Skip to main content

المعجزة الموضوعية

المعجزة الموضوعية

توطئة عامة المعجزة الحقيقية تكون في المعنى قبل الحرف

ندرس في هذا الفصل أربعة أنواع من المعجزة : في العقيدة وفي الشريعة وفي "العلم" وفي التاريخ .

من المشهور أن إعجاز القرآن الأسمى هو نظمه وبيانه أي حرفه . وبما أن القرآن كتاب وحي ودين ، فمن البديهة أن تكون معجزته الحقيقية في المعنى قبل المبنى ، في الروح قبل الحرف ، في الموضوع قبل الأسلوب . لذلك فالإعجاز الأول في كتاب وحي ودين هو الإعجاز في الهدى . فمهما كانت منزلة القرآن من التبيين والبيان ، فغاية الله والإنسان هي العقيدة والإيمان . هذه هي المعجزة الكبرى . والقرآن يشهد لنفسه أنه تابع لا متبوع : "فبهداهم اقتدِهْ" (الأنعام 90) ؛ "ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمة" (هود 17 ؛ الاحقاف 12) . فالقرآن يأتم بالكتاب وأهله .

وبما أن التوحيد واحد في التوراة والانجيل والقرآن ، فقد نادى بعضهم باختصاص القرآن بالإعجاز في التشريع . ووجد بعضهم معجزة له فريدة في "العلم" . وذهب بعضهم ،

بسبب "أمية" محمد إلى القول بالإعجاز في التاريخ ، أي في القصص القرآني . وفاتهم جميعا تصريح القرآن عن مصادره ، في التشريع : "يريد الله ليبيّن لكم ، ويهديكم سنن الذين من قبلكم" (النساء 46) ؛ وفي "العلم" : "وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا" (الاسراء 85) ، وهذا القليل "هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" من قبله (العنكبوت 49) ؛ وفي التاريخ ، فإن قصص القرآن "من أنباء الغيب" المنزل في الكتاب قبله (آل عمران 44 ؛ هود 49 ؛ يوسف 102) ، فهو "من أنباء الرسل" (هود 120) ، "من أنباء ما قد سبق" (طه 99) . فهذا الواقع القرآني المشهود يشهد هل في القرآن من معجزة موضوعية في تعليمه . والمضمون يأتي قبل المنظوم .


 

الجزء الأول

الإعجاز في الهدى والمقيدة

 

توطئة

سرّ الإعجاز في النظم أم في الهدى ؟

إن النبوة والتنزيل رسالة دين وإيمان وهدى ؛ وسرّ كتاب من الله في موضوعه ومعناه ، قبل أن يكون في حرفه ونظمه : فاللفظ جسم والمعنى روحه ، والعبرة بالأرواح قبل الأجسام . فإن كان في القرآن معجزة ، فيجب أن تكون في هداه قبل نظمه .والقرآن نفسه إنما يتحدّى بهداه : "قلْ : فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعْه ، إن كنتم صادقين" (القصص 49) – فكانت ، بحسب تاريخ النزول ، الآية الأولى في التحدي بالقرآن ، وعنوان تحديه بإعجازه . لذلك يردّ فريد وجدي قول الأمة والجماعة بأن معجزة القرآن في نظمه ، ويراها هو في "روحانيته العالية" . يقول : "أما ما ولع به الناس من أن القرآن معجز لبلاغته ، وتجاوزه حدود الإمكان حتى وقف الإعجاز ببلاغته دون وجوه إعجازه الأخرى ، فلم نقف له على أثر في ذات القرآن ، مع أنه قد ورد ذكر القرآن في آيات عِدّة ، فلم نرَ في واحدة فيها ما يذهب إليه الآن الأكثرون ... وصف الله كتابه في هذه الآيات الكريمة بأوصاف كثيرة ، وليس من بينها واحد يشير الى بلاغته اللفظية ... ذلك أن البلاغة من الصفات الثانوية التي لا يصح أن يُمتدح بها الله في كتابه . ولو كانت البلاغة في أساس تحديه للكفار بالإتيان بسورة من سوره ، أما كان يشير إلى تلك البلاغة ولو في آية واحدة ؟ وقد أتى بعشرات منها في التنويه بحقيقته وحكمته وروحانيته" .

نحن في قضية الدين ، لا في حلبة الأدب والبيان . لذلك فالإعجاز المفروض في القرآن ، قبل غيره ، هو الإعجاز في حقيقته وحكمته وروحانيته أي في الهدى .

لكنّ القوم لمّا رأوا أن القرآن يتحدى "بكتاب من عند الله هو أهدى منهما" أي من الكتاب والقرآن (القصص 49) وأن "من قبله كتاب موسى إمامًا ورحمة" (الاحقاف 12 ؛ هود 17) ، فليس التحدّي بالهدى ميزة ينفرد بها ، عدلوا الى فهم تحديه بالنظم والبيان ، فحرّفوا بذلك معنى التحدي بإعجاز القرآن . إن التحدي الأول ، في كتاب الله ، بعد التنزيل ، هو التحدي بالهدى .

فهل في هدى القرآن إعجاز في الهدى ؟ هدى العقيدة ؟ أم هدى التشريع ؟ أم هدى "العلم" ؟ أم هدى القصص ؟ والقول الفصل في ذلك : "فبهداهم اقتدِهْ" . بحث أوّل القرآن يتحدّى المشركين بهدى الكتاب

أولا : القرآن يحصر التحدّي بالهدى وبالمشركين

إن مطلع التحدّي بإعجاز القرآن كان التحدّي بالهدى ، في قوله : فلمّا جاءَهم الحق من عندنا قالوا : لولا أُوتي مثل ما أوتي موسى ! – أو لم يكفروا بما أُوتي موسى من قبل ؟ قالوا : سحْران تظاهرا ! وقالوا : إنّا بكلٍّ كافرون ! قل : فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعْه ، إن كنتم صادقين ! فإن لم يستجيبوا لك ، فاعلمْ أنّما يتّبعون أهواءَهم ... الذين آتيناهم الكتاب من قبله ، هم به يؤمنون وإذا يُتلى عليهم قالوا : آمنّا به ، إنه الحقّ من ربنا ، إنّا كنّا من قبله مسلمين ؛ أولئك يؤتون أجرهم مرتين ..." (القصص 48 – 54) .

في هذا الفصل يفصّل القول في موقف الأمّيين العرب وأهل الكتاب (النصارى من بني إسرائيل) من الدعوة القرآنية ، فالمشركون يكفرون بالكتاب والقرآن ، فيتحداهم "بكتاب هو من عند الله أهدى منهما" ، ويعلن عن عجزهم . هذا هو التحدّي القرآني الحق ، لا التحدي بالنظم والبيان . وهو تحدٍّ للكافرين ، لا لأهل الكتاب . وفي قوله : "أهدى منهما" يحصر التحدي في الهدى ، ويجمع الكتاب والقرآن في إعجاز واحد بالهدى . وبما أنه يعتبر الكتاب "إمامه" في الهدى (الاحقاف 12 ؛ هود 17) ، فلا يمكن أن يوجه تحدّيه للكتاب وأهله .

وأهل الكتاب (النصارى من بني اسرائيل) يتضامنون مع القرآن في الدعوة للإسلام ، لأن اسلام القرآن من اسلامهم : "إنا كنّا من قبله مسلمين" . والقرآن يعتز بإيمانهم به ويعطيه حجة للمشركين ، ويعلن فضل هؤلاء الكتابيين على جماعة محمد أنفسهم : "أولئك يؤتون أجرهم مرتين" ، لإيمانهم الأول بإسلامهم ، ولإيمانهم أيضا بالدعوة القرآنية . ومن كانوا مسلمين قبل القرآن ، ولهم مع القرآن الأجر مرتين ، فلا يصح توجيه التحدي بالهدى ، أو بإعجاز القرآن لهم . إن هدى القرآن من هداهم ، واسلامه من اسلامهم ، وإعجاز القرآن من إعجاز الكتاب . فالتصريح واضح : "أهدى منهما ... إنا كنا من قبله مسلمين ... أولئك ؟ يؤتون أجرهم مرتين" .

فهل يصح ، بعد هذا النص القاطع ، تحدّي الكتاب وأهله بهدى القرآن ؟

ثانيا : ظهور الإسلام "على الدين كلّه" هو ظهور "للإسلام" من قبله

يقول : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون" (التوبة 33 ؛ الفتح 28 ؛ الصف 9) . لكن هذا التحدّي "بالهدى ودين الحق" على "الدين كله" ليس مطلقا ؛ إنما هو مقصورٌ نصّاً على المشركين : "ولو كره المشركون" !

