الإعجاز في شمول الدعوة القرآنية وكمالها - الدعوة القرآنية قومية أم عالمية ؟
بحث رابع
الدعوة القرآنية قومية أم عالمية ؟
يستفتح القرآن بتسمية الله تعالى "الرحمان الرحيم ، رب العالمين" (الفاتحة) ؛ ويقول عن نفسه : "إن هو إلاّ ذكر للعالمين" (104:12 ؛ 87:38 ؛ 27:81 ؛ 52:68) ؛ ويقول في نبيّه : "قلْ ، يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا" (الاعراف 158) ، "وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين" (الأنبياء 107) ، "وما أرسلناك إلاّ كافةً للناس" (سبأ 28) ، "قلْ ، يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين" (الحج 49) ، "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم على فترة من الرسل أن تقولوا : ما جاءَنا من بشير ولا نذير ! – فقد جاءَكم بشير ونذير ، والله على كل شئ قدير" (المائدة 19) . ألا تكون هذه التصاريح دلائل على عالمية الدعوة القرآنية ؟ إنما هي أساليب بيانية قامت عليها شبهة العالمية في الدعوة القرآنية . إنما الدعوة القرآنية دعوة قومية ، بنص القرآن القاطع في تصاريحه الصريحة ، ومبادئه المتواترة .
أولا : تصاريح القرآن في قومية دعوته – سبع مجموعات
ثلاثة تصاريح تحصر رسالة محمد في "أم القرى" وما حولها
يصرّح في سورة الأنعام : "وهذا كتاب أنزلناه مبارك ، مصدّق الذي بين يديه ، ولتنذير أمّ القرى ومن حولها" (92) . فالدعوة القرآنية مكية حجازية . ويصرح في صورة الشورى : "وكذلك أوحينا اليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها" (7) . فالدعوة القرآنية مكية
حجازية . ويصرّح في سورة القصص : "وما كان ربك مهلك القرى ، حتى يبعث في أمّها رسولا" (59) . فمحمد هو أولا رسول مكة ، ثم رسول قراها ؛ فدعوته مكية حجازية والتصريح المتواتر بحصر الدعوة "بأم القرى وما حولها" (الانعام 92) يفسّر ما تشابه في قوله "وأُوحي اليَّ هذا القرآن لأنذركم به ، ومَن بلغ" (الانعام 19) . فالآية (92) من السورة نفسها تفسر ما تشابه في الآية (19) من السورة ذاتها .
- خمسة تصاريح تجعل القرآن ذكرًا قوميًّا
في الزخرف : "وإنه لذكر لك ولقومك" (44) . فالقرآن دعوة قومية . وفي المؤمنين : "بل أتيناهم بذكرهم ، فهم عن ذكرهم معرضون" (71) . فالقرآن ذكر يخص العرب من دون سواهم ، فهو دعوة قومية . وفي الأنبياء : "لقد أنزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم ، أفلا تعقلون" (10) . فالقرآن ذكر الى العرب ، نزل اليهم وحدهم ، فهو دعوة قومية . وفي الأنبياء أيضا : "هذا ذكر مَن معي ، وذكر من قبلي" (24) . فالقرآن ذكر مَن مع محمد من العرب ، يخصهم ولا يخص سواهم ، فهو دعوة قومية . وفي الطلاق : "قد أنزل الله اليكم ذكرًا ، رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبيَّنات" (10 و11) . فالقرآن قومي ، والرسول قومي . فهذا التصريح الصريح المتواتر برهان على عقيدة قائمة في قومية الدعوة القرآنية ، وتزيل بتخصيصها ما تشابه في قوله : "إن هو إلاّ ذكر للعالمين" .
