Skip to main content

الإعجاز في شمول الدعوة القرآنية وكمالها

الإعجاز في شمول الدعوة القرآنية وكمالها

توطئة

الشمول والكمال في الدعوة القرآنية

من الاعجاز في دعوة دينية شمولها وكمالها . وهم يرون في الدعوة القرآنية شمولا في النبوة والعقيدة ، جاء مصحّحًا متمّمًا لكل نبوة وعقيدة سبقتها ، شمولا في موضوع الدعوة ، فالاسلام دين ودنيا ، دين ودولة ، دنيا وآخرة ؛ شمولا في عالمية الدعوة ، وكانت كل دعوة قبلها قومية . إن "عقيدة الشمول" هي الصفة التي امتازت بها الدعوة الاسلامية . فكمالها في شمولها وفي عالميتها .

وقد فات العقاد حقيقة الواقع القرآني . فقومية الدعوة القرآنية ظاهرة في تصاريحها : "وانه لذكر لك ولقومك" (الزخرف 44) ؛ "لقد أنزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم ، أفلا تعقلون" (الأنبياء 10) ، "بل أتيناهم بذكرهم ، منهم عن ذكرهم معرضون" (المؤمنون 72) . فالدعوة القرآنية قومية عربية ؛ وانتهت عالمية بالفتوحات الاسلامية . والشمول محدود بأمر الوحي لمحمد : "أولئك الذين هدى الله ، فبهداهم اقتده" (الأنعام 90) ؛ ومقيّد "بالمثْل" الذي يتّبعه : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" (الأحقاف 10) . والكمال يقتصر على الدعوة "النصرانية" : فمحمد يشهد بشهادة "أولي العلم قائما بالقسط ... ان الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) . فهو يمنع الجدل مع أهل الكتاب النصارى إلاّ بالحسنى ، وهذه الحسنى هي الأمر لأمته أن يقولوا : "آمنا بالذي أنزل الينا وأُنزل اليكم ، والهنا والهكم واحد ، ونحن له مسلمون" (العنكبوت 46) ، فالإله واحد ، والتنزيل واحد ، والاسلام واحد . فأين الشمول والكمال في الدعوة القرآنية ؟


 

بحث أوّل

الشمول في التصحيح والتتميم

يقول العقاد في كتابه للمؤتمر الاسلامي : "ومن ثمَّ كانت هذه العقيدة الإلهية في الاسلام مصحّحة متمّمة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات ، أو مذاهب الفلسفة ، ومباحث الربوبية ... والواقع أن النبوة الاسلامية جاءت مصحِّحة متمِّمة لكل ما تقدمها من فكرة عن النبوة ، كما كانت عقيدة الاسلام الالهية مصحّحة متمّمة لكل ما تقدمها من عقائد بني الانسان في الإله" .

وفات الاستاذ المعلم أن الواقع القرآني ينقض قوله في هذين التصحيح والتتميم . إن القرآن صريح بأن الكتاب "إمامه" : "ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمة ؛ وهذا كتاب مصدّق لسَانا عربيا" (الاحقاف 12 . كذلك هود 17) . فميزة القرآن ، بنصه القاطع ، أنه تصديق الكتاب ؛ وفي هذا التصديق ليس عنده من جديد سوى اللسان العربي . فليس ما عنده تصحيح ولا تتميم . والقرآن يستعلي على المشركين بالكتاب المنير ، الانجيل : "ومن الناس مَن يجادل في الله بغير هدى ولا علم ولا كتاب منير" . وهو يردّ ذلك في مكة (لقمان 20) وفي المدينة (الحج 8) . فمحمد يجادل في دعوته بهدى وعلم الكتاب المنير . فليس ما عنده تصحيح ولا تتميم . فالتوراة والانجيل هما دين موسى ودين عيسى اللذين شرعهما للعرب دينا واحد ، "لا نفرّق بين أحد من رسله ، ونحن له مسلمون" (البقرة 285 قابل البقرة 136 ؛ آل عمران 84 ؛ النساء 150) . يقول "شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا – والذي أوحينا اليك – وما وصّينا به ابراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه" (الشورى 13) . فإقامة توراة موسى وانجيل عيسى معا هي الاسلام في القرآن ، وهي الدين الذي شرعه الله للعرب . فليس من جديد في القرآن ، بل "هذا ذكر من معي وذكر مَن قبلي" (الأنبياء 24) . فليست الدعوة القرآنية مصحّحة متممة لدين التوراة والانجيل ، بل تبليغ له الى العرب .

إنّ "الكتاب والحكمة" في اصطلاح القرآن كناية عن التوراة والانجيل (63:43 ؛ 48:3 ؛ 54:4 و 113؛ 110:5) : "لقد مَنَّ الله على المؤمنين ، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ، ويزكّيهم ، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين" (آل عمران 164) ؛ "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ، ويعلّمكم الكتابوالحكمة ، ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون" (البقرة 151) ؛ "هو الذي بعث في الأميّين رسولا منهم ، يتلو عليهم آياته ، ويزكّيهم ، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (الجمعة 2) . لاحظ دقة التعبير وتواتره : فهو أولا "يتلو عليهم آيات الله" في الكتاب الإمام وفي الكتاب المنير ؛ ثم يفصّلها لهم بسور القرآن ؛ وبذلك يعلمهم الكتاب والحكمة ، التوراة والانجيل . فليس القرآن العربي سوى تعليم الكتاب والحكمة أي التوراة والانجيل . فليس فيه تصحيح ولا تتميم للتوراة والانجيل .

والأمر لمحمد صريح بالاقتداء بأهل الكتاب والحكمة : "أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوة ... أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدِه" (الانعام 89 – 90) على محمد أن يقتدي بهدى أهل الكتاب والحكمة – لاحظ استعمال التعبير العبراني الأرامي بحرفه "الحُكم" أي الحكمة ، دليلا على التبعية في التعبير والتفكير – فلا يكون ما أتى به مصحّحا متمّما لكل ما تقدمه من عقائد بني الانسان في الإله .

وأهل "الكتاب والحكمة" معا هم المسلمون الذين أُمر أن ينضمّ اليهم وأن يتلو قرآن الكتاب معهم ، على طريقتهم : "وأُمرتُ أن أكون من المسلمين ، وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) . فهو يتلو على العرب قرآن الكتاب مع المسلمين ، النصارى من بني اسرائيل ، الذين عندهم "مثل" القرآن العربي : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" (الاحقاف 10) . فليست الدعوة القرآنية تصحيحا ولا تتميما لما سبقها . إنما الدعوة القرآنية هي الدعوة "النصرانية" باسمهاومضمونها . فهو يسمّي هؤلاء "المسلمين" من قبله أولي العلم المقسطين ، أو الراسخين في العلم (آل عمران 7 ، النساء 162) . ويصرّح : "شهد الله أن لا إله إلاّ هو ، والملائكة وأولو العلم قائمابالقسط ... أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) . وهذا الاسلام هو تنزيل الله على ابراهيم وموسى وعيسى ، "لا نفرّق بين أحد منهم ، ونحن له مسلمون : ومَن يبتغ غير الاسلام (هذا) دينا فلن يُقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين" (آل عمران 84 – 85) . فإسلام النصارى "المسلمين" هو اسلام القرآن نفسه : فما جاءَت عقيدة الاسلام الإلهية مصححة متممة لكل ما تقدمها من عقائد بني الانسان في الإله ؛ فهي اسما وعقيدة مِمّن يسميهم "أولي العلم قائما بالقسط" ، "الراسخين في العلم" ، الذين أمر بأن ينضمّ اليهم ، ويقتدي بهداهم .

فأين الشمول بالتصحيح والتتميم في النبوة والعقيدة ؟ فالقرآن يصرح بأنه تفصيل الكتاب" (يونس 37) ، وليس فيه من جديد سوى التصديق لسانا عربيا : وهذا كتاب مصدّق لسانا عربيا" (الاحقاف 12) . هذه الصفات تقضي على مقولة الشمول ، والقول بالكمال ، فكل تحدّيه "قل : فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ، إن كنتم صادقين" (القصص 49) .


 

بحث ثان

الشمول في موضوع الدين

تلك المواقف القرآنية الصريحة ، وغيرها كثير ، تحدّد الشمول والكمال في موضوع الدين في الاسلام والدعوة القرآنية . إنه شمول وكمال مقصوران على "تفصيل الكتاب" ، وتعليم "الكتاب والحكمة" للعرب ، وتصديق الكتاب الإمام ، والكتاب المنير بين العرب : "وهذا كتاب مصدّق لسانا عربيا" .فمهما كان الشمول في الاسلام ، ومهما كان الكمال في الدعوة القرآنية ، فهما شمول وكمال من اسلام أولي العلم المقسطين ، والراسخين في العلم ، الذين أُمر محمد بأن يقتدي بهداهم (الانعام 90) .