ويرد هذا التحدي لأول مرة في سورة (الفتح 28) ما بين الفتح القريب لشمال الحجاز والفتح الأكبر لمكة (الفتح 27) ؛ ممّا يدل على أنه مقصور على المشركين العرب ؛ فهو تخصيص في معرض التعميم . ولو جاءت الآية نفسها في معرض قتال أهل الكتاب (التوبة 34) فلا تعنيهم لأن صفة "المشركين" لا يطلقها القرآن أبدًا على أهل الكتاب .

ثالثا : جدال القرآن كان بالكتاب المنير

يؤيد ذلك تحديه للمشركين : "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" (لقمان 20 ؛ الحج 8) . وهذا التحدي يرد في مكة وفي المدينة . فالناس كناية عن العرب المشركين : إنهم يجادلون بغير هدى الكتاب ، ولا عِلم الانجيل ، أي بلا سند من "الكتاب المنير" . أما محمد فهو يجادلهم بعلم وهدى "الكتاب المنير" . وهذا الجدال دليل على معنى التحدي "بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون" .

رابعا : الكتاب من قبله "هدى للمتّقين" من العرب

والكتاب المنير هو أيضا هدى للمتقين من العرب : "ذلك الكتاب ، لا ريب فيه ، هدى للمتقين ... الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أُنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون" (البقرة 1 – 4) . فالإشارة "ذلك الكتاب" تشير إلى البعيد المجهول ، فلا تعني القرآن العربي ، بل الكتاب "الإمام" : فكأنه تلا منه آيات ، ويعلّق عليها بآيات القرآن العربي . و"المتقون" في اصطلاحه كناية عن "الذين آمنوا" من العرب ، كما كان عند أهل الكتاب من يهود ونصارى كناية عن غير أهل الكتاب الذين آمنوا بالكتاب وليسوا في الأصل من أهله . فالمتقون من العرب مع محمد يؤمنون بالتنزيل القرآني كما يؤمنون بالتنزيل الكتابي . فهدى الكتاب هو "هدى للمتقين" ؛ فلا يكون تحدي القرآن بالهدى لأهل الكتاب ، بل لغيرهم .

خامسا : هدى القرآن من هدى الكتاب

يقول : "قلْ : إن هدى الله هو الهدى" (البقرة 120 ؛ الانعام 71) ، "قلْ : إن الهدى هدى الله" (آل عمران 73) . لكن هذا الهدى من قبله : "ولقد آتينا موسى الهدى" (غافر 53) ؛ وهو في الكتاب : "وآتينا موسى الكتاب ، وجعلناه هدى لبني اسرائيل" (الاسراء2) ، وللناس أجمعين : "وما قدروا الله حقَّ قدره ، إذ قالوا : ما أنزل الله على بشر من شئ ! – قلْ : مَن أنزل الكتاب الذي جاءَ به موسى نورا وهدى للناس ؟" (الانعام 91) . فالهدى في الكتاب قبل أن يكون في القرآن .

سادسا : هدى القرآن من هدى "المسلمين" من قبله

والقرآن تثبيت للجماعة ، وهدى وبشرى ، أي توراة وانجيل بحسب اصطلاحه ، للمؤمنين المسلمين من قبله : "واذا بدَّلنا آية مكان آية – والله أعلم بما ينزّل – قالوا : إنما أنت مفتر ! – بل أكثرهم لا يعلمون . قلْ : نزّله روح القدس من ربك بالحق ، ليثبّت الذين آمنوا ، وهدى وبشرى للمسلمين" (النحل 101 – 102) . لاحظ التمييز الصريح بين "الذين آمنوا" وهم جماعة محمد ، و"المسلمين" . فاسم "المسلمين" في القرآن لا يعني جماعة محمد الذين يصفهم بتواتر "بالمتقين" و"الذين آمنوا" ؛ بل الطائفة المسلمة من قبله التي أُمر بأن ينضم إليها ويتلو معها قرآن الكتاب (النمل 91) . والقرائن القرآنية تدل على أنهم "النصارى من بني اسرائيل" (قابل الصف 14) . فالقرآن تثبيت لجماعة محمد ؛ بينما هو "هدى وبشرى للمسلمين" ؛ إنه هدى الكتاب وبشرى الانجيل معا .

سابعا : القرآن يشهد للاسلام بشهادة أهله "الراسخين في العلم"

فالقرآن لا يتحدّى بالهدى هؤلاء "المسلمين" من قبله (القصص 49) ، بل يُؤمر بالانضمام اليهم وتلاوة قرآن الكتاب معهم : "وأمرت أن أكون من المسلمين ، وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) . والقرآن العربي كله يشهد بهذا الاسلام الذي يشهد به هؤلاء المسلمون من قبله ، الذين يسميهم "الراسخين في العلم" (آل عمران 7) ، "وأولي العلم قائما بالقسط" ، يقول : "شهد الله أن لا إله إلاّ هو ، والملائكة ، وأولو العلم قائما بالقسط ... أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) . فالقرآن يشهد بشهادة النصارى ، أولي العلم المقسطين "أن الدين عند الله الاسلام" – فلا يمكن أن يفكّر بتحديهم بإعجاز القرآن في الهدى . وهكذا فإن القرآن يتحدّى بالهدى غير أهل الكتاب . فتحديه محصور مقصور ، مقطوع ممنوع . فليس الاعجاز القرآني في الهدى تحديا للكتاب وأهله . بل هو يتحدى المشركين بالكتاب والقرآن معا : "أهدى منهما" (القصص 49) فهما متضامنان متكافلان في الهدى وإعجازه . والنبي العربي هو في الهدى تابع لا متبوع : "فبهداهم اقتدهْ" (الانعام 90) .


 

الكتاب "إمام" القرآن في الهدى

لا يتحدى القرآن الكتاب وأهله بالهدى ، ولا يدّعي القرآن نسخ الكتاب في الشرع والهدى ؛ بل يعتبر القرآنُ الكتاب "إمامه" في الهدى ، و"سنن الذين من قبلكم" (النساء 26) .

أولا : ليس في هدى القرآن على الكتاب سوى اللسان العربي

يقول : "وإذ لم يهتدوا به ، فسيقولون : هذا إفك قديم – ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمة ، وهذا كتاب مصدّق لسانًا عربيًّا ، لينذر الذين ظلموا ، وبشرى للمحسنين" (الاحقاف 11 – 12) . يردّ على تهمة افترائه (8) وعلى قولهم "هذا إفك قديم" بانتسابه الى الكتاب الذي يعتبره إمامه ، فاذا كان الكتاب إمامه ، فالإعجاز في الهدى هو في "الإمام" قبل أن يكون في النسخة العربية عنه . وعند الشك في صحة الهدى في النسخة العربية ، يردّ الى "الإمام" فعنده الخبر اليقين . لأنه ليس في النسخة العربية ما يزيد على الإمام" سوى اللسان العربي : "وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا" . وأنت تلاحظ أنه لا يجعل إعجازه في هذا اللسان العربي ، بل في كونه تصديق الكتاب الإمام في الهدى . وهذا الهدى القرآني إنذار للظالمين من يهود ومشركين ، و "بشرى للمحسنين" أي "النصارى" : فإذا كان القرآن "بشرى للمحسنين" فلا يكون تحدّيًا لهم بإعجازه . يؤكد ذلك في ردّه الأول على تهمة الافتراء والكفر به : "قل : أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به – وشهد شاهد من بني اسرائيل (النصارى) على مثله فآمن واستكبرتم – إن الله لا يهدي القوم الظالمين" (الاحقاف 10) . فهو يستشهد على أن القرآن من عند الله بشهادة شاهد من بني اسرائيل النصارى "على مثله" . فإذا كان "مثل" القرآن عند هؤلاء النصارى ، وهذا نص القرآن القاطع ، فقد سقط كلّ تحدٍّ بالقرآن وهداه وإعجازه .