- سبعة تصاريح تجعل القرآن عربيّا للعرب
في يوسف : "تلك آيات الكتاب المبين : إنّا أنزلناه قرآنًا عربيًّا لعلكم تعقلون" (1 – 2) . فالكتاب المبين نزل قرآنا عربيا لكي يعقله العرب ؛ فهو دعوة قومية . وفي الرعد : "والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أُنزل إليك ؛ ومن الأحزاب من ينكر بعضه ... وكذلك أنزلناه حُكْما عربيًّا ، ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ، ما لك من الله من وليّ ولا واق" (36 – 37) . إنه يعدّد المخاطبين بالقرآن ، أهل الكتاب العرب ، وأحزاب القبائل العربية ، والمشركين العرب الذين يحذره من "أهوائهم" . فلهؤلاء جميعا من مؤمنين ومترددين وكافرين "أنزلناه حكما عربيًّا" أي حكمة عربية للعرب . وفي طه : "وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا ، وصرفنا فيه من الوعيد لعلّهم يتقون ، أو يحدث لهم ذكرًا" (113) . نزل قرآنا عربيا ليحدث للعرب ذكرا ولعلهم يتقون . وفي الزمر : "ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلّهم يتذكرون ، قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلّهم يتقون" (27 – 28) . إن صفته ، "قرآنا عربيّا" تحدّد معنى "الناس" النازل اليهم ، لعلهم يتذكرون ، ولعلهم يتقون : عربية القرآن تدل على عربية قومه . وفي فُصّلت : "حم . تنزيل من الرحمان الرحيم : كتاب – فُصّلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون" (1 –3) . إن تنزل الله في الكتاب قد فُصلت آياته قرآنا عربيا حتى يعلمها العرب . فهو دعوة عربية قومية . وفي الشورى : "وكذلك أوحينا اليك قرآنا عربيا ، لتنذر أم القرى ومن حولها" (7) . هذا نص قاطع على أن عربية القرآن تدل على عربية قومه المخاطَبين به ، فقد نزل عربيّا لأم القرى ، مكة ، ومَن حولها من الأعراب . وفي الزخرف : "حم . والكتاب المبين : إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" (1 – 3) . يقسم بالكتاب المبين إنه جعل الكتاب المبين قرآنا عربيا لكي يعقله العرب . فهو دعوة قومية عربية .
وهكذا فإن عربية القرآن برهان على رسالته العربية وقوميته العربية ؛ كما يدل عليها أيضا تواتر تعابير الفهم والعلم والعقل من عربيته ؛ وكما يدل عليها تصريحه المتواتر بأن القرآن عربي لأم القرى ، مكة ، ومَن حولها من الأعراب ؛ وكما يدل عليها قوله : "ولو جعلناه قرآنا أعجميا ، لقالوا : لولا (هلاً) فُصّلت آياته ؟ أأعجمي وعربي ؟" (فصلت 44) أي "أقرآن أعجمي ونبي عربي" (الجلالان) . فعروبة النبي تقتضي عروبة القرآن وعروبة رساته . فالنبي عربي والقرآن عربي : فالدعوة قومية عربية . وذلك بنص القرآن القاطع الذي لا مراء فيه .
- لسان النبي والقرآن برهان على قوميتهما
يصرّح : "وانه لتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ... ولو نزّلناه عل بعض الأعجمين ، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين" (الشعراء 192 – 199) . نزل القرآن بلسان عربي مبين لكي يفهموه ويؤمنوا به ؛ فلو نزل على أعجمي بلسان أعجمي ما كانوا به مؤمنين ، لأنهم لا يفهمونه . فتعريب التنزيل بلسان عربي مبين كان ليفهم العرب ويؤمنوا به . فالدعوة القرآنية ترجمة عربية لكتاب الله لكي يفهموه ويؤمنوا به . فلسانه العربي دليل على رسالته العربية القومية .
وبعروبة القرآن يردّ على من اتهمه بتعلّمه من أعجمي : "ولقد نعلم أنهم يقولون : إنما يعلمه بشر ! – لسان الذي يُلحدون اليه أعجمي ، وهذا لسان عربي مبين" (النحل 103) . فليس القرآن من أعجمي ، لأنه بلسان عربي مبين .
نبي عربي ، وقرآن عربي ، لتعريب الكتاب الإمام للعرب : "ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمة ؛ وهذا كتاب مصدّق لسانا عربيا : لينذر الذين ظلموا ، وبشرى للمحسنين" من العرب (الأحقاف 12) فلسان النبي ، ولسان القرآن ، برهان مزدوج على قوميتهما .
- رسالة الرسول بين قوم تدل على قومية رسالته
المبدأ العام : "الله أعلم حيث يجعل رسالته" (الانعام 124) . لذلك "لكل أمة رسول" (يونس 47) ؛ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا" (النحل 36) ؛ "وما كنّا معذَبين (المشركين العرب) حتى نبعث رسولا" (الاسراء 15) ؛ "وجاهدوا في الله حقَّ جهاده : هو اجتباكم (اختاركم) ... ليكون الرسول شهيدًا عليكم ، وتكونوا شهداء على الناس" في ديار العرب (الحج 78) . فرسالة الرسول بين العرب تدل على أن رسالته قومية عربية .
