المعجزات فى الحديث و السيرة
المعجزات فى الحديث و السيرة
لقد ثبت لنا بالبحث السابق فى الواقع القرآنى و بشهادة أئمة العلماء فى عصرنا أنه لا معجزة فىالقرآن ، مع أنه قد رافقه ، طول الرسالة و الدعوة ، تحدى العرب له بمعجزة كالأنبياء الأولين ، فما نزلت و لا وقعت . و هذا الموقف القرآنى السلبى من كل معجزة يستند ، بتصريح القرآن نفسه ، إلى مبدا إلهى مقرر : لقد شهد القرآن نفسه بعجز محمد عن كل معجزة عجزا مطلقا ( الانعام 35 ) .
أولا : موقف الأقدمين
تجاه هذا الواقع القرآنى المشهود ، من الغريب حقا أن ينسب أهل الحديث و السيرة و المغازى و الشمائل ، حتى أهل علم الكلام ، هذا السيل العرم من المعجزات الى محمد ، فينقضون بذلك صريح القرآن .
و من المؤلم حقا أن ينجرف حجة الاسلام ، الغزالى نفسه ، فى تيار الحديث و السيرة فيأخذ بما فيهما من المعجزات على حقيقته التاريخية ، بعد الواقع القرآنى المشهود . و ننقل هنا فصلا من ( إحياء علوم الدين ) ، القسم الثانى : " ربع العادات " ص 341 .
بيان معجزاته و آياته الدالة على صدقه :
و قد ظهر من آياته و معجزاته ما لا يستريب فيه محصل . فلنذكر من جملتها ما استفاضت به الأخبار و اشتملت عليه الكتب الصحيحة ، إشارة الى مجامعها ، من غير تطويل بحكاية التفصيل . فقد خرق الله العادة على يده غير مرة .
1 – انشق له القمر بمكة ، لما سألته قريش آية .
2 – و أطعم النفر الكثير فى منزل جابر ، و فى منزل أبى طلحة و يوم الخندق . و يوما أطعم ثمانين من أربعة أمداد شعير . و مرة أكثر من ثمانين رجلا من أقراص شعير حملها أنس فى يده . و مرة أهل الجيش من تمر يسير ساقته بنت بشير فى يدها فأكلوها كلهم حتى شبعوا من ذلك و فضل لهم
3 – و نبع الماء من بين أصابعه عليه السلام ، فشرب أهل العسكر كلهم و هم عطاش ، و توضأوا من قدح ضاق عن أن يبسط عليه السلام يده فيه .
4 – و أهرق عليه السلام وضوءه فى عين تبوك و لا ماء فيها ، و مرة فى بئر الحديبية ، فجاشتا بالماء . فشرب من عين تبوك أهل الجيش و هم ألوف حتى رووا . و شرب من بئر الحديبية ألف و خمسماية ، و لم يكن فيها قبل ذلك ماء .
5 – و أمر عليه السلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن يزود أربعماية راكب من تمر كان فى اجتماعه كربضة البعير – و هو موضع بروكه – فزودهم كلهم منه ، و بقى منه ، فحبسه .
6 – و رمى الجيش بقبضة من تراب فعميت عيونهم . و نزل بذلك القرآن فى قوله تعالى : " و ما رميت و لكن الله رمى " .
7 – و أبطل الله تعالى الكهانة بمبعثه صلعم فعدمت ، و كانت ظاهرة موجودة .
8 – و حن الجذع الذى كان يخطب اليه ، لما عمل له المنبر ، حتى سمع منه جميع أصحابه مثل صوت الابل ، فضمه إليه فسكن .
9 – و دعا اليهود إلى تمنى الموت ، و أخبرهم بأنهم لا يتمنونه ، فحيل بينهم و بين النطق بذلك و عجزوا عنه . و هذا مذكور فى سورة البقرة .
