Skip to main content

هل يعتبر القرآن إعجازه معجزة له؟

إعجاز القرآن

هل يعتبر القرآن إعجازه معجزة له ؟

تمهيد

1 – الإعجاز بديل المعجزة ، أي المعجزة اللغوية

في القسم الأول ثبت لنا ، بعد الاستقراء والتحليل ، فراغ القرآن من كل أنواع المعجزة . وهذا ما اضطر أهل القرآن للتكلّم عن معجزة أخرى ، أسموها "اعجاز القرآن" ؛ واعتبار هذا الاعجاز "معجزة القرآن" ؛ لأن المعجزة دليل النبوة الأوحد ، في اعتقاد أهل التوراة وأهل الانجيل وأهل القرآن . وهكذا قام الاعجاز بديل المعجزة .

فنادى القوم قديما وحديثا بأن القرآن وحده معجزة محمد . وقد نقلنا حكم شيخ أهل الاعجاز قديما ، الباقلاني : "ان نبوة النبي صلعم معجزتها القرآن" وأضاف : "وذلك أنه احتجّ عليهم بنفس هذا التنزيل ، ولم يذكر حجة غيره" (ص 16) . فتنافسوا في بيان اعجاز القرآن ، حتى ختم ابن خلدون مقالتهم جميعا بقوله : "إن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها القرآن ، لاجتماع الدليل المدلول عليه" (المقدمة السادسة) . وهذا حكم شيخ أهل السيرة حديثا ، حسين هيكل : "لم يرد في كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافة على اختلاف عصورهم برسالة محمد إلاّ القرآن" (حياة محمد) . فالاجماع قائم في الأمة أنه "لم يرد في كتاب الله ذكر لمعجزة" ، وأن القرآن وحده معجزة محمد ، باعجاز لفظه ونظمه ، أي أنه "المعجزة اللغوية" التي تشهد بصحة النبوة وصحة التنزيل .

ونحن نعلن : لا جدال في اعجاز القرآن . إنما الجدل ، كل الجدل ، في اعتبار اعجاز القرآن معجزة له . والسؤال الواجب أولا ، هل يعتبر القرآن نفسه اعجازه معجزة له ؟ ثم هل اتفق القوم على "وجه الاعجاز" لاعتباره معجزة ؟ يقول عبد الكريم الخطيب :

"وانما الأمر الذي يحتاج الى بحث ونظر ، بل الى كثير من البحث والنظر ، هو دلائل الاعجاز ووجوهه ؛ حيث أن الأمر لا يقع موقع المشاهدة والحس ؛ وانما هو حقيقة مضمرة في كلمات القرآن وآياته . والكشف عنها ليس ممّا يتيسّر لكل طالب ... من أجل هذا ذهب الناس مذاهب شتى في وجوه الاعجاز" . فليس الاعجاز معجزة ظاهرة لكل ذي بصيرة وبصر . وهذا الاختلاف القائم الدائم في "دلائل الاعجاز ووجوهه "هو البرهان القاطع على أن اعجاز القرآن ليس بمعجزة له . جاء في (الاتقان 117:2) للسيوطي : "ما لا يمكن الوقوف عليه ، لا يُتصوّر التحدي له" فلا يقوم الاعجاز مقام المعجزة دليلا على النبوة والتنزيل .

2 – "القرآن المصفىّ"

 

ولصحة الحكم في اعجاز القرآن ، في النظم والبيان ، كان لا بدَّ من وجود القرآن كما نزل على النبي . لكن القرآن مرّ بتصفيتين ، قبل أن يصلنا بحرفه العثماني والحجّاجي .

1) التصفية الأولى على يد محمد نفسه ، في عرْضات القرآن السنوية . جاءَ في (الاتقان 51:1) : "أخرج ابن اشته ، عن ابن سيرين ، قال : كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم كل سنة في شهر رمضان مرة . فلما كان العام الذي قُبض فيه عارضه مرتين . فيرون أن تكون قراءَتنا على العرضة الأخيرة . وقال البغوي في (شرح السُنّة) : يقال أن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بيّن فيها ما نُسخ وما بقي ... ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه ، وولاّه عثمان كتابة المصاحف ... ذكر ابن جرير (الطبري) : لا شك أن القرآن نُسخ منه في العرضة الأخيرة – بالفعل المبني للمجهول – فاتفق رأي الصحابة على أن كتبوا ما تحققوا أنه قرآن مستقر في العرضة الأخيرة ، وتركوا ما سوى ذلك" . وفي موضع آخر : "والمعتمد أن جبريل كان يعارضه في رمضان بما ينزل به طول السنة" (الاتقان 41:1) .

ما هذه القصة في عرْضات القرآن السنوية ؟ والقرآن تنزيل في روع النبي ، فكيف "شهد زيد بن ثابت العرضة الأخيرة" ؟ حديث وضعوه يصف تنقيح النبي للقرآن كل سنة . ويدور هذا التنقيح النبوي على تصفية المنسوخ منه في بحر السنة . و "القرآن المصفّى" نفسه يشهد "بالمحو" و "التبديل" واقعين فيه (النحل 101) .

مع هذه التصفيات النبوية السنوية ، كان القرآن يُقرأ على عهد النبي نفسه "على سبعة أحرف" – والعدد للرمز لا للحصر – "باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني" ، كما نقل الطبري . لذلك ما كان التنقيح النبوي السنوي ليأتي على "اختلاف الألفاظ" في "الأحرف السبعة" . وبعد وفاة محمد ، ظل هذا الاختلاف في أحرف القرآن قائما .

2) التصفية الثانية على يد عثمان به عفان والصحابة

في صدر الاسلام انشغل القوم بحروب الردة في الداخل ، ثم بالفتوحات في الخارج . فتحولت الرخصة النبوية بقراءَة القرآن على سبعة أحرف ، والرخصة بقراءته بلغات العرب كلها ، والرخصة بقراءَته أحيانا بالمعنى من دون الحرف ، الى فوضى أفزعت القوم من ضياع القرآن ، فلجأوا الى وضع "إمام مبين" . فكانت التصفية الثانية ، بأمر عثمان والصحابة ، على يد اللجان المتعدّدة . فأتلف الأحرف الستة ، ليسلم الحرف العثماني الموحد .

جاء في (الاتقان 186:1) : عن ابن اشته : "فهذا الخبر يدل على أن القوم كانوا يتخيّرون أجمع الحروف للمعاني ، وأسلسها على الألسنة ، وأقرنها في المأخذ ، وأشهرها عند العرب ، للكتاب في المصاحف" .

وقد شملت التصفية العثمانية أمورا كثيرة .

لقد اسقط عثمان ستة أحرف ، كما ينقل الطبري ، ليسلم الحرف "العثماني" وحده . فهل كان عثمان والصحابة ولجانهم معصومين ليختاروا النص الصحيح ؟ وقد مرت بنا الشهادة في حقيقة تصفيتهم لنص القرآن : "إن القوم كانوا يتخيرون" !

وفي الحرف المختار المصفّى أسقطوا كثيرا من المنسوخ ، الذي كان يحتفظ به علي بن أبي طالب في مصحفه ، كما يقولون .

وأسقطوا كذلك بعض القرآن من التلاوة ، حتى "ذهب منه قرآن كثير" كما نُقل . وقد قيل أيضا : "غيّر عثمان المصاحف" !

ومن التصفية العثمانية ، ما ورد على لسان الامام علي : "ما في قريش أحد إلاّ وقد نزلت فيه آية" (الاتقان 151:2) : فأين هذا كله ؟

وجعل عثمان ترتيب التلاوة على غير ترتيب النزول ، واعتمد مبدأ الطول في الترتيب ، فتداخلت السور المكية بالمدنية ، والآيات المدنية بالمكية ، وضاع الترتيب التاريخي في الآيات وفي السور ، وهو أساس لصحة الحكم بالاعجاز في القرآن وتطور البيان .

مع ذلك بقي في الحرف العثماني ما بقي . نقل الرازي : "روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا : ان في المصحف لَحَنا ، وستقيمه العرب بألسنتها" !

وهكذا ، بعد التصفية النبوية ، وبعد التصفية العثمانية ، لم يبق للحكم في اعجاز القرآن إلاّ "القرآن المصفّى" الذي أقامته العرب بألسنتها ، قبل جمعه وتدوينه ، على نص واحد ، ولغة واحدة . مع ذلك لم يسلم من "اختلاف القراءات" حتى اليوم .

فهذا "القرآن المصفّى" هو "القرآن المصطفى" بواسطة اللجان العثمانية : فهل يصح منه حكم شامل كامل في اعجاز القرآن ؟ وهل الاعجاز الباقي هو للحرف المنزل ، ام للحرف المصفى ؟

مع كل تلك الشبهات القائمة على صحة حرف القرآن ، ما زلنا نقول بصحته الجوهرية ، التي نحتكم اليها في قيام الاعجاز بديل المعجزة ، وفي صحة اعتبار اعجاز القرآن معجزة له .


 

الفصل الأوّل

أسس اعتبار الإعجاز معجزة

توطئة

أسس اعتبار الاعجاز معجزة غير متينة

 

واقعان قائمان في القرآن : فراغه من معجزة تشهد له ، بتصريحه عن محمد ان المعجزة منعت عنه منعًا قاطعًا ، في المبدأ وفي الواقع ؛ وقوله بإعجاز فيه يتحدى به المشركين . وبما أن واقع امتناع المعجزة ثابت ، فما معنى تحديه باعجازه ؟ سنراه في الفصل التالي . لكن بما أن القرآن يشهد بامتناع المعجزة على محمد ، فلا يصح مبدئيا بحال من الأحوال اعتبار اعجازه معجزة له .

مع ذلك فقد حاول القوم منذ ألف سنة اعتبار الاعجاز معجزة . فباءَت هذه المحاولات الألفية بالفشل ، حتى اضطر أهل عصرنا أن يتبرّأوا من حجّية المعجزة لصحة النبوة ، ضاربين عرض الحائط بضرورة المعجزة لصحة النبوة بحسب أهل "الكتب السماوية" أجمعين .

فبنوا قولهم بالاعجاز على "أمية محمد" . وهذا موقف مغالطة قرآنية مشهود . فتعبير "النبي الأمي" (الاعراف 157) اصطلاح قرآني ، أخذوه على حرفه ولغته .

شك بعضهم بهذا الأساس المشبوه ، فقالوا : القرآن كلام الله ، فهو معجز بذاته للمخلوق . فوقعوا في مغالطة منطقية مكشوفة ، إذ أقاموا المدلول عليه مقام الدليل .

وفتش الجميع عن وجه الاعجاز في القرآن ، فاختلفوا فيه ، وما زالوا مختلفين . واختلاف الأمة في "دلائل الاعجاز ووجوهه" برهان قاطع على أنه أساس مشبوه .

ونحن ندرس الآن في أبحاث ثلاثة هذه الأسس لاعتبار الاعجاز معجزة : "أمية" محمد ؛ القرآن كلام الله ، فهو معجز بذاته وجه الاعجاز في القرآن مختلَفٌ فيه .


 

بحث أول

"أمّيّة" محمّد . وهي الأساس الأوّل للإعجاز

محمد درس وتعلّم

1) وليقولوا : درست (105:6) درس محمد كما درس أهل الكتاب

2) المشركون ما درسوا : كتاب فيه تدرسون (37:68) ؛ من كتب يدرسونها (44:34) ؛ كنا عن دراستهم لغافلين (156:6) .

3) أهل الكتاب يدرسون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79:3) ؛ "ودرسوا ما فيه" (169:7).

