ويودون أن يقتربوا من الله هو أن يعرفوا أنبياءه ليتوصلوا إلى معرفته تعالى بمطالعة كلمته التي استودعها أنبيائه. إذ أن سعادة الإنسان الحقيقية تتوقف على معرفة الإنسان لخالقه ولكن لا يمكن لأحد أن يعرف الله الغير منظور الذي يفوق تصوراتنا ولا تدركه عقولنا القاصرة إلا بواسطة إعلان الله عن نفسه. وإعلانه بواسطة أنبيائه متضمن في العهدين القديم والجديد.
إن الرب يسوع هو أعظم الأنبياء بل أعظم من نبي كما سنبين ذلك قريباً. وعلى كل إنسان يريد معرفة الله ويفتش عن الحق أن يجهد نفسه لمعرفة المسيح ولفهم ذاته الحقيقية ومقامه وجلاله وإذا وجد أثناء بحثه مساعدة لفهم هذه الحقائق فلا شك أن قلبه يطفح شكراً وسروراً.
لذلك كان غرض هذا الكتاب بمعونة الله مساعدة إخواننا المسلمين الذين لهم شديد الاشتياق لمعرفة الحق.
إن كاتب هذه الكلمات يعرف حق المعرفة أنه يوجد كثيرون من إخواننا المسلمين يعرفون قليلاً عن يسوع ويقولون أنهم يؤمنون به ولكن ظهر مما جاء في كتبهم ومن المحادثات الكثيرة معهم إن معرفتهم عنه ناقصة واحترامهم له ليس كما يجب.
إن إخواننا المسلمين يعتبرون المسيح نبياً كغيره من الأنبياء ويعتبرونه أحد الستة المرسلين أولي العزم الذين أتوا بوحي جديد ويعطون له ألقاباً أعظم مما يعطونها لغيره مثل "كلمة الله" و "روح منه" ولكنهم للأسف لا يعطونه مقامه الذي ذكره هو عن نفسه بوضوح وتكرار بل لا يقبلونه، فلذلك اعتقادهم في المسيح ناقص ويختلف كثيراً عن اعتقاد المسيحيين.
إن المسيحيين يؤمنون بموجب تعاليم المسيح ورسله أنه ليس أعظم جميع الأنبياء فقط بل وأعظم جميع المخلوقات في طبيعته ومقامه. وأن هذا الاختلاف في الرأي كان ولا يزال السبب الأهم في المنازعات التي قامت بين المسلمين والمسيحيين وأدت إلى عداوة مستحكمة بينهم.
والسبب الأكبر في قيام هذه المنازعات هو أن إخواننا المسلمين لم يدرسوا هذا الموضوع كما جاء في العهد القديم والعهد الجديد للاستفادة ولكن للتحامل وذلك لأنه قد انطبعت في عقولهم تلك الفكرة العميقة القائلة أن كتب اليهود والمسيحيين حُرفت أو على الأقل فسدت ولكن في "ميزان الحق" الجزء الأول والطبعة الجديدة، دحض المؤلف هذه الأقوال مظهراً لنا أن هذه الفكرة المبتدعة تناقض تعاليم القرآن وتباين الحقائق التاريخية. أما وقد زالت من أمامنا هذه العثرة، نرجو من أرحم الراحمين أن يستعمل هذه الكلمات لإظهار مقام يسوع الحقيقي وذاته الإلهية لإخواننا المسلمين الذين يقولون عنه أنه "كلمة الله".
من طبيعة مجرى الأمور يتضح أن البرهان على مقام المسيح وذاته يجب استنتاجه مما قاله عن نفسه ومن تعاليم الأنبياء والرسل عنه. ففي الباب الأول من هذا الكتاب إيضاح تام لمعنى "ألوهيته" من الكتاب المقدس. ولكن قبل الخوض في ذلك يجب أن نذكر بعض الصعوبات التي ربما يقع الإنسان فيها فيصعب عليه فهمها. وهنا أوجه أنظار حضرات القراء إلى بعض التعاليم التي نراها في كتبهم حتى تمكنهم من فهم ما سنجيء به من الكتاب المقدس.
