Skip to main content

تأثيرات الحُنفاء على الإسلام

تأثيرات الحُنفاء على الإسلام

قبل ظهور محمد وادعائه النبوة سئمت نفوس بعض العرب من عبادة الأصنام، فأخذوا يبحثون عن الدين الحقيقي. ولما عرفوا من اليهود، وربما بعض أخبار وصلت إليهم بالتقاليد والتواتر من الأزمنة القديمة أن إبراهيم كان يعتقد بوجود الله الحي الحقيقي الوحيد، أخذ بعض العرب المقيمين في مكة والمدينة والطائف في البحث لمعرفة دين خليل الله، ونبذوا عبادة الأصنام. فكانوا يسمون الذين وجَّهوا أنظارهم وأفكارهم إلى هذه القضية المهمة «الحُنفاء» ومن هؤلاء أبو أمير وأصحابه في المدينة، وأمية بن زلط في الطائف، وأربعة من سكان مكة، هم: ورقة وعبيد الله وعثمان وزيد. فقال المعترضون إن آراء هؤلاء الحنفاء وقدوتهم ومثالهم ومحادثتهم مع محمد، ولا سيما زيد بن عمرو أثَّر في أفكار محمد تأثيراً عظيماً وأثَّر في ديانته. واستدلوا على تأييد أقوالهم بما ورد في القرآن ذاته. ولكي يتأكد مطالعو كتابنا هذا من صحة هذا القول أو خطئه يجب عليهم أن يطالعوا ما قاله ابن إسحق وابن هشام بخصوص حُنفاء مكة. ومع أن كثيرين ألفوا كتباً في سيرة محمد، إلا أن كتاب السيرة لابن هشام هو أجدر هذه الكتب بالاعتماد، لأنه أقدمها وأقربها إلى عصر محمد. وأول من جمع أو قال محمد وأفعاله هو الزهري، الذي تُوفي سنة 124 هـ، فنقل أخباره من التواتر الذي أخذه عن الصحابة ولا سيما من «عروة» أحد أقرباء عائشة. ولا شك أنه مع مرور سنين عديدة عبث به العابثون فدخلت في أخبارهم الأغلاط والمبالغات. ولو كان كتاب الزهري موجوداً اليوم لأفاد المحقِّقين الذين يودّون معرفة حقائق الأمور بخصوص محمد، لأن هذا الكتاب هو أقدم من غيره، فيكون جديراً بالاعتماد أكثر من أي كتاب آخر كُتب عن سيرة محمد. ومع أن كتاب الزهري ضاع ولم يبق له أثر، إلا أن ابن إسحق (الذي تُوفي سنة 151 هـ) كان أحد تلاميذ الزهري. فابن إسحق ألف كتاباً آخر في هذا الصدد، ونقل ابن هشام (الذي توفي سنة 213 هـ) في كتابه المسمى «سيرة الرسول» أجزاء كثيرة منه. فاعتمادنا إذاً في نقل أخبار الحُنفاء هو على كتاب «السيرة» لابن هشام، وقد ورد فيه:


«قال ابن إسحاق: واجتمعت قريش يوماً في عيدٍ لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظّمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويديرون به. وكان ذلك عيداً لهم، في كل سنة يوماً. فخلص منهم أربعةُ نفرٍ نجياً. ثم قال بعضهم لبعضٍ: تصادقوا، وليكتم بعضكم على بعض. قالوا: أجَل. وهم: ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزّى بن قصي بن كلاب بن مِرّة بن كعب بن لؤي؛ وعبيد الله بن جحش بن رئاب بن عامر بن صيرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، وكانت أمُّه أميمة بنت عبد المطلب؛ وعثمان بن الحويرث بن عبد العزى بن قصي؛ وزيد بن عمرو بن نُفيل بن عبد العُزى بن عبد الله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عُدي بن كعب بن لؤي. فقال بعضهم لبعض: «تعلموا واللهِ ما قومكم على شيء. لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم. ما حجر نطيِّف به، لا يسمع ولا يبصر ولا يضرُّ ولا ينفع؟ يا قوم، التمسوا لأنفسكم فإنكم واللهِ ما أنتم على شيء». فتفرَّقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم. فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتَّبع الكتب من أهلها حتى علم علماً من أهل الكتاب. وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة. فلما قَدِمَها تنصَّر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانياً. قال ابن إسحق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: كان عبيد الله بن جحش حين تنصَّر يمر بأصحاب رسول الله، وهم هنالك من أرض الحبشة، فيقول: «فقحنا وصأصأتم» (أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد، لأن الكلب الوليد إذا أراد أن يفتح عينيه لينظر صأصأ لينظر. وقوله فقح عينيه تعني فتح عينيه). قال ابن إسحق: «وخلف رسول الله بعده على امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب» (أي تزوج بها بعده). قال ابن إسحق: وحدثني محمد بن علي بن حسين أن رسول الله بعث فيها إلى النجاشي عمرو بن الضمري فخطبها عليه النجاشي فزوَّجه إياها، وأصدقها عن الرسول أربعمائة دينار، فقال محمد بن علي عبد الملك بن مروان «وقف صداق النساء على أربعمائة دينار، إلا عن ذلك». وكان الذي أملكها للنبي خالد بن سعيد بن العاص. قال ابن إسحق: «وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصَّر وحسُنت منزلته عنده». قال ابن هشام: «ولعثمان بن الحويرث عند قيصر حديث يمنعني من ذكره ما ذكرت في حديث الفجار». قال ابن إسحق: «وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية. وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تُذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموؤودة، وقال: أعبد رب إبراهيم. وبادى قومه بعيب ما هم عليه». قال ابن إسحق: «وحدثني هشام بن عروة عن أبيه عن أمه أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنهما) قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخاً كبيراً مسنداً ظهره إلى الكعبة وهو يقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري. ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك لعَبَدْتُك به، ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على راحته». قال ابن إسحق: «وحدثت أن ابنة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعمر بن الخطاب وهو ابن عمه قالا لرسول الله: «استغفِر لزيد بن عمرو» قال: «نعم، فإنه يُبعث أمة وحده».


قال زيد بن عمرو بن نفيل في فراق دين قومه، وما كان لقي منهم في ذلك:

أرباً واحداً أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور

عزلت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا عزى أدين ولا ابنتيها ولا صنمَي بني عمرو أزور

ولا غنماً أدين وكان رباً لنا في الدهر إذ حلمي يسير

عجبت وفي الليالي معجبات وفي الأيام يعرفها البصير

بأن الله قد أفنى رجالاً كثيراً كان شأنهم الفجور

وأبقى آخرين بسير قوم فيربل منهم الطفل الصغير

وبينا المرء يعثر ثاب يوماً كما يتروح الغصن المطير

ولكن أعبد الرحمن ربي ليغفر ذنبي الرب الغفور

فتقوى الله ربكم احفظوها متى لا تحفظوها لا تبور

ترى الأبرار دارهم جنان وللكفار حامية سعير

وخزي في الحياة وإن يموتوا يلاقوا ما تضيق به الصدور

(الجزء الأول من «سيرة الرسول» صفحة 76 و77)

فأفادنا ابن هشام أن خطاباً (عمّ زيد) طرده من مكة وألزمه أن يقيم على جبل حراء أمام تلك المدينة، ولم يأذن له بالدخول إلى مكة «سيرة الرسول» (جزء 1 ص 79).

وكذلك نستفيد من هذا الكتاب أن محمداً كان معتاداً أن يقيم في غار جبل حراء في صيف كل سنة للتحنُّث حسب عادة العرب. فالأرجح أنه كان يجتمع بزيد بن عمرو، لأنه أحد أقربائه. وأقوال ابن إسحق تؤيد هذا القول، لأنه قال إنه لما كان محمد في ذات هذا الغار «جاءه جبريل بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء في شهر رمضان.. كان رسول الله يجاور في حراء من كل سنة شهراً، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية والتحنث التبرر.. قال ابن هشام تقول العرب التحنث والتحنف يريدون الحنيفية فيبدلون الفاء من الثاء» (جزء 1 ص 80 و81).