ثانيا : صحّة الهدى في القرآن مبنية على إمامة الكتاب له

يعود للتصريح نفسه في قوله : "أفمن كان على بيّنةٍ من ربه – ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمة – أولئك يؤمنون به . ومَن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده . فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" (هود 17) . هذا التصريح يكشف عن سر القرآن وهداه وإعجازه : شاهد من قِبَل الله – وهو نفس الشاهد من بني اسرائيل (النصارى) على مثله – يتلو القرآن على محمد في "مثله" ، فيفصّله محمد "لسانا عربيًّا" (يونس 37 والأحقاف 12) ؛ ويشهد على صحة "المِثْل" النصراني ، وعلى صحة "المِثْل" القرآني المفصِّل له لسانا عربيا أن "من قبله كتاب موسى إماما" . فإمامة الكتاب ، ووجود "مثل" القرآن عند النصارى من بني اسرائيل ، هما البرهانان على صحة القرآن العربي في "تفصيل الكتاب" الإمام . وهؤلاء النصارى من بني اسرائيل هم "على بيّنة" من ربهم ، لذلك فهم يؤمنون بالدعوة القرآنية وإن كفرت بها الأحزاب من مشركين ويهود . وهذا الايمان دليل وحدة الكتاب ، ووحدة الايمان ، ووحدة الدعوة ، ووحدة الأمة (المؤمنون 52 ؛ الأنبياء 92) . أيصح اذن أن يكون في القرآن العربي وهداه وإعجازه تحدٍّ لهم ؟ فحسب النسخة أن تكون كإمامها وكمثلها . وفي هذا التصريح ردّ على الكافرين بالقرآن العربي ، وردع لمحمد نفسه عن الشك في قرآنه : "فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك" . والقرآن العربي "هو الحق من ربك" لأنه نسخة عربية عن "المِثْل" الذي يتلوه شاهد من بني اسرائيل النصارى على محمد ، "ومن قبله كتاب موسى إمامًا" . فهدى القرآن واعجازه من هدى "المِثْل" وإمامه . وبذلك ، بنص القرآن القاطع ، تسقط عنه دعوى التحدي بإعجازه في الهدى والبيان .

ثالثا : محمد يؤمر أن يقتدي في القرآن بهدى الكتاب وأهله

والأمر في القرآن العربي أن يقتدي محمد فيه بهدى الكتاب وأهله . فهو يذكر الأنبياء من نوح الى ابراهيم الى موسى الى عيسى ، ويذكر "من آبائهم وذريتهم وأخوانهم ؛ واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم : ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده" (الانعام 84 – 88) . ثم يقول : أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحُكم (الحكمة) والنبوة – فإن يكفر بها هؤلاء ، فقد وكّلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين – أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" (89 – 90) . فقوله "الذين آتيناهم الكتاب والحُكم والنبوة" هو اصطلاح قرآني متواتر كناية عن "الذين يُقيمون التوراة والانجيل" معا ، من أهل الكتاب ، وهم النصارى من بني اسرائيل فهو يصرّح بأنهم على الصراط المستقيم ، وأن هدى الله معهم : "ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده" . ويأيه الأمر صريحا محكما : "أولئك الذين هدى الله ، فبهداهم اقتده" . وهكذا فإن محمدا يُؤمر منذ رؤياه في غار حراء ، في الرسالة والدعوة ، أن يقتدي بهدى النصارى من بني اسرائيل . فالاعجاز في الهدى هو اذن عندهم ومنه يستمد محمد هداه .

رابعا : ما القرآن سوى تعليم العرب "الكتاب والحكمة" أي التوراة والانجيل

إن دعوة محمد ، بنص القرآن القاطع ، هي تعليم العرب "الكتاب والحكمة" – والحكمة في مثل هذا التعبير اصطلاح خاص ، كناية عن الانجيل : "ولمّا جاء عيسى بالبينات قال : قد جئتكم بالحكمة" (الزخرف 63) ؛ كما أن "الكتاب" كناية عن توراة موسى ، كما في قوله لعيسى : "واذ علمتك الكتاب والحكمة – والتوراة والانجيل" (المائدة 110) ، حيث "الواو" بين التعبيرين عطف بيان . هذا ما يؤكده القرآن مرارا : "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ، ويعلّمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" (البقرة 151) ، كما طلب ابراهيم واسماعيل : "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويزكيهم ، إنّك أنت العزيز الحكم" (البقرة 129) . وهكذا "لقد مَنّ الله على المؤمنين ، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (آل عمران 164) .

إن هذا التصريح المتواتر بالحرف الواحد يدل على توقيف الدعوة القرآنية على حرف موروث ومحوره الدعوة أن "يعلمهم الكتاب والحكمة" كما تعلَّمهما ودرسهما : "وكذلك نصرّف الآيات ! وليقولوا : درست ! – ولنبينه لقوم يعلمون" (الانعام 105) . فإن سكوته عن الرّد على تهمة الدرس ، وعدوله الى بيان حكمته دليل على صحته : فقد "درس" محمد "الكتاب والحكمة" لأنهم "كانوا عن دراستهم غافلين" ، وهو يعلمهما للعرب في القرآن العربي ، "تفصيل الكتاب" . فالاعجاز في الهدى والبيان ، إنما هو في "الكتاب والحكمة" ، قبل القرآن ، بشهادته الصريحة القاطعة .

خامسا : القرآن يشرّع للعرب دين "موسى وعيسى" دينا واحدا

إن النصارى من بني اسرائيل – من دون اليهود والمسيحيين – كانوا يقيمون التوراة والانجيل . والقرآن يدعو بدعوتهم ويشرع للعرب "نصرانيتهم" بتصريحه : "شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا – والذي أوحينا اليك – وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه" (الشورى 12) . إن ما وصى به الله نوحا وابراهيم نعرفه من توراة موسى التي جدّدت دينهما ؛ فالأمر يقتصر على موسى وعيسى . فنص القرآن القاطع أن القرآن يشرع للعرب دين موسى وعيسى دينا واحدا ، على طريقة النصارى من بني اسرائيل . هذا هو الأمر القرآني لمحمد نفسه : "قل : آمنا بالله ... وما أوتي موسى وعيسى ، والنبيون من ربهم ، لا نفرّق بين أحد منهم ، ونحن له مسلمون" (آل عمران 84) ؛ كما هو الأمر لأمته : "وقولوا : آمنا بالله ... وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم : لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" – كما يُفرّق اليهود والمسيحيون (البقرة 136) لذلك يتحداهم بقوله : "قل : يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل – وما أُنزل اليكم من ربكم" (المائدة 68) . هذه هي "النصرانية" عينها ؛ وهذا هو الدين الذي يشرعه للعرب .

سادسا : "عباد الرحمان" هم "إمام المتّقين" من العرب

يصرّح : "وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا ... والذين يبيتون لربهم سجّدا وقياما ... والذين يقولون : ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرّة أعين ، واجعلنا للمتقين إمامًا" (الفرقان 63 – 74) . اصطلاح "المتقين" يعني المهتدين من "الأميين" العرب . واصطلاح "عباد الرحمان" ، بما أنه مقابل "للمتقين" فلا يعني أبداً جماعة محمد ، ولا اليهود ، بل رهبان عيسى "النصارى" ، كما تدل عليه أيضا صفتهم التي ينفردون بها : "يبيتون لربهم سجدا وقياما . فعباد الرحمان هؤلاء هم "إمام المتقين" من العرب في الدين والهدى ، فهم أهل الاعجاز في الهدى لأنهم "الإمام" ، والقرآن وأهله تبعٌ لهم في الهدى .

سابعا : "ما لم ينزل من القرآن على أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم"

عقد السيوطي في (الاتقان 39:1) فصلا : "ما أُنزِل منه على بعض الأنبياء ، وما لم ينزل منه على أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم ... من الثاني : الفاتحة وآية الكرسي وخاتمة (البقرة)" . مع خلاف في هذه الخاتمة أهي آيتان أم ثلاث . فيكون ما اختص به محمد في التنزيل والهدى سبع آيات (الفاتحة) ، وآية الكرسي (البقرة 255) وثلاث آيات من خاتمة (البقرة) . أي نحو عشر آيات . فهب الأمر كذلك ، هل يقتصر الاعجاز في التنزيل والهدى عليه ؟ وهذا دليل جهل كبير بالكتاب : (فالفاتحة وردت بموضوعها ، الهداية الى "الصراط المستقيم" ، وبأسماء الله الحسنى فيها ، في زبور داود وفي سفر أشعيا (ف 40 – 50) . وآية الكرسي فهي هذه : "الله ، لا إله إلاّ هو ، الحيّ القيوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، له ما في السماوات والأرض ... وسع كرسيه السماوات والأرض ، ولا يؤده حفظهما ، وهو العلي العظيم" (البقرة 255) . فأي إعجاز فيها على زبور داود ؟ والتعبير العبراني الآرامي ، "الحي القيوم" دليل مصدره . واذا كان "كرسيه" قد "وسع السماوات والأرض" فأي محل بقي لغيره ممّا ذكره القرآن فيها ؟ أجل هو تعبير مجازي لا يؤخذ على حرفه ، لذلك فهو من المتشابه الذي لا إعجاز فيه .