أولا : الشمول في توحيد شئون الدنيا والآخرة

يقول العقاد : "كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة" . فالاسلام يهتم بشؤون الدنيا كما يهتم بشؤون الآخرة . وفي هذا كمال وشمول . لكن هل الاهتمام بشؤون الدنيا من أغراض الوحي والتنزيل ؟ إن الله تعالى خلق العقل ، وجعل في كتاب الخلق ميدانا للعقل يتدبّر به الإنسان أمور دنياه ، ويتدبرها بحسب تطور البشرية في الحضارة والثقافة . فالدنيا عالم الشهادة لا يحتاج الى وحي يكشفه لنا . فالعقل هو نبي كتاب الخلق يقرأه كلما اتّسع ادراكه واتسعت معرفته .

والقرآن يقرّر : "إن النفس الأمّارة بالسوء" (يوسف 53) ؛ "لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ، ثم رددناه أسفل سافلين" (التين 4 – 5) . فبانقلاب الانسان من أحسن تقويم الى أسفل سافلين ، صارت فيه النفس أمّارة بالسوء . هذا التعليم القرآني هو تعليم المسيحية في الخطيئة الموروثة عن آدم ، في ميلها الفطري الى السوء .

فهل الشمول والكمال في التحريض على الزهد في الدنيا ، أم في التحريض على الأخذ بالنصيب من الدنيا : "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنسَ نصيبك من الدنيا" (القصص 77) "إن النفس الأمّارة بالسوء" ، فهل من الكمال والشمول تحريضها على الاستمتاع بطيبات الدنيا ، بتشريع يزداد في التحريض : "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم" ! (البقرة 172) "يسألونك : ماذا أُحلَّ لهم ؟ – قل : أُحلَّ لكم الطيبات" (المائدة 4) "اليوم أحلَّ لكم الطيبات" (المائدة 5) "يا أيها الذين آمنوا تحرّموا طيّبات ما أُحلَّ لكم ، ولا تعتدوا (أمر الله) إن الله لا يحب المعتدين" (المائدة 87) . قال الجلالان : "نزل لمّا هم قوم من الصحابة أن يلازموا الصوم والقيام (في الليل للصلاة) ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ولا يأكلوا اللحم ، ولا يناموا على الفراش . (ولا تعتدوا) ولا تتجاوزوا أمر الله" . "وكلوا ممّا رزقكم الله حلالا طيبا" (المائدة 88) فقد نسخ القرآن المدني بهذه الدعوة لاستباحة الطيبات من الدنيا ، دعوة القرآن المكي الى الزهد .

ومن طيبات الدنيا المرأة : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء : مثنى وثلاث ورباع – فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم . ذلك أدنى ألا تعولوا" أي تجوروا (النساء 3) . إباحة الجمع بين أربع نساء معا من طيبات الحياة . أمّ التسري بملك اليمين من الإماء فلا حدّ له ولا قيد . والحدّ في أربع نساء معا يخرقه إباحة الطلاق ، فيعود الزواج بالنكاح والطلاق بلا حد ولا قيد . أماّ تعبير "ما" بحق النساء ، وهو يُستعمل لغير العاقل ، فالخوف أن يستشفّ من أن المرأة شئ لمتعة الرجل .

ومن تسهيل الدين في سبيل الدنيا : "ما جعل عليكم في الدين من حرج" (الحج 78) .

فهل في رفع الحرج من الدين في طيبات الدنيا ، وإباحة الطيبات من الرزق ومن النساء بالطلاق والتسري ، وأخذ النصيب من الدنيا ، هو من الشمول والكمال في جمع شؤون الدنيا الى شؤون الآخرة ؟

ثانيا : الشمول في الجمع بين الجسد والروح في الدين

يقول العقاد : "كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة ، وبين الجسد والروح ؛ ولا يعاني هذا الانفصام الذي يشق على النفس احتماله ، ويحفزها في الواقع الى طلب العقيدة ، ولا يكون هو في ذاته عقيدة تعتصم بها من الحيرة والانقسام ... وينبغي أن تفرّق بين الاعتراف بحقوق الجسد وانكار حقوق الروح ، فإن الاعتراف بحقوق الجسد لا يستلزم انكار الروحانية ... إذ لا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح" .

هنا يعرّض العقاد بالموسوية وماديتها على حساب الروح ، وبالمسيحيّة وروحانيتها على حساب الجسد ، كما يقولون . والشمول يجده في الاسلام الذي يعترف بحقوق الجسد ، كما يعترف بحقوق الروح .

أجل يقول الانجيل : "لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ! ولا لأجسادكم بما تلبسون" (متى 25:6) . لكن هذا لا يعني التنكّر لحقوق الجسد ، بل الفصل كله تقييم لحقوق الروح وحقوق الجسد : يستفتح بالمبدأ : "لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال" لأن عبادة المال وثنية على حساب عبادة الله : "لا يستطيع أحد أن يخدم سيدين : فإنه إمّا يبغض الواحد ويُحب الآخر ، أو يلزم الواحد ويرذل الآخر" (متى 24:6) . ويستنتج من ذلك : "من أجل ذلك أقول لكم : لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ، ولا لأجسادكم بما تلبسون : أليست النفس أعظم من الطعام ، والجسد أعظم من اللباس" (متى 25:6) فالقضية قضية تقييم لحقوق الروح وحقوق الجسد ، وحق الروح أفضل من حق الجسد . فالذي يقوت طير السماء ، ويلبس زنابق الحقل ، "كم بالأحرى يلبسكم أنتم ، يا قليلي الايمان ؟ فلا تقلقوا إذن قائلين : ماذا نأكل ؟ أو ماذا نشرب ؟ أو ماذا نلبس ؟ – فهذا كله يطلبه الأمّيون ، وأبوكم السماوي عالم بأنكم تحتاجون الى هذا كله" (متى 26:6 – 32) . والنتيجة المطلوبة هي هذا التعليم السامي الذي يضع شؤون الروح وشؤون الجسد كلا في مكانها : "فاطلبوا أولا ملكوت الله وبِرَّه ، وهذا كله يُزاد لكم" (متى 33:6) . ففي سبيل الله يجب الاهتمام أولا بالروح ، من دون اهمال للجسد ؛ لأن حق الروح علينا أفضل من حق الجسد . وهذا التقييم ليس انكارا لحق الجسد ، ولا يجعل انفصاما في الانسان يشق عليه احتماله ، فيهيم بين الحيرة والانقسام . لكن هذا التقييم يعصم الانسان من الانزلاق في شهوات الجسد على حساب الروح .

فالروح قائم في الجسد ، غارق في الحسّ وفي دنيا المحسوسات ، حتى صارت "النفس أمّارة بالسوء" ؛ فقد "زُيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والانعام والحرث – ذلك متاع الحياة الدنيا ، والله عنده حسن المآب" (آل عمران 14) .

فليس الانسان بحاجة الى تذكيره بحقوق الجسد ، فإنه متكالب عليها . إنم هو بحاجة الى حمله علىالقيام بحقوق الروح في سبيل الله واليوم الآخِر : "وما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو ، وللدّار الآخرة خير للذين يتّقون ، أفلا تعقلون" (الأنعام 32) . فليس الانسان بحاجة الى تخفيف في أحكام الجسد ، ليلة الصيام : "أحلَّ لكم ، ليلة الصيام ، الرَّفَث الى نسائكم : هنَّ لباس لكم ، وأنتم لباس لهن . علم الله أنكم كنتم تختانون (تخونون) أنفسكم ، فتاب عليكم وعفا عنكم : فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ، وكلوا واشربوا حتى يتبيَّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" (البقرة 187) . وهكذا يُبطل الليل ما حرّم النهار .

وليس بحاجة الى تخفيف في كيفية مباشرة النساء . قال : "فإذا تطهّرن فأتوهنَّ من حيث أمركم الله" (البقرة 222) . فاعترض عمر ومَن معه فنزل للحال : "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم" (البقرة 223) . وفي (أسباب النزول) نقل السيوطي أنها "رخصة في إتيان الدبر" ونقل أيضا أن الأنصار كانوا "يرون لأهل الكتاب فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم . وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلاّ على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة . وكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك ؛ وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا ، ويتلذّذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات . فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار ، فذهب يصنع بها ذلك ، فأنكرت عليه وقالت : إنّما كنّا نؤتى على حرف . فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم" !