فكل من له اطلاع على القرآن والأحاديث يرى مما تقدم أن آراء زيد بن عمرو أثرت تأثيراً مهماً جداً في تعاليم محمد، لأن كل آراء زيد نجدها في ديانة محمد أيضاً. وهذه الآراء هي:

(1) منع الوأد (2) رفض عبادة الأصنام (3) الإقرار بوحدانية الله (4) الوعد بالجنان (5) الوعيد بالعقاب في سعير وجهنم. (6) اختصاص الله سبحانه بأسماء: الرحمن. الرب. الغفور. وقد قال محمد ما قال زيد بن عمرو، لأن زيداً وكل واحد من الحنفاء قال إنهم يبحثون عن «دين إبرهيم» غير أن زيداً قال إنه أدرك غايته، وهي أنه وجد هذا الدين، وأن محمداً قال إن غايته هي دعوة الناس إلى دين إبراهيم بواسطته. وكثيراً ما أطلق القرآن على إبراهيم أنه حنيف مثل زيد وأصحابه، وإن كان إطلاقه هذا اللقب في القرآن على إبراهيم يفيد ذلك بطريق الالتزام. ولتأييد هذا نورد من القرآن بعض آيات قليلة، فورد في سورة النساء 4:125 «ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً، واتخذ الله إبراهيم خليلاً» وورد في سورة آل عمران 3:95 «قل صدَق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين» وورد في سورة الأنعام 6:161 «قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً». فكل من له إلمام بتراكيب اللغة العربية وقواعدها يرى أنه مع أن القرآن لم يطلق على إبراهيم أنه «حنيف» إلا أنه أطلق عليه ضمناً أنه كان حنيفاً، وحض القرآن أصحاب محمد على قبول ملة إبراهيم، لأن من قبل ملة إبراهيم كان من عداد الحنفاء. وأصل كلمة «حنيف» في اللغة العبرية والسريانية تعني «نجس أو مرتد» لأن عبَدة الأصنام من العرب أطلقوا على زيد وأصحابه لقب «الحنفاء» ليصفوهم بالارتداد، لأنهم تركوا ديانة أسلافهم عبدَة الأصنام. فاستحسن محمد والعرب الحنفاء أن يختصوا بهذا اللقب، وفسَّروا هذه اللقب تفسيراً حسناً وصبغوه بمعنى مناسب. ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم لم يروا فرقاً بين التحنُّف والتحنُّث. ولا ننسى أن هؤلاء الأشخاص الأربعة الذين دُعوا حنفاء كانوا من أقرباء محمد لأنهم تناسلوا جميعهم من لؤي. كما أن عبيد الله كان ابن خالة محمد، وتزوج محمد أم حبيبة أرملة عبيد الله. وذكر ابن هشام أن ورقة وعثمان ابني عم خديجة كانا من الحنفاء، فمن المستحيل أن آراء زيد وغيره من الحنفاء ومذاهبهم وأقوالهم وتعاليمهم لا تُحدِث في أفكار محمد أثراً مهماً جداً. ومع أنه لم يؤذن لمحمد (حسب الحديث الذي ذكره البيضاوي في تفسيره على سورة التوبة 9:113) أن يستغفر لآمنة والدته، إلا أنه استغفر لزيد بن عمرو، فقال إنه سيُبعث أمة وحده في يوم القيامة، وهذا تصديقُ محمد لمبادئ زيد بن عمرو.