10 – و أخبر عليه السلام بالغيوب : و أنذر عثمان بأن تصيبه بلوى من بعدها الجنة . و بأن عمارا تقتله الفئة الباغية . و أن الحسن يصلح الله به بين فئتين من المسلمين عظيمتين . و أخبر عليه السلام عن رجل قاتل فى سبيل الله أنه من أهل النار فظهر ذلك بأن ذلك الرجل قتل نفسه . و هذه كلها أشياء إلهية لا تعرف البتة بشىء عن وجوه تقدمت المعرفة بها ، لا بنجوم ، و لا بكشف ، و لا بخط ، و لا برجز ، لكن بإعلام الله تعالى له ووحيه إليه .
11 – و اتبعه سراقه بن مالك ، فساخت قدما فرسه فى الأرض ، و اتبعه دخان حتى استغاثه . فدعا له فانطلق الفرس . و أنذره بأن سيوضع فى ذراعيه سوارا كسرى فكان كذلك .
12 – و أخبر بمقتل الأسود العنسى الكذاب ، ليلة قتله ، و هو بصنعاء اليمن ، و أخبر بمن قتله .
13 – و خرج على ماية من قريش ينتظرونه فوضع التراب على رؤوسهم و لم يروه .
14 – و شكا له البعير بحضرة أصحابه و تذلل له .
15 – و قال لنفر من اصحابه مجتمعين : أحدكم فى النار ، ضرسه مثل أحد . فماتوا كلهم على استقامة ، و ارتد منهم واحد فقتل مرتدا .
16 – و قال لآخرين منهم ( أصحابه ) : آخركم موتا فى النار . فسقط آخرهم موتا فى النار فاحترق فيها فمات .
17 – و دعا شجرتين فأتتاه و اجتمعتا . ثم أمرهما فافترقتا .
18 – و كان عليه السلام نحو الرابعة . فإذا مشى مع الطوال طالهم .
19 – و دعا عليه السلام النصارى إلى المباهلة ، فعرفهم صلعم أنهم إن فعلوا ذلك هلكوا . فعلموا صحة قوله فامتنعوا .
20 – و أتاه عامر بن الطفيل بن مالك ، و أربد بن قبس ، و هما فارسا العرب و فاتكاهم عازمين على قتله عليه السلام . فحيل بينهما و بين ذلك ، و دعا عليهما ، فهلك عامر بغدة ، و هلك أربد بصاعقة أحرقته .
21 – و أخبر عليه السلام أنه يقتل أبى بن خلف الجمحى ، فخدشه يوم أحد خدشا لطيفا ، فكانت منيته فيه .
22 – و أطعم عليه السلام السم . فمات الذى أكله معه . و عاش هو صلعم بعده أربع سنين . و كلمه الذراع المسموم .
23 – و أخبر عليه السلام يوم بدر بمصارع صناديد قريش . ووفقهم على مصارعهم رجلا رجلا . فلم يتعد واحد منهم ذلك الموضع
24 – و أنذر عليه السلام بأن طوائف من أمته يغزون فى البحر . فكان كذلك .
25 – و زويت له الأرض فأرى مشارقها و مغاربها . و أخبر بأن ملك أمته سيبلغ ما زوى له منها . فكان كذلك . فقد بلغ ملكهم من أول المشرق ، من بلاد الترك ، الى آخر المغرب من بحر الأندلس ، و بلاد البربر . و لم يتسعوا فى الجنوب ، و لا فى الشمال ، كما أخبر صلعم سواء بسواء .
26 – و أخبر فاطمة ابنته رضى الله عنها بأنها أول أهله لحاقا به فكان كذلك .
27 – و أخبر نساءه بأن أطوالهن يدا أسرعهن لحاقا به . فكانت زينب بنت جحش الأسدية أطولهن يدا بالصدقة لحاقا به رضى الله عنها .
28 – و مسح ضرع شاه حائل لا لبن لها . فدرت و كان ذلك سبب اسلام ابن مسعود رضى الله عنه . و فعل ذلك مرة اخرى فى خيمة أم معبد الخزاعية .
29 – و ندرت عين بعض أصحابه فسقطت فردها عليه السلام بيده فكانت أصح عينيه و أحسنهما
30 – و تفل فى عين على رضى الله عنه ، و أهو أرمد ، يوم خيبر ، فصح من وقته و بعثه الراية
31 – و كانوا يسمعون تسبيح الطعام بين يديه صلعم .
32 – و أصيبت رجل بعض أصحابه صلعم فمسحها بيده ، فبرأت من حينها .