تلك شهادة القرآن المتواترة بالتخصيص لرسالة محمد والقرآن بالعرب : "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم ، حريص عليكم" (128:9) ؛ كما طلب ابراهيم واسماعيل : "ربنا وابعث فيهم ، رسولا منهم ، يتلو عليهم آياتك" (129:2) ؛ وقد فعل الله : "كما أرسلنا فيكم ، رسولا منكم ، يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم" (151:2) – لاحظ تواتر التخصيص . بمحمد والقرآن مَنَّ الله على الرب : "لقد منَّ الله على المؤمنين (من العرب) إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، يتلو عليهم آياته ويزكّيهم" (164:3) . فمحمد رسول الى أم القرى : "وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا ، يتلو عليهم آياتنا" (القصص 59) ؛ "قد أنزل الله اليكم ذكرا ، رسولا يتلو عليكم آيات الله مبيّنات" (الطلاق 10 – 11) . ومحمد رسول الى العرب شاهد عليهم : "إنّا أرسلنا اليكم رسولا شاهدًا عليكم ؛ كما أرسلنا الى فرعون رسولا" (المزمّل 15) ؛ "وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس (العرب) ويكون الرسول عليكم شهيدا" (البقرة 143) . فتواتر التخصيص المتواصل في رسالة محمد برهان فاصل على أن دعوته قومية ورسالته عربية .
- إن رسالة محمد هي تعليم العرب الكتاب والحكمة
لقد طلب ابراهيم واسماعيل الى الله : ربنا وابعث فيهم (ذريتنا) رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويزكيهم" (البقرة 129) لذلك "فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة" (النساء 54) ؛ "وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ، وعلمك ما لم تكن تعلم ، وكان فضل الله عليك عظيما" (النساء 113) . وهذا كله كان ، حتى يعلّم محمد العرب الكتاب والحكمة : "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ، ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" (البقرة 151) . فالقرآن هو تعليم العرب الكتاب والحكمة . بهذا مَنَّ الله على العرب : "لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (آل عمران 164) .
إن محمدا من العرب أنفسهم لكي يعلم العرب الكتاب والحكمة : فليس أصرح ولا أوضح دلالة على قومية الرسالة (الجمعة 2) .
- فمحمد هو "النبي الأمي" للعرب الأميّين
صفة محمد أنه "النبي الأمي" (الأعراف 157) ، وهذا "النبي الأمي يؤمن بالله وكلمته" (الاعراف 158) ، فهو على صراط عيسى كلمة الله . وانه "النبي الأمي" لأنه من الأميّين العرب ، وللأميّين العرب : "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (الجمعة 2) . هذا التصريح يقطع كل مراء ومكابرة : إن محمدا نبي أمّي أي عربي ، للأميّين العرب : "هو الذي بعث في الأميّين رسولا منهم" .
ثانيا : سبعة مبادئ قرآنية تجعل القرآن دعوة قومية
المبدأ القرآني الأول : "لكل أمة رسول" ، ومحمد رسول الى العرب . المبدأ القرآني المتواتر ، المؤيد بالواقع النبوي المتواتر ، أن "لكل أمة رسول ، فإذا جاءَ رسولهم ، قُضي بينهم بالقسط ، وهم لا يُظلمون" (يونس 47) . هذا المبدأ واقع تاريخي أيضا : ولقد بعثنا
في كلّ أمة رسولا (النحل 36) . إنه مبدأ قائم متواتر الى آخر العهد : "ولكل قوم هاد" (الرعد 7) ؛ وواقع قائم متواتر : "وإنْ من أمّةٍ إلاّ خلا فيها نذير" (فاطر 24) . ويطبق المبدأ والواقع على محمد مع العرب : "إنما أنت منذر ، ولكل قوم هاد" (الرعد 7) فهو هادي قومه ، فهدايته قومية . ورسالته شهادة لقومه وعلى قومه : "ويوم نبعث في كل أمّة شهيدا عليهم من أنفسهم ، وجئنا بك شهيدا على هؤلاء" (النحل 89) . فدعوته قومية : "تنزيل العزيز الرحيم ، لتنذر قوما ما أُنذِر آباؤهم فهم غافلون" (يس 5 – 6) .