وهذه آيات (البقرة) : "لله ما في السموات والأرض : وإنْ تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء والله على كل شئ قدير (284) .

آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله – لا نفرّق بين أحد من رسله – وقالوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا واليك المصير (285) . لا يكلّف الله نفسا إلاّ وسعها ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت . ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصْرًا كما حملته على الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واغفر لنا وارحمنا ، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين" (286) – فمن قال أن هذا الايمان وهذا الدعاء ليس "مثلهما" في الكتاب فهو جاهل به . وآية المحاسبة على الوسوسة (284) تذمّر منها الصحابة ، فنسختها الآية (286) فلا إعجاز في تنزيل منسوخ وناسخ !

والقول الفصل في هذا كله تصاريح القرآن : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" ، فالقرآن "تفصيل الكتاب" لذلك أُمِر محمد : "فبهداهم اقتدِهْ" فالكتاب التابع لا يكون معجزا في الهدى أكثر من الكتاب المتبوع .


 

بحث ثالث
من ظواهر تحدّي القرآن بالهدى

ظاهرة غريبة ، من ظواهر تحدي القرآن بالهدى ، هي تلك الأزمات الايمانية التي فصلناها في فصل سابق ، ونعود اليها هنا بإيجاز ، لنرى أين يكون الاعجاز في الهدى والعقيدة .

أولا : التحدّي بالقرآن يلازمه ردْع النبي عن الشرك

إن تحدّي المشركين "بكتاب من عند الله هو أهدى منهما" أي من الكتاب والقرآن (القصص 49) يليه للحال ردْع النبي عن الانزلاق الى الشرك : "قل : ربي أعلم مَن جاءَ بالهدى ، ومن هو على ضلال مبين ، وما كنت ترجو أن يُلقى اليك الكتاب ، إلاّ رحمة من

ربك : فلا تكونن ظهيرا للكافرين ! ولا يصدّنُّك عن آيات الله بعد إذ أُنزلت اليك ! وادعُ الى ربك ، ولا تكوننّ من المشركين ! ولا تدعُ مع الله الهًا آخر ، لا إله إلاّ هو ! كل شئ هالك ، إلا وجهه ، له الحكم وإليه تُرجعون" (القصص 85 – 88) .

تلك صورة قاتمة من صور الأزمات النفسية الايمانية المتواصلة التي كانت تنتاب محمدا . وحاشا لله أن يحذّر عبده من الشرك على أنواعه ، لو لم يكن فيه شئ من تجربة الشرك ! فإعجاز الدعوة في الهدى تظهر آثاره أولا على نبيّه ، لأن هدى النبي من هدى نبوته ودعوته ، وهذا لا ينسجم مع الإعجاز في الهدى .

ثانيا : التحدّي بالقرآن والركون شيئا قليلا الى المشركين

في سورة (الاسراء) يتحدى "الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ... ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" (88) ! ثم يعتزّ بإيمان "الذين أوتوا العلم من قبله ، إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سجّدًا" (107) . وإذا به في الوقت نفسه يُعاَتَب على فتنته عن الوحي القرآني التي كادوا يوقعونه فيها : "وإنْ كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا اليك لتفتري علينا غيره ، واذًا لاتّخذوك خليلا ! ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا" ! (73 – 74) .

لقد كاد محمد يركن "شيئا قليلا" الى فتنتهم ، لو لم تتداركه رحمة الله بمثل "الذين أوتوا العلم من قبله" . فالفضل في إعجاز الهدى لهم . ولا مراء في ركون محمد "شيئا قليلا" الى المشركين ، لأنه حاشا للوحي أن يخبر بغير الحقيقة والواقع . فأين إعجاز النبي الذي يعصمه من الفتنة : إن التحدي بالقرآن (الاسراء 88) لا يستقيم مع إمكانية فتنة نبيه عنه ، لأن هدى الرسول من هدى نبوته .

ثالثا : التحدّي بالقرآن وهداه ، والشك من تنزيله

يصرّح القرآن بأنه "تفصيل الكتاب" (يونس 37) ثم يتحدى "بسورة مثله" (يونس 38) . فالتحدّي لا يطال أهل الكتاب ، لأن القرآن "تفصيل الكتاب" إنما هو للمشركين وحدَهم . مع ذلك ، فإنه بعد ذلك التصريح وذلك التحدي يعلن : "فإن كنت في شك ممّا أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك : لقد جاءَك الحق من ربك ، فلا تكونن من الممترين ! ولا تكوننّ من الذين كذّبوا بآيات الله ، فتكون من الخاسرين" (94 – 95) . إن الافتراض من الوحي لا يكون عبثا ، إنما هو برهان الواقع : فمحمد انتابته موجة شك من تنزيل القرآن عليه ، وهذا الشك لا يستقيم مع التحدي "بسورة مثله" ، بل يحدّه . ويظل الاعجاز في الهدى عند الذين يحيله الوحي اليهم ، لا عند الذي يحذّره من الشك في صحة التنزيل اليه .

رابعا : التحدّي بالقرآن ومحنة المِرْية منه

في سورة (هود 12 – 17) ظاهرة غريبة ، يأتي التحدّي "بعشر سور مثله" بين الفتنة بترك "بعض ما يوحى اليك" وبين "مرية منه" . فهو يصرّح : "فلعلّك تارك بعض ما يُوحى اليك ، وضائق به صدرك ، أن يقولوا : لولا أُنزل عليه كنز ، أو جاءَ معه ملك ! – إنما أنت نذير ، والله على كل شئ وكيل" (12) . ثم يقول للحال : أم يقولون : افتراه ! – قل : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا مَن استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ..." (13) . ويختم بهذا التصريح المذهل : "أفمن كان على بيّنة من ربه – ويتلو شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة – أولئك يؤمنون به ؛ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ! فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" (17) . يُدعى محمد الى عدم الشك من حقيقة ما يُوحى اليه ، لأنه وإن كفر به "الأحزاب" أي "أكثر الناس" في مكة ، فهناك مَن يؤمنون به ، وهم على "بيّنة من ربهم لأن لديهم "كتاب موسى إمامًا ورحمة" ؛ وهو كقوله : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" (الأحقاف 10) حيث الشاهد "النصراني" يصير جماعة النصارى من بني اسرائيل ؛ فهم الذين يشهدون للنبي ويرفعون "المرية" من نفسه : فالهدى هداهم ، والإعجاز إعجازهم .

لكن ما هذا التردّد المتواصل بين الايمان والشك من نفسه ومن أمره ومن وحيه ! هل تردّد الرسول في هداه من "دلائل الاعجاز" في هدى رسالته ؟

خامسا : التحدّي بالقرآن وتحذير النبي من مخالطة المشركين

سورة (الأنعام) – وهي متبعّضة من أزمنة مختلفة – تثبيت لمحمد في رسالته ودعوته ، وجدال عنها مع المشركين . لكن الظاهرة الغريبة المتواترة تظهر فيها ، حيث في آية واحدة يجتمع الاعلان بزعامة محمد للاسلام والتحذير له من الشرك : "قل : إني أُمرُتُ أن أكون أول مَن أسلم ، ولا تكونَنَّ من المشركين !" (14) . ويلي التحذير له من الشرك تحذير آخر من المشركين . يعلن : "قل : إني نُهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ! قل : لا أتّبع أهواءَكم ! قد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين ! قل : إني على بيّنةٍ من ربي وكذّبتم به" (56 – 57) . هنا يصرّح أيضا عن نفسه بأنه "من المهتدين" ، لا من الهادين ! فهذه الأوامر المتلاحقة "قل" تأتيه إذا من الذين يهدونه ويشهدون معه وله" (هود 17) . لكن للحال يأتيه التحذير من القعود مع المشركين لئلا يسقط في التجربة : "واذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره . وإمّا ينسينّك الشيطان ، فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين" (68) . لقد نُصب لدعوتهم بالقرآن ، وها هو يُؤمر بعدم القعود مع الباحثين فيه : فما هذا ؟ وقعوده مع "الظالمين" منسوب الى عمل من الشيطان : فما هذا السلطان الشيطاني على النبي المعصوم ؟ وهل يُخشى عليه من القعود مع المشركين ؟ وهل يُخشى على الوحي القرآني من خوض "الظالمين" فيه ؟ أأمر بدعوتهم ، وأمر بعدم مخالطتهم ؟