ولا ضرورة لأن نذكر أن في إشارتنا إلى كتب المسلمين لا نقصد استعمالها كبرهان على حقيقة التعاليم التي نتعلمها من الكتاب المقدس لأننا إذا عملنا ذلك نكون قد خالفنا قواعد المنطق، ولكننا نستعملها كي نبرهن لهم من كتبهم أن ما نؤمن به ليس بكذب وبهتان كما يدعي الكثيرون من أعداء المسيحية.

 


ومن المعلوم أن القرآن لا يشهد فقط بعظمة يسوع ومقامه ولكنه يلقبه أيضاً بألقاب أعظم من ألقاب بقية الأنبياء والرسل وذلك يراه المطلع بإمعان ظاهراً واضحاً عند قراءة الآيات القرآنية التي تختص بالمسيح واتفقت على ذلك أحاديث كثيرة أيضاً ولكنا الآن نكتفي بآيتين ذكرهما القرآن الأولى في سورة الأنبياء آية 91 إذ يقول عن أم يسوع ربنا التي سماها مريم ابنة عمران "والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا" والآية الثانية في سورة النساء 169 "وإنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه". (يلاحظ قوله منه ولم يقل من عنده معناه أنه من ذاته وليس من عنده فقط وهذا يوافق ما جاء في الإنجيل تمام الموافقة راجع (يوحنا 8: 42 و15: 26)
فمن شهادة هاتين الآيتين القرآنيتين يرى إخواننا المسلمون أن القرآن يعلمهم أن المسيح لم يُحبل به كغيره من أبناء البشر ولكن بالعكس أنه وُلد من العذراء مريم بدون أب بل بقوة الله وبروح منه ونلاحظ أيضاً أن القرآن يقول أن المسيح هو نفسه كلمة الله وروح منه. ولم يذكر القرآن قط ألقاباً كهذه لأحد غير يسوع فهو يشهد بصريح العبارة أن المسيح يفوق عظمة عن جميع الأنبياء وبالتالي عن جميع أهل العالم. ونعلم نحن المسيحيون من الأناجيل أن ذلك من الحقائق التي لا تدحر فإنجيل متى وإنجيل لوقا يعلماننا أن المسيح وُلد بقوة الروح القدس من مريم العذراء بدون أب بشري (اقرأ متى ص1 عدد 18-25 ولوقا ص1 عدد 26-35) وفي إنجيل يوحنا ص1 عدد 1-4 يقول "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس."
ذلك هو النص الواضح، فعبثاً نحاول أن نسمي يسوع كلمة الله بدون ألوهيته لأن هذا اللقب يتضمن الألوهية ولا شك أن القرآن ينكر ألوهية المسيح ولكن ليس غرضنا هنا أن نشير إلى التناقض والتباين الظاهرين في القرآن، فلذلك لا نهتم بإنكاره ولكن نقتبس قول عبد القادر الجيلاني الصوفي الشهير عن ما مر من الآيات القرآنية ما معناه "أن مظهر عيسى بالنسبة لباطنه هو بمثابة احدية جمع الحضرة الإلهية فلذلك سُمي روح الله". وعليه فالمسيح هو من الروح الكامل الذي هو إعلان اسم الله التام (أوكل صفاته) ومع هذا فإننا لا نتخذ هذا القول ولا الآيتين القرآنيتين السابقتين ذريعة نتذرع بها للبرهان على ألوهية المسيح فإننا لم نبدأ بعد في التكلم عن ألوهيته وسيجيء الكلام عن ذلك مفصلاً في الفصل الأول من هذا الكتاب وهذا ليس إلا مقدمة له.