وقد يتصدى إنسان للرد على ما ذكرتُه في هذا الفصل وفي غيره من فصول هذا الكتاب السابقة قائلاً: إذا فرضنا أن مصادر الإسلام التي أوردها المعترضون هي المصادر الحقيقية له، فلا يكون لمحمد أثرٌ في كل ديانته، وهذا غير ممكن. قلنا في الرد على ذلك: إن المعترضين على الإسلام يقولون إنه لما شرع محمد في إيجاد دينه فلا بد أن تظهر ميوله وصفاته في هذا الدين، لأن البنّاء أو المهندس إذا بنى بيتاً من حجارة متنوّعة من اللَّبِن وقوالب الأجُرّ فلا بد أن تظهر كفاءته في تنظيم هذه المواد بأن يجعلها في ترتيب محكم، ولا بد من ظهور غاياته ومهاراته في البناء الذي يشيِّده. فهكذا يُقال في الديانة الإسلامية.. لقد تشكلت بشكل يختلف عن سائر الأديان من وجوه كثيرة. فنقول بناءً على هذا إن باني أو مهندس هذا البناء كان عاقلاً مقتدراً. ويستدل على فصاحة محمد من فصاحة عبارات القرآن. وبصرف النظر عن كل هذا ففي القرآن آثار وقرائن تدل على الحوادث والوقائع التي حصلت في تاريخ محمد. مثلاً كان محمد قبل الهجرة بلا سطوة دنيوية، فلا ترى في الآيات التي كتبها قبل الهجرة ذكراً للجهاد لنشر دعوته وتعميم ديانته. ولكن بعد الهجرة لما صار سكان المدينة من أنصاره أذِن أولاً لأصحابه بالكفاح والحرب للدفاع عن أنفسهم، فورد في سورة الحج 22:39 و40 «أذِن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا.. الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله». وقال ابن هشام في سيرة الرسول (جزء 1 ص 164) عن عروة وغيره من أصحاب محمد أن الإذن بالحرب أولاً في هاتين الآيتين. وثانياً: لما انتصر محمد وصحابته في جملة غزوات تغيَّر هذا الإذن إلى فرض وأمر واجب، فورد في سورة البقرة 2:216 و217 «كُتب عليكم القتال وهو كره لكم.. يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل» ومعنى هاتين الآيتين أن الواجب على المسلمين أن يكافحوا ويلزموا قريشاً على عدم التعرض لهم ومنعهم عن السفر إلى الكعبة. وثالثاً: لما هزم المسلمون في السنة السادسة من الهجرة بني قريظة وبعض طوائف اليهود الأخرى، شدَّد في الحض على الجهاد، كما ذكر في سورة المائدة 5:33 «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم». قال المفسرون إن هذا الأمر يختص بما يجب معاملة عبَدة الأصنام به، ولا دخل له في معاملة اليهود أو النصارى. ولكن بعد هذا بعدة سنين وُضعت القوانين التي يجب على المسلمين مراعاتها نحو أهل الكتاب، وذلك في السنة الحادية عشرة بعد الهجرة، قبيل وفاة محمد. ورابعاً: فُرض على المسلمين في سورة التوبة 9:5 و29 (وهي آخر سورة نزلت) أن يبدأوا بالحرب بعد الأربعة الأشهر الحرام «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد. فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم .. قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون».

وتدفعنا قواعد القرآن الست أن نقول إن إرادة الله الحكيم المنزه عن التغيير تغيَّرت بالنسبة إلى فوز محمد وانتصار أصحابه في الحروب وفي تقدُّمهم بالتدريج المكلل بالانتصار. ويظهر ذلك بجلاء فيما قرره فقهاء الإسلام أن بعض آيات القرآن منسوخة وبعضها ناسخة، فجاء في سورة البقرة 2:106 «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها. ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير». وسبب ذلك أن محمداً كان يرجو أنه إذا خلط أديان اليهود والمسيحيين وبعض فروض دينية عند العرب تيسَّر له أن يؤلف ديناً يدين به جميع سكان جزيرة العرب، فيصبحون أمة واحدة. فبذل غاية جهده ليجذب إليه هذه الطوائف المختلفة كلها وهذه الملل المتنوعة المتفرقة «ويجمعهم إلى أمة واحدة» من أتباعه. ولكنه لما فشل هذا المسعى عزم على استئصال اليهود والمسيحيين لقطع دابرهم أو نفيهم من بلاد العرب، كما هو واضح من منطوق القرآن.

ويظهر زيادة على ذلك مما ورد في سورة الأحزاب 33:37 و38 بخصوص زينب امرأة ابنه بالتبنّي زيد أن صفات محمد وأطواره أحدثت أثراً مهماً جداً في القرآن، وهذا واضح مما ورد في القرآن والأحاديث بخصوص تعدد الزوجات.