سادسا : التحدّي بهدى القرآن ، وتحذير النبي من الضلال

في سورة (الانعام) نفسها مواقف أخرى متعارضة . فمن جهة يقابل بين المؤمنين بدعوته وبين الكافرين بها من أهل الكتاب : فالنصارى من بني اسرائيل "الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوة" أي التوراة والانجيل والنبوة كلها ، "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدهْ" لأنهم الوكلاء على هدى الله ، "وان يكفر بها هؤلاء" أي أهل مكة ، واذ قال اليهود : " ما أنزل الله على بشر من شئ" (89 – 90) . ومن جهة أخرى يحذّره من الضلال بحق القرآن ، وهو "الكتاب مفصّلا" : "أفغير الله أبتغي حكما ، وهو الذي أنزل اليكم الكتاب مفصّلا – والذين آتيناهم الكتاب (النصارى) يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق ، فلا تكوننّ من الممترين – وتمت كلمات ربك صدقًا وعدلاً، لا مبدّل لكلماته ، وهو السميع العليم . وإنْ تُطعْ أكثر من في الأرض (المشركين واليهود في الحجاز) يضلّوك عن سبيل الله ، إن يتبعون إلاّ الظن ، وإنْ هم إلاّ يخرصون" (114 – 116) . فكأن محمدا يتردّد بين الفريقين ، فيؤكد له الذين أُمر بالاقتداء بهداهم (90) وهم أهل الكتاب المؤمنون به وبدعوة محمد أن القرآن هو "الكتاب مفصلاً" وقد "تمت كلمات ربك صدقا وعدلا ، لا مبدّل لكلماته" ؛ وهم يعلمون أن الكتاب الأول هو المنزّل ، وأن القرآن هو "الكتاب مفصلا" . فهذا الكتاب المفصَّل يستمد تنزيله وهداه من الكتاب الأول . بهذا يشهد ثقاته . فإن أطاع محمد اليهود والمشركين أضلّوه عن سبيل الله . فهل يستقيم هذا الامكان بإضلال محمد ، وهذا التحذير المتواتر من الشك في القرآن نفسه ، مع الاعجاز في الهدى عند الرسول ؟

سابعا : التحدّي بهدى القرآن ، والأمر المتواصل للإخلاص في الدين

سورة (الزمر) حملة متواصلة لحمل محمد على الاخلاص في الدين : "إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق ، فاعبدِ الله مخلصا له الدين ... قل : إني أُمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ، وأُمرت لأن أكون أول المسلمين . قل : إني أخاف ، إنْ عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل : الله أعبد مخلصا له ديني (11 – 14) ... ولقد أُوحي اليك والى الذين من قبلك : لئن أشركت ليحبطنّ عملك ، ولتكوننَّ من الخاسرين" (65) . فهذا التهديد المتواصل لمحمد حتى التخويف من عذاب يوم عظيم ؛ وهذا الأمر المتواصل له بالاخلاص في الدين ؛ وهذا الاغراء بجعله "أول المسلمين" ؛ هل هي من "دلائل الاعجاز" في الهدى عنده ؟

ثامنا : التحدّي بالقرآن وهداه ، والأمر المتواتر بالاستقامة على الهدى

يتحدى بالقرآن ، بحديث مثله ، بعشر سور مثله ، بسورة مثله ؛ ويتحدى بهداه . ثم يأتيه الأمر بالاستقامة على الهدى الذي اهتدى اليه . فهو يعلن : "شرع لكم من الدين ... وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه . كبر على المشركين ما تدعوهم اليه" (الشورى 13) . فالهدى القرآني هو دين موسى وعيسى الذي يشرعه للعرب دينا واحدا – لأن ما وصى به نوحا وابراهيم تجدّد بموسى . هذا هو الكتاب كله الذي آمن به محمد : "وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب" (15) . وهذا هو العدل بين المؤمنين : "وأمرتُ لأعدل بينكم" (15) . بعد هذا الإيمان ، وهذا الجزم بالدين الذي يشرعه ، يأتيه الأمر المكرَّر : "فلذلك فادع واستقم كما أُمرت ، ولا تتبع أهواءَهم" (15) .

فهل يُخشى على محمد من الميل عن الاستقامة في دعوته ، حتى يأتيه الأمر المكرّر بالاستقامة على الهدى ؟ والتحذير المكرّر من أتباع أهواء المشركين ؟ وهل هذا كله من "دلائل الاعجاز" في هديه وهداه ؟

تاسعا : التحدّي بالقرآن والنهي عن أتباع أهواء المشركين

في مكة يتواتر التحدي بالقرآن ، ويتواتر أيضا التحذير نفسه لمحمد من الشرك والمشركين ، مع بيان الصراط المستقيم في الهدى والدين، على طريقة الذين يؤمنون بالكتاب والحكمة أي التوراة والانجيل دينا واحدا – وهم النصارى من بني اسرائيل . يقول : "ولقد آتينا بني اسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ... وآتيناهم بيّنات من الأمر ... ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ، ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون" أي المشركين (الجاثية 16 – 18) . لقد جُعل محمد على طريقة "من الأمر" في الدين الذي يقيمه النصارى "من بني اسرائيل" الذين "يعلمون" ، "أولي العلم قائما بالقسط" ، فما عليه إلاّ أن يستقيم على هذه "الشريعة من الأمر" ولا يتبع أهواء المشركين . فليس التحذير المتواتر له طوال العهد بمكة من المشركين ، من "دلائل الاعجاز" في الهدى والدين .

عاشرا : التحدّي بالقرآن والاستعاذة قبل قراءَته من الشيطان

آخر تحدٍّ بالقرآن وهداه اعلانه : "أم يقولون : تقوّله ! – بل لا يؤمنون ! فليأتوا بحديث مثله ، إن كانوا صادقين" (الطور 33) . هنا صار التنزيل "حديثا" . فهو يتحدى بالقرآن جملة . لكنه في الوقت نفسه يُؤمر بالاستعاذة من الشيطان ، عند قراءَة القرآن ، لئلا يُلقي فيه ، عند تبديل آية بآية : "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ... واذا بدّلنا آية مكان آية – والله أعلم بما ينزِّل – قالوا : إنما أنت مفترٍ ! بل أكثرهم لا يعلمون" (النحل 98 – 101) .

ظاهرة سببت رِدّة بعض المسلمين لمّا عرفوها ، وهي تبديل آية بآية في القرآن . ومحمد نفسه لا يعلم سرّ ذلك ، "والله أعلم بما ينزّل" . لكن هل هذه الظاهرة الغريبة المريبة التي جعلت بعضهم يقول للنبي : "إنما أنت مفتر" ، هي من الإعجاز في التنزيل والبيان والهدى ؟ والشبهة الأخرى أغرب وأنكى ، وهي الاستعاذة من الشيطان قبل قراءَة القرآن : إن كلام الله هو استعاذة بحدّ ذاته ، فما معنى هذه الاستعاذة ؟ وهل من خطر على الوحي ان يُلقي الشيطان فيه عند تنزيله ؟ وهل في "تبديل آية بآية" من صلة بهذه الاستعاذة . إن التبديل في التنزيل ليس من "دلائل الاعجاز" في الهدى والبيان والتنزيل .

حادي عشر : التحدي بالقرآن وهداه ، والإثبات والمحو في مبناه

ينهي العهد بمكة على صورة المحو والاثبات في تنزيل القرآن : "لكل أجل كتاب : يمحو الله ما يشاء ويثبت ، وعنده أمّ الكتاب" (الرعد 38 – 39) . "أم الكتاب" أصلُه عند الله . وهذا الأصل لا شك واحد . فكيف يُنزل الله منه ثم يمحو ما أنزل؟ لذلك احتج الناس على هذه الظاهرة الغريبة المريبة ، "ويقول الذين كفروا : لست مرسلاً ! – قل : كفى بالله شهيدا ، ومَن عنده عِلْم الكتاب" (43) . إن شهادة الله على الرسالة هي المعجزة ، فأين هي ؟ يكتفي النبي من المعجزة والاعجاز بشهادة "مَن عنده علم الكتاب" أي "الراسخين في العلم" ، "أولي العلم قائما بالقسط" ، وهم النصارى من بني اسرائيل . الى هنا ينتهي التحدي بالاعجاز والهدى . فمن يشهد على نفسه بالمحو في التنزيل والهدى ، ومَن حجته شهادة "مَن عنده علم الكتاب" ، هل يكون على الاعجاز في الهدى ؟

تلكم اثنتا عشرة شهادة من التحدي بالقرآن وهداه ، مقرونة بالأزمات النفسية والايمانية إنه يتحدى ، ويشك من نفسه ومن أمره ومن وحيه ومن القرآن نفسه ! وهو على ذلك طورا يعاتبه ، وطورا يؤدبه ؛ تارة يدعوه الى الاخلاص في الدين ، وتارة يحذره من اتباع أهواء المشركين . وعلى الدوام يدعوه الى الاستقامة في الهدى ، حتى كان محمد يقول : "شيبتني هود . أتفقر الى الله بصحة العزم" !