33 – و قل زاد جيش كان معه عليه السلام فدعا بجميع ما بقى ، فاجتمع شىء يسير جدا . فدعا فيه بالبركة . ثم أمرهم فأخذوا . فلم يبق وعاء بالعسكر ، إلا ملىء من ذلك .
34 – و حكى الحكم بن العاص بن وائل مشيته عليه السلام مستهزئا . فقال صلعم كذلك فكن . فلم يزل يرتعش حتى مات .
35 – و خطب عليه السلام امرأة . فقال له أبوها : ان بها برصا ، غمتناعا من خطبته واعتذارا . و لم يكن بها برص . فقال عليه السلام : فلتكن كذلك فبرصت . و هى أم شبيب بن البرصاء الشاعر .
إلى غير ذلك من آياته و معجزاته صلعم . و انما اقتصرنا على المستفيض .
و من يستريب من انخراق العادة على يده ، و يزعم أن آحاد هذه الوقائع لم تنقل تواترا ، بل المتواتر هو القرآن فقط ... و لكن مجموع الوقائع يورث علما ضروريا " .
هذا ما نقله الغزالى فى ( الاحياء ) بصفته زعيم المتكلمين . و قد أحسن اذ " اقتصر على المستفيض " . لكنه أورد مبدأ التواتر الذى لا يصح حديث بدونه . فكيف فاته أن لا يعمل به ، و هو يعلم " أن آحاد هذه الوقائع لم تنقل تواترا " ، و يعلم أيضا أن مجموع الوقائع من الآحاد لا يورث علما ضروريا . و فاته استطلاع الواقع القرآنى المشهود ففيه القول الفصل . و ما أشار اليه من القرآن سنفرز له بحثا خاصا .
ثانيا : موقف المعاصرين الصادقين
و أتى عصر العلم و النقد . و أخذ العلماء يجهرون بالحقيقة .
1 – أوجز الاستاذ حسين هيكل ( 1 ) ، بعد بحث طويل : " لقد كان صلعم حريصا على أن يقدر المسلمون أنه بشر مثلهم يوحى إليه ، حتى كان لا يرضى أن تنسب إليه معجزة غير القرآن . و يصارح أصحابه بذلك ... و لم يرد فى كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافة ، على اختلاف عصورهم ، برسالة محمد ، إلا القرآن ... هذا مع أنه ذكر المعجزات التى جرت بإذن الله على أيدى من سبق محمدا من الرسل " .
2 – و فصل الاستاذ عبد الله السمان ( 2 ) : " لقد أغرم كثير من المسلمين بأن يحوطوا شخصية الرسول بهالة كبرى من الخوارق ، منذ ان حملت به أمه الى أن لقى ربه . و بلغ الغلو
بهم درجة لا تطاق . و من المتأكد أنه ليس لهم سند من قرآن صريح أو حديث صحيح ... " .
1 – و قال : " ان الكثيرين حين يحاولون دراسة شخصية الرسول ، يعمدون الى كتب السيرة ليأخذوا جزافا بكل ما ورد فيها . و هذه الكتب على كثرتها لا يجوز أن تكون مرجعا أصيلا فى هذا الصدد ، لأنها كتبت فى عصور لم يكن النقد مباحا تماما فيها . و معظمها كان يدون لغاية تعبدية . و الخلافات الكثيرة فى رواياتها يحتم على الباحث أن يقف منها موقف الحذر و الحيطة .
" و قد استوعبت كتب السيرة سيلا من أنباء الخوارق و المعجزات ، التى تزيد و تنقص تبعا لاختلاف الأزمان التى دزنت فيها . فبينما نجد سيرة ابن هشام لا تعنى كثيرا بأنباء الخوارق و المعجزات ، نجد أن سيرة ابن أبى الفداء ، و ( الشفاء ) للقاضى عياض ، و غيرهما ، قد عنيت العناية الكبرى بها . و كتب السيرة مزدحمة بالرواة القصاصين الذين عرفوا بالصناعة القصصية فى ما يروون . و هؤلاء لا يتحرون الدقة فى سند الرواية أو متنها ، لأنهم يعنيهم – فحسب – صياغة الاسلوب و عنصر التشويق " .
