الإعجاز في شمول الدعوة القرآنية وكمالها - الكمال في تحرير الدين من كل سلطة في الدين
بحث ثالث
الكمال في تحرير الدين من كل سلطة في الدين
يقولون : إن الدين علاقة عبد بربه . وكلما خلا الدين من واسطة بين العبد وربه كان الدين كاملا في ذاته ، شاملا في المتعبدين به . فهل خلوّ الدين من سلطة بين العبد وربه كمال أم نقص ؟
إن السلطة التي تفرض ذاتها بين العبد وربه في الدين شبهة على هذه السلطة وعلى هذا الدين . أمّا السلطة التي يقيمها الله حتى تفقّه الناس في الدين ، وحتى تقيم أحكام الدين ، وحتى "كلما عتق الدين جدّدوه – هذا التأسيس كمال لا نقص .
فالقرآن نفسه يشرع تخصّص فرقة بالفقه بالدين والدعوة له : "وما كان المؤمنون لينفروا كافة – فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة – ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم" (التوبة 122) . والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيمة كل مؤمن ؛ لكن القرآن نفسه يشرع تخصّص أمة من المؤمنين بهذا الأمر : "ولتكن منكم أمّة يدعون الى الخير ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون" (آل عمران 110). ويرى في رهبان عيسى "أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ؛ يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويسارعون في الخيرات ، وأولئك من الصالحين" (آل عمران 113 – 114) ، إنهم الصالحون ، عباد الرحمان ، الذين يطلبون : "وجعلنا للمتقين إماما" (الفرقان 74) .
فتأسيس الأئمة في الأمة تدبير الهي ، به اهتدى محمد نفسه الى الإيمان بالكتاب ولقائه : "ولقد آتينا موسى الكتاب ، فلا تكن في مرية من لقائه . وجعلناه هدى لبني اسرائئيل . وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا" (السجدة 23 – 24) . وبنو اسرائيل يهود ونصارى ؛ وبما أنه على خلاف دائم مع اليهود ، فهو يقصد هنا أئمة النصارى : فالله جعل منهم أئمة يهدون بأمره تعالى . لكن القرآن الذي أمر بتخصص أمة من آله بالتفقّه في الدين وتفقيه الآخرين ، لم يجعل لهم سلطة على أحكام الدين وشعائره ، كما فعل السيد المسيح ، ليفسّروها للناس جيلا بعد جيل . لذلك لمّا شعرت الأمة ، بعد النبي ، بحاجة الى أحكام تفصّل القرآن ، لجأت الى السُنّة في الحديث : فوضعوا آلاف الأحاديث على لسان النبي . فانقسمت الأمة الى سُنّة تقول بالكتاب والسنة ، والى شيعة تقول بالكتاب وحده من دون الــســنة . ولــمّا لم تــكــف الــســنة في تــطوّر الأمّة لتفصيل أحكام الدين ، لجأوا أيضا إلى اجماع الأئمة كمصدر للتشريع ، من دون أن يكون له صفة الإلزام في الدين . ولمّا لم تكف السنة ولا الاجماع ، لجأوا الى الرأي والقياس ، فقامت المذاهب الأربعة أو الخمسة في الفقه . وهذا التطور في تلمّس مصادر التشريع في الاسلام برهان على ضرورة قيام سلطة في الأمة لإقامة أحكام الدين وشعائره .
فهل السلطة في الدين واسطة بين العبد وربه ؟ قد يكون فيها شئ من ذلك . ولكن أليست الملائكة الحفظة واسطة بين الله وعبيده ، وهو وحده الحفيظ العليم ؟ أليست النبوة أيضا واسطة بين الله والناس لهداية الناس الى الله ؟
أليست الخليقة نفسها واسطة بين الخالق والمخلوق ، ليعرف المخلوق من الخليقة خالقه ؟ وهذا برهان التوحيد كله في القرآن ! فليس الكمال في الدين تجريده من سلطة يتيه بدونها الشعب في دينه ، والبشرية ستظل في معظمها شعبا الى ما شاء الله .
يقول العقاد : "لقد ظهر الاسلام في إبان دولة الكهانة والمراسم ، وواجه أناسًا من الوثنيين أو من أهل الكتاب الذين صارت بهم تقاليد الجمود الى حالة كحالة الوثنية في تعظيم الصور والتماثيل والتعويل على المعبد والكاهن في كل كبيرة أو صغيرة من شعائر العبادة ... لا دين بمعزل عن المعبد والكاهن والأيقونة ، سواءٌ في العبادة الوثنية أو في عبادة أهل الكتاب ، الى ما بعد القرن السابع بأجيال متطاولة . فلمّا ظهر المسلم في تلك الآونة ظهر الشمول في عقيدته من نظرة واحدة ، ظهر أنه وحدة كاملة في أمر دينه يُصلّي حيث شاء ، ولا تتوقف له نجاة على مشيئة أحد من الكهّان" .