فهل هذا كله من "دلائل الاعجاز" في الهدى والعقيدة ؟


 


بحث رابع

هل من إعجاز في الدعوة الى التوحيد بمكّة ؟

يقولون : إن رجلا "أمّيا" ، لا يقرأ ولا يكتب ، وذلك في الحجاز المحجوز عن المعمورة برماله وصحاريه ، في بيئة جاهلية وثنية ، يقوم ويدعو للتوحيد الخالص ، تلك هي المعجزة الكبرى في الرسول والرسالة . فهل في ظروف "النبي الأمي" ، وظروف الزمان والمكان في البيئة ، وظروف الدعوة نفسها ، ما يفرض القول بالاعجاز في الدعوة للتوحيد بمكة ؟

أولا : هل من إعجاز في حال "النبي الأمّي"

لقد رأينا أن أمية محمد ينقضها القرآن كله . وقد رأينا أن محمد "درس" الكتاب والحكمة أي التوراة والانجيل ، على يد نسيبه ورقة بن نوفل ، قسّ مكة وعلاّمتها الذي يدعو الى نصرانيته بترجمة الانجيل الى العربية وقد رأينا أن محمدا في القرآن "يعلمهم الكتاب والحكمة" أي التوراة والانجيل .

فليس من إعجاز في حال محمد .

ثانيا : هل من إعجاز في ظروف البيئة ؟

إن التاريخ المتصل بالمشاهدة العيان يشهد ، كما نقلنا عن الأستاذ دروزة ، أن الحجاز لم يكن محجوزا عن الحضارة والثقافة . بل كان أهل مكة ، ومحمد على رأسهم ، منذ زواجه حتى مبعثه ، صلة الوصل بين حضارة الشرق في الهند وحضارة الغرب في الشام وعند الروم ، لسيطرهم على طريق القوافل . وقد أشاد القرآن نفسه بنعم الله على بني قومه ، "لايلاف قريش ، ايلافهم رحلة الشتاء والصيف" ما بين اليمن وما وراءه ، وبين الشام وما وراءه . واتصالهم بحضارتين عظيمتين ، بفارس والروم ، جعلهم ميدان الصراع لهما حتى في الدين . فنادى القرآن "ولا تعبدوا الهين اثنين" ، "ولا تقولوا : ثلاثة" .

والقرآن نفسه خير شاهد على أن البيئة الحجازية ، وعلى رأسها مكة ، لم تكن على الوثنية في شئ . بل ، بفضل الدعوة الكتابية فيها ، قد تحولت وثنية العرب الى شرك ، أي الى عبادة الله مع شريك له من خلقه . وشيئا فشيئا أُفرغ هذا الشرك من معناه ، فأمسى شركا شكليا ؛ كما يعلن القرآن نفسه على لسانهم : "ما نعبدهم إلاّ ليقربونا الى الله زلفى" (الزمر 3) .

والدكتور جواد علي ، من المجمع العلمي العراقي ، ينهي كتابة (تاريخ العرب قبل الاسلام 424:5 و 428) بهذه النتيجة الحاسمة : "إن عقيدة الجاهليين في الله ، وحجّهم الى البيت وقسمهم به ، نتيجة تطور طويل مرّ على الحياة الدينية لعرب الجاهلية ، اختُتم بظهور الاسلام ، ودخول أكثرهم فيه . فقد كان أهل مكة على مقالة من التوحيد والدين ، وعلى تيقّظ وشك في أمر الشفعاء والشركاء والأصنام ، حمل الكثيرين على الشك في ديانة قومهم ، وعلى الدعوة الى الاصلاح ... فعبادة أهل مكة هي عبادة محمد ؛ وتوحيدهم توحيد اسلامي ، أو توحيد قريب من التوحيد الاسلامي" .

وقد تغلغل الصراع بين المسيحية واليهودية ، من أطراف الجزيرة كلها الى قلب الحجاز ، وقام بين اليهودية والمسيحية فرقة "النصارى" من بني اسرائيل ، التي هاجرت الى مكة ، وكانت على أساس نهضتها التجارية والثقافية والدينية . وكانوا يدعون العرب الى دين موسى وعيسى معا ، الى إقامة التوراة والانجيل معا ، حتى أمست مكة والحجاز كله مستعدين للدعوة القرآنية . فجاءَ أمر الله الى محمد بالانضمام اليهم والدعوة بدعوتهم : "وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن" (النحل 91 – 92) ، "تفصيل الكتاب" (يونس 37) .

فبحسب التاريخ والقرآن نفسه ليس في ظروف البيئة ، والزمان والمكان ؛ وليس في ظروف محمد الشخصية والعائلية والقومية من معجزة في الدعوة للتوحيد بمكة والحجاز .

ثالثا : هل من إعجاز في الدعوة للتوحيد نفسه ؟

تقتصر الوعود القرآنية على التوحيد : "قل : إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى . ثم تتفكّروا ما بصاحبكم من جنّة ، إنْ هو إلاّ نذير لكم بين يدي عذاب شديد" (سبأ 46) . فليس فيه من وحي سوى هذا التوحيد : "قل : إنما أنا بشر مثلكم يُوحى اليّ إنما الهكم اله واحد . فاستقيموا له واستغفروه ! وويل للمشركين" ! (فصلت 6) . هذا توحيد ظاهري ، لا يكشف شيئا عن سرّ الله . والاسلام كله تنزيه عن الشرك : "فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ، وأنْ لا اله إلاّ هو ، فهل أنتم مسلمون" ؟ (هود 14) . فليس في القرآن من كشف عن سر الله سوى توحيده : "والهكم اله واحد ، لا إله إلاّ هو ، الرحمان الرحيم" (البقرة 163) . وسنرى أن التوحيد غارق في التشبيه ، ليس فيه تجريد . إنما إعلانه الصارخ المتواصل هو دائما : "الهكم اله واحد" (22:16؛ 110:18؛ 108:21؛6:41؛ 34:22؛ 163:2) . لذلك كانت الشهادة الاسلامية على وجه الزمان : "لا إله إلاّ الله" . فهي تقتصر على توحيد خارجي ظاهري ، لا يكتشف شيئا عن ذات الله . بل اعتبروا البحث في ذات الله اشراكا .

فهل من إعجاز في الدعوة لهذا التوحيد ، وقد سمعه العرب ، حتى في مكة ، من أهل الكتاب ، قبل محمد والقرآن ، بعشرات ومئات السنين ؟ وقد دان به محمد قبل مبعثه ومنذ زواجه بالسيدة خديجة . بأمر من ابن عمها ورقة بن نوفل ، قسّ مكة وعلامتها ، الذي "درّسه" الكتاب والتوحيد مدة خمسة عشر عاما ، قبل الدعوة لهما ؟

رابعا : القرآن نفسه يشهد بأنّ توحيده من توحيد الكتاب

فالكتاب امامه في التوحيد والهدى :"ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمة ، وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا" (الاحقاف 12 ؛ هود 17) فليس فيه من جديد سوى اللسان العربي . وهو يجادل العرب بهدى وعلم الكتاب المنير ، إذ "من الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" (لقمان 20 ؛ الحج 8) . ويجادل اليهود بوحدة التوحيد معهم : "قل : أتحاجوننا في الله ، وهو ربنا وربكم ، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، ونحن له مخلصون" (البقرة 139) . ويمنع الجدال مع النصارى لوحدة الاله ووحدة التنزيل ووحدة الاسلام : "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن – إلاّ الذين ظلموا منهم (اليهود) – وقولوا : آمنا بالذي أُنزل الينا وأُنزل اليكم ، والهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون" (العنكبوت 46) . والأمر صريح بالشهادة بهذه الوحدة بين القرآن والنصارى . والأمر صريح الى محمد بالاسلام على طريقة موسى وعيسى معا : "قل : آمنا بالله وما أنزل علينا ... وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم : لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (آلعمران 84) . والأمر صريح الى جماعة محمد بهذا الاسلام عينه : "قولوا : آمنا بالله ، وما أنزل إلينا ... وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم : لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (البقرة 136) . فالإله واحد ، والتوحيد واحد ، والاسلام واحد فهل من إعجاز بهذه الدعوة للتوحيد بمكة ؟


 

 

هل من إعجاز في العقيدة الإلهية في القرآن ؟

 

يقول العقاد ، في كتاب المؤتمر الاسلامي (الاسلام وأباطيل خصومه ص 54 – 55) . "فالله ؛ رب العالمين ، ملك يوم الدين ، لم يكن نسخة محرفة من صورة الله في عقيدة من العقائد الكتابية . بل كان هو الأصل الذي يثوب اليه مَن ينحرف عن العقيدة في الإله ، كأكمل ما كانت عليه ، وكأكمل ما ينبغي أن يكون . ومن ثم كانت هذه العقيدة الإلهية في الاسلام مصحّحة متمّمة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات ، أو مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية Theology " .