محمد تعلم الكتاب والحكمة ، وهو يعلم الكتاب والحكمة

محمد تعلم الكتاب والحكمة مثل عيسى (48:3) ؛ عليك الكتاب والحكمة (113:4) ؛ علمتك الكتاب والحكمة (110:5) ؛ آل ابراهيم الكتاب والحكمة (54:4)

آتيناهم الكتاب والحكم (لفظ عبراني) (89:6) ؛ آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة (16:45) ؛ أتيتكم من كتاب وحكمة (81:3) من الكتاب والحكمة (231:2) .
أدع الى سبيل ربك بالحكمة (125:16) ؛ أوحىاليك ربك من الحكمة (39:17) ؛ من آيات الله والحكمة (34:33) .
ويعلمهم الكتاب والحكمة (164:3 ؛ 2:62) ؛ ويعلمكم الكتاب والحكمة (151:2) ؛ من الآيات والذكر الحكيم (58:3) ؛ تلك آيات الكتاب الحكيم (1:10 ؛ 2:31) ؛ والقرآن الحكيم (1:36) .

محمد تعلّم التأويل

ويعلمك من تأويل (6:12) ؛ ولنعلمه من تأويل (21:12) ؛ وعلمتني من تأويل (101:12) ؛ هل ينظرون إلاّ تأويله ؛ يوم يأتي تأويله (53:7) ؛ وابتغاء تأويله ؛ وما يعلم تأويله إلا الله (7:3) .

إن الأساس الأول للقول بإعجاز القرآن معجزة هو "أمية" محمد .

وقد عبّر الدكتور أحمد أحمد بدوي عن مقالة الجميع في قوله : "وممّا أكّده القرآن من صفات محمد الأمّية ، يصفه بها في قوله : "قل : يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا ، الذي له ملك السماوات والأرض ، لا إله إلاّ هو يُحيي ويميت . فآمن بالله ورسوله ، النبي الأمي ، الذي يؤمن بالله وكلماته (كلمته) واتبعوه لعلكم تهتدون" . ويبيّن حكمة اختياره . "أمّيًّا" في قوله : "وما كنت تتلو من قبله من كتاب ، ولا تخطّه بيمينك : إذًا لارتاب المبطلون" . واذا كانت الأمّية ممّا يُعاب ، فهي المعجزة بين رسالة النبي والشكّ فيها . ولو أنه كان يقرأ ويكتب لكان للمبطلين مجال للريب في صدْق رسالته" .


 

أولا : اصطلاح "الأمّي" في القرآن

تُنْسَخ "أمّيّة" محمد على هذه الصفة القرآنية : "النبي الأمي" ، على أساس اللغة ، لا بحسب الاصطلاح القرآني المتواتر .

1 – كان أهل الكتاب يقسمون الناس الى كتابيّين وأمّيين أي الأمم الذين لا كتابَ منزلا لهم ؛ وكانوا يقولون : "ليس علينا في الأمّيين سبيل" (آل عمران 75) . فقسمهم

القرآن في الجزيرة مثلهم : "وقلْ للذين أوتوا الكتاب والأمّيين : أأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا" (آل عمران 20) . فالعرب المشركون كلهم أمّيون لأنهم ليسوا من أهل الكتاب ، ولا كتاب منزلا لهم .

2 – ومحمد هو "أمّي" لأنه من العرب الأمّيين ، غير الكتابيين : "هو الذي بعث في الأمّيين رسولا منهم ، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإنْ كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (الجمعة 2) . فهذه الآية تقطع بأن "الأمي" اصطلاح قرآني يعني "العربي الذي ليس له كتاب منزل" . فمحمد هو "النبي الأمي" (الأعراف 157 – 158) أي النبي العربي ، لأنه من العرب الأمّيين واليهم . وليس في التعبير أدنى معنى للأمية اللغوية في العلم والمعرفة والثقافة والدرس والتدريس . قال الاستاذ دروزة : "تكرر وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأمي ؛ وهو الوصف الذي جاءَ في القرآن لغير الكتابي ، أو للعرب لأنهم غير كتابييّن" .

فالواقع القرآني كله يشهد بأن "النبي الأمي" اصطلاح قرآني ؛ ولا يرد في القرآن كله تعبير "الأمي" لغة إلاّ في موضع واحد بحق بعض الكتابيين من اليهود : "ومنهم أمّيون ، لا يعلمون الكتاب إلاّ أماني ، وإنْ هم إلاّ يظنون" (البقرة 78) . فالاستناد الى القرآن نفسه في تعبيره "النبي الأمي" للقول بأمية محمد هو افتراء على القرآن .

ومحمد هو "النبي الأمي" لأنه قبل الأمر اليه في رؤيا غار حراء : "وأمرتُ أن أكون من المسلمين ، وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) – حيثُ أمر أن ينضم الى المسلمين الموجودين بمكة من قبله وأن يتلو معهم "القرآن" الذي يتلون – "ما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك : إذًا لارتاب المبطلون" (العنكبوت 48) . فالآية لا تشهد بأمية محمد المطلقة بل بأمية محمد بالنسبة الى الكتاب المقدس ، "القرآن" على الاطلاق ، قبل مبعثه وهدايته الى الايمان به : "وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ؛ ولكن جعلناه نورا نهدي به مَن نشاء من عبادنا ، وإنك لتُهدى الى صراط مستقيم ، صراط الله " (الشورى 52 – 53) . فمحمد قبل هدايته الى الايمان بالكتاب المقدس ، ما كان يدري ما الكتاب ولا الايمان ! وما كان يتلوه ولا يخطه بيمنه

مثل أهل الكتاب . لكنه لمّا أُمر بالانضمام إلى الكتابيين المسلمين من قبله ، وبتلاوة قرآن الكتاب معهم ، أخذ يتلو الكتاب ، وربما يخطه بيمنه مثلهم ومعهم ، "فدرس" ، "وعلمهم الكتاب والحكمة" أي التوراة والانجيل .

فلما "درس" محمد الكتاب (الانعام 105) تعلّم "القرآن" أي الكتاب وتعلّم البيان ، كما في قوله : "الرحمان علّم القرآن خلق الانسان علّمه البيان" . فالإنسان كناية هنا عن محمّد ، وينسب تعلم البيان الى الرحمان كما ينسب الى الكاتب بالعدل "أن يكتب كما علمه الله" (البقرة 282) .


 

ثانيا : شهادة القرآن بثقافة محمّد

 

1 – إن أول آية نزلت من القرآن العربي تشهد بأن محمدا كان يقرأ ويكتب :

"إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق

إقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم

علّم الإنسان ما لم يعلم"

(العلق 1 – 5)

إن الوحي يأمره بأن يقرأ ما يُعرض أمامه : وهذا عبث إلهي – استغفر الله – إذا لم يكن محمد قارئا . وقوله : "علّم بالقلم" شاهد على أن محمدا تعلّم بالكتابة ، فكان يكتب . وقوله لمحمد "علَّم" يدل على أنه تعلّم فكان عالمًا . فالآية الأولى تشهد بثقافة محمد وعلمه .

ويأتي الحديث الصحيح في رواية غار حراء يروي أن ما عُرض عليه في غار حراء للقراءة كان "درجًا مكتوبًا" أُمر ثلاث مرات بقراءَته فقرأه .

2 – وفي السورة الثانية (القلم) إشارة صريحة الى كتابة الوحي ودراسة الكتاب المقدس ! فهو يستعلي على بني قومه المشركين بقوله : "أفنجعل المسلمين كالمجرمين ؟ ما لكم كيف تحكمون ؟ أم لكل كتاب فيه تدرسون ؟ ... أم عندهم الغيب فهم يكتبون" (35 – 37 مع 47) . محمد وحيد لا جماعة له بعد ، فالمسلمون المذكورون هم الذين أُمر أن ينضمَّ اليهم وأن يتلو القرآن معهم (النمل 91 – 92) . وهو يستعلي على المشركين المجرمين بانتسابه

إلى أهل الكتاب "المسلمين" أي النصارى من بني اسرائيل ، جماعة ورقة بن نوفل وعداس القسّين في مكة على النصارى العرب ، والنصارى الأجانب ؛ ويستعلي عليهم بالكتاب الذي يدرسه مع هذه الجماعة ، وبالغيب المنزل فيه ، ومنه يكتب معهم . وهذه شهادة مبكرة جدا وصريحة بدراسته وثقافته الكتابيتين . وهي شهادة متواترة : "أم آتيناهم كتابا ، فهم على بيّنة منه" ؟ (فاطر 40) فهو عنده كتاب ، وهو على بيّنة منه ؛ "وما آتيناهم من كتب يدرسونها" (سبأ 44) ، فهو عنده كتب يدرسها .

3 – لا يكتفي محمّد بدرس الكتاب الإمام ، بل يؤمر بترتيله في قيام الليل :

"يا أيها المزمّل قم الليل إلاّ قليلاً نصفه أو انقصْ منه قليلا

أو زدْ عليه ورتّل القرآن ترتيلا إنّا سنلقي عليك قولا ثقيلا

(المزمل 1 – 5)

لم ينزل من القرآن العربي بعد سوى عشر آيات في مطلع (العلق والقلم) . ولم يُعرف حتى يُعرّف على الاطلاق : "القرآن" المشهور . فقد اهتدى محمد الى الايمان بالكتاب (الشورى 52) ؛ وهنا يُؤمر بترتيل قرآن الكتاب : فالكتاب هو "القرآن" على الاطلاق . وقيام الليل للصلاة وترتيل آيات الله ليست عادة عربية ، ولا يهودية ، بل نصرانية رهبانية : فمحمد يؤمر بترتيل الكتاب مع جماعة النصارى بمكة في صلاة الليل ، بعد درسه وكتابة الوحي منه . فقرآن الكتاب هو دراسة محمد ، وصلاته في قيام الليل .

4 – وأهل مكة يعرفون أن محمدا يدرس الكتاب ويكتبه : "وقالوا : أساطير الأولين اكتتبها ، فهي تُملى عليه بُكرَةً وأصيلاً" (الفرقان 5) . لا يردّ على هذه التهمة ؛ انما يردّ قبل هذه الآية على افتراء القرآن العربي : "وقال الذين كفروا : إنْ هذا إلاّ إفك افتراه ! وأعانه عليه قوم آخرون ! – فقد جاؤوا ظلما وزورا" (الفرقان 4) . فمن الظلم والزور أن ينعتوا القرآن العربي "افكا افتراه" . لكنه لا يردّ إعانة القوم الآخرين التي يؤكدونها في الآية التالية : "اساطير الأولين اكتتبها ، فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً" (الفرقان 5) . فهذا الاكتتاب لا يمنع تنزيل القرآن : "قل : أنزله الذي يعلم السرّ في السماوات والأرض" (الفرقان 6) .

فما كان القرآن العربي لينقل تهمة كتابته للكتاب الذي يصفونه "اساطير الأولين" ، لو لم تكن كتابته لكتاب أمرًا مشهودًا .

5 – إن محمدا "درس" الكتاب ، كما "يدرسه" أهل الكتاب

يقول : "وكذلك نصرّف الآيات – وليقولوا : درست ! – ولنبيّنه لقوم يعلمون" (الأنعام 105) . لا يردّ على تهمة الدرس ؛ إنما يبيّن الغاية منها ، وهي تبيان الكتاب الذي يدرس "لقوم يعلمون" . اذا كانوا يعلمون فليسوا بحاجة الى بيان . إنما هو تعبير اصطلاحي كناية عن "أولي العلم" أي النصارى من أهل الكتاب : فقد درس الكتاب ليبيّنه لأهله ، كأنه إمامهم ؛ وليبيّنه أيضا للعرب الذين غفلوا عن دراسته : "أنْ تقولوا : إنما نزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، وإنْ كنّا عن دراستهم لغافلين" (الانعام 156) . يظهر محمد كأنه إمام النصارى ، ومعلّم العرب .