لا يوجد في القرآن ولا في الحديث ولا في كتب الأئمة شيء له أدنى قيمة لإثبات ما يلزم إثباته. بل في الوحي أي في الكتاب المقدس نجد هذا التعليم الحيوي المهم مبرهناً بأقوى البراهين وبأدلة تامة لإقناع كل مؤمن بالمسيح. وسنكشف عنه الغطاء بنعمة الله ومساعدة روحه. وحيث أن عقيدة المسيحيين المختصة بالثالوث الأقدس مرتبطة تمام الارتباط بألوهية المسيح ربنا، عز منا بمساعدة الرب أن نوضح ما يعلمنا إياه الكتاب المقدس عن ذلك. ولكي نتثبت من هذا التعليم، لا نأتي بأدلة فلسفية عقلية، بل نقول ما أعلنه الله لنا في كتابه العهد القديم والجديد. أما إذا أشرنا إلى آراء الفلاسفة وأمثال الطبيعة والفسيولوجيا فليس لإثبات التعليم بل حباً في محو التعصب ودحض الآراء الفاسدة التي تمنع الناس عن قبول ما أعلنه الله في كتابه.
لأن ألوهية المسيح وعقيدة الثالوث الأقدس في توحيد الذات الإلهية هي من أسرار الله ولا يمكن لبشر مهما كان له من الحول والقوة الفكرية أن يتوصل إلى إدراك تلك الأسرار الإلهية لأنها غير محدودة ويستحيل على المحدود إدراك غير المحدود، فلا يمكن للعقل البشري أن يأتي ببراهين كافية تجعله قادراً على رفض أو قبول هذه الأسرار ولهذا قال علي بن أبي طالب "من سأل عن التوحيد فهو جال ومن أجاب عنه فهو مُشرك". فهل يمكن للإنسان الضعيف العقل أن يدرك أسرار الله الغير المحدودة المختصة بذاته المقدسة وهل يستطيع رجل أن ينكر أن نور عقل الإنسان ما هو إلا ظلام دامس حينما يقاس بالنور الذي لا يُقترب منه الساكن فيه إله النور القدوس. إن الإنسان بعقله لا يمكنه أن يعلل الظلام الحائم حول وجوده ولا يمكنه أن يوضح سر ذاته ولا يقدر أن يفهم أسرار قلب غيره. إذا حملق إنسان في الشمس أظلمت عيناه وهكذا إذا خُيل للإنسان أن يدرك بمسبار عقله سر الذات المقدسة الشمس الروحية الحقيقية كانت النتيجة أن يرى أمامه ظلاماً أقتماً. فإن الشمس والقمر والنجوم في كل أنوارها ما هي إلا نقطة ماء في أوقيانوس إذا قيست بشمس البر وذرة من مقدار عظمته. ولقد سُئل أحد العلماء قديماً "ما هو الله؟" فأجاب معترفاً "إنه كلما أكثر في البحث عن هذا السؤال كلما أبعد عن الجواب."
وهكذا كل عالم في زماننا إذا اتكل على قوة ذاكرته في إدراك الله لا يسعه إلا أن يقول كما قال ذلك العالم من قديم الزمان.


ونستنتج مما تقدم أنه لو لم يعلن الله لنا ذاته في كتابه لما أمكنا أن نستدل على الحقيقة بشيء ومع وجود هذه التعاليم الصريحة المختصة به تعالى، نرى أن الإنسان لم يزل عاجزاً عن إضافة شيء على ما أجيء به من الله. بل أن مجموع ما قالته العلماء وما سيقولونه عن الذات الإلهية مؤسساً على فلسفتهم وعلمهم فكلمة الله وتعاليم يسوع تفوق أقوالهم بغير حد. إلا أن ما لا يمكن للإنسان أن يكتشفه بنفسه يجب أن يقبله ويؤمن به إذا أعلنه الله تعالى له. أما إذا رفض الإنسان ما أعلنه الله تعالى لكبريائه فهو يدين نفسه ويكون في نظر الله مسئولاً عن جهله وعماه بإرادته.