هذه النظرية القرآنية الأولى المتواترة أن"لكل قوم هاد" ومحمد شهيد على قومه ، تجزم بأن الدعوة القرآنية قومية .
- المبدأ القرآني الثاني : قومية الرسول تحدّد قومية رسالته . يعمل بوحي هذا المبدأ بمكة : "ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم ، وجئنا بك شهيدا على هؤلاء" (النحل 89) . فمحمد رسول من العرب ، فهو رسول الى العرب . وهذه النظرية تدوم في المدينة : "لقد منَّ الله على المؤمنين ، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة" (آل عمران 164) . فمحمد رسول من العرب أنفسهم ليعلّم العرب كتاب الله . وهذه القومية في الرسول والرسالة تدوم الى يوم الدين : "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ؟ يومئذ يودَ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض" (النساء 41 – 42) .
هذه النظرية القرآنية الثانية تجزم أيضا بتلازم قومية الرسول وقومية الرسالة . فمحمد رسول عربي : فرسالته قومية عربية في اليوم الحاضر ، وفي اليوم الآخر .
- المبدأ القرآني الثالث : لغة الرسول تحدّد قومية رسالته . إن المبدأ عام وصريح : "وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبيّن لهم" (ابراهيم 4) . فلسان الرسول دليل على قومية رسالته . وجاء القرآن "بلسان عربي مبين" (الشعراء 195) لأنه نزل "بلسان قومه ليبيّن لهم" . والقرآن يركّز جدله معهم على عروبته وعروبة رسوله لكي يؤمنوا به : "وانه لتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين . ولو نزّلناه على بعض الأعجمين ؛ فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين" (الشعراء 192 – 199) . فقد نزل قرآنا عربيا لكي يفهموه ويعقلوه ، ولا يحتجوا عليه بلسانه : "ولو جعلناه قرآنا
أعجميا (كالتوراة والانجيل) لقالوا : لولا فُصّلت آياته ؟ أأعجمي ، وعربي ؟" (فصّلت 44) أي "أقرآن أعجمي ، ونبي عربي" (الجلالان) . فعروبة النبي تقتضي عروبة القرآن ، وعروبة النبي والقرآن تقتضي عروبة رسالته وقوميتها . فهم إنما غفلوا عن دراسة التوراة والانجيل لأنهما بغير لسانهم ، فهذا كتاب لهم بلسانهم : "وهذا كتاب أنزلناه مبارك ، فاتّبعوه واتّقوا لعلكم ترحمون أنْ تقولوا : إنما أُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، وإنْ كنا عن دراستهم لغافلين" (الانعام 155) لأنهما ليسا بلسان العرب . فهذا كتاب بلسان العرب ، يتلو عليهم آياته "رسول من أنفسهم" وهذه مِنّة الله على العرب : "لقد منَّ الله على المؤمنين (العرب) إذ بعث فيهم رسولا منأنفسهم ، يتلو عليهم آياته ، ويزكّيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإنْ كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (آل عمران 164) .
فلسان الرسول يحدّد قومية رسالته ؛ وعروبة لسان محمد تحصر رسالته في بني قومه العرب . هذا هو مبدأ القرآن وبرهنته في هذه النظرية الثالثة .
- المبدأ القرآني الرابع : لغة القرآن تحدّد رسالته القومية العربية . في اثني عشر وضعا يصرّح بأن القرآن نزل "عربيًّا" لكي يفهمه العرب . منها : "حم . والكتاب المبين ، إنّا جعلناه قرآنا عربيّا لعلكم تعقلون" (الزخرف 1 – 3) . فقد نزل قرآنا عربيا لأم القرى ومن حولها . "وكذلك أوحينا اليك قرآنا عربيّا لتنذر أم القرى (مكة) ومّن حولها" (الشورى 7) . وما نزل القرآن عربيا إلاّ لأنه ذكر لمحمد وقومه : "وانه لذكر لك ولقومك ، وسوف تُسألون" (الزخرف 44) . فمحمد هو "النبي الأمي" أي العربي ، لأن رسالته مختصة بالعرب ، محصورة فيهم : "هو الذي بعث في الأميّين (العرب) رسولا منهم" (الجمعة 2) .