ولا شك أن مجموع المواضيع والمطالب والتعاليم المدونة في القرآن والأحاديث هي مثل أنواع وأقسام مياه آتية من أنحاء شتى ومن ينابيع متفرقة فتجمعت إلى بحيرة. غير أن الإناء الذي أكسب هذه المياه المتجمِّعة شكلها وهيئتها هو عقل محمد ونفسه وسجيته وطبيعته.

ولا ينكر أن كثيراً من التعاليم الواردة في القرآن، ولا سيما التعاليم المختصة بوحدانية الله القدوس، مفيدة ونافعة. ولا ننكر وجود بعض الصدق والفائدة في الأقوال المختصة بالميزان والجنة وشجرة الطوبى. ولكن من أراد أن يشرب ماءً رائقاً نقياً لا ينبغي له أن يرد مورد الماء المعكر، بل عليه أن يرد ينبوع نهر ماء الحياة الذي كثيراً ما يشهد له القرآن نفسه. وهذا الينبوع هو كتب الأنبياء والحواريين التي قال عنها القرآن: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور.. وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين» (المائدة 5:43-48). فشهادة القرآن هذه للكتاب المقدس (أي التوراة والإنجيل) تغافل عنها المسلمون ونبذوها في زوايا النسيان أو أهملوها وأوَّلوها وصرفوها عن أذهانهم، ولكنها أهم أركان تعاليم القرآن. وزد على هذا أن محمداً حضَّ أتباعه على التمسك بدين إبراهيم خليل الله. ومن أراد معرفة دين إبراهيم وجب عليه أن يستقصي توراة موسى، فيرى فيها أن الله وعد إبراهيم أن يجيء المسيح من نسله ومن نسل إسحق ابنه، وهو المخلِّص الوحيد. وقد اعتمد إبراهيم على هذا الوعد وآمن بالمخلِّص الموعود فنال خلاصاً، ودُعي خليل الله (رسالة يعقوب 2:23). ولتأييد صدق كلامنا نورد بعض آيات من الكتاب المقدس: ورد في شريعة موسى في سفر التكوين 17:18-21 أنه قبْلَ مولد إسحق كان إبراهيم قد شاخ، وطلب من الله أن يقبل إسماعيل وارثاً للوعد قائلاً: «ليت إسماعيل يعيش أمامك» فرفض الله هذا الطلب، وإن كان قد وعد بأن يبارك إسماعيل بالرخاء الدنيوي، وقال لإبراهيم: «بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه إسحق، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده. وأما إسمعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً. إثنا عشر رئيساً يلد، وأجعله أمة كبيرة. ولكن عهدي أقيمه مع إسحق الذي تلده لك سارة في مثل هذا الوقت في السنة الآتية». (أما الاثنا عشر رئيساً فنجد أسماءهم في سفر التكوين 25:13-16). وقال الله لإبراهيم ثانية: «يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي» (تكوين 22:18) (يعني لأنك رضيت أن تقدم ابنك إسحق ذبيحة لله). وقال المسيح لليهود مشيراً إلى هذا الوعد وإلى اعتماد إبراهيم عليه: «أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح» (يوحنا 8:56). وقال بولس الرسول بالوحي الإلهي: «وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله. لا يقول: وفي الأنسال كأنه عن كثيرين، بل كأنه عن واحدٍ: وفي نسلك الذي هو المسيح.. فإن كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل إبراهيم، وحسب الموعد ورثة» (غلاطية 3:16 و29).

نطلب من الرحمن الرحيم الهادي الحكيم الذي أنجز وعده الأزلي بأن أرسل المسيح فوُلد من ذرية إبراهيم ومات عن خطايانا وقام لتبريرنا أن يوفقنا جميعاً للتمتع بهذا الخلاص العظيم والميراث الثمين فنحظى بالمجد الدائم والابتهاج الكامل بفضل نعمته وكرمه وفضله. إنه القدير على الإجابة. آمين.

  • عدد الزيارات: 12212