لا ننكر أنه توجد بعض المواضيع في كلام الله لا يمكن للإنسان بعقله الضعيف المحدود أن يدركها تماماً فالإنسان عاجز عن إدراك تلك الذات الحية الأبدية وتلك الحكمة الغير المتناهية والغير المحدودة فكل ما عنده من المعرفة والعلم مبني على ملاحظاته الخارجية واستدلالاته الداخلية.
مثال ذلك أن الإنسان يستدل على وجود الخالق مما يراه من القوة والحكمة الظاهرتين في الخليقة ومما يراه من الذكاء والمحبة والعدل والرحمة والصفات الأخرى الكثيرة الموجودة على نوع ما في أبناء البشر. فإذا نسبنا هذه الصفات بأكمل معانيها للخالق جل وعلا يمكنا أن ندرك بعض الإدراك معنى وجود هذه الصفات في الله تعالى. ورجال العلم عالمون أنه توجد في الخليقة الغير المنظورة وبالتالي في ذات الله المقدسة أمور مهمة عديدة ونقط مخصوصة يعجز الإنسان عن إدراكها تمام العجز لعدم وجود مثيل لها في هذه الدنيا المنظورة. وحتى لو أعلن الله لشعبه هذه النقط وتلك الأسرار الغير المدركة فلا يمكن للإنسان فهمها بل وغير ممكن لنا، ما دمنا في هذا العالم، أن نرى تلك الأسرار واضحة وجليلة إذ لا نرى لها مشابهات تقربها إلى فهمنا. مثلاً إنساناً مولوداً أعمى فهو بالطبع لا يفقه لنور الشمس معنى فإذا اجتهدنا بكل قوانا أن نصف له الشمس ونورها فغالباً لا يفهم الشرح ولا يدرك الشمس ولا نورها ولا قوة البصر في الآخرين. إلا أنه بما له من الحواس الأخرى ربما يمكنه أن يتصور شيئاً ضعيفاً جداً عن ماهية الشمس ونورها لكن لو أنكر بسبب عماه وجود حاسة البصر في غيره وأنهم يرون شيئاً لا يراه، فهل يُحسب إنكاره ذكاءً مفرطاً؟ كلا بل هو عين الجهل ومع هذا فجهله وعناده لا يبررنا إذا تركناه في خطر محيق به ولا نرشده إلى الطريق المستقيم.
واضح أن ذات الله المقدسة الغير المنظورة لا شبيه لها في الوجود ولذلك من الصعب علينا أن ندرك حتى معنى كلام الله في هذا الموضوع. ولكن لو لم تكن هذه المعرفة ضرورية لما كان الله، إله الحكمة والمعرفة، أعلنها لنا في كتابه ولكن حيث أن هذا التعليم الموجود في الكتاب المقدس عن لاهوت المسيح وعن سر الثالوث الأقدس في توحيد الذات الإلهية قد أعلنه الله على فم أنبيائه فهو نافع لنا جداً ولازم لنا تعلُمه. لا شك أن هذه الأسرار الإلهية فوق إدراكنا المحدود ولكن لا يجب أن يكون هذا سبباً في تصورنا أنه يخالف العقل. إن ذلك لا يمكن أن يكون لأن مُعلن هذه الأسرار هو الإله العظيم مُوجد العقل وخالقه. إن أنكر الإنسان هذه الأسرار بحجة أن العقل عاجز عن إدراكها فهو يشبه رجلاً أعمى ينكر وجود الشمس لأنه لا يراها ولا يمكنه فهم معناها. إن ذلك الذي ينكر الأشياء التي يعجز عن إدراكها عقله ويرفض كلام الله المقدس الذي هو فوق إدراكه يفضل عقله وعلمه على كلام الله تعالى. ذلك الإنسان بغطرسته وكبريائه يضع نفسه في مقام أعلى من مقام الله العلي العظيم وقد أغواه الشيطان ووسوس له أن الله ليس بأعظم منه في الحكمة والمعرفة حتى يعلن كلاماً يعجز عن إدراكه الإنسان (وقانا الله من شر هذا الكفر المبين).