فميزة القرآن التخفيف من سنن أهل الكتاب : يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنَن الذين من قبلكم ... يريد الله أن يخفّف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا" (النساء 26 و28)

إن مسايرة الضعف الانساني ، في احكام الله ، للتخفيف منها ، هل هو من الاعجاز في التشريع ؟ وهل تخفيف أحكام الله في سبيل حقوق الجسد ، من الاعجاز في الجمع بين حقوق الروح وحقوق الجسد ؟ أجل إن الاعتراف بحقوق الجسد لا يستلزم إنكار الروحانية ، في الدعوة القرآنية . أجل أيضا "لا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد ، كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح" ! لكن هل يوصف بالشمول والكمال دين يركّز دعوته على حقوق الجسد ، كما يركّزها على حقوق الروح ؟ أليس الشمول والكمال في تقييم حقوق الروح والجسد في سلّم القيم ؟

إن في رفع الحرج في الدين "بين الدنيا والآخرة ، أو بين الجسد والروح" خطر على الروح وعلى الآخرة : "إن النفس لأمّارة بالسوء" . وهذا ما تنبّه له الأستاذ العقاد في

كتابه الى المؤتمر الاسلامي : "في تنبيه المتدين الى حقيقتين لا ينساهما الانسان في حياته الخاصة أو العامة إلاّ هبط الى درك البهيمية في هموم مبتذلة لا فرق بينهما وبين هموم الحيوان الأعجم ، إن صح التعبير عن شواغل الحيوان الأعجم بكلمة الهموم . "إحدى الحقيقتين التي يُراد من العبادة المثلى أن تنبّه اليها ضمير الانسان على الدوام هي وجوده الروحي الذي ينبغي أن تشغله على الدوام مطالب غير مطالبه الجسدية وشهواته الحيوانية . "والحقيقة الأخرى التي يُراد من العبادة المثلى أن تنبه اليها ضميره ، هي الوجود الخالد الباقي ، الى جانب وجوده الزائل المحدود في حياته الفردية . ولا مناص من تذكر الفرد لهذا الوجود الخالد الباقي ، إذا أُريد فيه أن يحيا حياة تمتد بآثارها الى ما وراء معيشته اليومية ، ووراء معيشة قومه ، بل معيشة أبناء نوعه"

أليس هذا هو التقييم الذي أراده الانجيل بتفضيل الروح على الجسد ، مع اعطائه حقه ؛ وتفضيل الآخرة على العاجلة ، مع أخذ النصيب الصالح منها ؟

فليس الشمول والكمال في جمع وتوحيد شؤون الجسد والروح معا .

ثالثا : الشمول في جعل الإسلام دينا ودولة معا

يقولون : ومن الشمول في الاسلام أنه دين ودولة معا ؛ فهو نظام حياة كامل . ففي المدينة : "أخذ الرسول يهتم بالأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعملية التي يجب أن تقوم عليها الدولة" ؛ "وانه تعرَّض لشؤون الحياة الدنيوية العملية بأكثر مما تعرَّض للأعمال التعبدية" كما نقلوا عن الامام حسن البنّا .

لكن اذا كان القرآن المدني تشريعا لبناء الدولة ، وجهادا لحمايتها ، فيكون كله تنزيلا لقيام دولة أكثر مما هو وحي لقيام دين . وهل البشر بحاجة الى وحي وتنزيل لقيام الدولة ، أم بحاجة الى كلام الله لقيام الدين ؟ فليس الكمال في تحويل الدين الى دولة دينية ، يكون الدين فيها رهين الدولة ، وعرضة لتقلباتها . وليس الشمول في توحيد الدين والدولة في عقيدة واحدة ونظام واحد ؛ لأن الدولة قومية ، والدين عالمي فوق القوميات والدول ، ممّا

يجعل صراعا مستديما بين الدين والقومية ، وبين الدين والدولة ؛ وممّا يجمّد الدولة على أحكام للدين نزلت في بيئة بدائية .

يقول العقاد: "ومن هنا (شمول العقيدة للدين والدولة) لم يذهب الاسلام مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر ... وإنما كانت التفرقة بين ما لله وما لقيصر تفرقة الضرورة التي لا يقبلها المتدين ، وهو قادر على تطويع قيصر لأمر الله" .

وفات الأستاذ أن الانجيل "لم يذهب مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر" ، بل مذهب التمييز لاعطاء قيصر حقه في الحكم واعطاء الله حقه في الدين ، حتى ولو كان قيصر خليفة الله في أرضه ، وأمير المؤمنين . فالتمييز بين الدين والدولة – لا التفرقة – هو الكمال لأنه يُعطي كل ذي حق حقه . فقد يأتي يوم يكون فيه قيصر أحمر ، لا يستطيع المتدين تطويع قيصر لأمر الله . وفي تطور البشرية قد يأتي يوم تصطدم فيه أحكام الدين مع ضرورات الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، فتصطدم الدولة مع الدين في تشغيل رأس المال بالبنوك كما في التجارة ؛ وفي قطع يد السارق وقد يكون السارقون في الأمة كثيرين ؛ وفي قبول تعدد الأديان والمذاهب في الدولة الواحدة ؛ وفي ضرورة تحديد النسل "خشية املاق" وارهاق لطاقات الأمة ؛ وضرورة تحديد الطلاق ووحدة الزوجة . ففي وحدة الدين والدولة تقييد لتطور الأمم والدول ، لأن أحكام الدين لا ينسخها إلاّ لله ، أمّا أحكام الدولة فيضعه دستورها حسب حاجاتها وطاقاتها ، فيقوم دستور مكان دستور .

فليس الشمول ، ولا الكمال في جمع الدين والدولة معا ، بل في تمييز الدين عن الدولة ، وفي تنزيل أحكام الدين دستورية فوق الزمان والمكان ، لا قانونية مرهونة بزمان ومكان . فلن تقبل البشرية على الدوام أن يكون "حظ الذكر مثل حظ الانثيين" ! ولا تكون الأمة طبقات : "وهو الذي ... رفع بعضكم فوق بعض درجات" (الانعام 165) ؛ ولا أن يكون الطلاق في عصمة الرجل يجري فيه على هواه ...

إن الكمال في تمييز الدين عن الدولة ، لا في دمج الدين بالدولة . ودمج الدين بالدولة شمول مشبوه .


 

بحث ثالث

الكمال في تحرير الدين من كل سلطة في الدين

يقولون : إن الدين علاقة عبد بربه . وكلما خلا الدين من واسطة بين العبد وربه كان الدين كاملا في ذاته ، شاملا في المتعبدين به . فهل خلوّ الدين من سلطة بين العبد وربه كمال أم نقص ؟

إن السلطة التي تفرض ذاتها بين العبد وربه في الدين شبهة على هذه السلطة وعلى هذا الدين . أمّا السلطة التي يقيمها الله حتى تفقّه الناس في الدين ، وحتى تقيم أحكام الدين ، وحتى "كلما عتق الدين جدّدوه – هذا التأسيس كمال لا نقص .

فالقرآن نفسه يشرع تخصّص فرقة بالفقه بالدين والدعوة له : "وما كان المؤمنون لينفروا كافة – فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة – ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم" (التوبة 122) . والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيمة كل مؤمن ؛ لكن القرآن نفسه يشرع تخصّص أمة من المؤمنين بهذا الأمر : "ولتكن منكم أمّة يدعون الى الخير ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون" (آل عمران 110). ويرى في رهبان عيسى "أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ؛ يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويسارعون في الخيرات ، وأولئك من الصالحين" (آل عمران 113 – 114) ، إنهم الصالحون ، عباد الرحمان ، الذين يطلبون : "وجعلنا للمتقين إماما" (الفرقان 74) .

فتأسيس الأئمة في الأمة تدبير الهي ، به اهتدى محمد نفسه الى الإيمان بالكتاب ولقائه : "ولقد آتينا موسى الكتاب ، فلا تكن في مرية من لقائه . وجعلناه هدى لبني اسرائئيل . وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا" (السجدة 23 – 24) . وبنو اسرائيل يهود ونصارى ؛ وبما أنه على خلاف دائم مع اليهود ، فهو يقصد هنا أئمة النصارى : فالله جعل منهم أئمة يهدون بأمره تعالى . لكن القرآن الذي أمر بتخصص أمة من آله بالتفقّه في الدين وتفقيه الآخرين ، لم يجعل لهم سلطة على أحكام الدين وشعائره ، كما فعل السيد المسيح ، ليفسّروها للناس جيلا بعد جيل . لذلك لمّا شعرت الأمة ، بعد النبي ، بحاجة الى أحكام تفصّل القرآن ، لجأت الى السُنّة في الحديث : فوضعوا آلاف الأحاديث على لسان النبي . فانقسمت الأمة الى سُنّة تقول بالكتاب والسنة ، والى شيعة تقول بالكتاب وحده من دون الــســنة . ولــمّا لم تــكــف الــســنة في تــطوّر الأمّة لتفصيل أحكام الدين ، لجأوا أيضا إلى اجماع الأئمة كمصدر للتشريع ، من دون أن يكون له صفة الإلزام في الدين . ولمّا لم تكف السنة ولا الاجماع ، لجأوا الى الرأي والقياس ، فقامت المذاهب الأربعة أو الخمسة في الفقه . وهذا التطور في تلمّس مصادر التشريع في الاسلام برهان على ضرورة قيام سلطة في الأمة لإقامة أحكام الدين وشعائره .

فهل السلطة في الدين واسطة بين العبد وربه ؟ قد يكون فيها شئ من ذلك . ولكن أليست الملائكة الحفظة واسطة بين الله وعبيده ، وهو وحده الحفيظ العليم ؟ أليست النبوة أيضا واسطة بين الله والناس لهداية الناس الى الله ؟

أليست الخليقة نفسها واسطة بين الخالق والمخلوق ، ليعرف المخلوق من الخليقة خالقه ؟ وهذا برهان التوحيد كله في القرآن ! فليس الكمال في الدين تجريده من سلطة يتيه بدونها الشعب في دينه ، والبشرية ستظل في معظمها شعبا الى ما شاء الله .