وقد "درس" الكتاب كما "يدرسه" أئمته : "ودرسوا ما فيه" (الاعراف 169) .

6 – والقرآن العربي يكشف عن أئمة الكتاب الذين يدرّسون محمدا : "ولقد آتينا موسى الكتاب : فلا تكن في مرية من لقائه ! وجعلناه هدى لبني اسرائيل ، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا ، لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون" (السجدة 23 – 24) .

القرآن العربي يقسم بني اسرائيل الى طائفتين : النصارى واليهود (الصف 14) . فالنصارى ، في لغة القرآن ، هم حصرا النصارى من بني اسرائيل ، وهو معهم "أمة واحدة" (الأنبياء 92 ؛ المؤمنون 52) . واليهود هم الذين كفروا بالمسيح ، ويكفرون بمحمد ، فليسوا هم أساتذة محمد في علم الكتاب هم علماء النصارى من بني اسرائيل .

7 – وعلماءُ النصارى من بني اسرائيل هم "أولو العلم قائمًا بالقسط" الذين يشهدون مع الله وملائكته "أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) . ويسميهم "الراسخين في العلم" (آل عمران 17 ؛ النساء 162) ، بل "العلماء" على الاطلاق : "إنما يخشى الله من عباده العلماء" (فاطر 28) وكلها اصطلاحات قرآنية يُخطئ من يأخذها على حرف اللغة .

والنبي الأمي يُؤمن بالله وكلمته بهداية هؤلاء الأثمة النصارى من بني اسرائيل : "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" (الاعراف 159 قابل 181) لأنهم هم الذين عندهم "علم الكتاب" (الرعد 43) ، والقرآن العربي نفسه "هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم" (العنكبوت 49) .

هؤلاء الأئمة النصارى من بني اسرائيل الذين يعلمون الكتاب والقرآن العربي هم الذين اليهم يحيل محمدا في مشكلاته وشكوكه : "فإن كنت في شك ممّ أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك : لقد جاءَك الحق من ربك ، فلا تكوننّ من الممترين ، ولا تكونن من الذين كذّبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين" (يونس 94 – 95) .

فمحمد يقرأ الكتاب على يد أساتذته الذين يقرأون الكتاب من قبله . لذلك فقوله : "ولقد نعلم أنهم يقولون : إنما يعلمه بشر ! – لسان الذي يلحدون اليه أعجمي ، وهذا لسان عربي مبين" (النحل 103) ، لا ينفي التعلّم والدرس ، إنما ينفي كون القرآن العربي تعليم بشر ، مع كونه "آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" (العنكبوت 49) . أجل "وإنه لتنزيل رب العالمين ... وإنه لفي زبر الأولين : أو لم تكن لهم آية أن يعلمه علماء بني اسرائيل" النصارى (الشعراء 192 – 197) . فآية محمد أن علماء النصارى من بني اسرائيل يعلمون أن القرآن العربي تنزيل رب العالمين لأنه في زبر الأولين أي "كتبهم كالتوراة والانجيل" (الجلالان) .

8 – ومحمد يستشهد على صحة دعوته "بمن عنده عِلْم الكتاب" (الرعد 43) . ويعلم الكتاب يجادل المشركين ويستعلي عليهم : "ومن الناس مَن يجادل في الله بغير علم ، ويتّبع كل شيطان مريد" (الحج 3) ، "ومن الناس مَن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" (الحج 8 ؛ لقمان 20) – فمحمد يجادل المشركين بهدى الكتاب المنير والعلم الذي اقتبسه منه ، بتعليم "من عنده علم الكتاب" .

9 – فبهذه الثقافة الكتابية التي تعلمها محمد ممن عنده علم الكتاب كان يجادل العرب المشركين ويستعلي عليهم ، لأن له في علم الكتاب سلطانا مبينا ليس لهم : "أم لكم سلطان مبين ، فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين" (الصافات 156 – 157) . لذلك يتحداهم : "ائتوني بكتاب من قبل هذا ، أو أثارة من علم ، إن كنتم صادقين" (الأحقاف 4). فهو عنده كتاب من قبل القرآن العربي ، وعنده علْم الكتاب : "ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمة" (هود 17) ، "ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ، وهذا كتاب مصدّق لسانا عربيا" (الاحقاف 12) : فليس في القرآن العربي ، بالنسبة الى الكتاب الإمام ، سوى اللسان العربي المبين .

10– ان محمدا في القرآن العربي يُؤمر أن يقتدي بهدى أهل "الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوة" أي من هم أهل "الكتاب والحكمة" ، التوراة والانجيل معا : "أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ... أولئك الذين هدى الله ، فبهداهم اقتده" (الانعام 89 – 90) – فثقافة محمد في القرآن العربي كتابية بكل معنى الكلمة ، بل "نصرانية" .

11– وما القرآن العربي سوى تفصيل وتصديق للكتاب الإمام (هود 17 ؛ الاحقاف 12) بين العرب : "وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله ؛ ولكنْ تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب ، لا ريب فيه ، من رب العالمين" (يونس 37) . إن محمدا ، بأمر الله في غار حراء ، يفصّل الكتاب للعرب في القرآن العربي . والتفصيل بلغة القرآن يعني الترجمة بلغتنا : "ولو جعلناه قرآنا أعجميا ، لقالوا : لولا فُصّلت آياته" (فصلت 44) . فالقرآن العربي ترجمة مفصّلة لقرآن الكتاب الذي عند بني اسرائيل النصارى : "وقد شهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" (الاحقاف 10) . وهذا التفصيل يقتضي العلم الغزير . ولا ننس أن "التنزيل" في لغة القرآن تعبير متشابه لا يعرف معناه ومداه إلاّ بالقرائن القرآنية كلها ، ومنها التفصيل والترجمة .

12– يدل على ذلك صلة القرآن المصدرية بالكتاب الإمام : "إن هذا (القرآن) لفي الصحف الأولى" (الأعلى 18) ، وإنه في زُبر الأولين ، وإن كان تنزيل رب العالمين : "وإنه لتنزيل رب العالمين ... وإنه لفي زبر الأولين" (الشعراء 192 – 196) . وهاتان الصفتان للقرآن العربي تدلاّن على أن تنزيل القرآن العربي كان من تنزيل الكتاب الإمام ، فهو تنزيل التنزيل أي تفصيله . ويشهد بذلك أيضا ، معرفة أولي العلم المقسطين أي النصارى من بني اسرائيل : "أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني اسرائيل" النصارى (الشعراء 197) ؛ أنهم يعرفون تفصيل الكتاب في القرآن العربي معرفة الوالد ولده : "يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم" (البقرة 146) ، "وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم ؛ ومَن بَلَغ ... الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم – الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون" (الانعام 19 – 20) . لذلك "هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" ، أئمة النصارى (العنكبوت 49) . فهذه الصلة المزدوجة بين القرآن والكتاب ، وبين أهل الكتاب النصارى والقرآن ، حيث هم "أمة واحدة" (الأنبياء 92 ؛ المؤمنون 52) يؤمنون أن التنزيل واحد ، والاله واحد ،

والاسلام بينهم واحد (العنكبوت 46) ، دليل حاسم على أن القرآن العربي "درس" و "تدريس" للكتاب الإمام .

13– إن القرآن العربي "درس" و "تدريس" للكتاب الإمام كما يُستدل أيضا من هذه التصاريح . إن "الحكمة" على التخصيص في لغة القرآن كناية عن الانجيل : "قال (عيسى) : قد جئتكم بالحكمة" (الزخرف 63) ؛ والكتاب كناية عن التوراة والنبيين ؛ لذلك يقول لعيسى : "وإذ علمتك الكتاب والحكمة – والتوراة والانجيل" (المائدة 110) . والله تعالى قد آتى "آل ابراهيم الكتاب والحكمة" (النساء 54) ؛ "وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ، وعلّمك ما لم تكن تعلم ، وكان فضل الله عليك عظيما" (النساء 113) . علّمه الكتابوالحكمة ، التوراة والانجيل ، بواسطة أولي العلم المقسطين أي علماء النصارى من بني اسرائيل : "فلا تكن في مرية من لقائه ... وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا" (السجدة 43 – 44) فإنّك "ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ، ولكن جعلناه نورا نهدي به مَن نشاء من عبادنا ، وإنك لتُهدى الى صراط مستقيم" (الشورى 52) . فقد تعلم محمد بواسطتهم الكتاب والحكمة – التوراة والانجيل ، وجعل يعلّمهم للعرب في دعوته : "ويُعلمهم الكتاب والحكمة" (البقرة 129 ؛ آل عمران 164 ؛ الجمعة 2) ، "ويعلمكم الكتاب والحكمة" (الأحزاب 34) .

14– فالقرآن العربي هو معًا تنزيل وتفصيل ، وتعلّم وتعليم ، لأن العلم لا يمنع التنزيل . فقد أمِرَ أن يتّبع في دعوته علم أولي العلم الذين "آتيناهم" الكتاب والحكم والنبوة ... وآتيناهم بينات من الأمر . فما اختلفوا إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم بينًا بينهم ... ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ، ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون" أي المشركين (الجاثية 16 – 18) . فهو يميّز بين الذين لا يعلمون ، والذين يعلمون أي أهل الكتاب ، وبين هؤلاء يميز بين الذين اختلفوا لمّا جاءَهم "العلم" الانجيلي مع المسيح أي اليهود ، وبين النصارى من بني اسرائيل ، "أولي العلم" على التخصيص . فهؤلاء على محمد أن يتّبع طريقتهم في أمر الدين . وعليه أيضا أن يقتدي بعلمهم وهداهم : "أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ... أولئك الذين هدى الله ، فبهداهم اقتدِهْ" (الأنعام 89 – 90) .

15– فقد عاش محمد قبل بعثته ، وفي دعوته في بيئة "أولي العلم" . إن "العلم" على التخصيص ، في اصطلاح القرآن ، هو علم الانجيل والنصارى من بني اسرائيل ، هذا "العلم" الذي اختلف فيه اليهود "من بعد ما جاءَهم العلم بغيًّا بينهم" (19:3 ؛ 14:42 ؛ 17:45) . أما محمد فقد "درس" علم أولي العلم المقسطين (الانعام 105) وأخذ يعلم العرب الكتاب والحكمة "بعد الذي جاءَك من العلم" (البقرة 120) ، "من بعد ما جاءَك من العلم" (البقرة 145 ؛ آل عمران 61) ، "بعد ما جاءَك من العلم" (الرعد 37) . فهو "أمة واحدة" مع "الراسخين في العلم" الذين يشهدون مع الله وملائكته "أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) ويؤمنون على سواء بمحكم القرآن والمتشابه فيه (آل عمران 7) . فالقرآن الكتابي آيات بينات في صدر محمد ، كما أن القرآن العربي "هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" (العنكبوت 49) . لذلك "يرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل اليك من ربك هو الحق ، ويهدي الى صراط العزيز الحميد" (سبأ 6) ، وإن كان "ما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا" (الاسراء 85) . ومحمد يعتزّ دائما بشهادة "من عنده علم الكتاب" (الرعد 43) ، "الذين أوتوا العلم" (27:16 ؛ 80:28 ؛ 56:30) . لذلك أيضا "يرفع الله الذين آمنوا منكم ، والذين أوتوا العلم درجات" (المجادلة 11) .

