ما بين الرسول و الرسالة - الرسالة ما بين الفشل و النجاح
الرسالة ما بين الفشل و النجاح
ظاهرة كبرى فى الدعوة القرآنية ، ما بين مكة و المدينة ، هى الفشل فى مكة ، و النجاح فى المدينة فما هو السر ؟
قامت الدعوة بمكة على مبدإ و أسلوب . لكن المبدأ فشل ، و الاسلوب فشل .
كان مبدأ الدعوة : " ادع الى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة ، و جادلهم بالتى هى أحسن " ( النحل 125 ) . و تلك هى سبيل أنبياء الكتاب .
فالقرآن المكى كله يمشى على هذا المبدأ . و لا يرد على القوة بمثلها ، لا على عجز ، بل عن مبدإ . و عند شدة الاضطهاد الأول حمل جماعته على الهجرة الى الحبشة . و عند شدة المحنة و الأذى عليه هاجر شخصيا الى الطائف . أخيرا دبرالهجرة الكبرى الى يثرب .
و مثله و مثل جماعته فى مكة صورة " عباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا ، و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا : سلاما ! و الذين يبيتون لربهم سجدا و قياما ... و اجعلنا للمتقين إماما " ( الفرقان 63 – 74 ) . عباد الرحمان ، يسميهم بالمدينة " الراسخين فى العلم " أى النصارى من بنى اسرائيل . فهم مثال الدعوة السمحاء حتى فى الفتنة و الاضطهاد : " ادفع بالتى هى أحسن السيئة ، نحن أعلم بما يصغون " ( المؤمنون 96 ) ، " و لا تستوى الحسنة و لا السيئة : ادفع بالتى هى أحسن ، فإذا الذى بينك و بينه عداوة كأنه ولى حميم " ( فصلت 34 ) . هذا المبدأ صورة قرآنية لمبدإ الانجيل : " من ضربك على خدك الأيمن ، فأدر له الآخر " فاللطف أفعل فى الخصم نفسه من العنف .
لكن الدعوة بمبدإ " الحكمة و الموعظة الحسنة " فشل فى الرسالة كلها بمكة . فدبر الرسول لهجرة الكبرى الى يثرب للفرار من القتل و الاستشهاد ، و تدبير أمر الدعوة بمبدأ آخر ، و اسلوب آخر .
كان اسلوب الدعوة بمكة اعجاز القرآن فى النظم و البيان ، فتحداهم " بسورة مثله " ( يونس 38 ) ، " بعشر سور مثله " ( هود 13 ) ، " بمثل هذا القرآن " ( الاسراء 88 ) " بحديثمثله " ( الطور 34 ) .
لكن هذا التحدى بالأعجاز جاء بعد عجز النبى عن " آية كما أرسل الأولون " ( الانبياء 5 ) ، و قرر : " و ما منع الناس ان يؤمنوا ... إلا أن تأتيهم سنة الأولين " ( الكهف 55 ) أى المعجزة الحسية . فصرح ان الناس لم يقبلوا منه التحدى بإعجاز القرآن . و ظلوا الى آخر العهد بمكة يتحدونه " بسنة الأولين " لأنها من الله " سلطان مبين " على صحة الدعوة و صدق النبوة .
و النتيجة الحاسمة ان التحدى بإعجاز القرآن قد فشل فى مكة ، و لم يحمل أهلها على الايمان بصحة الدعوة ، و لا على تصديق النبوة .
فقد فشلت الرسالة بمكة فى مبدئها " بالحكمة و الموعظة الحسنة " ، و فى اسلوب دعوتها بأعجاز القرآن فى النظم و البيان . و على أهل الأعجاز أن لا ينسوا هذا الفشل الذريع الذى
حمل النبى ، بعد المناداة به فى مطلع الدعوة بالمدينة " بسورة من مثله " ( البقرة 23 ) ، على السكوت نهائيا عنه ، و التحول الى اسلوب آخر . و كانت الهجرة النهائية الى يثرب ، فصارت " مدينة " الرسول . فكانت هذه الهجرة ثورة و انقلابا فى الرسول و الرسالة ، فى الدعوة و الدين .
يقول القرآن المكى على لسان النبى : " ما كنت بدعا من الرسل " ( الاحقاف 9 ) . و نراه فى القرآن المدنى " بدعا من الرسل " . فقد كانت الهجرة الى المدينة هجرة فى النبوة الى السياسة : " هنا يبدأ الدور السياسى ... و هذا الدور من حياة الرسول لم يسبقه اليه نبى أو رسول . فقد كان عيسى ، و كان موسى ، و كان من سبقهما من الانبياء يقفون عند الدعوة الدينية يبلغونها للناس من طريق الجدل و من طريق المعجزة ... فاما محمد فقد أراد الله أن يتم نشر الاسلام و انتصار كلمة الحق على يديه ، و أن يكون الرسول و السياسى و المجاهد و الفاتح " ( 1 )
فالنبى صاحب دعوة دينية ، و ليس رجل السياسة ، و لا زعيم دولة . فهو يحمل كلام الله الى الناس ، لا سيف الاسلام للجهاد و الفتح :
كانت الدعوة بمكة للايمان بالله و اليوم الآخر ! فصارت بالمدينة الى الايمان باليوم الحاضر . كان يقول : " و لا تمدن عينبك الى ما متعنا به أزواجا منهم ، و لا تحزن عليهم " ( الحجر 88 ) ، فصار يقول : " اليوم أحل لكم الطيبات ... يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم " ( المائدة 5 و 87 ، قابل البقرة 168 ) . كانت الدعوة بمكة دينية ، فصارت بالمدينة دنيوية أيضا ، حتى امتزجت شؤون الروح بشجون الجسد ، و أحوال الدين بأمور الدنيا ، و حاجات الدنيا بميزات الآخرة ، و انقلب الدين الى دولة .
منذ مطلع الدعوة بالمدينة جاءت شرعة الجهاد القرآنية : " كتب عليكم القتال و هو كره لكم " ( البقرة 216 ) . فتحولت الرسالة الدينية الى رسالة دولية ، و صار الاسلام دنيا و دولة معا . و صار محمد " نبى الملحمة " بعد ان كان " نبى المرحمة " . و انتشر الاسلام بالجهاد للدفاع أولا عن وجوده و كيانه ، ثم للهجوم بالسيف على سائر الجبهات ، فنجحت الدعوة . فالرسالة ما بين مكة و المدينة قامت على الفشل بمكة ، و على النجاح بالمدينة . و ذلك بسبب فرض الجهاد فى الدين ، و القتال على الايمان .
و هو يبرر نشر الاسلام بالجهاد بقوله : " إنا أنزلنا الحديد ( أى السيف ) فيه بأس شديد ، و منافع للناس " ( الحديد 25 ) . تقوم لديه منفعة الدين و الدنيا بالسيف . فكان نصر الله و الفتح ، كما يشهد فى آخر سورة : " إذا جاء نصر الله و الفتح ، و رأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك ، و استغفره إنه كان توابا " ( سورة النصر ) . ان فرض الاستغفار ، بعد الفتح ، يفترض أنه فتح مشبوه من حيث الأعجاز فى الرسالة الدينية .
- عدد الزيارات: 8964