يقول العقاد : "لقد ظهر الاسلام في إبان دولة الكهانة والمراسم ، وواجه أناسًا من الوثنيين أو من أهل الكتاب الذين صارت بهم تقاليد الجمود الى حالة كحالة الوثنية في تعظيم الصور والتماثيل والتعويل على المعبد والكاهن في كل كبيرة أو صغيرة من شعائر العبادة ... لا دين بمعزل عن المعبد والكاهن والأيقونة ، سواءٌ في العبادة الوثنية أو في عبادة أهل الكتاب ، الى ما بعد القرن السابع بأجيال متطاولة . فلمّا ظهر المسلم في تلك الآونة ظهر الشمول في عقيدته من نظرة واحدة ، ظهر أنه وحدة كاملة في أمر دينه يُصلّي حيث شاء ، ولا تتوقف له نجاة على مشيئة أحد من الكهّان" .

العبادات لها شعائر في كل دين ، وهي توقيفيّة ، قد يقوم بها المؤمن بنفسه ، أو يساعده فيها مَن انتدب نفسه لها ، أو اختاره الله بسلطة لها ، بالنص والوصية . وعند أهل الكتاب

ليس "المعبد والكاهن والايقونة" من مقوّمات العبادة في حدّ ذاتها . فالانجيل صريح بأن العبادة فرض شخصي يقوم بها المؤمن بنفسه ، في كل زمان ومكان . وقد علم المسيح اتباعه صلاة "أبانا الذي في السماوات" كفاتحة لكل صلاة . لكن المسيح رسم مراسمَ ورموزا دينية ، هي شعائر المسيحية التي تميّزها ، وأوقف على صحة القيام بها تطهيرا وتقديسا ، فلا بدَّ لها بمن يقوم بها ، وهذا هو الكاهن المسيحي الذي أوتي سلطانا من المسيح للقيام بتلك المراسم والعبادات التوقيفية ؛ ولا بدَّ لها من مكان تُقام به ، وهو المعبد . فالحياة الدينية الخاصة ليست مقيّدة بمعبد وكاهن وأيقونة ، إنما الحياة الدينية العامة الاجتماعية هي التي تقتضي الكاهن والمعبد . وكل حياة اجتماعية منظّمة ، دينية أم مدنية ، لا بدَّ لها من إمام يؤمُّها . وقيام إمام بالوصية والنص أفضل من الحرية الفوضوية .

والإسلام الذي يزعمونه دين التحرير من المراسم ، قد انتحل مراسم الحج الى كعبة مكة ، وتركها على حالها كما في وثنية العرب ، مع تغيير روحها بالتوحيد والايمان بالله واليوم الآخر . فهل في مراسم الحج كمال أفضل من كمال غيره ؟ وما معنى الحج الى بيت يلثمون فيه حجرًا ؟ وما معنى هذا الحجر في التوحيد الخالص ؟ والصلاة الاسلامية وكيفياتها أليست ملأى بالمراسم ؟ وكيف لمس المتوضئ للصلاة ليد امرأة للسلام ينقض الوضوء ؟ إلاّ أن تكون المرأة المسلمة نَجَسًا ينقض لمس يدها الوضوء ؟

لكن العقّاد يعود ، في كتابه الى المؤتمر الاسلامي ، فيقول في العبادات ومراسمها : "لا مناص في النهاية من أسباب توقيفية يكون التسليم بها أقرب الى العقل من المجادلة فيها . لهذا يقل الخلاف بين أصحاب الأديان في شعائر العبادة ، حيث يكثر في كل كبيرة وصغيرة من شؤون العقائد الفكرية أو عقائد الضمير" . وهكذا فلم يتحرر الاسلام نفسه من المراسم والشعائر في العبادات ، ولم يتحرّر من كل سلطة في الدين : "يا أيها الذين آمنوا ، أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (النساء 59) وسلطة بالنص والوصية أفضل من إمامة في العلم والدين بلا نص ولا وصية تكون أقرب الى الحرية الفوضوية ، منها الى النظام الحر المنتظم .

فليس الجمع والتوحيد في شؤون الدنيا والآخرة ، وفي مشاكل الجسد والروح ، وفي مسائل الدين والدولة ، وتحرير الدين من كل سلطة مع بقاء دولة الاسلام بسلطة ، من الشمول ، برهان الكمال . إنما الدين سبيل الى الله ، لا الى الدنيا أو الجسد أو الدولة . وفي السبيل الى الله من الأفضل والأكمل تمييز الدين عن الدولة وتمييز الروح عن الجسد ، وتمييز الآخرة عن الدنيا – التمييز ، لا التفرقة . وذلك لئلا يتيه الدين في متاهات الجسد والدولة والدنيا ؛ وتصير الدنيا والدولة والجسد قيودا وحدودا للدين والروح والآخرة . فلنُطلق الدين والروح من تلك العُقالات ، التي ليست في مقياس الكمال ، وقسطاس الشمول ، من معجزات .


 

بحث رابع

الدعوة القرآنية قومية أم عالمية ؟

يستفتح القرآن بتسمية الله تعالى "الرحمان الرحيم ، رب العالمين" (الفاتحة) ؛ ويقول عن نفسه : "إن هو إلاّ ذكر للعالمين" (104:12 ؛ 87:38 ؛ 27:81 ؛ 52:68) ؛ ويقول في نبيّه : "قلْ ، يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا" (الاعراف 158) ، "وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين" (الأنبياء 107) ، "وما أرسلناك إلاّ كافةً للناس" (سبأ 28) ، "قلْ ، يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين" (الحج 49) ، "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم على فترة من الرسل أن تقولوا : ما جاءَنا من بشير ولا نذير ! – فقد جاءَكم بشير ونذير ، والله على كل شئ قدير" (المائدة 19) . ألا تكون هذه التصاريح دلائل على عالمية الدعوة القرآنية ؟ إنما هي أساليب بيانية قامت عليها شبهة العالمية في الدعوة القرآنية . إنما الدعوة القرآنية دعوة قومية ، بنص القرآن القاطع في تصاريحه الصريحة ، ومبادئه المتواترة .

أولا : تصاريح القرآن في قومية دعوته – سبع مجموعات

ثلاثة تصاريح تحصر رسالة محمد في "أم القرى" وما حولها

يصرّح في سورة الأنعام : "وهذا كتاب أنزلناه مبارك ، مصدّق الذي بين يديه ، ولتنذير أمّ القرى ومن حولها" (92) . فالدعوة القرآنية مكية حجازية . ويصرح في صورة الشورى : "وكذلك أوحينا اليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها" (7) . فالدعوة القرآنية مكية

حجازية . ويصرّح في سورة القصص : "وما كان ربك مهلك القرى ، حتى يبعث في أمّها رسولا" (59) . فمحمد هو أولا رسول مكة ، ثم رسول قراها ؛ فدعوته مكية حجازية والتصريح المتواتر بحصر الدعوة "بأم القرى وما حولها" (الانعام 92) يفسّر ما تشابه في قوله "وأُوحي اليَّ هذا القرآن لأنذركم به ، ومَن بلغ" (الانعام 19) . فالآية (92) من السورة نفسها تفسر ما تشابه في الآية (19) من السورة ذاتها .

  • خمسة تصاريح تجعل القرآن ذكرًا قوميًّا

في الزخرف : "وإنه لذكر لك ولقومك" (44) . فالقرآن دعوة قومية . وفي المؤمنين : "بل أتيناهم بذكرهم ، فهم عن ذكرهم معرضون" (71) . فالقرآن ذكر يخص العرب من دون سواهم ، فهو دعوة قومية . وفي الأنبياء : "لقد أنزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم ، أفلا تعقلون" (10) . فالقرآن ذكر الى العرب ، نزل اليهم وحدهم ، فهو دعوة قومية . وفي الأنبياء أيضا : "هذا ذكر مَن معي ، وذكر من قبلي" (24) . فالقرآن ذكر مَن مع محمد من العرب ، يخصهم ولا يخص سواهم ، فهو دعوة قومية . وفي الطلاق : "قد أنزل الله اليكم ذكرًا ، رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبيَّنات" (10 و11) . فالقرآن قومي ، والرسول قومي . فهذا التصريح الصريح المتواتر برهان على عقيدة قائمة في قومية الدعوة القرآنية ، وتزيل بتخصيصها ما تشابه في قوله : "إن هو إلاّ ذكر للعالمين" .