فبيئة محمد قبل بعثته ، وفي دعوته ، هي بيئة "أولي العلم" ؛ وثقافة محمد هي ثقافة "أولي العلم" ؛ وبهذا "العلم" يجادل العرب الذين يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (8:22 ؛ 20:31) ، ويشهد لهم في القرآن العربي بشهادة الله وملائكته "وأولي العلم قائما بالقسط ... أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) .

16– والقرآن يشهد أخيرا بأن محمدا تعلّم البيان مع الكتاب . يقول : "الرحمان علم القرآن ، خلق الانسان علّمه البيان" (الرحمان 1 – 4) . يقصد "بالانسان" محمدا نفسه لضرورة حمله على "علّم القرآن" ، فهو تخصيص في معرض التعميم . وقوله "علمه البيان" قد يُحمل على "علم القرآن" ؛ لكن يمنع من ذلك ربطه بما قبله مباشرة وهو "خلق الانسان" : فكما أنَّ الخلق بالولادة ليس معجزة ، كذلك تعليم البيان المربوط به ليس عن طريق المعجزة أو عن طريق التنزيل . فالله خلق محمدًا وعلمه البيان كسائر أهل البيان ؛ ثم "الرحمان علّم القرآن" . فتعلم البيان لا يقوم على تعلم القرآن ؛ بل هو سابق له مربوط بخلق محمد قبل تنزيل القرآن .

وهكذا فالقرآن يشهد بصراحة أن محمدا "درس" وتعلم "البيان" . وهو يدعو أهل مكة ويجادلهم بهدى وعلم الكتاب المنير ، مع "الراسخين في العلم" .

وهكذا فجميع القرائن القرآنية الصريحة – التي توضح معنى بعض الآيات المتشابهات – تشهد شهادة جامعة مانعة بأن محمدا كان "عالمًا" في صحبة "الراسخين في العلم" .


 

ثالثا : شهادة التاريخ بثقافة محمّد الواسعة

 

إن التفسير الصحيح للقرآن ، والحديث الصحيح ، والتاريخ الصحيح ، كلها تؤيد شهادة القرآن ، بثقافة محمد الكتابية والعامة الواسعة .

1 – بيئة النبي والقرآن العلمية والكتابية

علّق الاستاذ دروزة على القرائن القرآنية بقوله : "والقرائن القرآنية تلهمنا من جهة ، والتاريخ المتّصل بالمشاهدة من جهة أخرى يخبرنا بأن آلافا مؤلفة من العرب كانوا نصارى ، ومنهم البدو ومنهم الحضر ... وفيها دلائل على ما كان عند عرب الحجاز ، وعرب مكة خاصة من إلمام غير يسير بالنصرانية وعقائدها وقصصها واشكالات ولادة المسيح ص ونبوته وصلبه ، وما كان فيها من مذاهب وآراء . وطبيعي أن يكون لهذا كله ردّ فعل في نفوسهم ومعارفهم وعقولهم وعقائدهم . ويدل على التأثر بهم بطبيعة الحال . واذا أريد أن يقال أنه لم يكن في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة من النصارى ما يمكن أن يكون له أثر بالغ في العرب ، كالذي يمكن أن يكون لليهود بسبب كثرتهم فينبغي أن لا ننسى أنه كان في مكة من النصارى الذين هم فطنة علم وتعليم ما يكفي لتأثير نابهيها الذين قادوا حركة المعارضة للنبي صلى الله عليه وسلم والذين حكى القرآن على الأغلب مواقفهم وأقوالهم ؛ وأن مشركي مكة ذهبوا فيما ذهبوا اليه أن النبي قد تعلّم وتأثر بهم (النحل 103 فرقان 4) .

"وان لا ننسى تلك الألوف المؤلفة من متنصرة العرب الذين كان الحجازيون خاصة يغدون ويروحون اليهم في أسفارهم ورحلاتهم ، ويخالطونهم مخالطة الشقيق ، ويتفاهمون

معهم بلسانهم القومي المشترك . وأن لا ننسى أيضا أن كثيرا منهم كانوا يشهدون مواسم الحج وأسواقه ، ومنهم مَن كان يبشر ويخطب كقس بن ساعدة . وأن الصلات والتقاليد القبلية كانت تجمع النصراني من العرب برابطة الآباء والأجداد ربطا وثيقا تتّصل أواصره وتستمر . وأنه كان كثير من العرب غير النصارى ، وخاصة الحجازيين يصهرون الى عرب النصارى ، وبالعكس ، فتزداد هذه الأواصر والمظاهر قوة ولحمة . وان هذا كله من شأنه أن يُهيئ لعرب الحجاز الفرص الكثيرة الوافية للاطلاع والاستماع والدرس والتأثر" .

واستطرد الى ترجمة التوراة والانجيل الى العربية ، فقال : "إن القرآن يحكي مواقف حجاج ومناظرة دينية بين النبي صلى الله عليه وسلم من جهة والنصارى واليهود من جهة أخرى ... والقرائن القرآنية تلهمنا من جهة ، والتاريخ المتصل بالمشاهدة من جهة أخرى يخبرنا بأن آلافا مؤلفة من العرب كانوا نصارى ، ومنهم البدو ومنهم الحضر ! واستتباعا لهذا فإن السائغ أن يقال : إنه لا بد من أن يكون بعض أسفار العهد القديم والعهد الجديد ، إن لم يكن جميعها قد ترجمت الى العربية قبل الاسلام ، وضاعت فيما ضاع من آثار عربية مدوّنة في غمرات الثورات والفتن والحروب . ولعلّ ما في القرآن من أسماء وكلمات معرّبة كثيرة ، ومن تعابير مترجمة متصلة بمحتويات هذه الأسفار ، ممّا تصح أن تكون قرائن على ذلك . ونرى أن هذا هو الذي يستقيم مع وجود عشرات الوف العرب النصارى ، وآلاف الرهبان ، والقسيسين العرب ، ومئات الكنائس والأديار العربية" .

وصحيح البخاري (2:1 – 3) ينقل لنا أن العالم النصراني ، ورقة بن نوفل ابن عم السيدة خديجة ، زوج النبي ، كان في مكة يترجم التوراة والانجيل الى العربية ، ويدعو بترجمته الى نصرانيته . وقد حضر محمد هذه الترجمة ، بعد زواجه من خديجة ، ابنة عم ورقة وبإرشاده ، مدة خمسة عشر عاما مبعثه .

وفيما يخص النبي محمد مباشرة يقول الاستاذ دروزة : "ولقد أثبتنا بالاستدلالات القرآنية في كتابنا (عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل البعثة) أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا على اتصال بالأمم الكتابية وغير الكتابية ، عن طريق المستقرين منهم في الحجاز وعن طريق الرحلات المستمرة الى البلاد المجاورة . وأن كثيرا من أخبارهم ومعارفهم وعقائدهم ومقالاتهم وأحوالهم قد تسرّبت الى العرب وشاهدوا مشاهدها التاريخية والمعاصرة ؛ وليس

من الطبيعي ، ولا من المعقول أن يبقى النبي صلى الله عليه وسلم في عزلة ، أو غفلة عن هذا كله . حقيقة قد علّم الله النبي بوحيه وتنزيله أمورا متنوعة كثيرة كان غافلا عنها هو وقومه ، ولكن ذلك لا يقتضي أنه كان غافلا عن كل ما حوله من أمور ، وما يدور في بيئته وعلى ألسنة معاصريه من كتابيين وغير كتابيين ، عرب وغير عرب ، من أنباء وقصص وظروف وحالات : فإن هذا يناقض طبائع الأشياء ... وفي القرآن إشارات الى أمور كثيرة جدا مما كان عليه الناس في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ودائرا فيها من شؤون وظروف وحالات دينية واجتماعية وأخلاقية ومعاشية ومعارف وأنباء تناولها القرآن بالذكر جدلا وعظة وتعليما وتنديدا واصلاحا وتشريعا وحظرا وإباحة . ولو يقول أحد بطبيعة الحال أن هذه الأمور جاءَت في القرآن جديدة . أو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أو يمكن أن يكون في غفلة أو عزلة عنها قبل بعثته ، وكثير منها متصل بتاريخ وأحوال وتقاليد ظروف عربية وغير عربية . وليس هناك فرق فيما نعتقد ، في المدى ، بين الحالتين" .

وعلى الخصوص يشهد التاريخ والقرآن أن محمدا انخرط قبل بعثته في الحركة الحنيفية ، التي كانوا يسمونها "ملة ابراهيم" : "ثم أوحينا اليك أن اتبع ملة ابراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين" (النحل 123) ؛ فاتبعها ودعا اليها وصبغ ملته بصبغتها : "وما جعل عليكم في الدين من حرج ، ملة أبيكم ابراهيم" (الحج 78) . قال أيضا دروزة : "فهذه الآيات وأمثالها تلهم أن ملة ابراهيم ص . التوحيدية الحنيفية كانت ممّا تتداوله الألسن قبل البعثة ، وعنوانا على الملة المثلى لمعرفة الله وعبادته ... والذي نعتقده ، وهو ما وصلنا الى استنتاجه في كتابنا (عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته قبل البعثة) ، ونرى أن الآيات القرآنية تلهمه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من هؤلاء الأفراد الذين أنفوا من تقاليد الآباء الشركية والجاهلية ، واعتنقوا فكرة الوحدانية وأخذوا يعبدون الله على ملة ابراهيم ص . أو ما ظنوه كذلك أو أخذوا يبحثون عنها ، ولم يعتنقوا اليهودة ولا النصرانية ... وأنه كان كذلك منذ أن نضج شبابه ... وأن اقترانه بالسيدة خديجة ر. ساعده على التفرّغ لاتجاهه وحياته الروحية ، هذه التي كان من مظاهرها تلك الرياضات أو الاعتكافات الروحية السنوية في رمضان وفي غار حرّاء خاصة ... الى أن خصه الله بفضله ، فاصطفاه دون غيره من أهل طبقته لما علم فيه


من مواهب عظمى جعلته أهلا للرسالة" . والحنيفية مثل الاسلام اسمان أشاعهما النصارى في الحجاز لإيلاف أهله .

إن الرياضات النسكية الروحية السنوية عادة رهبانية أخذها الحنفاء عن مرشديهم الرهبان مثل القس ورقة بن نوفل ؛ والاسلام معروف اسما وموضوعا قبل القرآن : "هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا" القرآن (الحج 78) .

وقد تمت هداية محمد وتعليمه "الكتاب والحكمة" على مرحلتين : الأولى بمناسبة زواجه من خديجة : "ألم يجدك يتيما فآوى ! ووجك ضالا فهدى ! ووجدك عائلا فأغنى" (الضحى 6 – 8) كان عائلا فقيرا فاغتنى بزواجه من الشريفة خديجة . وهدايته المذكورة هنا كانت في زواجه ؛ فمن الواضح أنها كانت الى التوحيد الحنيفي النصراني . والهداية الثانية كانت للدعوة الى التوحيد الكتابي على طريقة ورقة بن نوفل في بعثته وفي رؤيا غار حراء : "وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، ولكن جعلناه نورا نهدي بن مَن نشاء من عبادنا ، وأنك لتهدى الى صراط مستقيم" (الشورى 52) فاهتدى وآمن : "وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب" (الشورى 15) فانضم الى أهل الكتاب المسلمين وتلا قرآن الكتاب معهم : وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) ، وصار معهم "أمة واحدة" (الأنبياء 92 المؤمنون 52) .