العبادات لها شعائر في كل دين ، وهي توقيفيّة ، قد يقوم بها المؤمن بنفسه ، أو يساعده فيها مَن انتدب نفسه لها ، أو اختاره الله بسلطة لها ، بالنص والوصية . وعند أهل الكتاب
ليس "المعبد والكاهن والايقونة" من مقوّمات العبادة في حدّ ذاتها . فالانجيل صريح بأن العبادة فرض شخصي يقوم بها المؤمن بنفسه ، في كل زمان ومكان . وقد علم المسيح اتباعه صلاة "أبانا الذي في السماوات" كفاتحة لكل صلاة . لكن المسيح رسم مراسمَ ورموزا دينية ، هي شعائر المسيحية التي تميّزها ، وأوقف على صحة القيام بها تطهيرا وتقديسا ، فلا بدَّ لها بمن يقوم بها ، وهذا هو الكاهن المسيحي الذي أوتي سلطانا من المسيح للقيام بتلك المراسم والعبادات التوقيفية ؛ ولا بدَّ لها من مكان تُقام به ، وهو المعبد . فالحياة الدينية الخاصة ليست مقيّدة بمعبد وكاهن وأيقونة ، إنما الحياة الدينية العامة الاجتماعية هي التي تقتضي الكاهن والمعبد . وكل حياة اجتماعية منظّمة ، دينية أم مدنية ، لا بدَّ لها من إمام يؤمُّها . وقيام إمام بالوصية والنص أفضل من الحرية الفوضوية .
والإسلام الذي يزعمونه دين التحرير من المراسم ، قد انتحل مراسم الحج الى كعبة مكة ، وتركها على حالها كما في وثنية العرب ، مع تغيير روحها بالتوحيد والايمان بالله واليوم الآخر . فهل في مراسم الحج كمال أفضل من كمال غيره ؟ وما معنى الحج الى بيت يلثمون فيه حجرًا ؟ وما معنى هذا الحجر في التوحيد الخالص ؟ والصلاة الاسلامية وكيفياتها أليست ملأى بالمراسم ؟ وكيف لمس المتوضئ للصلاة ليد امرأة للسلام ينقض الوضوء ؟ إلاّ أن تكون المرأة المسلمة نَجَسًا ينقض لمس يدها الوضوء ؟
لكن العقّاد يعود ، في كتابه الى المؤتمر الاسلامي ، فيقول في العبادات ومراسمها : "لا مناص في النهاية من أسباب توقيفية يكون التسليم بها أقرب الى العقل من المجادلة فيها . لهذا يقل الخلاف بين أصحاب الأديان في شعائر العبادة ، حيث يكثر في كل كبيرة وصغيرة من شؤون العقائد الفكرية أو عقائد الضمير" . وهكذا فلم يتحرر الاسلام نفسه من المراسم والشعائر في العبادات ، ولم يتحرّر من كل سلطة في الدين : "يا أيها الذين آمنوا ، أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (النساء 59) وسلطة بالنص والوصية أفضل من إمامة في العلم والدين بلا نص ولا وصية تكون أقرب الى الحرية الفوضوية ، منها الى النظام الحر المنتظم .
فليس الجمع والتوحيد في شؤون الدنيا والآخرة ، وفي مشاكل الجسد والروح ، وفي مسائل الدين والدولة ، وتحرير الدين من كل سلطة مع بقاء دولة الاسلام بسلطة ، من الشمول ، برهان الكمال . إنما الدين سبيل الى الله ، لا الى الدنيا أو الجسد أو الدولة . وفي السبيل الى الله من الأفضل والأكمل تمييز الدين عن الدولة وتمييز الروح عن الجسد ، وتمييز الآخرة عن الدنيا – التمييز ، لا التفرقة . وذلك لئلا يتيه الدين في متاهات الجسد والدولة والدنيا ؛ وتصير الدنيا والدولة والجسد قيودا وحدودا للدين والروح والآخرة . فلنُطلق الدين والروح من تلك العُقالات ، التي ليست في مقياس الكمال ، وقسطاس الشمول ، من معجزات .
- عدد الزيارات: 14083