  • سبعة تصاريح تجعل القرآن عربيّا للعرب

في يوسف : "تلك آيات الكتاب المبين : إنّا أنزلناه قرآنًا عربيًّا لعلكم تعقلون" (1 – 2) . فالكتاب المبين نزل قرآنا عربيا لكي يعقله العرب ؛ فهو دعوة قومية . وفي الرعد : "والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أُنزل إليك ؛ ومن الأحزاب من ينكر بعضه ... وكذلك أنزلناه حُكْما عربيًّا ، ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ، ما لك من الله من وليّ ولا واق" (36 – 37) . إنه يعدّد المخاطبين بالقرآن ، أهل الكتاب العرب ، وأحزاب القبائل العربية ، والمشركين العرب الذين يحذره من "أهوائهم" . فلهؤلاء جميعا من مؤمنين ومترددين وكافرين "أنزلناه حكما عربيًّا" أي حكمة عربية للعرب . وفي طه : "وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا ، وصرفنا فيه من الوعيد لعلّهم يتقون ، أو يحدث لهم ذكرًا" (113) . نزل قرآنا عربيا ليحدث للعرب ذكرا ولعلهم يتقون . وفي الزمر : "ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلّهم يتذكرون ، قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلّهم يتقون" (27 – 28) . إن صفته ، "قرآنا عربيّا" تحدّد معنى "الناس" النازل اليهم ، لعلهم يتذكرون ، ولعلهم يتقون : عربية القرآن تدل على عربية قومه . وفي فُصّلت : "حم . تنزيل من الرحمان الرحيم : كتاب – فُصّلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون" (1 –3) . إن تنزل الله في الكتاب قد فُصلت آياته قرآنا عربيا حتى يعلمها العرب . فهو دعوة عربية قومية . وفي الشورى : "وكذلك أوحينا اليك قرآنا عربيا ، لتنذر أم القرى ومن حولها" (7) . هذا نص قاطع على أن عربية القرآن تدل على عربية قومه المخاطَبين به ، فقد نزل عربيّا لأم القرى ، مكة ، ومَن حولها من الأعراب . وفي الزخرف : "حم . والكتاب المبين : إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" (1 – 3) . يقسم بالكتاب المبين إنه جعل الكتاب المبين قرآنا عربيا لكي يعقله العرب . فهو دعوة قومية عربية .

وهكذا فإن عربية القرآن برهان على رسالته العربية وقوميته العربية ؛ كما يدل عليها أيضا تواتر تعابير الفهم والعلم والعقل من عربيته ؛ وكما يدل عليها تصريحه المتواتر بأن القرآن عربي لأم القرى ، مكة ، ومَن حولها من الأعراب ؛ وكما يدل عليها قوله : "ولو جعلناه قرآنا أعجميا ، لقالوا : لولا (هلاً) فُصّلت آياته ؟ أأعجمي وعربي ؟" (فصلت 44) أي "أقرآن أعجمي ونبي عربي" (الجلالان) . فعروبة النبي تقتضي عروبة القرآن وعروبة رساته . فالنبي عربي والقرآن عربي : فالدعوة قومية عربية . وذلك بنص القرآن القاطع الذي لا مراء فيه .

  • لسان النبي والقرآن برهان على قوميتهما

يصرّح : "وانه لتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ... ولو نزّلناه عل بعض الأعجمين ، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين" (الشعراء 192 – 199) . نزل القرآن بلسان عربي مبين لكي يفهموه ويؤمنوا به ؛ فلو نزل على أعجمي بلسان أعجمي ما كانوا به مؤمنين ، لأنهم لا يفهمونه . فتعريب التنزيل بلسان عربي مبين كان ليفهم العرب ويؤمنوا به . فالدعوة القرآنية ترجمة عربية لكتاب الله لكي يفهموه ويؤمنوا به . فلسانه العربي دليل على رسالته العربية القومية .

وبعروبة القرآن يردّ على من اتهمه بتعلّمه من أعجمي : "ولقد نعلم أنهم يقولون : إنما يعلمه بشر ! – لسان الذي يُلحدون اليه أعجمي ، وهذا لسان عربي مبين" (النحل 103) . فليس القرآن من أعجمي ، لأنه بلسان عربي مبين .

نبي عربي ، وقرآن عربي ، لتعريب الكتاب الإمام للعرب : "ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمة ؛ وهذا كتاب مصدّق لسانا عربيا : لينذر الذين ظلموا ، وبشرى للمحسنين" من العرب (الأحقاف 12) فلسان النبي ، ولسان القرآن ، برهان مزدوج على قوميتهما .

  • رسالة الرسول بين قوم تدل على قومية رسالته

المبدأ العام : "الله أعلم حيث يجعل رسالته" (الانعام 124) . لذلك "لكل أمة رسول" (يونس 47) ؛ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا" (النحل 36) ؛ "وما كنّا معذَبين (المشركين العرب) حتى نبعث رسولا" (الاسراء 15) ؛ "وجاهدوا في الله حقَّ جهاده : هو اجتباكم (اختاركم) ... ليكون الرسول شهيدًا عليكم ، وتكونوا شهداء على الناس" في ديار العرب (الحج 78) . فرسالة الرسول بين العرب تدل على أن رسالته قومية عربية .

تلك شهادة القرآن المتواترة بالتخصيص لرسالة محمد والقرآن بالعرب : "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم ، حريص عليكم" (128:9) ؛ كما طلب ابراهيم واسماعيل : "ربنا وابعث فيهم ، رسولا منهم ، يتلو عليهم آياتك" (129:2) ؛ وقد فعل الله : "كما أرسلنا فيكم ، رسولا منكم ، يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم" (151:2) – لاحظ تواتر التخصيص . بمحمد والقرآن مَنَّ الله على الرب : "لقد منَّ الله على المؤمنين (من العرب) إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، يتلو عليهم آياته ويزكّيهم" (164:3) . فمحمد رسول الى أم القرى : "وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا ، يتلو عليهم آياتنا" (القصص 59) ؛ "قد أنزل الله اليكم ذكرا ، رسولا يتلو عليكم آيات الله مبيّنات" (الطلاق 10 – 11) . ومحمد رسول الى العرب شاهد عليهم : "إنّا أرسلنا اليكم رسولا شاهدًا عليكم ؛ كما أرسلنا الى فرعون رسولا" (المزمّل 15) ؛ "وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس (العرب) ويكون الرسول عليكم شهيدا" (البقرة 143) . فتواتر التخصيص المتواصل في رسالة محمد برهان فاصل على أن دعوته قومية ورسالته عربية .

  • إن رسالة محمد هي تعليم العرب الكتاب والحكمة

لقد طلب ابراهيم واسماعيل الى الله : ربنا وابعث فيهم (ذريتنا) رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويزكيهم" (البقرة 129) لذلك "فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة" (النساء 54) ؛ "وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ، وعلمك ما لم تكن تعلم ، وكان فضل الله عليك عظيما" (النساء 113) . وهذا كله كان ، حتى يعلّم محمد العرب الكتاب والحكمة : "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ، ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" (البقرة 151) . فالقرآن هو تعليم العرب الكتاب والحكمة . بهذا مَنَّ الله على العرب : "لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (آل عمران 164) .

إن محمدا من العرب أنفسهم لكي يعلم العرب الكتاب والحكمة : فليس أصرح ولا أوضح دلالة على قومية الرسالة (الجمعة 2) .

  • فمحمد هو "النبي الأمي" للعرب الأميّين

صفة محمد أنه "النبي الأمي" (الأعراف 157) ، وهذا "النبي الأمي يؤمن بالله وكلمته" (الاعراف 158) ، فهو على صراط عيسى كلمة الله . وانه "النبي الأمي" لأنه من الأميّين العرب ، وللأميّين العرب : "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (الجمعة 2) . هذا التصريح يقطع كل مراء ومكابرة : إن محمدا نبي أمّي أي عربي ، للأميّين العرب : "هو الذي بعث في الأميّين رسولا منهم" .

ثانيا : سبعة مبادئ قرآنية تجعل القرآن دعوة قومية

المبدأ القرآني الأول : "لكل أمة رسول" ، ومحمد رسول الى العرب . المبدأ القرآني المتواتر ، المؤيد بالواقع النبوي المتواتر ، أن "لكل أمة رسول ، فإذا جاءَ رسولهم ، قُضي بينهم بالقسط ، وهم لا يُظلمون" (يونس 47) . هذا المبدأ واقع تاريخي أيضا : ولقد بعثنا

في كلّ أمة رسولا (النحل 36) . إنه مبدأ قائم متواتر الى آخر العهد : "ولكل قوم هاد" (الرعد 7) ؛ وواقع قائم متواتر : "وإنْ من أمّةٍ إلاّ خلا فيها نذير" (فاطر 24) . ويطبق المبدأ والواقع على محمد مع العرب : "إنما أنت منذر ، ولكل قوم هاد" (الرعد 7) فهو هادي قومه ، فهدايته قومية . ورسالته شهادة لقومه وعلى قومه : "ويوم نبعث في كل أمّة شهيدا عليهم من أنفسهم ، وجئنا بك شهيدا على هؤلاء" (النحل 89) . فدعوته قومية : "تنزيل العزيز الرحيم ، لتنذر قوما ما أُنذِر آباؤهم فهم غافلون" (يس 5 – 6) .

هذه النظرية القرآنية الأولى المتواترة أن"لكل قوم هاد" ومحمد شهيد على قومه ، تجزم بأن الدعوة القرآنية قومية .