أولا : التوحيد القرآني تنزيه عن الشرك ، لكنه غارق في التشبيه والمتشابه

إن التوحيد القرآني سلبي قائم على التنزيه من الشرك ، كما تعلن الشهادة : لا إله إلاّ الله . وهذا التوحيد السلبي قد جاء أيضا بأسلوب غارق في التشبيه . أجل يعلم : "ليس كمثله شئ" . لكنه في تعابير التوحيد يشبّه الله بالإنسان : "إن ورد في القرآن ممّا يتصل بذات الله السامية من تعابير اليد والقبضة واليمين والشمال والوجه والاستواء والنزول والمجئ ، وفوق وتحت وأمام ، وطي وقبض ونفخ – إنما جاء بالأسلوب والتعابير والتسميات التي جاءَت من قبيل التقريب لأذهان السامعين" . وهذا التقريب أغرقها في التشبيه حتى جاءَت صورة الله في القرآن كصورة إنسان أكبر من الإنسان .

وما عدا عقيدة التوحيد الخالص سلبيا ، فكل تعليم القرآن في صدد الذات الإلهية من المتشابه فيه الذي "ما يعلم تأويله إلاّ الله" : "وكل ما ورد في صدد الذات الإلهية من أسماء وأفعال وصفات أخرى قد توهم مماثلة لأسماء وصفات وأفعال البشر ، إنما جاء كذلك على سبيل التقريب والتشبيه" . وتوحيد غارق في التشبيه ، يأتي ببيان متشابه للعقيدة الإلهية ، أيكون هو الأصل الذي تثوب اليه كل عقيدة في الإله ؟ أتكون هذه العقيدة الإلهية في الاسلام مصححة متممة لعقيدة الله في الكتاب "الإمام" ، وفي "الكتاب المنير" كما يسميهما القرآن ؟

إن توحيد القرآن سلبي يقوم على تنزيه الله عن الشرك ، لا كشف فيه عن غيب الله ، وعن سر الله في ذاته وحياته . فيظل الإله في القرآن ، مع الشهادة له بالتوحيد الخالص ، مجهولا في ذاته ، محجوبا في غيبه . والبحث في ذات الله إشراك . ففي ذاته ، وفي سر حياته ، الله أكبر ، بحسب القرآن ، هو المجهول الأكبر .

ثانيا : حرف التوحيد واحد في التوراة والانجيل والقرآن

هذا هو الاخلاص في التوحيد ، كما يعلنه القرآن : "قل : هو الله أحد ، الله الصمد" لم يلدْ ولم يُولدْ ، ولم يكن له كفوًا أحد" . كلها صفات تنزيه عن الشرك : فالله واحد أحد ، وهو الصمد المتعالي المتجلّي فوق عباده ، لا كفوء له من خلقه ، "وليس كمثله شئ" .

وقوله "لم يلدْ ولم يُولد" لا يدل على امتناع صفة من ذاته ، لذاته ، إنما يدل على استحالة الولادة والاستيلاد من غيره تعالى ، كقوله "ما اتّخذ صاحبة ولا ولدًا" (الجن 3) . فهذه هي فلسفته في استحالة الولد والولادة : "بديع السماوات والأرض ، أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة" (الانعام 101) . فكل ولادة في عرْفه لا تقوم إلاّ على "صاحبة" ! حاشا لله الواحد الأحد ، الله الصمد ! وبما أن البحث في ذات الله إشراك ، فلا ينظر القرآن الى ولادة روحية عقلية نطقية ، يصدر بها نطق الله الذاتي ، من ذاته ، في ذاته ، لذاته . فهذا غيب الله المحجوب .

وفات القوم ان قوله : هو الله أحد" نقل حرفي للتوحيد الكتابي في التوراة والانجيل . ففي التوراة : "اسمع ، يا اسرائيل ، أن يهوه (الله) الهنا هو يهوه أحد" (التثنية 4:6) . وكانت

شهادتهم مدى الدهر : "يهوه أحد" أي الله أحد ، وترجمها حرفيّا "هو الله أحد" . وسأل السيد المسيح أحد العلماء : "أي وصية هي أولى الوصايا جميعا ؟ فأجاب يسوع : الأولى هي "اسمع يا اسرائيل : إن الله إلهنا هو الله أحد" (مرقس 28:12 – 29) . لقد ردّ عليه بالشهادة التوراتية التي بها يشهدون كل مرة الله ، سبحانه وتعالى .

فحرف التوحيد واحد في التوراة والانجيل والقرآن . فكيف تكون العقيدة الإلهية في القرآن مصحّحة متمّمة لعقيدة الانجيل والتوراة في الله تعالى ؟ والاعجاز للمتبوع للتابع .

ثالثا : إنّ التوحيد في القرآن هو دين موسى وعيسى

إن التوحيد في القرآن هو دين موسى وعيسى الذي يشرعه للعرب : "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا – والذي أوحينا اليك – وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه ! كبر على المشركين ما تدعوهم اليه" (الشورى 13) . نقتصر على هذه الشهادة ، وهي متواترة في القرآن . فكيف تكون صورة الله في القرآن هي الأصل ؟ والقرآن يصرح بعكس ذلك .

رابعا : إسلام القرآن هو إسلام من قبله اسمًا ومعنى

في بعثته لدعوته جاءه الأمر : "وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) . فانضم الى المسلمين من قبله ودعا بدعوتهم للاسلام . فإسلامه من اسلامهم لفظا واسما : "هو سماكم المسلمين من قبل (في الكتاب) وفي هذا" القرآن (الحج 78) .

وهذا الاسلام يقوم على عدم التفريق بين موسى وعيسى (البقرة 136 ؛ آل عمران 84) وعلى إقامة التوراة والانجيل معا (المائدة 68) ، على طريقة النصارى من بني اسرائيل الذين يسميهم أولي العلم المقسطين أو القائمين بالقسط أو "الراسخين في العلم" .

واسلامه من اسلامهم معنى وموضوعا : "شهد الله أنه لا إله إلاّ هو ، والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ... أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 88 – 89) . فالقرآن يشهد للاسلام بشهادتهم ، ويعتبر شهادتهم من شهادة الله وملائكته . فكيف تكون عقيدته مصححة متممة لعقيدة "الراسخين في العلم" من أهل الكتاب . فالإعجاز للاسلام المتبوع قبل الاسلام التابع .

فهل من إعجاز في العقيدة الإلهية في القرآن على الكتاب وأهله ؟


بحث سادس الإعجاز في الشريعة

سنفرد فصلا للإعجاز في الشريعة . نقدم له هنا بكلمة في الشريعة كهدى سماوي .

يقول عبد الكريم الخطيب ، معلقا على قول ابن خلدون : "واعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم ... لاتحاد الدليل والمدلول عليه" ؛ "ومعنى هذا الذي يقوله ابن خلدون أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل الى الناس أمرًا واحدًا فقط هو الشريعة ، وفي الشريعة نفسها المعجزة التي تشهد له بأنه رسول الله الصادق في ما يقول عن الله" . وفاته وأمثاله تصريح القرآن : "يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنَن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم" (النساء 26) . فالهدى في التشريع القرآني هو هداية الى شريعة الكتاب وسنن أهله . ويعطينا مثلا صريحا في تشريع الصيام : "يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم ، لعلّكم تتّقون" (البقرة 183) ، فمن تقواهم في توبتهم من الشرك أن يصوموا مثل أهل الكتاب : فالشريعة واحدة .