وعلى هامش انضمام محمد الى الحركة الحنيفية ، "منذ أن نضج شبابه" كان له حلقة رفاق يجتمع اليهم ويبحثون في الأدب والدين والتوحيد . قال أيضا الاستاذ دروزة : "في سورة النحل آية تحكي دعوى بعض الكفار أن شخصا أجنبيا معينا كان يعلّم النبي ، وتردّ هذه الدعوى . وهذه هي الآية (ولقد نعلم أنهم يقولون : إنما يعلمه بشر ! – لسان الذي يلحدون اليه أعجمي ، وهذا لسان عربي مبين) – (103) . والآية تنفي التعليم الذي أراد ناسبوه في ادعائهم جحود نزول الوحي الرباني بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم . غير أنها لا تنفي اتصالا ما بينه وبين أحد أفراد الجالية الأجنبية كما هو ظاهر . والمتبادر أن الجاحدين لم يكونوا ليقولوا ما قالوه لو لم يروا أو يعرفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتردّد على شخص من أفراد هذه الجالية في مكة ، هو أهل علم وتعليم ديني ، وله وقوف على الكتب الدينية

السماوية ... وأنه كان يستمع أحيانا الى ما يُقرأ من تلك الكتب . وليس من المستبعد ، إن لم نقل من المرجح ، أن يكون هذا الاتصال قبل البعثة ثم امتد الى ما بعد البعثة .

"وفي سورة الفرقان آية تحكي كذلك دعوى بعض الكفار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعين في نظم القرآن "بقوم آخرين" كما ترى (وقال الذين كفروا : إنْ هذا إلاّ إفك افتراه ، وأعانه عليه قوم آخرون ! – فقد جاؤوا ظلما وزورا" – – والآية إنما تنفي كذلك دعوى الاستعانة ولا تنفي اتصالا أو صحبة بين النبي صلى الله عليه وسلم وفريق من الناس ، كما أن تعبير "قوم آخرون" ، يلهم أن المنسوب اليهم أكثر من واحد . وبالتالي يسوغ القول أنه غير الشخص الأعجمي المعني في آية النحل (103) . والذي يتبادر الى الذهن أن الكفار لم يكونوا ليقولوا ما قالوه ، مما حكته الآية ، لو لم يروا أو يعرفوا أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم حلقة، أو رفاق يجتمعون اليه ويجتمع اليهم ، ويتحدثون في الأمور الدينية . وليس من المستبعد – إن لم نقل من المرجح – أن هذا كان قبل البعثة ثم امتد الى ما بعدها . وأن يكون من هؤلاء الرفاق أفراد من الجالية الكتابية" .

2 – حاشية محمّد قبل البعثة وبعدها كانت حاشية علم وتوحيد كتابي

قبل البعثة كان محمد حنيفا يؤمن بالتوحيد ويبحث عنه وفيه مع زملائه . وكان له أيضا رفقة من أهل الكتاب ومن العرب يجتمعون ويبحثون في الدين والتوحيد .

وبعد البعثة نرى في حاشية محمد جلّة القوم من الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب وعليّ وكلّهم من أهل العلم والمعرفة بشؤون الدين والدنيا . وخاصته من أهل الكتاب سلمان الفارسي النصراني الخبير بالدين وشؤون الحرب وهو صاحب فكرة الخندق حول المدينة للدفاع عنها ؛ وصهيب الرومي الثري ؛ وبلال الحبشي مؤذن النبي ؛ ثلاثة نصارى من بلاد مختلفة ، ذوي معارف مختلفة ، يحلّون ويرحلون مع محمد ؛ ومعه اثنان من علماء اليهود ، كعب الأحبار وعبد الله بن سلام . فهذه الحاشية الكريمة ، والصحابة اللامعة دليل بيئة متثقفة في الأدب والدين والكتاب المقدس ، أكفاء لحمل الدعوة الكتابية مع الداعي الأكبر .

ونقل محمد صبيح أن "الذين كانوا يعرفون القراءَة والكتابة من أصحابه الأُوَل : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير . وقد أحصى كتاب الاسلام والحضارة العربية اثنين

وأربعين كاتبا كانوا يؤلفون الديوان النبوي ... وتقول دائرة المعارف الاسلامية ، نقلا عن البقلاذري أن حفصة وأم كلثوم كانتا تعرفان القراءَة والكتابة ، وأن عائشة وأم سلمة كانتا تعرفان القراءَة ولا تعرفان الكتابة ... وعن الأزرقي أن بلدا مثل مكة كانت تكثر فيه التجارة مع الخارج ، ما كان يمكن أن يخلو من كثيرين يكتبون ويقرأون : فالتجارة تحتاج الى حساب والحساب يحتاج الى تدوين" .

من هذا يتضح أن الأرستقراطية المكية كانت تقرأ وتكتب ، وعلى ثقافة واسعة . ومحمد تربى عند عمه أبي طالب ، الذي ثقّف عليّا ثقافة عالية ، فكان كاتبا وخطيبا شق (نهج البلاغة) للعرب : أيكون محمد ، وهو أمانة عند عمه ، دون ابن عمه ؟

3 – يدلّنا على ثقافة محمد ظاهرتان أخريان : التجارة والثقافة

أجمعت المصادر أن محمدا تعلم التجارة بين اليمن والشام على يد عمه . ولمّا برع فيها استخدمته السيدة خديجة بنت خويلد في تجارتها ، فأعجبها فعرضت عليه الزواج منها وكان ذلك . "ثم خرج على تجارة خديجة ، التي كانت قيمتها تعادل قيمة تجارة قريش مجتمعة . أي أنه كان يخرج على نصف تجارة قريش كلها" . تجارة كهذه تحتاج الى الحساب الدقيق ، والحساب الكبير يحتاج الى تدوين . من هذا الوجه ، هذا دليل أول على أن محمدا لم يكن أمّيّا . ومن وجه آخر ، هذه الرحلات المتواصلة الغنية ما بين اليمن والشام ، كانت سبب اتصالات مالية وثقافية نادرة ، سمحت لمحمد الحنيف اللقاء بالمفكرين وعلماء الدين . فكان محمد بعد زواجه أكبر تاجر دولي في قريش ، وأوسع أهلها ثقافة عربية وأجنبية .

والظاهرة الثانية أن محمدا بحكم تجارته كان يعرف لغات أجنبية ، ويؤثر الاتصال بالأجانب المقيمين في مكة . قال محمد صبيح : "ومن هنا يمكن أن نقرّر أن أهل مكة عرفوا لغات أجنبية ، الى جانب لغتهم الأصلية ؛ وأن اللغة الأصلية نفسها تأثرت بهذه اللغات التي تنتقل الى مكة من الأجانب المقيمين بها ، أو تنتقل اليها مكة في متاجرها . وقد كونت هذه الرحلات وهذه الاتصالات ، الى جانب التأثير اللغوي ثقافة غير هينة ، كما وجدت حركة تدوين وقراءَة ... ولم يقل أحد إن رسول الله لم يكن يعلم شيئا من أمر هذه اللغات التي تأثرت بها مكة ، وأمر هذه الثقافات التي ذابت فيها .

"بل أكثر من هذا ، فإن لدينا من الحوادث ما يؤكد اتصال رسول الله ، وهو في مكة بهؤلاء الأجانب الذين كانوا يقيمون فيها ، وكان يزورهم ويطيل صحبتهم . فقد روي عن عبيد الله بن مسلم قال : كان لنا غلامان روميّان يقرأان كتابا لهما بلسانهما ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمرّ بهما فيقوم فيسمع منهما . وروي عن ابن اسحاق أن رسول الله كثيرا ما كان يجلس عند المروة الى سبيعة – غلام نصراني يقال له جبر – عبد لبعض بني الحضرمي . وعن ابن عباس أن النبي كان يزور ، وهو في مكة ، أعجميا اسمه بلعام ، وكان المشركون يرونه يدخل عليه ويخرج من عنده . وفي رواية أخرى أن غلاما (كان لحويطب بن عبد العزّى) اسمه عائيش أو يعيش ، وكان صاحب كتّيب ! وقيل هو جبر ، وقيل هما اثنان جبر ويسار ، كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرأان التوراة والانجيل : فكان رسول الله اذا مرّ عليهما وقف يسمع ما يقرأان . واذن فقد كان رسول الله يسمع ما يقرأ في الكتب بلغة غير لغة مكة ، وكان يفهم ما يُتلى عليه" .

وهكذا كان محمد يعرف اللغة الحميرية والحبشية الشائعة في اليمن ، ويعرف اللغة السريانية لغة سوريا مع الرومية الشائعة فيها ، والفارسية التي تتاجر فيها معها . واستشهاد القرآن بالكتاب وأهله في مكة ، وجداله لليهود في المدينة ، وتحديهم أن يأتوا بالتوراة فيتلوها أمام الناس ، دليل على اطلاعه على العبرية أيضا . فقد كان محمد لغويا عالميا يعرف الحبشية والحميرية والسريانية والرومية والفارسية والعبرية ، أو يعرف بعضها ويلمّ ببعضها . والقرآن شاهد عدل بما فيه بغير لغة الحجاز من لغات العرب المختلفة ، وبما فيه بغير لغة العرب ، كما جمعها السيوطي في (الاتقان 134:1 و136) . "وقد ذكر ابن النقيب في (خصائص القرآن) أن القرآن احتوى جميع لغات العرب ؛ وأُنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شئ كثير" . "وقد فهم الصحابة القرآن إجمالا ، ولكن ألفاظا غير قليلة استغلقت عليهم ، بل أن بعضها لا يزال مستغلقا علينا الى اليوم على الرغم من أن وسيلة العلم ببعض اللغات القديمة قد توفرت لدينا" .

فتلك التعابير بغير لغة الحجاز ، أو بغير لغة العرب ؛ سواءٌ دخلت لغة قريش قبل القرآن ، أو أدخل القرآن معظمها في لغته ليبهرهم بإعجازه اللغوي ، إنما هي شواهد قرآنية

ملموسة ، على سعة علم محمد قبل مبعثه ، وعلى اطلاعه على لغات العرب وعلى لغات أجنبية عديدة .

قال أيضا الاستاذ دروزة : "في القرآن بعض آيات تذكر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان غافلا قبل نزول القرآن عليه كما ترى في الآية التالية (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا اليك هذا القرآن ، وإن كنت من قبله لمن الغافلين – يوسف 3) . وأن الله قد علمه ما لم يكن يعلم : (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ، وعلّمك ما لم تكن تعلم ، وكان فضل الله عليك عظيما – النساء 113) . وأنه لم يكن يتلو قبل القرآن من كتاب ولا يخطه بيمينه : (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك : إذًا لارتاب المبطلون – العنكبوت 48) وقد سبق هذا للتدليل على عدم وجاهة ارتياب الجاحدين في صحة التنزيل والوحي الرباني . فهذه الآيات وأمثالها قد حملت على ما يبدو بعض علماء المسلمين على نفي الاكتساب العلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ، بل على بذل الجهد في هذا النفي وتوكيده ... ونحن لا نرى حكمة أو ضرورة تحمل هؤلاء العلماء على نفي الاكتساب العلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته وبذل الجهد في هذا النفي . كما أننا لا نرى هذه الآيات تتعارض مع صحة القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اكتسب معارف كثيرة مما كانت تحتويه الكتب الدينية وغيرها من مبادئ وأسس وتشريعات وقصص ، ممّا كان يدور على ألسنة الناس من مثل ذلك ، كتابيين كانوا أو غير كتابيين : بسبب تلك الاتصالات التي تلهم وقوعها الآيات القرآنية ؛ وبسبب الرحلات التي اجمعت الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قام بها ؛ وبسبب طبيعة وجوده في بيئة تلم إلمامًا غير يسير بهذه المعارف ، وكل ما في الأمر أن هذه الآيات هي بسبيل توكيد صحة الوحي الرباني والتنزيل القرآني ؛ والتنبيه على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد فكّر قبل الوحي والتنزيل بالدعوة ، أو أمَّل بأن يكون هو الذي اصطفاه الله ورآه أهلا لوحيه وتنزيله ، ممّا يمكن أن تكون الآيات التالية قد أرادت تقريره ، كما ترى فيها : "قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ، فقد لبثتُ فيكم عمرًا من قبله أفلا تعقلون – يونس 16) ؛ وما كنت ترجو أن يُلقى اليك الكتاب إلاّ رحمة من ربك – القصص 86) ؛ وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ، ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا – الشورى 52" .