  • المبدأ القرآني الثاني : قومية الرسول تحدّد قومية رسالته . يعمل بوحي هذا المبدأ بمكة : "ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم ، وجئنا بك شهيدا على هؤلاء" (النحل 89) . فمحمد رسول من العرب ، فهو رسول الى العرب . وهذه النظرية تدوم في المدينة : "لقد منَّ الله على المؤمنين ، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة" (آل عمران 164) . فمحمد رسول من العرب أنفسهم ليعلّم العرب كتاب الله . وهذه القومية في الرسول والرسالة تدوم الى يوم الدين : "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ؟ يومئذ يودَ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض" (النساء 41 – 42) .

هذه النظرية القرآنية الثانية تجزم أيضا بتلازم قومية الرسول وقومية الرسالة . فمحمد رسول عربي : فرسالته قومية عربية في اليوم الحاضر ، وفي اليوم الآخر .

  • المبدأ القرآني الثالث : لغة الرسول تحدّد قومية رسالته . إن المبدأ عام وصريح : "وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبيّن لهم" (ابراهيم 4) . فلسان الرسول دليل على قومية رسالته . وجاء القرآن "بلسان عربي مبين" (الشعراء 195) لأنه نزل "بلسان قومه ليبيّن لهم" . والقرآن يركّز جدله معهم على عروبته وعروبة رسوله لكي يؤمنوا به : "وانه لتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين . ولو نزّلناه على بعض الأعجمين ؛ فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين" (الشعراء 192 – 199) . فقد نزل قرآنا عربيا لكي يفهموه ويعقلوه ، ولا يحتجوا عليه بلسانه : "ولو جعلناه قرآنا

أعجميا (كالتوراة والانجيل) لقالوا : لولا فُصّلت آياته ؟ أأعجمي ، وعربي ؟" (فصّلت 44) أي "أقرآن أعجمي ، ونبي عربي" (الجلالان) . فعروبة النبي تقتضي عروبة القرآن ، وعروبة النبي والقرآن تقتضي عروبة رسالته وقوميتها . فهم إنما غفلوا عن دراسة التوراة والانجيل لأنهما بغير لسانهم ، فهذا كتاب لهم بلسانهم : "وهذا كتاب أنزلناه مبارك ، فاتّبعوه واتّقوا لعلكم ترحمون أنْ تقولوا : إنما أُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، وإنْ كنا عن دراستهم لغافلين" (الانعام 155) لأنهما ليسا بلسان العرب . فهذا كتاب بلسان العرب ، يتلو عليهم آياته "رسول من أنفسهم" وهذه مِنّة الله على العرب : "لقد منَّ الله على المؤمنين (العرب) إذ بعث فيهم رسولا منأنفسهم ، يتلو عليهم آياته ، ويزكّيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإنْ كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (آل عمران 164) .

فلسان الرسول يحدّد قومية رسالته ؛ وعروبة لسان محمد تحصر رسالته في بني قومه العرب . هذا هو مبدأ القرآن وبرهنته في هذه النظرية الثالثة .

  • المبدأ القرآني الرابع : لغة القرآن تحدّد رسالته القومية العربية . في اثني عشر وضعا يصرّح بأن القرآن نزل "عربيًّا" لكي يفهمه العرب . منها : "حم . والكتاب المبين ، إنّا جعلناه قرآنا عربيّا لعلكم تعقلون" (الزخرف 1 – 3) . فقد نزل قرآنا عربيا لأم القرى ومن حولها . "وكذلك أوحينا اليك قرآنا عربيّا لتنذر أم القرى (مكة) ومّن حولها" (الشورى 7) . وما نزل القرآن عربيا إلاّ لأنه ذكر لمحمد وقومه : "وانه لذكر لك ولقومك ، وسوف تُسألون" (الزخرف 44) . فمحمد هو "النبي الأمي" أي العربي ، لأن رسالته مختصة بالعرب ، محصورة فيهم : "هو الذي بعث في الأميّين (العرب) رسولا منهم" (الجمعة 2) .

فهذه النظرية القرآنية الرابعة تجزم بأن لغة القرآن تحصر رسالته في العرب ، وتقتصرها عليهم .

  • المبدأ القرآني الخامس : القرآن دعوة الى "ملة ابراهيم" باسماعيل ، جدّ العرب المستعربة . يفتتح القرآن المدني دعوته بصلاة ابراهيم ، "إذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت ، واسماعيل : ربنا تقبّل منا ، إنك أنت السميع العليم ، ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ... ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويزكيهم ، إنك أنت العزيز الحكيم – ومّن يرغب عن ملة ابراهيم إلاّ مَنسَفِه نفسه" (البقرة 127 – 130) ، والدعوة القرآنية الى ملة ابراهيم ، جد العرب باسماعيل ، متواترة في القرآن . فهو يجعل اسلام القرآن ، على ملة ابراهيم باسماعيل ، اسماعيليّا عربيّا ، للاسماعيليين العرب . فاسلام القرآن هو لذرية اسماعيل ، على ملة ابراهيم .
  • المبدأ القرآني السادس : القرآن دعوة الى الحنيفية ، دين ابراهيم ، جد العرب باسماعيل يصرح : "إن ابراهيم كان أمة قانتًا لله ، حنيفا ، ولم يكُ من المشركين ... ثم أوحينا اليك أن اتّبع ملة ابراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين" (النحل 120 – 123) . ويؤكد : "أقم وجهك للدين حنيفا" (يونس 105 ؛ الروم 30) . ويدعو الى حنيفية ابراهيم : "وقالوا ؛ كونوا هودا – أو نصارى – تهتدوا ؛ بل ملة ابراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين" (البقرة 135) ، "قل : صدق الله ، فاتبعوا ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين" (آل عمران 95) ؛ "ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ، وهو محسن ، واتّبع ملة ابراهيم حنيفا ، واتّخذ الله ابراهيم خليلا" (النساء 125) . فالحنيفية الابراهيمية هي في اتباع ملة ابراهيم ، على طريقة المحسنين من آله . هذا هو الدين القيِّم : "قلْ إنني هداني ربي الى صراط مستقيم ، دينا قيّمًا ، ملة ابراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين" (الانعام 161) . وحنيفية ابراهيم هي الاسلام ؛ "ما كان ابراهيم يهوديا ، ولا نصرانيا (بمعنى مسيحي) ، ولكن كان حنيفا مسلما – وما كان من المشركين" (آل عمران 67) . وهذا الاسلام الحنيف يدعو اليه القرآن مع أولي العلم المقسطين ، أي النصارى من بني اسرائيل ، الذين يشهدن مع الله وملائكته : "إن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) . فجماعة محمد من العرب هم مسلمون لأنهم على ملة أبيهم ابراهيم ، وهو الذي سماهم المسلمين في الكتاب والقرآن : "وجاهدوا في الله حقّ جهاده : هو اجتباكم (اختاركم) ... ملة أبيكم ابراهيم ، هو سمّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا ، ليكون الرسول شهيدا عليكم ، وتكونوا شهداء على الناس" من العرب (الحج 78) . فالاسلام الذي يدعو اليه القرآن هو الحنيفية المسلمة ، ملة أبيهم ابراهيم . فالدعوة القرآنية قومية للعرب ، على ملة أبيهم ابراهيم . فالدعوة والداعي والمدعوّون ، قوم ابراهيم باسماعيل ، جد العرب .
  • المبدأ القرآني السابع : شعائر الاسلام القرآني تجعله دينا قوميا عربيا اسماعيليا . كعبته هي كعبة ابراهيم واسماعيل : "واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت ، واسماعيل" (البقرة 127) . قبلته هي قبلة ابراهيم واسماعيل ، "ولكل أمة جعلنا منسكا ، ليذكروا اسم الله" (الحج 34) ؛ "ومن حيث خرجتَ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره ، لئلاّ يكون للناس عليكم حجة" (البقرة 150) . فالقبلة تميّزهم عن سواهممن الناس ، فلا يحتجون عليهم بها . وهذه القبلة هي شعار "الأمة الوسط" ، لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلاّ ليعلم من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه" (البقرة 143) . فتحويل القبلة الى كعبة مكة تميّز العرب المسلمين من سواهم .

وحجه هو حج ابراهيم واسماعيل : "واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ... وعهدنا الى ابراهيم واسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرُكّع السجود" (البقرة 125) .

والبلد الحرام هو بلد ابراهيم واسماعيل ، وذريته المسلمة : "واذ قال ابراهيم : رب اجعل هذا بلدا آمنا ، وارزق أهله من الثمرات ، مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر" (البقرة 126) .

فشعائر الاسلام في القرآن تجعله دينا قوميا عربيا ابراهيميا اساعيليا . والقول الفصل : "انه ذكر لك ولقومك" في كل مبادئه وتصاريحه ؛ وأن محمدا هو "النبي الأمّي" ، اي العربي ، لأن الله "هو الذي بعث في الأميين (العرب) رسولا منهم" . فمحمد رسول الى "الأميين" العرب : فرسالته قومية عربية . وهكذا فإن مبادئ القرآن كلها ، وتصاريح القرآن كلها ، تشهد بلا مراء ولا ريب ، أن الدعوة القرآنية قومية عربية ، لا عالمية في نصّها ؛ إنما أمست عالمية بالفتوحات الاسلامية .