إن في العالم أموراً كثيرة لا يقدر الإنسان على إدراكها فهل ينكرها ولا يؤمن بها لأنه لا يدركها؟ إن مثله يكون مثل ذلك الفيلسوف في الزمن القديم الذي ظن أنه حاز كل الحكمة في قوله "إني لا أعرف شيئاً قط حتى أني لا أدري أني لا أعرف" فهو غير شاعر بجهله. إن من لا يؤمن بشيء غير مُدرك هو بالضرورة ينكر وجود الخالق لأن ذات الله ووجوده هما فوق إدراك العقل البشري. كان يجب على ذلك الإنسان أن ينكر وجود نفسه أيضاً لأنه لم يفهم بعد ولن يفهم كيف أوجده الله في رحم أمه وماهية روحه وكيف ارتبطت بجسده. على هذا المبدأ كان يجب عليه أن ينكر حقيقة ألوف الأشياء التي ينظرها بعينه كل لحظة وظاهرة أمامه ظهور الشمس في رابعة النهار لأنه لا يدرك ذاتها أو قوتها الداخلية وفاعليتها الخارجية.
إن مثل المتكل على العقل دون الوحي مثل تلك الدجاجة التي صورها مصور واقفة وناظرة إلى ورائها حيث قشة البيض التي خرجت منها حالاً لاصقة بها وهي تقول "لا يمكنني أن أعتقد أني خرجت من هذه القشرة."
هل أمكن لأني إنسان عاقل أن يكتشف بقوة علقه كيف تصير الحبة الصغيرة شجرة كبيرة ومن هذه الشجرة يخرج ألوف من الحبوب ولها نفس قوة وفاعلية الحبة الأولى؟
بل مَن من الناس يمكنه أن يشرح أن نباتاً ينبت بتربة واحدة ويُسقى من ماء واحد ويستنشق هواء واحداً وتطلع عليه شمس واحدة ينتج أثماراً متنوعة وألواناً مختلفة وخواصاً متباينة؟
بل كيف يمكن لعين الإنسان الصغيرة أن ترى حتى الأفق؟ نحن نعرف كيف تقع الأشباح الخارجية على شبكة العين فترسم صورة لها ولكننا لا نعرف كيف تنتقل تلك الصورة إلى المخ إلا أن يكون العصب العيني يعمل عمل سلك التلغراف، ولما يصل إلى المخ تأثير الشبح الخارجي كيف ينتقل من المادي إلى نفس الإنسان الغير مادية فيقول أنا نظرت كذا؟ هذا ما لم يمكن لأحد إلى اليوم أن يفسره. فهل يعتبر المسلم أو المسيحي الرجل عاقلاً إذا كان لا يعترف بوجود حاسة البصر في الإنسان لأنه لا يمكنه أن يعللها؟
كذلك الطعام الذي نأكله إن كان صحياً وكان جسمنا سليماً فلابد أن يكون هذا الطعام مقوياً لأجسادنا منعشاً لها معطياً كل عضو القوة التي يحتاجها.
والأطباء اليوم يفسرون عملية الهضم ويشرحونها شرحاً وافياً ولكنهم هل يجهلون أن عملية الهضم قد سارت سيرها الطبيعي قبل أن يعرفها أولئك الأطباء بألوف من السنين ولكن ماذا تظن في رجل يقول أنه لن يذوق لقمة قبل أن يفهم عملية الهضم تماماً!