2 – ثم قال : " و إذا تركنا السيرة الى كتب الحديث ألفينا أنفسنا إزاء مشكلة معقدة تجعل الباحث فى حيرة لا تنتهى و لا تقف عند حد ... و ظهر وضع آلاف الأحاديث و نسبتها الى النبى لتكون مؤيدا لحزب سياسى ، أو ناقضا لحزب آخر . و انتهز اليهود و الزنادقة فرصة هذه الخلافات التى تدثرت بالدماء فى معظم الأحايين ، و راحوا يختلقون الأحاديث ليهدموا بها الاسلام ، و يشغلوا العامة عن أصوله لتنصرف الى شكلياته . كما تطوع كثير من السذج و البسطاء فوضعوا أحاديث فى الترغيب و الترهيب ، ظنا منهم أن فى هذا خدمة للدين ، و لو عقلوا لأدركوا أنهم إنما أساؤوا إلى الدين أكبر إساءة ... " .
( مع هذه الاسباب الثلاثة لاختلاف الاحاديث ) لم يبدا التدوين إلا فى عهد المأمون . و ذلك بعد أن اختلط النقى بالدخيل ، و أصبح الحديث الصحيح فى الحديث الكذب كالشعرة البيضاء فى جلد الثور الأسود ، كما يقول الدراقطنى أحد جامعى الحديث المعروفين ... و حسبك أن تعلم أن البخارى ، و هو شيخهم ، قد وجد ان الاحاديث المتداولة تزيد على ستماية ألف حديث ، و لكنه لم يعتمد منها فى صحيحه إلا قرابة أربعة آلاف .
و لدينا نموذج حى بهذا الخلط فى الأحاديث النبوية ، و هو كتاب ( احياء علوم الدين ) للإمام الغزالى ، من علماء الثلث الأخير من القرن الخامس ، هذا الكتاب الضخم جمع بين دفتيه ألوف الأحاديث المنسوبة الى رسول الله . و جاء الحافظ العراقى ، فى أواخر القرن الثامن ، ليخرج أحاديث ( الاحياء ) و ليجد من بين كل عشرة أحاديث واحدا تقريبا يمكن الاعتماد عليه .
3 – ثم قال : " و بعض تفاسير القرآن نفسها محشو بآلاف الأحاديث المنسوبة الى الرسول ، دون أن يكلف أصحاب التفاسير أنفسهم مشقة توضيح درجتها من الصحة و الضعف .
" ... الذين يتشدقون بأحاديث دخيلة ، و يصرون على نسبتها الى رسول الله ، و لو قبلناها ، لكان معنى هذا أن محمدا نطق بما يفسد ذوق الحياة ، و يتنكر لسنتها ، و يهدم بمعول هذه الشريعة التى قامت أصولها على المنطق القوى السليم .
" ... و هؤلاء الحمقى يرضى عقولهم مثلا أن يكون محمد ولد مختونا مكحولا مطهرا . و أن أبواب الجنة فتحت و أبواب الجحيم أغلقت ساعة ميلاده . و أن ايوان كسرى تصدع ، و نيران فارس أخمدت ، و بحيرة طبرية غارت . و يرضيهم أن يكون الجذع فى المسجد قد حن اليه ، و أن الحصى سبح بين يديه . و أن غار ثور الذى لجأ إليه يوم هجرته قد خيم العنكبوت على بابه و باض الحمام ... دون ما نظر الى أن مثل هذه القضية ، إنما تحتاج إلى أخبار معتمدة . و ليس هناك آية قرآنية صريحة فى القضية ، و لا حديث واحد متواتر ...
" و ما دام هؤلاء يحرصون على أن يكون لمحمد امتياز فى كل شىء ، فلابد أن يكون له امتياز فى الجماع . و لذا كان من خصوصياته الزواج بأكثر من أربع نسوة ، دون سائر المسلمين ، حتى لقد مات عن تسع ، سأترك للقاضى عياض فى كتابه ( الشفاء ) يقول : و قد روينا عن أنس أنه – صلوات الله عليه – كان يدور على نسائه فى الساعة من الليل و النهار ، وهن إحدى عشرة ! قال أنس : و كنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين رجلا . خرجه النسائى . و روى نحوه عن أبى رافع و عن طاووس : له عليه السلام قوة أربعين رجلا . و فى حديث أنس أنه عليه السلام قال : فضلت على الناس بأربع : السخاء و الشجاعة و كثرة الجماع و قوة البطش .