ثالثا : آيات متشابهات في عمومية الدعوة وعالميتها

من تلك المبادئ الجازمة ، وتلك التصاريح الحازمة ، وكلها قاطعة جامعة مانعة ، نأتي الى بعض آيات متشابهات يُظن فيها تنويها بعمومية الدعوة القرآنية وعالميتها ، يفسّرها التفسير الصحيح اسلوب القرآن في البيان والتبيين .

  • منها قوله المتواتر : "إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين" (104:12 ؛ 87:38 ؛ 27:81 ؛ 52:68) . فتعبير "العالمين" في هذه المواطن عام يُقصد به الخاص ، وهو اسلوب متواتر في القرآن ، كما تدل عليه القرائن القريبة والبعيدة . هكذا قوله في سورة يوسف : "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين . وما تسألهم عليه من أجر ، إنْ هو الاّ ذكر للعالمين . وكأين من

آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون . وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون" (103 – 106) – فالقرائن اللفظية والمعنوية ، من قبلُ ومن بعدُ ، إن تعبير "العالمين" عام مراد به الخصوص في الحجاز والجزيرة . وهكذا قوله : "إن هو إلاّ ذكر للعالمين ، لمَنْ شاء منكم أن يستقيم . وما تشاؤون ، إلاّ أن يشاء الله رب العالمين" (التكوين 27 – 29) – فتعبير "ذكر للعالمين" مقيد للحال بما يليه : "لمن شاء منكم" فالعالمون هم المخاطبون من العرب ؛ أما تعبير "رب العالمين" فهو مطلق لا يقيده شئ ، فهو عام .

  • منها قوله : "وأنزلنا اليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزِّل اليهم ولعلهم يتفكّرون" (النحل 44) ؛ وقوله : "قلْ يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا ... فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي" (الاعراف 158) . هذه الصفة "جميعا" لا تدل على أن المقصود "بالناس" جميع البشر ، بل هو اسلوب بياني مضطرد في القرآن ، حيث العام فيه يراد به الخصوص ، ومن العام ما هو مخصوص . وللسيوطي في (الاتقان 16:2 – 18) فصل قيم على النوعين ، قال : "ومن أمثلة العام المراد به الخصوص قوله تعالى (الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) والقائل واحد ، نعيم بن مسعود الأشجعي ، أو أعرابي من خزاعة ... وممّا يقوّي أن المراد به واحد قوله : (انما ذلكم الشيطان) فوقعت الإشارة بقوله (ذلكم) الى واحد بعينه ، ولو كان المراد به جمعا لقال : (انما أولئكم) الشيطان ، فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ . ومنه قوله : (أم يحسدون الناس) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومنها قوله : (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) . أما العام المخصوص فأمثلته في القرآن كثيرة جدا ، هي أكثر من المنسوخ ، إذ ما من عام إلاّ وقد خُصّ . ثم المخصّص له إمّا متّصل ، وإمّا منفصل ، والمنفصل آية أخرى في محل آخر" .

هكذا في حديث "النبي الأمي" حيث يقول : "يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا ... فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمّي" (الأعراف 158) فالمخصص له المنفصل هو قوله : "هو الذي بعث في الأميّين رسولا منهم" (الجمعة 2) . فليس محمد رسولا للبشرية جمعاء ، بل للأمي‍ّين العرب .

3) ومنها قوله : "وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيرا ونذيرا" (سبأ 28) . فقد يظن أن معناه "للناس كافة" ، فيظن أن رسالة محمد عالمية . لكنّ الصفة في العربية لا ترد قبل

الموصوف . جاء أيضا في (الاتقان 84:2) : "نقلت من خط شيخ الاسلام ابن حجر ، ان من التورية في القرآن قوله (وما أرسلناك إلاّ كافة للناس) فان "كافة" بمعنى مانع أي تكفهم عن الكفر والمعصية ، والتاء للمبالغة ، وهذا معنى بعيد ، والمعنى القريب المتبادر أن المراد (جامعة) بمعنى (جميعا) ، لكن منع من حمله على ذلك أن التأكيد يتراخى عن المؤكّد ؛ فكما لا تقول (رأيت جميعا الناس) لا تقول (رأيت كافة الناس) " . ويدعم هذا التفسير قوله في الحديث : "أيها الناس إن الله قد بعثني رحمة وكافة" أي كافّا عن الشرك ، والتاء المربوطة للمبالغة .

والقرائن القريبة والبعيدة للآية "كافة للناس" (سبأ 28) ترفع كل شبهة . فهو قبلها يعلن أن رسالة محمد محصورة "بأم القرى ومن حولها" (الانعام 92) ، ويؤكد ذلك بعدها ، فيحصرها "بأم القرى ومَن حولها" (الشورى 7) .

  • ومنها قوله في سورة الأنبياء : "وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين" (107) – فلا يدل على عالمية الدعوة ، لأنه في السورة عينها يصرّح مرتين بأنها خاصة للعرب : "لقد أنزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم ، أفلا تعقلون" (الانبياء 10) ؛ "هذا ذكر مَن معي وذكر مَن قبلي" (الأنبياء 24) ، ومن كان معه في مكة سوى نفر من أهلها ؟
  • ومنها قوله : "تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا" (الفرقان 1) . هو عام يُراد به الخاص ، بحسب اسلوب القرآن البياني . ولا تأتي كلمة "العالمين" على اطلاقها الى مضافة الى الله ، رب العالمين .

جاء في تفسير الطبري : "قال أبو جعفر : العالمون جمع عالم ، والعالم جمع لا واحد له من لفظه . والعالم اسم لأصناف الأمم ، وكل صنف منها عالم . وأهل كل قرن من كل صنف منها عالم ذلك القرن وذلك الزمان . فالإنس عالم ، وكل أهل زمان منهم عالم ذلك الزمان . وكذلك سائر أجناس الخلق ، كل جنس منه عالم زمانه . وهذا القول هو معنى قول عامّة المفسرين" ، ثم يعطي على ذلك مثلا في وصف اليهود : "وإني فضلتكم على العالمين" (البقرة 47) ويقول : "أخرج جلّ ذكره قوله مخرج العموم ، وهو يريد به خصوصا ، لأن المعنى : إني فضلتكم على عالم من كنتم بين ظهريه وفي زمانه أي فضلهم على عالم ذلك الزمان" .

هكذا فإن اقتران النبي أو القرآن بلفظ "العالمين" يقصد به المخاطبين من العرب والنتيجة الحاسمة في مثل تلك الآيات المتشابهات التي يدل ظاهرها على عمومية الدعوة القرآنية ، أنها تخضع في مدلولها لأساليب البيان العربي والقرآني . منها أسلوب اخراج الخاص مخرج العام ، كما مرّ بنا . ومنها الاخبار عن الواحد بمذهب الجمع ، كما في تفسير الطبري أيضا : "فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب (آل عمران 39) ، إذ قالت الملائكة يا مريم (آل عمران 45) – قيل جبريل . فإن قال قائل : كيف جاز أن يقال على هذا التأويل (الملائكة) وهي جمع لا واحد – قيل : ذلك جائز في كلام العرب بأن تُخبر عن الواحد بمذهب الجمع . كما يقال في الكلام : (خرج فلان على بغال البرد) وانما ركب بغلا واحدا ؛ (وركب السفن) ، وانما ركب سفينة واحدة ؛ وكما يقال (ممن سمعت هذا الخبر) ؟ فيقال : (من الناس) وإنما سمعه من رجل واحد . وقد قيل ان منه قوله : (الذين قال لهم الناس ؛ ان الناس قد جمعوا لكم – آل عمران 173) والقائل كان فيما ذُكر واحدا . وقوله : (اذا مسَّ الناس ضرٌّ – الروم 33) والناس بمعنى واحد منهم . وذلك جائز عندهم" .

نلاحظ في لهجة الطبري نزعته الآرية تجاه السامية ، والايرانية تجاه العربية ، في بيان الفارق في التعبير والتفكير ، بين البيان العربي والبيان الآري . وقد أوجز ذلك منذ القديم ابن قتيبة في كتابه (مشكل القرآن) . قال : "وللعرب المجازات في الكلام . ففيها ... مخاطبة الواحد مخاطبة الجميع ؛ والجميع خطاب الواحد ؛ والواحد والجميع خطاب الاثنين . والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم ، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص" . وهذا ما جاء به القرآن في آياته المتشابهات التي توهم عمومية الدعوة القرآنية . فالتشابه في الآيات التي قد يظهر منها عمومية الدعوة القرآنية ، انما يرجع الى اساليب البيان العربي والقرآني . انها آيات متشابهات في عمومية الدعوة وعالميتها ، وهي دعوة قومية عربية ، كما تبرهن تصاريح القرآن ومبادئه المتواترة .