وأضاف : "أما الدعوى بأن ما اكتسبه النبي صلى الله عليه وسلم من معارف كثيرة ، كتابية وغير كتابية ، وتاريخية وجغرافية واجتماعية وكونية ودينية ، تتوقف على معرفة الكتابة والقراءَة فمنشأها في نظرنا أن الباحثين ينظرون بعين الحاضر وعقله أكثر مما ينظرون بعين زمن مضى منذ أربعة عشر قرنا ، وعقله في بيئة مثل بيئة الحجاز بنوع خاص . وقليل من التفكير يكفي لتبين الغلو في هذه النظرة : فلا مطابع ، ولا مكاتب ، ولا وراقة ، ولا كتب منتشرة متيسرة . وكل ما هناك بعض كتب ورسائل وصحف دينية مكتوبة على الأعم الأغلب بغير اللغة العربية ، وفي نطاق محدود جدا . ومن المعقول جدا أن يكون الاعتماد في مثل هذه الظروف على الذاكرة الواعية ؛ وليس بدعا ولا غريبا أن يكون السماع والحفظ هما طريق اكتساب المعارف التي اكتسبها النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته وبعدها – إن لم يكن اكتساب بالوحي الرباني – ومثل هذا غير نادر الوقوع في كل زمان ومكان في اليوم ، ومن الأولى أن يكون هو الأكثر حدوثا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته" .

وأصحاب الشعر الجاهلي ورواته ، وحفظة القرآن نفسه هم خير دليل .

فالتاريخ والتفسير والحديث تؤيّد تلقينات القرآن وتصاريحه بأن محمدا لم يكن على شئ من الأمية . فليست الأمية التي ينسبها القرآن إلى محمد لغوية علمية ، بل قومية بحسب اصطلاح الكتاب والقرآن . لم يكن من أهل الكتاب ، بل عربيًّا من الأمم التي ليس لها الكتاب المنزل .

4 – دور ورقة بن نوفل في ثقافة محمد ودعوته

والسر الخطير في ثقافة محمد ودعوته هو وجود العالم النصراني ورقة بن نوفل ، ابن عم السيدة خديجة ، واستاذ محمد الأكبر . كان ولي خديجة وهو الذي أزوجها محمدا لِمَا توسَّم فيه من المزايا التي تجعله أهلا للرسالة التي يقوم بها في مكة والحجاز . كان يترجم التوراة والانجيل الى العربية ، ويدعو بترجمته الى التوحيد الكتابي النصراني .

وقصة علاقة محمد بورقة بواسطة خديجة ينقلها صحيح البخاري (2:1 – 3) وصحيح مسلم ، وطبقات ابن سعد ، ومروج الذهب للمسعودي ، وغيرهم .

تاجر محمد لخديجة ثم تزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وهي ابنة أربعين . وعاش محمد ، صهر ورقة ، في جوار العالم النصراني وصحبته خمسة عشر عامًا قبل بعثته . يطّلع

أثناءها على ما يترجم ورقة الى العربية من التوراة والانجيل . وكان محمد ذاته يفهم لغتهما . وكم من أحاديث عن التوحيد الكتابي والنصرانية ، وقصص الأنبياء ، كانت تدور بينهما وتلك العشرة الكريمة العلمية هي التي أوصلت محمدا من التوحيد الحنيفي الى التوحيد الكتابي النصراني الذي اعتنقه في رؤيا غار حرّاء : "وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) . "قل : آمنت بما أنزل الله من كتاب" (الشورى 15) .

ودليل على صلة محمد الدينية العلمية بورقة بن نوفل ، ما رواه البخاري من نزع السيدة خديجة بالفطرة الى ابن عمها العالم الفقيه ، اذ رجع محمد مضطربا بعد رؤيا حراء ، تروي له ما جرى لزوجها الكريم ، ثم كيف قادت محمدا الى ورقة يقص عليه قصته . "فقال له ورقة : هذا هو الناموس الذي نزل على موسى " ! ثم ثبّته في هدايته ، وحمله على الدعوة لها في لقاء ثانٍ في فناء الكعبة . وأكبر دليل على ذلك ما تختم به عائشة حديثها عن تلك الصلة الكريمة : "ثم لم ينشب أن توفي ورقة وفتر الوحي" ! فما سرّ علاقة فتور الوحي بوفاة ورقة؟ أليس أنه من بواعثه ؟ ويذكر الحديث أن محمدا حزن لوفاة ورقة حزنا بليغا أوصله الى القنوط واليأس ، حتى لقد همّ مرارا بالانتحار ، لولا أن تداركه الله ، وعاد اليه وحيه . ألا يدل هذا الهوس على أن محمدا كان يعتبر ورقة استاذه الأكبر ؟ أجل إن شيءًا من سر محمد في ثقافته وهدايته وبعثته ودعوته قائم على وجوده في جوار ورقة استاذه في التوراة والانجيل . وكان ورقة قسّ مكة ، بلغة السريان ، أو أسقفها ومطرانها بلغة الروم .

وهكذا يظهر محمد قبل بعثته : تاجرا دوليّا ما بين اليمن والشام وما اليهما ، عالمًا لغويّا بلغات العرب ولغات الأجانب في أطراف الجزيرة العربيّة ، حنيفًا وبحاثة دينيًّا يجوب البلاد في سبيل التجارة والعلم والدين ، مطلعا على التوراة والانجيل ، ينتسب إليهما ، ويفهم لغتهما ويسمع قراءَتهما بارتياح .

فالثقافة لا تمنع النبوة . ولكن ثقافة محمد العالية تقضي على أساس عميق من أسس معجزة الاعجاز : أمية محمد . فمعجزة اعجاز القرآن لا أساس لها في القرآن والسيرة ، من حيث أمية محمد . فهي معجزة مشبوهة في عرْف المنطق والتاريخ . إن النبوة تأتلف مع العلم والثقافة .


 

بحث ثان

القرآن كلام اللّه . فهو معجز في ذاته

(الأساس الثاني للإعجاز)

ان الأساس الثاني لاعجاز القرآن هو أنه كلام الله ، وكلام الله معجز في ذاته للمخلوقين أجمعين .

أولا : كلام الله في القرآن

وهذا الأساس تفرّع الى ثلاث مقالات :

المقالة الأولى : أن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات الإلهية . قال السيوطي في (الاتقان 118:2) ينقل المقالة ويرد عليها : "فزعم قوم أنّ التحدّي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات ؛ وأن العرب كُلّفت في ذلك ما لا يُطاق ، به وقع عجزها . وهو مردود لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يُتصوَّر التحدي به ! والصواب ما قاله الجمهور أنه وقع بالدالّ على القديم ، وهو الألفاظ" .

المقالة الثانية : إنه حكاية عن كلام الله القديم . هذه مقالة الجمهور ، بحسب السيوطي ، في إعجاز القرآن . قال أحمد أحمد بدوي : "كما لا نقبل قول مَن قال : ان وجه الاعجاز في نظم القرآن أنه حكاية عن كلام الله القديم . لأنه لو كان كذلك ، لكانت التوراة والانجيل وغيرهما من كتب الله معجزات في النظم والتأليف ، وما قال بذلك أحد ، ولا ذكرته تلك الكتب نفسها . وكذلك كان من الواجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها منفردة – وذلك ما لم يقل به أحد" .

المقالة الثالثة : كلام الله المنزل معجز في ذاته . هذا قول ابن حزم في كتابه (الفِصَل) . وعنه تناقلوه الى اليوم . قال : "لم يقل أحد إن كلام غير الله تعالى معجز . لكن لمّا قاله الله تعالى وجعله كلامًا له ، أصاره معجزا ومنع من مماثلته ... وهذا برهان كافٍ لا يحتاج الى غيره" .

وفي أيامنا يقول عبد الكريم الخطيب : "إن القرآن ، وهو كلام الله ، لا يمكن أن يوازن به كلام ، فهو لهذا معجز في ذاته" .

وقد ردّ هذه المقالة مصطفى صادق الرافعي : "قال (ابن حزم) : "وهذا برهان كاف لا يحتاج الى غيره" – نقول : بل هو فوق الكفاية ، وأكثر من أن يكون كافيًا أيضا ، لأنه لمّا قاله ابن حزم وجعله رأيا له ، أصاره كافيًا لا يحتاج الى غيره ... وهل يُراد من اثبات الاعجاز للقرآن ، إلاّ إثبات أنه كلام الله تعالى"؟ يعني أنه منطق معكوس . إنه يثبت ما يُراد إثباته بدون برهان .


 

ثانيا : البيّنة على كلام الله بالمعجزة لا بالاعجاز

أجل إن كلام الله معجز في ذاته للمخلوقين أجمعين . ولكن ما البرهان على أنه كلام الله ؟ وما البيّنة على صدق النبي أنه ينقل كلام الله ذاته ؟

فالسر ، كل السر ، في الجزم أنه كلام الله ، للاقرار بإعجازه . وبما أن كلام الله لا يصلنا إلاّ بواسطة بشر ، وبكلام بشر ، فالبيّنة على أنه كلام الله لا تكون في ذاته . ولا تكون أيضا في واسطته ، لئلا يشتبه الأمر علينا بين كلام الخالق وكلام المخلوق ؛ فالحقيقة في ذاتها واحدة ، سواء كانت كلام الخالق أم كلام المخلوق ، وخصوصا أنها في الحالين تأتينا بواسطة المخلوق .

إن كلام الله يأتينا على لسان بشر ، وبلغة البشر ؛ فلم يعد معجزا في ذاته . والقول بأن اعجاز القرآن معجزة له ، لأنه كلام الله ، منطق معكوس ، فهو يثبت بدون برهان ما يُراد

اثباته . فما البرهان أنه كلام الله ؟ وما الدليل على صدق النبي في زعمه أنه كلام الله ؟ "قل : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" !

والبرهان خارج بطبيعته عن الكلام المزعوم لله ، وعن النبي الذي يدّعيه . قال الجويني في (الارشاد ص 331) : "لا دليل على صدق النبي غير المعجزة . فإن قيل : هل في المقدور نصب دليل على صدق النبي غير المعجزة ؟ – قلنا : ذلك غير ممكن" .

لذلك كان قول ابن خلدون : "إن أعظم المعجزات دلالة القرآن ... لاجتماع الدليل والمدلول عليه "، فيه مغالطتان بل تناقضان : المدلول عليه هو كلام الله وهذا ما يُراد إثباته ! والدليل عليه هو اعجاز هذا الكلام اعجازا إلهيا ، فما هو برهان اعجازه ؟ وهكذا فالمدلول بحاجة الى برهان ؛ والدليل بحاجة أيضا الى برهان . والبيّنة التي تحتاج الى بيّنة ، لا تكون بيّنة كافية من ذاتها . إنها بحاجة إلى بيّنة أخرى لا تتصل بها في الذات . ولإثبات قول نبي أنه كلام الله فهو بحاجة الى "معجزات خارقة لا تتصل به في الذات" .