" حتى اذا أراد أن يتبول أو يتغوط ، فلا يمكن فى نظرهم أن يكون كالبشر ، بل لابد له من امتياز ، و إلا فما معنى كونه سيد ولد آدم و لا فخر ! فالقاضى عياض تارة يقول : إن الرسول كان اذا أراد قضاء حاجته فى الخلاء تجمعت الحجارة و الأشجار لتستره ! و تارة يقول : إنه اذا أراد أن يتغوط انشقت الأرض فابتلعت غائطه و بوله ، و فاحت لذلك رائحة طيبة – لأن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء ، فلا يرى منه شىء . ثم يواصل القاضى عياض هذا الهوس فيقول : إن قوما من أهل العلم قالوا بطهارة هذين الحديثن منه صلعم . و يدعى القاضى أن أم أيمن – و كانت تخدم رسول الله – شربت من بوله ، فقال لها : لن تشتكى وجع بطنك أبدا ... "
و ختم بقوله ( 1 ) : " و لسائل أن يتساءل : ألم تحدث للرسول معجزات ؟
" و نحن نقول له : إن كتب الأحاديث ، و كتب السيرة ، قد استوعبت آلاف المعجزات . و منها ما بلغ الى درجة التطرف الذى يفرض علينا الضحك . و حسبك أن تقرأ ( دلائل النبوة ) للبيهقى ، و أبى نعيم ، و ( الشفاء ) للقاضى عياض ، و شرح الزرقانى على ( المواهب ) . و الأحاديث المعتمدة معدودة على الأصابع . و كلها أحادية لا تقطع بخبر . و منها : نبع الماء ، و تكثير الطعام ...
" و الأحاديث التى وردت فيها أخبار الرسول عن الغيب تتعارض مع صريح القرآن الذى يؤكد أن الغيب لا يعلمه إلا الله وحده . و من هذه الأحاديث ، الأخبار عن عمار بأن ستقتله الفئة الباغية ، و أن الحسن يصلح الله به بين فئتين ...
" فلا يمكن أن نقر بحال من الأحوال هذا السيل من المعجزات التى نسبت إليه ، و التى لو وزعت علىالثلاثة و العشرين عاما التى قضاها فى النبوة ، لأصبح واضحا أن هذه المدة إنما ضاعت فى حدوث الخوارق المتواصلة ، دون أن يفرغ لنضال فى مكة ، أو قتال و تشريع فى المدينة .
" و الذى يقرأ للقاضى عياض فى كتابه ( الشفاء ) ، يصاب بدوار ، فهو ينسب الى الرسول معجزات متنوعة ، محاولا أن يجعلها شاملة لكل معجزات الرسل قبله . حتى إحياء
الموتى ينسبه الى الرسول ( 1 ) ، و يذكر دون خجل ... حتى حين يفكر رسول الله فى قضاء حاجته بالخلاء ، تنتقل الأشجار و تتكدس الحجارة ، و ذلك لتواريه عن الأعين ! و حين يسير ، ما من شجرة و لا حجر إلا يقول : السلام عليك يا رسول الله ! و حين يدعو العباس و أهل بيته ، تقول الأبواب و الحوائط : آمين . و هو يرى من خلفه كما يرى من أمامه ، و فى الظلام كما فى النور ... فينسب الى الرسول معجزات كان خيرا لو انه لم ينسبها اليه ... بدل أن يعرض شخصية محمد للسخرية .
" إن القرآن ذكر بعض الآيات لبعض الرسل دون البعض الآخر ، فكان أجدر له أن يذكر بعض معجزات لمحمد الذى أنزل عليه . و لكن الله عز و جل أراد أن يرفع من قدر الرسالة فيجعلها عقلية منطقية تخاطب العقل و المنطق . و أيدها بكتاب الله ليعيش معها إلى أن يرث الله الأرض و من عليها ، كآية خالدة معجزة . و قد شق محمد لدعوته طريقه إلى القلوب والعقول، غير مؤيد بالخوارق، التي لم تصلح قبله وسيلة لإقناع، لأن معه نهجا واضحا من كتاب الله ، ليس فيه تعقيد و لا التواء . و من شاء بعد ذلك فليؤمن و من شاء فليكفر " .