رابعا : من دلائل التاريخ الخاص والعام

1– قيل : إن مكاتبة الملوك والامراء قيصر وكسرى والمقوقس وولاتهم ، خير دليل على أن الدعوة الاسلامية كانت عامة عالمية لكل الناس . لكن يطعن في صحة تلك المكاتبات أنها مذكورة بالاجماع قبل فتح مكة . لم يكن النبي قد فتح الحجاز ، فكيف به يكاتب قيصر وكسرى ليدينوا بالاسلام ، كقوله الى هرقل عظيم الروم : "أما بعد فإني أدعوك بدعاية الاسلام ، أَسلمْ تسلمْ" ، كما أخرجه صحيح البخاري وصحيح مسلم عن ابن عباس . إن منطق الأحداث يدفع هذه الغلواء عن النبي الحصين . وليس في القرآن كله ، قبل فتح مكة ، ما يشير الى مثل تلك الرغبة في فتح العالم للإسلام .

2– قيل : إن في غزوة مؤتة ، وغزوة تبوك ، الى مشارف الشام ، دليلا على أمل فتح دولة الروم للاسلام . لكن ظروف الغزوتين التاريخية تدل على أن محمدا كان يبغي نصارى العرب عند مشارف الشام والعراق ، لا الروم ولا دولتهم ؛ لا الفرس ولا دولتهم . ولا شك أن العصبية العربية ستحملهم على قبول دعوته الدينية والقومية ، في سبيل الاستقلال الديني والقومي عن الشرق وثنائيته في مجوسيته ، وعن الغرب وتثليثه في مسيحيته ، كما يقول في فتح شمال الحجاز : "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله" (الفتح 28) . ولم تكن فكرة المغانم ببعيدة عن أهدافه ، كما يقول أيضا : "وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجّل لكم هذه" (الفتح 20) . وكان محمد يعلم أن أمراء الحيرة وبصرى كانوا حينئذ على خلاف مع أسيادهم . فأرسل الى ذات الطلْح خمسة عشر من رجاله يدعون للإسلام . فقتلوهم جميعا ، لم ينج منهم إلاّ رئيسهم ، رجع فأخبر النبي . فعرضت الفرصة النادرة لتسيير أول غزوة الى بلاد الروم . فجهَّز ثلاثة آلاف لتأديب الغادرين بدعاته . وكثر الزعماء بين المحاربين ، فسُمّي الجيش جيش الأمراء ، والسرية سرية الأمراء .

سار القوم حتى بلغوا معان ، من أرض البلقاء . فتصدّى لهم من بصرى شرحبيل بن عمرو الغسّاني ، عامل هرقل ، في جموع غفيرة من نصارى العرب ، عند مآب من البلقاء ، والتقى الجمعان في قرية "مشارف" . فشعر المسلمون أن لا قِبَلَ لهم بقتال هذا الجيش العرم ، فانحازوا الى مؤته ، قرب معان ، يتحصنون بها من ملاقاة العدو . لكن جيش العرب

النصارى أحاط بهم ، فكان لا بدّ من القتال . فدارت رحى الحرب على المسلمين ، وقتل الأمراء الثلاثة زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة . فاستلم القيادة المسلم الجديد خالد بن الوليد ، وأظهر مقدرة فائقة في تدبير انسحاب جيشه من المعركة . واقتنعوا من الهزيمة والغنيمة بالإياب .

هذا هو التاريخ الحق . لكن ، لكي يُظهر نية الفتح الاسلامي في الغزوة ، قالوا : "فلمّا وصل المسلمون الى معان ، عرفوا أن في انتظارهم ماية ألف من الروم ، وماية ألف أخرى من نصارى العرب" وكان الجيش بقيادة هرقل نفسه . والمؤرخ الرومي ثوفانس يذكر أن جيش الشام كان من العرب النصارى وحدهم ، المقيمين على الثغور لحمايتها من الأعراب ؛ وهو لا يمكن أن يبلغ ماية ألف . وهرقل الذي غزا الفرس وكسرهم لم يكن معه ماية ألف ، حتى يجمع للأعراب ماية ألف من الروم غير ماية ألف من العرب ! فتلك المبالغات والمغالطات تحريف للتاريخ . والقضية كلها تنحصر بين عرب الحجاز وعرب بني غسان النصارى ، لغاية قومية دينية ، لا تخلو من روح الغزو والغنيمة . وبما أن غزوة مؤتة وقعت في ايلول سنة 629 م . قبل فتح مكة في كانون الثاني سنة 630م . فليس في منطق الأحداث ما يدل على نقل الاسلام الى الروم .

وبعد فتح مكة ، حاول محمد فتح الطائف . فامتنعت ثقيف في حصونها . واضطرّ محمد أن يرفع الحصار وأن يرحل عنها خائبا . وإنها لخُطّة ثابتة في سيرة النبي من أنه إذا فشل في جهة استعاض بحملة الى جهة أخرى . وبعد أن استتب له الأمر في الحجاز كله ، واطمأن بتصفية اليهود ، وجّه أنظاره في آخر أيامه الى العرب المسيحيين في الشام واليمن . وبدأ بالشمال لأن دويلاتهم كانت أضعف من اليمن ، وأضعف من أن تقاومه ، وقد استطاع أن يجمع لغزوهم جيشا عظيما بلغ ثلاثين ألفا قاده بنفسه . وسبب الحملة الثأر من فشل غزوة مؤتة ، وتأمين طريق القوافل ، فإن قبائل العرب المسيحيين على حدود الشام تجرّأت أكثر من ذي قبل على القوافل بعد ما كان من فشل غزوة مؤتة . وفي (أسباب النزول) : "أخرج الطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اغزوا تغنموا بنات الأصغر ! فقال ناس من المنافقين : إنه ليفتنكم بالنساء ، فنزلت" .

"ووصل النبي صلى الله عليه وسلم تبوك بعد عشرين يوما وعسكر فيها ولم يتعدَّها" . "ولكن الروم لم يتعرّضوا للرسول . فعقد الرسول معاهدات مع البلدات المتاخمة للحجاز كأيلة (العقبة) وأذرح وجرباء ومَقْنا ، وفرض على كل بلدة جزية معينة" .

إن عدم تعرض جيش الروم ، القافل من سحق جيش كسرى ، للعرب ؛ واكتفاء النبي بتلك المعاهدات مع الإمارات العربية ، دليل على أن الروم لم يفكّروا بغزو الحجاز واكتفوا بعملائهم من العرب المسيحيين على حماية الثغور من الأعراب ؛ ودليل أيضا على أن محمدا لم يكن يفكّر بغزو الروم ، بل كان يفرح بنصرهم على الفرس الوثنيين (سورة الروم2 – 3) . إنما حصر همه كله في جمْع كلمة العرب في وحدة دينية وقومية .

3 – قيل أخيرا : إن فتح المسلمين لدولة الأكاسرة ودولة القياصرة برهان على أن الإسلام منذ تأسيسه دعوة عالمية .

إن الفتوحات العربية في صدر الإسلام لم تكن جديدة على عرب الجزيرة . فمنذ خمسة آلاف سنة ، تقوم على رأس كل ألف هجرة كبرى من الجزيرة الى الهلال الخصيب وتؤسس فيه أممًا ودولا . وفي الألف الأخير قبل الاسلام هاجرت قبائل عديدة الى أطراف الهلال الخصيب فكانت لهم ديار ربيعة ، وديار بكر ؛ وأسست بعض القبائل دويلات مستقلة في تدمر (الزّباء) والبلقاء (دولة الأنباط) والحيرة (دولة المناذرة) وبصرى (دولة بني غسان) . ولكن الهجرة العربية الكبرى الى الهلال الخصيب في العراق والشام كانت حملة الخلفاء الراشدين . فهي في منطق سابقاتها . ولم تكن لحمل الاسلام الى غير العرب . إنما كانت كمخرج لحروب الردّة ، خشية انقسام العرب بعد وحدتهم الاسلامية . وكان الاغراء بالفتوحات لصرفهم عن الاقتتال الأهلي الى الغزو والفتح . ولا يُستبعد بعد الفتوحات العظيمة ، أن تطورت الفكرة الى الفتح الديني بالدعوة العسكرية والسلمية الى الاسلام . فكانت الدعوة الدينية نتيجة الفتوحات ، لا سببها ، ولو جدّد الاسلام فيهم روح العزّة العربية .


 

خاتمة

القول الفصل في تصاريح القرآن

وفي الختام ، مهما يكن من أمر التاريخ ، فلدينا القول الفصل في القرآن الكريم . إن جميع تصاريحه ، وجميع مبادئه تقضي بأن الدعوة القرآنية كانت دعوة قومية ، لا دعوة عامة عالمية في ذاتها – صارت عالمية بعد محمد بالفتوحات الاسلامية – فهل من إعجاز في شمول الدعوة لتصحيح وتتميم ما سبقها من جميع الدعوات الكتابية والأميّة ؟ وهل من إعجاز في شمول الدعوة في موضوعها ليشمل شؤون الدنيا والآخرة ، ومشاكل الجسد والروح ، ومسائل الدين والدولة ؟ وهل من إعجاز في شمول الدعوة "للعالمين" ؟

  • عدد الزيارات: 13583