 

ثالثا : كلام الله والإعجاز

والقول بأن القرآن معجزة لأنه كلام الله ، ليس ميزة له وحده ، لأنه في هذا هو التوراة والإنجيل سواء ؛ كلها في نظر القرآن كلام الله المنزَّل تنزيلا : "آلم . الله لا إله إلاّ هو ، الحيّ القيوم نزّل عليك الكتاب بالحق ، مصدقًا لما بين يديه ، وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس ، وأنزل الفرقان" (آل عمران 1 – 4) .

فبحسب منطق القرآن ، إن كل كتب الله معجزة لأنها كلام الله . فليس للقرآن ميزة عليها، من حيث هو كلام الله ، في الاعجاز والمعجزة . بل الميزة للكتاب على القرآن لأن القرآن جاء "مصدقا لما بين يديه" ، بل هو "تفصيل الكتاب" (يونس 37) ؛ والكتاب إمامه في الهدى والبيان : "ومن قبله كتاب موسى (وعيسى) إمامًا ورحمة ؛ وهذا كتاب مصدّق لسانا عربيًّا"(الاحقاف 12) ، فالإمام هو الكتاب ؛ وما القرآن سوى نسخة عربية عنه ليس فيها من مزيد سوى اللسان العربي المبين : وحسب النسخة في الاعجاز والمعجزة أن تكون مثل إمامها .

يردّ الباقلاني على هذا بقوله : "فإن قيل : فهل تقولون بأن غير القرآن من كلام الله عزّ وجلّ معجز كالتوراة والانجيل والصحف ؟ قيل : ليس شئ من ذلك بمعجز في النظم والتأليف – وإن كان معجزا كالقرآن في ما يتضمن من الإخبار بالغيوب – وإنما لم يكن معجزًا لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن (من الاعجاز) ؛ ولأنا قد علمنا أنه لم يقع التحدّي اليه كما وقع التحدي الى القرآن . وبمعنى آخر وهو أن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي الى حدّ الإعجاز .. ومعنى آخر ، وهو أنّا لم نجد أهل التوراة والانجيل ادعوا الاعجاز لكتابهم ، ولا ادّعى لهم المسلمون . فعُلم أن الاعجاز ممّا يختص به القرآن" .

هذا الذي جاء به الباقلاني ما زال يتردّد الى اليوم . وهو متناقض في ذاته : كيف يكون كلام الله معجزًا في كتاب وغير معجز في كتاب آخر ؟ وهل ينزل كلام الله بدون نظم ولا تأليف ؟ وهل يمكن أن نفصل كلام الله ، وهو بمثابة الروح ، من الألفاظ والنظم والتأليف ، التي هي جسده ؟

ووصف الكتاب أي الانجيل والتوراة أنه "إمام" القرآن ، أبلغ من التحدّي . ومن علّم الباقلاني أن العبرية التي نزلت بها التوراة , وأن اليونانية التي نزل بها الانجيل ، "لا يتأتى فيهما من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي الى حدّ الاعجاز" ؟

ومَن قال للباقلاني أن أهل التوراة والانجيل لم يدّعوا الاعجاز في الهدى والبيان لكتابهم ؟ وقد تحدّى أهل الكتاب محمدا على حياته بإعجاز الكتاب في التأليف ، وبتفضيله في التأليف على القرآن : "إنّا لا نراه يتناسق ، كما تناسق الكتاب" ! واستشهاد القرآن المتواتر على صحته بأهل الكتاب ، وإحالة النبي حين الشك من نفسه ومن قرآنه (يونس 94 – 95) على أساتذته من "اللراسخين في العلم" ، دلائل على اعجاز الكتاب قبل القرآن .

والقرآن نفسه يتحدّى بالكتاب والقرآن معًا : "قل : فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعْه ، إن كنتم صادقين ! فإن لم يستجيبوا لك ، فاعلم أنما يتبعون أهواءَهم ! ومَن أضلّ ممّن اتبع هواه بغير هدى من الله ؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين" (القصص 49 – 50) .

والقول الفصل أن القرآن يتحدّى "بمثله" . وها إن "مثله" عند أولي العلم من أهل الكتاب : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" (الاحقاف 10) . فليس "الاعجاز ممّا يختص به القرآن" ، كما يدّعي الباقلاني . إن الاعجاز في "المثل" وفي "الإمام" قبل النسخة التي هي "تفصيل الكتاب" . والمحكّ الأكبر هو الترجمة الى لغات العالم . فهل يبقى من اعجاز القرآن في الترجمة كما يبقى من اعجاز الانجيل ؟


 

رابعا : الجدل في أزليّة القرآن

ويتعلّق بالقول باعجاز القرآن معجزة إلهية ، الجدل الشهير : هل القرآن ، بصفته كلام الله ، مخلوق أم غير مخلوق ، محدث أم قديم في ذات الله ؟

يقولون : كلام الله صفة ذاتية في الله ؛ والقرآن هو كلام الله ؛ فالقرآن إذن صفة ذاتية في الله ، فهو قديم غير مخلوق .

وهذا القياس يشتمل على مغالطة أساسية : بين عمل الله في ذاته ، وعم الله خارجا عن ذاته . فالقدرة على الخلق صفة ذاتية في الله ؛ أمّا الخلق فهو عمل في خارج الله . وكذلك كلام الله ؛ فهو بكونه صفة ذاتية فهو في ذات الله ؛ أمّا التنزيل فهو عمل في خارج الله ، وكما أن الخلق بكلام الله وأمره محدث ، كذلك تنزيل كلام الله ، أو كلام الله المنزل خارج الله ، محدث . فالخلق والتنزيل من صفات الله وأعماله : فمن حيث القدرة الذاتية والصفة الذاتية هما من ذات الله ؛ أما من حيث العمل خارج الذات الإلهية فالتنزيل محدث كالخلق ؛ وكلام الله المنزل محدث كأمر الله في الخلق .

فلا يكون القرآن – ولا غيره من الكتب المنزلة – بصفته كلام الله ، غير مخلوق ، ومعجزًا بذاته كصفات الله الذاتية . والاعتماد على اعجاز القرآن بصفته كلام الله منطق معكوس . فكلام الله على نوعين : كلام الله الذاتي ، وهو صفة القديم ؛ وكلام الله المنزل وهو محدث كالخلق .

نشأت هذه المسألة من جدال المسيحيين للمسلمين في المسيح الذي يصفه الانجيل (يوحنا 1:1) والقرآن (النساء 171) انه "كلمة الله ألقاها الى مريم وروح منه" . يقولون : إن السيد المسيح ، لا بصفته عيسى ، ابن مريم ، بل بصفته "كلمة الله وروح منه" هو قديم قائم في ذات الله ، من ذات الله ، كنطقه الذاتي في ذاته . فردّ المسلمون أن القرآن هو أيضا كلام الله ، فهو قديم في القديم وغير مخلوق . وفاتهم أن المسيح ، بصفته "كلمة الله" ؛ ذات ؛ وأن كلام الله شئ . وفاتهم الفرق الجوهري بين كلام الله في ذاته ، وكلام الله في التنزيل : فكلام الله المنزل هو غير ذات الله ؛ وكلام الله الذاتي هو ذاته ، أو من ذاته في ذاته ، فلا هو عين الذات ولا هو غيرها .

ولم يكن احتجاج المعتزلة على أهل السنة والجماعة كفرًا ، ولا سَخَفًا . نقل الجاحظ استجواب الإمام أحمد بن حنبل ، بحضرة المعتصم : "أن أحمد بن أبي داود قال له :

أليس لا شئ إلاّ قديم أو حديث ؟

قال : نعم .

قال : أو ليس لا قديم إلاّ الله ؟

قال : نعم .

قال : فالقرآن اذن حديث !

قال : ليس أنا متكلّم" .

وسُئل جعفر بن محمد عن القرآن : "أخالق أم مخلوق؟"

فقال : "ليس خالقا ولا مخلوقا ؛ ولكنه كلام الله عز وجل" .

إن القديم وغير المخلوق هو من ذات الله ، في ذات الله ؛ فلا ينفصل عن ذات الله في التنزيل ، كما ينفصل كلام الله المنزل . وكلام الله المنزل ليس كلام الله القديم في ذاته تعالى ليكون غير مخلوق ومعجزا في ذاته .

إن قضية قدم القرآن أم حدوثه مسألة طارئة على البحث في إعجاز القرآن بصفته كلام الله . واعتبار كلام الله المنزل صورة لكلام الله الذاتي النفسي لاثبات الاعجاز الذاتي لكلام الله المنزل ، هو ما أورد القوم ذلك المورد المشبوه . فليس كلام الله المنزل هو عين

كلام الله في ذاته ، من ذاته ، لذاته . فكما أن الخلق هو عمل الخالق وليس الخالق ، فكذلك كلام الله المنزل هو عمل الله وليس الله . فلا مجال لإثبات الاعجاز الذاتي لكلام الله المنزل ، لأنه كلام الله ، فهو يأتينا بواسطة بشر ، وبلغة البشر ؛ وما هو بشري في جهة من جهاته لا يلزمه اعجاز الله في ذاته البشرية . فلا بدّ من برهان خارج عن ذاته يدل على أنه من الله . ومتى ثبت أنه من الله ثبتت قدسيته ، ودانت له النفوس والعقول والقلوب والأجسام . فقبل التقرير بأن القرآن كلام اله ، فهو معجز في ذاته ، يجب البرهان على أنه كلام الله ، بإثبات صدق النبي الذي ينقله عن الله . وهذا عمل المعجزة ، لا صفة الاعجاز في ذاته . فالأساس الثاني لاعجاز القرآن كمعجزة متهافت مشبوه .


 

بحث ثالث

وجه الإعجاز في القرآن

(الأساس الثالث في الإعجاز)

أولا : الإعجاز لغز وسر

إن الأساس الثالث في اعجاز القرآن هو معرفة وجه الاعجاز فيه . وهذا هو "اللغز الذي حيّر الناس" ، كما يقول محمد زغلول سلام .

 

لقد عرف الناس بالفطرة ثم بالمنطق أن المعجزة دليل النبوة الأوحد . وبما أن علماء الكلام المقسطين لم يجدوا في القرآن معجزة حسيّة ، "سُنّة الأنبياء الأولين" ، وقد لحظوا فيه تحديًا "بمثله" للمشركين ، فسمّوه اعجازًا ، واتخذوا هذا الاعجاز معجزة لغوية على صحة النبوة والقرآن .

وصارت معجزة القرآن اللغوية شبه عقيدة عندهم ، لو لم يقم المعتزلة قديما ، وبعض أهل المدرسة العصرية في أيامنا ، يقولون : لم يجعل الله القرآن دليلا على النبوة ! وبرهانهم القاطع في ذلك أن الناس لا يعرفون وجه الإعجاز فيه . يقول عبد الكريم الخطيب : "إن اعجاز القرآن – في نظرنا – سرّ محجوب عن الأنظار " ؛ "غير أن هناك دراسات اتجهت اتجاهًا مباشرًا للبحث عن وجوه الاعجاز ودلائله في القرآن ، فلم يكن من همّها شئ إلاّ أن تكشف النقاب عن هذا السر المحجب " .

 

إن "سرًا محجوبًا" عن الناس ، وإن "لغزًا حيّر الناس" لا يكون معجزةً لهم . فهو مثل متشابه القرآن "لا يعلم تأويله إلاّ الله ! والراسخون في العلم يقولون : آمنا" ! (آل عمران 7) .