و هكذا فالاستاذ السمان ينقض كل معجزات الحديث و السيرة و الشمائل و المغازى . و ينقض معها كل ما يتوهمونه من معجزات فى بعض آيات القرآن . فالواقع التاريخى و القرآنى أن محمدا " غير مؤيد بالخوارق " فى نبوته و رسالته .
فلا معجزة لمحمد سوى القرآن . هذا ما قاله من قبله حسين هيكل و أهل الاعجاز .
لكننا نأخذ عليه قوله ، فى تبرير منع المعجزات عن محمد ، " ان الله عز و جل أراد أن يرفع من قدر الرسالة فيجعلها عقلية منطقية تخاطب العقل و المنطق " . و رسالة " عقلية منطقية " تنزل الوحى منزلة العقل ، ليس العقل البشرى بحاجة إليها ، و هو بغنى عنها . و هل كونها " عقلية منطقية " دليل على أنها من الله ؟ حينئذ كل تأليف بشرى دينى ، " عقلى منطقى " هو من الله ! فلابد من برهان إلهى قرين النبوة يدل عليها حتى يصح اعتبارها من الله . لقد نسى قول الإمام الجوينى ( 2 ) ، استاذ الغزالى : " لا دليل على صدق النبى غير المعجزة . فإن قيل : هل فى المقدور نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة ؟ قلنا : ذلك غير ممكن " .
و نأخذ عليه أيضا قوله : ان الله لم يؤيد محمدا بالخوارق لأنها " لم تصلح من قبله وسيلة للإقناع " . و الانجيل و النوراة شاهدا عدل على فساد هذه النظرية و على عدم مطابقتها لواقع النبوة : فقد قامت رسالة موسى و رسالة المسيح على المعجزة ، و بسبب المعجزة آمن بهما الناس على زمانهما و من بعدهما . هذا من حيث الايجاب . و من حيث السلب ، فالواقع القرآنى المكى شاهد عدل على أن أهل مكة تحدوا النبى طول العهد بمكة بالاتيان بمعجزة ليؤمنوا به : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الانعام 124 ) ، " فليأتنا بآية كما أرسل الأولون " ( الانبياء 5 ) ، " و أقسموا بالله جهد ايمانهم : لئن جاءتهم آية ليؤمن بها " ( الانعام 109 ) ، " و ما منع الناس أن يؤمنوا ... إلا أن تأتيهم سنة الأولين " ( الكهف 55 ) . ففى عرف القرآن و نصه القاطع ، ان المعجزة " سلطان الله المبين " الوحيد فى الشهادة لصحة رسالة أنبيائه و دعوتهم ( هود 96 ، المؤمنون 45 – 47 ، غافر 23 – 24 ) ، و أنها " سنة الأولين " فى النبوة و الدعوة ( الكهف 55 ، الأنبياء 5 ) .
3 – هذا ما وصل اليه أيضا الاستاذ دروزة ، فى فصل قيم موقف القرآن السلبى من كل معجزة . و ختم استشهاد القرآن بقوله : " ان حكمة الله افتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام ، و برهانا على صحة رسالته و صدق دعوته – التى جاءت بأسلوب جديد : هو أسلوب لفت النظر الى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها ... ثم اسلوب مخاطبة العقل و القلب ، فى الحث على الفضائل و التنفير من الرذائل ... و على اعتبار ان الدعوة التى تقوم على تقرير وجود الله و استحقاقه وحده للعبودية و اتصافه بجميع صفاتالكمال ، و على التزام الفضائل و اجتناب الفواحش ، هى فى غنى عن معجزات خارقة للعادة لا تتصل بها بالذات " ( سيرة الرسول 1 : 226 ) .