قد حار العلماء قديماً مدة قرون طويلة في الأرض والشمس والنجوم التي رغماً من حجمها وثقلها الهائلين بقيت معلقة في الفضاء تدور دواماً بانتظام لا تبتعد عن الطريق المعين لها من يوم خلقتها قيد شبر. أما الآن فقد توسع الناس في درس علوم الفلك وتوصلوا إلى معرفة نظامها وهي مازالت محفوظة بقدرة الخالق. وإن معرفتنا هذه الأجرام ليست متعلقة بمعرفة نظامها ولا تساعدنا في فهم غرض الله في خلقها وسنة لها قوانين لا تتعداها. فهل يبررنا عقلنا بعدم الاعتقاد بدوران الأرض حول الشمس لأننا لا نفهم تماماً خاصة حفظ هذه الأجرام لقوانينها وسر الجاذبية في النظام الشمسي؟


إن في موجودات الله أسراراً كثيرة غامضة لا يؤمل عقل الإنسان في هذه الدنيا إدراكها تماماً وعليه فقد أرانا الله أن صفحات كتاب الطبيعة تتضمن أسراراً عديدة غامضة تفوق إدراك عقولنا فلا غرابة أن يكون كلام الله المعلن لنا في كتابه مملوءاً من الأسرار الغامضة وأن كل شخص لا يصدق أسرار الله المعلنة لعدم فهمه إياها ولا يرغب في قبول كلامه لما فيه من الأسرار لا يكون إلا جاهلاً شريراً. وأنا نرجو من الله تعالى أن يكون الباحث في الحق بعيداً عن هذه السخافات.
وليُعرف أن الله العليم الحكيم أعلن في كلامه بعض الأسرار المتعلقة بذاته المقدسة والواجب على عبيده قبولها والإيمان بها حتى ولو أشكل عليهم فهمها.
وحيث قد بيّنا هذه الحقائق الضرورية في مقدمة موضوعنا، بقي علينا بمشيئة الله ومعونته أن نقدم البرهان من الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد على ألوهية المسيح ربنا ووجود الثالوث الأقدس في وحدة الذات الإلهية. وإذا ظن أحد القراء أنه قد حصل على بعض التغيير والتبديل في العهدين القديم والجديد، فأنا نشير عليه أن يتصفح الفصل الأول من الجزء الأول من كتاب ميزان الحق ففيه الكفاية للرد على هذه الظنون التي لا أساس لها.
وسيحتوي هذا الكتاب على قسمين رئيسيين نتكلم في أولهما عن ألوهية المسيح ربنا وفي ثانيهما نوضح بإجمال تعاليم الثالوث الأقدس ونبرهن حقيقتهما ولكن بما أن الله القدير وحده ولا سواه يقدر على تطهير قلب الإنسان النجس وإنارة عقله المظلم فيهبه الفهم الروحي ليدرك به الأمور الروحية ويؤمن بما أعلنه له في كتابه، فنتوسل إليه تعالى بقلوب خاشعة خاضعة أن ينير بصيرة القارئ الكريم ويرشده إلى سواء السبيل.
إنه ليستحيل على الإنسان أن يدرك أعمال الله العظيمة وكلامه المُعلن ما لم يؤت له بنور من الأعالي إذ "الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يحكم فيه روحياً." (1كورنثوس 2: 14و15). إن الله العارف مخبآت القلوب لا يلزم أحداً بالإيمان ما لم يكن هو راغباً فيه ويسوع نفسه أعلن في الإنجيل الطريقة التي بدونها لا نجد الحق قال "إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله" (يوحنا 7: 17). وهو برحمته ومحبته يريد "أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون." (1تيموثاوس 2: 4).
أيها الأخوة إن الله لابد أن يهبكم نور هدايته إذا سلكتم في هذا الطريقة رغبة في الحق وحينئذ تستطيعون أن تدركوا حقيقة هذين التعليمين العظيمين. وإذ تعرفون الحق تعرفون يسوع ومقامه الحقيقي فتؤمنون به من كل قلوبكم وبه وحده تنالون الخلاص الأبدي.

  • عدد الزيارات: 12116