وقد يقول قائل : هل شريعة الزواج في القرآن مثل الكتاب ، التوراة أو الانجيل ؟ نجيب : إنه يهديهم الى "سنن الذين من قبلكم" . كان الطلاق وتعدد الزوجات مباحًا في التوراة على اطلاقه . لكن بتأثير المسيحية جعل التلمود عدد الزوجات مقصورا على أربع

معا . فوقف النصارى من بني اسرائيل على هذا الشرع التلمودي ، كأمّة وسط بين التوراة والانجيل ، في إقامتهم للتوراة والانجيل معًا . فنزل القرآن على ما يقول "أولو العلم قائمًا بالقسط" : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع . فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم ، ذلك أدنى ألاّ تعولوا" (النساء 3) .

إن القرآن في الهدى والشريعة "يقتدي" بأمر الله بهدى "الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوة" (الانعام 89 – 90) ، أي النصارى من بني اسرائيل ، الذين بإقامة "الكتاب والحكمة – التوراة والانجيل" معًا كانوا أمة وسطًا بين اليهودية والمسيحية ، في العقيدة والشريعة والصوفية والدين والاسلام كله . وشرع يهتدي بسُنن أولي العلم المقسطين من أهل الكتاب ، ليس هداه من الإعجاز في الشريعة . إنما الاعجاز التشريعي في "إمامه" .


 

 

بحث سابع الإعجاز في الدين

 

في كتاب ديني سماوي ، إنما يكون الإعجاز المطلوب في الدين . ويأتي القرآن صريحا في الدين الذي يشرعه للعرب : "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا – والذي أوحينا اليك – وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه . كبر على المشركين ما تدعوهم اليه ... فلذلك فادع واستقم كما أمرت ، ولا تتّبع أهواءَهم ! وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب ؛ وأمرتُ لأعدل بينكم" (الشورى 13 – 15) .

فالدين الذي يشرعه الله للعرب في القرآن هو دين موسى وعيسى معا ، بنص القرآن القاطع . قد يقولون : وما بال نوح وابراهيم ؟ نقول : دينهما هو دين موسى وعيسى في الكتاب ؛ وقد أُمر محمد أن يؤمن "بما أنزل الله من كتاب" مباشرة . ومُنع محمد من أتباع

أهواء اليهود والمشركين في الدين ؛ وأُمر مرارًا أن يستقيم على دين موسى وعيسى معًا "على شريعة من الأمر" . وطريقته في اتباع دين موسى وعيسى معًا إنما هي طريقة النصارى من بني اسرائيل ، الأمة الوسط : ولقد آتينا بني اسرائيل الكتب والحكم والنبوة ... وآتيناهم بيّنات من الأمر ... ثم جعلناك على شريعة من الأمر ، فاتّبعها ، ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون" أي المشركين (الجاثية 16 – 18) . فقد جُعل محمد على طريقة من أمر الدين هي طريقة الذين يقيمون "الكتاب والحكمة – التوراة والانجيل" معًا ، وهم النصارى من بني اسرائيل ، أولي العلم المقسطين . ويؤمر بتواتر أن يستقيم عليها وهذا هو العدل الذي جاءَهم به في أمر الدين : "وأُمرت لأعدل بينكم" ، بين اليهود الذين اختلفوا من بعد ما جاءَهم العلم مع السيد المسيح ، وبين المشركين ، "الذين لا يعلمون" .

هذا هو الإخلاص في الدين أُمر به محمد ، "مخلصًا له الدين" (الزمر 2 و11 و14) ؛ والذي يأمر به ، "مخلصين له الدين" (29:7 ؛ 22:10 ؛ 65:29 ؛ 32:31 ؛ 14:40 و 65 ؛ 5:98) . وبما أن القرآن يشرع للعرب دين موسى وعيسى معا ، بإقامة التوراة والانجيل معا ، في أمة وسط ، على طريقة أولى العلم المقسطين من بني اسرائيل ، فهل يكون فيه الاعجاز في الدين ؟


 

بحث ثامن الإعجاز في الإسلام

"دين الحق" ، "دين القيّمة" ملة ابراهيم حنيفا ، الدين الذي يشرعه القرآن للعرب ، يسميه الاسلام . ويظنون أن الاسلام في لفظه ، كما في معناه ، من الاعجاز في التنزيل القرآني . وفاتهم أن الاسلام في لفظه ومعناه ، بنص القرآن القاطع ، هو من قبل محمد القرآن : "هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا" القرآن (الحج 78) .

نستنتج من القرائن القرآنية والتاريخية أن النصارى من بني اسرائيل ، بعد هجرتهم المرغمة الى الحجاز ، أخذوا يدعون العرب الى دينهم . ولإيلاف العرب الى دعوتهم سموها أولا الحنيفية ، ملة ابراهيم ، جدَ العرب المستعربة في الحجاز بواسطة اسماعيل . فلمّا أينعت الدعوة أطلقوا عليها اسم "الاسلام" قبيل الدعوة القرآنية . فجاء القرآن – "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" – يشهد بشهادتهم أن الدين عند الله الاسلام : "شهد الله أن لا إله إلاّ هو ، والملائكة ، وأولوا العلم قائما بالقسط – لا إله إلا هو العزيز الحكيم – أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) .

نعرف من اصطلاح القرآن المتواتر أن "أولي العلم" مرادف لأهل الكتاب من يهود ونصارى . وهو يقسم أهل الكتاب ، أولي العلم ، الى طائفتين : أولي العلم الظالمين وهم اليهود ، وأولي العلم المقسطين ، وهم النصارى من بني اسرائيل . فهؤلاء النصارى هم الذين يشهدون مع الله وملائكته "أن الدين عند الله الإسلام" وذلك بنص القرآن القاطع ، الذي يعتبر شهادتهم من شهادة الله وملائكته . والقرآن يدعو الى شهادتهم في الاسلام . لذلك يختلف معه أهل الكتاب من اليهود في الاسم ومعناه : "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ، إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم بغيًا بينهم – ومَن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب . فإن حاجّوك فقل : أسلمتُ وجهي ومَن اتّبعني" (آل عمران 19 – 20) .

والدعوة لاسلام النصارى من بني اسرائيل ، أولي العلم المقسطين ، هي التي يوجهها لليهود والمشركين الأميّين : "قل للذين أوتوا الكتاب (اليهود) والأميّين : أأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا ؛ وإن تولّوا ، فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعبادة" (آل عمران 20) . وبما أن القرآن يدعو للاسلام بدعوة النصارى من بني اسرائيل ، أولي العلم المقسطين ، فهل في دعوته من الاعجاز في الاسلام ؟


 

خاتمة

القرآن في الهدى والعقيدة تابع لا متبوع

والقول الفصل ، في هذا الفصل ، أن الإعجاز الحق يكون أولا في التنزيل ثم في هداه . وفي الهدى يدعو القرآن الى إسلام "أولي العلم قائما بالقسط" الى دين موسى وعيسى معًا الذي يشرعه للعرب ، لكي يهديهم "إلى سنن الذين من قبلكم" ؛ فليس فيه من كشف جديد في العقيدة الإلهية التي تقتصر على الاخلاص في التوحيد ، بالخلاص من الشرك وليس من إعجاز في الدعوة للتوحيد ، بمكة . وليس من إعجاز في قيام محمد نفسه بهذه الدعوة ، فقد ظل طول العهد بمكة يتردّد بين الايمان والشك من نفسه ومن أمره ومن صحة قرآنه . وقد كان الكتاب "إمامه" في الهدى والبيان ، على "المثل" الذين شهد به شاهد من بني اسرائيل النصارى . فالقرآن يتحدى بالإعجاز في الهدى ، قبل التحدي بالإعجاز في حرفه : قل : فأتوا بكتاب من عند الله أهدى منهما أتبعه ، إن كنتم صادقين" (القصص 49) . فنص التحدّي بالهدى ، "أهدى منهما" يسقط عنه دعوة الإعجاز في الهدى . إن الإعجاز في الهدى هو في "الإمام" الذي أُمر أن "يقتدي" "بالمثل" عنه . إن القرآن في الهدى والعقيدة تابع لا متبوع . والاعجاز هو للمتبوع قبل التابع .

  • عدد الزيارات: 18704