فالاستاذ دروزة يشهد بشهادة القرآن عينها " ان حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام " . و نحن نكرر هذا الاعتراف الصريح الذى ينكر المعجزات مبدئيا وواقعيا فى الدعوة القرآنية و السيرة النبوية .
لكننا نأخذ عليه تبرير موقف القرآن السلبى من كل معجزة ، و تبرير حكمة هذا الموقف السلبى ، بأن الدعوة القرآنية " جاءت بأسلوب جديد " فى الدعوة و النبوة ، يرده الى ثلاث ظواهر :
1) " أسلوب لفت النظر الى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها " كأن القرآن ابتدع هذا الاسلوب ، أو أعجز فيه أكثر من الكتاب و الحكمة و النبوة و الانجيل . أليس هذا الاسلوب هو أسلوب الأنبياء كأشعيا؟ أليس مزامير الزبور ، كتاب صلاة الاسرائيليين و المسيحيين ، على هذا الاسلوب ؟ أليس الذى أعجز فيه سفر الحكمة ، للرد على الفلسفة الاغريقية ؟ يكفيه أن يقرأ الانجيل بحسب متى ليرى أن المعلم المعجز فى هذا الاسلوب هو السيد المسيح . و فات الاستاذ أن هذا هو اسلوب الفلاسفة الموحدين ، و أسلوب جميع المتكلمين و الخطباء فى التوحيد : فهل هذا الأسلوب دليل النبوة عندهم ؟
2) " ثم أسلوب مخاطبة العقل و القلب " فى الترغيب و الترهيب . نجيب على الاستاذ دروزة بشهادة زميله الاستاذ عبد الله السمان ( 1 ) : " و أسلوب الدعوات الى الله يستوى فيه جميع الأنبياء و الرسل ، لأنهم جميعا تربط بينهم مهمة واحدة و هدف واحد ، و يشقون طريقهم الى قلوب الناس بأسلوب واحد ، هو تبشير المستجيبين منهم بسعادة الدنيا و نعيم الآخرة ، و إنذار المتمردين منهم بشقائهما . و محمد صلوات الله عليه واحد من الرسل ، و قد التزم هذا الاسلوب فى دعوته منذ بدايتها الى آخر لحظة من حياته : " ما يقال لك إلا ما قيل للرسل من قبلك ، ان ربك لذو مغفرة و ذو عقاب أليم " ( فصت 43 ) .
3) ان الدعوة التى تقوم على تقرير وجود الله ... و على التزام الفضائل و اجتناب الفواحش ، هى فى غنى عن معجزات خارقة للعادة لا تتصل بها بالذات " . هل يجهل الاستاذ دروزة أن جميع مؤلفات الموحدين و المصلحين ، من مؤمنين بالنبوة و كافرين ، تدعو الى التوحيد و الفضيلة ، فهل صاروا بها كلهم أنبياء ؟ و مؤلفات نوابغ الفكر الاسلامى و الفكر المسيحى كلها مما قرر : فهل كلها نبوءات ؟ و ما الذى يميزها عن دعوات النبوءات سوى المعجزات ؟ و ما الذى يميزها عن القرآن نفسه سوى اعجازه فى النظم و البيان ؟ أجل لقد فات السيد دروزة قول الإمام الجوينى الذى نقلناه فى مطلع كتابنا : " لا دليل على صدق النبى غير المعجزة . فإن قيل : هل فى المقدور نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة ؟ قلنا : ذلك غير ممكن " . وجدلية الاستاذ دروزة كغيره منذ ابن خلدون هى المغالطة عينها : ليس المطلوب صحة قول النبى فى ذاته ، بل صدقه ان كلامه هو كلام الله ،
لأن حقيقة كلام الإنسان مهما سمت لا يمكن أن تتمتع بعصمة كلام الله ، و حكمها و حكمتها بحكم و حكمة كلام الله . و الحقيقة المطلقة فى الكلام المخلوق لا تجعله فى ذاته كلام الخالق ، فلابد من بينة خارجة عن الكلام ذاته تدل على أنه كلام الله و أن النبى صادق فى نقله عن ربه ، و هذه هى المعجزة النى يشهد بها الله لنبيه . و لنا عودة الى هذا الموضوع كله .
- عدد الزيارات: 9104