 

ثانيا : اختلاف دائم على وجه الإعجاز

 

وقد عقد السيوطي في (الاتفاق 118:2) فصلاً قيّمًا يعدّد فيه المحاولات المتعدّدة المتعارضة لمعرفة وجه الاعجاز في القرآن . قال : "لمّا ثبت كون القرآن معجزة نبيّنا ص ، وجب الاهتمام بمعرفة وجه الاعجاز . وقد خاض الناس في ذلك كثيرا ، فبين محسن ومسئ .

 

1 – "فزعم قوم أن التحدّي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات .

2 – "ثم زعم النظام أنه بالصرفة – أي أن الله صرف الناس عن معارضته ، وكان ذلك مقدورا لهم .

3 – "وقال قوم : وجه إعجازه ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة .

4 – "وقال آخرون : ما تضمّنه من الأخبار عن قصص الأولين وسائر المتقدمين حكاية من شاهدها وحضرها .

5 – "وقال آخرون : ما تضمنه من الإخبار عن الضمائر ، من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل .

6 – "وقال القاضي أبو بكر (الباقلاني) : وجه اعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف ؛ وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتادة في كلام العرب ، ومباين لأساليب خطاباتهم .

 

7 – "وقال الإمام فخر الدين (الرازي) : وجه الاعجاز الفصاحة ، وغرابة الاسلوب ، والسلامة من جميع العيوب .

 

8 – "وقال الزملكاني : وجه الاعجاز راجع الى التأليف الخاص به ، لا مطلق التأليف ، كل فنّ في مرتبته العليا في اللفظ والمعنى .

 

9 – "وقال ابن عطية : والذي عليه الجمهور والحذّاق في وجه اعجازه أنه بنظمه وصحة معانيه ، وتوالي فصاحة الفاظه ... فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة .

 

10– "وقال حازم : وجه الاعجاز في القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها ، في جميعه ، استمرارًا لا يوجد له فترة .

 

11– "وقال المراكشي : الجهة المعجزة في القرآن تُعرف بالتفكير في علم البيان ... لأن جهة اعجازه ليست مفردات الفاظه ، والاّ كانت قبل نزوله معجزة ؛ ولا مجرّد تأليفها ، وإلاّ كان كل تأليف معجزا ؛ ولا بالصرف عن معارضتهم . إنه في أحوال تركيبه . فعلى اعجازه دليل إجمالي وهو أن العرب عجزت عنه وهو بلسانها .

 

12– "وقال الأصفهاني : إن اعجاز القرآن ذكر من وجهين : احدهما اعجاز متعلق بنفسه ، والثاني بصرف الناس عن معارضته . فالأول يتعلق بالنظم المخصوص ، وهذا النظم مخالف لنظم ما عداه ؛ والقرآن جامع لمحاسن جميع أنواع الكلام ، على نظم غير نظم شئ منها : لا يصح أن يُقال له رسالة أو خطابة ، أو شعر أو سجع . والثاني عجزت كافة البلغاء عن معارضته ، مصروفة في الباطن عنها .

 

13– "وقال السكاكي : اعجاز القرآن يُدرك ولا يمكن وصفه !

14– "وقال أبو حيّان التوحيدي : القرآن لا يُشار الى شئ منه إلاّ وكان ذلك المعنى آية ، لذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده .

15– "وقال الخطابي : إن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ ، في أحسن نظام وتأليف ، مضمّنا أصح المعاني ، جامعًا في ذلك الدليل والمدلول عليه . وقد قلت في اعجاز القرآن وجهًا ذهب عنه الناس ، وهو صنيعه في القلوب ، وتأثيره في النفوس .

16– "وقال ابن سراقة : ذكروا في اعجازه وجوهًا كثيرة كلها حكمة وصواب : الايجاز مع البلاغة ، البيان والفصاحة ، الوصف والنظم ، خروجه عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر ، قارئه لا يكل وسامعه لا يمل .

17– "وقال الزركشي : الاعجاز وقع بجميع ما سبق من الكلام ، لا يكل واحد على انفراد ، مع روعته وجمعه بين صفتي الجزالة العذوبة ، وكونه آخر الكتب غنيًّا عنها ، وهي ترجع اليه .

18– "وقال الرماني : وجوه اعجاز القرآن تظهر من جهات : ترك المعارضة ، والتحدّي للكافة ، والصرفة ، والبلاغة ، والإخبار عن الأمور المستقبلة ، ونقض العادة , وقياسه بكل معجزة .

19– "وقال القاضي عياض في (الشفاء) : إن القرآن منطو على وجوه من الاعجاز كثيرة . وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها أربعة : الأول حسن تأليفه والتئام كَلِمِه وفصاحته ووجوه ايجازه ، وبلاغته الخارقة عادة العرب . الثاني صورة نظمه العجيب ، والاسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ، ومنها نظمها ونثرها . الثالث ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيِّبات . الرابع ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة" .

وكان السيوطي آخر مَن تكلّم في الإعجاز .

وجاء أهل العصر يرون فيه وجوهًا جديدة من الاعجاز :

1– فكان مصطفى صادق الرافعي أول من تكلّم في (اعجاز القرآن) من أبناء العصر . "فالرافعي لم يخرج في اعجاز القرآن عن هذا الوجه الذي جرى عليه مَن سبقه من القائلين بأن النظم هو سر الاعجاز فيه" – وهو من القائلين بالاعجاز المطلق في القرآن . "إن

الناس كلهم يعجزون عن مثله . ومعجز في أثره الانساني ، ومعجز كذلك في حقائقه" . والخطيب يرد هذه الوجوه الثلاثة من حيث هي وجوه الاعجاز .

2 – فريد وجدي لا يرى أجمع عليه القوم أن اعجاز القرآن في نظمه البياني ؛ بل هو في "روحانية خاصة" هي عندنا جهة اعجازه والسبب الأكبر في انقطاع الإنس والجن عن محاكاة أقصر سورة من سوره . وناهيك بروحانية الكلام الإلهي . "نعم إن جهة اعجاز الكتاب الإلهي الأقدس هي تلك (الروحانية العالية) التي قلبت شكل العالم" . وهو يستند الى قوله : "وكذلك أوحينا اليك روحًا من أمرنا" (الشورى 52) . وفاته أن "الروح" هنا هو ملاك الوحي ، بحسب قوله : "يلقي الروح من أمره على مَن يشاء من عباده" (غافر 15) .

3 – محمد أبو زهرة يرى أن التشريع في القرآن أفضل وجوه الاعجاز فيه ، وأن العلماء لم يذكروه مع أنه أقواها ، وبه يكون معجزا لكل الناس ، لا للعرب وحدهم .

4 – عبد الرزاق نوفل يرى وجه الاعجاز في علم القرآن الذي سبق علوم المتقدمين والمتأخرين . فهو مثلا يرى علم الذرة العصري في كلمة "ذرة" اللغوية الواردة في القرآن . فخلط بين اللغة والعلم التقني .

5 – عبد الكريم الخطيب يرى من (الاعجاز في مفهوم جديد) أنه أقام الحجة البالغة المعجزة على العرب المشركين ، وعلى أهل الكتاب من يهود ونصارى ؛ وأن شخصية محمد إحدى معجزات القرآن ؛ وأن وجوه الاعجاز الذاتية فيه هي : الصدق المطلق الذي نزل به ، وعلو الجهة المنزل منها ، وحسن الأداء في النظم والفاصلة ، وروحانية القرآن .

6 – الدكتور أحمد أحمد بدوي يرى أن "البرغة هي سر هذا الاعجاز" .

7 – وسيد قطب يرى أن وجه الاعجاز في "التصوير الغني في القرآن" .

وهناك دراسات لا تأتي بجديد في الكشف عن "سر الاعجاز" .


 

ثالثا : الإعجاز في نظم القرآن

والجميع يرجعون الى مقالة الجاحظ أن سر الاعجاز في نظم القرآن مبنى ومعنى . ولذلك فهو معجز في ذاته ، لا بمعجزة حسية مضافة اليه . ولذلك يعتبرونه مع ابن خلدون أعظم المعجزات دلالة على صدق النبوة وصحة الدعوة لاجتماع الدليل والمدلول عليه فيه .

قال شيخ القائلين بإعجاز القرآن ذاته معجزة له ، الباقلاني : "إن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم معجزتها القرآن : والذي يوجب الاهتمام بمعرفة اعجاز القرآن أن نبوة نبينا عليه السلام بنيت على هذه المعجزة ... وذلك يكفي في الدلالة ، ويقوم مقام معجزات غيره وآيات سواه من الأنبياء ... فبان أن بناء نبوته صلى الله عليه وسلم على دلالة القرآن ومعجزاته ؛ وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يُعلم أنه كلام الله تعالى . وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء ، لأنها لا تدل على نفسها إلاّ بأمر زائد عليها ، ووصف مضاف اليها ، لأن نظمها ليس معجزًا وان كان ما يتضمنه من الإخبار عن الغيوب معجزًا . وليس كذلك القرآن لأنه يشاركها في هذه الدلالة ، ويزيد عليها أن نظمه معجز ، فيمكن أن يدل به عليه . وحلّ في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم" .

لكن اختلاف القوم في وجه الاعجاز ، وحيرتهم التاريخية في معرفة سر اعجازه ، جعلهم يعتبرون اعجاز القرآن "سرًا محجوبًا" ، و :اللغز الذي حيّر الناس" .

يقول عبد الكريم الخطيب : "فلو أن سر الاعجاز قد انكشف – وهيهات – لعرفه الناس ! ومن ثَم لم يعد بعيدًا عن متناول أيديهم ... وكان في مستطاعهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن" .

وهذا الخلاف المتواتر المتواصل على وجه الاعجاز دليل الحيرة في العقيدة ، والعقيدة لا تكون في حيرة ؛ والمعجزة لها وجه مشرق لا يختلف الناس فيه : فإن اختلفوا في وجه الدلالة ضاعت المعجزة – فإن "اللغز الذي حيّر الناس" لا يكون معجزة لهم . ولجوؤهم في ختام المطاف الى اعتباره "سرًا محجوبًا" و "اللغز الذي حيّر الناس" فيه القضاء المبرم على اعتبار الاعجاز في القرآن معجزة له : لأنه من البديهة أن "ما لا يمكن الوقوف عليه ، لا يتصور التحدّي به" . وهكذا ينهار الأساس الثالث في اعتبار الاعجاز القرآني معجزة .


 

خاتمة

لا يقوم اعتبار الإعجاز معجزة على أساس صحيح

تلك هي الأسس الثلاثة التي قام عليها اعتبار اعجاز القرآن معجزة له . وكلها أسس مشبوهة ، لا يقوم له قائمة ، تصلح قاعدة لعقيدة هي دليل النبوة الأوحد .

فليس محمد "بالنبي الأمي" . لقد كان علاّمة بلده ، وتلميذ علاّمة ، ابن عمه ورقة بن نوفل ، قسّ مكة ، في "علم الكتاب" .

ولا يشك أحد بأن كلام الله معجز بذاته للمخلوق . لكن القرآن ، كلام الله ، هو المدلول عليه بدليل الاعجاز . فلا يقوم المدلول عليه بدل الدليل . إنها مغالطة منطقية .

ووجه الاعجاز مختلف فيه . ولا يصح اختلاف في أساس العقيدة والايمان ، بالقرآن ، كلام الله . فهذا الاختلاف القائم برهان قاطع على أنه لا يصح اعتبار الاعجاز معجزة .

فبناء معجزة القرآن والنبوة على تلك الأسس الثلاثة ، بناء غير قويّ .

وبعد ، فتبقى شهادة القرآن لحقيقة اعجازه ، ففيها "القول الفصل ، وما هو بالهزل" (الطارق 13 – 14) .

  • عدد الزيارات: 23154