فهذه النظرية القرآنية الرابعة تجزم بأن لغة القرآن تحصر رسالته في العرب ، وتقتصرها عليهم .
- المبدأ القرآني الخامس : القرآن دعوة الى "ملة ابراهيم" باسماعيل ، جدّ العرب المستعربة . يفتتح القرآن المدني دعوته بصلاة ابراهيم ، "إذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت ، واسماعيل : ربنا تقبّل منا ، إنك أنت السميع العليم ، ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ... ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويزكيهم ، إنك أنت العزيز الحكيم – ومّن يرغب عن ملة ابراهيم إلاّ مَنسَفِه نفسه" (البقرة 127 – 130) ، والدعوة القرآنية الى ملة ابراهيم ، جد العرب باسماعيل ، متواترة في القرآن . فهو يجعل اسلام القرآن ، على ملة ابراهيم باسماعيل ، اسماعيليّا عربيّا ، للاسماعيليين العرب . فاسلام القرآن هو لذرية اسماعيل ، على ملة ابراهيم .
- المبدأ القرآني السادس : القرآن دعوة الى الحنيفية ، دين ابراهيم ، جد العرب باسماعيل يصرح : "إن ابراهيم كان أمة قانتًا لله ، حنيفا ، ولم يكُ من المشركين ... ثم أوحينا اليك أن اتّبع ملة ابراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين" (النحل 120 – 123) . ويؤكد : "أقم وجهك للدين حنيفا" (يونس 105 ؛ الروم 30) . ويدعو الى حنيفية ابراهيم : "وقالوا ؛ كونوا هودا – أو نصارى – تهتدوا ؛ بل ملة ابراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين" (البقرة 135) ، "قل : صدق الله ، فاتبعوا ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين" (آل عمران 95) ؛ "ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ، وهو محسن ، واتّبع ملة ابراهيم حنيفا ، واتّخذ الله ابراهيم خليلا" (النساء 125) . فالحنيفية الابراهيمية هي في اتباع ملة ابراهيم ، على طريقة المحسنين من آله . هذا هو الدين القيِّم : "قلْ إنني هداني ربي الى صراط مستقيم ، دينا قيّمًا ، ملة ابراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين" (الانعام 161) . وحنيفية ابراهيم هي الاسلام ؛ "ما كان ابراهيم يهوديا ، ولا نصرانيا (بمعنى مسيحي) ، ولكن كان حنيفا مسلما – وما كان من المشركين" (آل عمران 67) . وهذا الاسلام الحنيف يدعو اليه القرآن مع أولي العلم المقسطين ، أي النصارى من بني اسرائيل ، الذين يشهدن مع الله وملائكته : "إن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) . فجماعة محمد من العرب هم مسلمون لأنهم على ملة أبيهم ابراهيم ، وهو الذي سماهم المسلمين في الكتاب والقرآن : "وجاهدوا في الله حقّ جهاده : هو اجتباكم (اختاركم) ... ملة أبيكم ابراهيم ، هو سمّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا ، ليكون الرسول شهيدا عليكم ، وتكونوا شهداء على الناس" من العرب (الحج 78) . فالاسلام الذي يدعو اليه القرآن هو الحنيفية المسلمة ، ملة أبيهم ابراهيم . فالدعوة القرآنية قومية للعرب ، على ملة أبيهم ابراهيم . فالدعوة والداعي والمدعوّون ، قوم ابراهيم باسماعيل ، جد العرب .
- المبدأ القرآني السابع : شعائر الاسلام القرآني تجعله دينا قوميا عربيا اسماعيليا . كعبته هي كعبة ابراهيم واسماعيل : "واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت ، واسماعيل" (البقرة 127) . قبلته هي قبلة ابراهيم واسماعيل ، "ولكل أمة جعلنا منسكا ، ليذكروا اسم الله" (الحج 34) ؛ "ومن حيث خرجتَ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره ، لئلاّ يكون للناس عليكم حجة" (البقرة 150) . فالقبلة تميّزهم عن سواهممن الناس ، فلا يحتجون عليهم بها . وهذه القبلة هي شعار "الأمة الوسط" ، لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلاّ ليعلم من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه" (البقرة 143) . فتحويل القبلة الى كعبة مكة تميّز العرب المسلمين من سواهم .
وحجه هو حج ابراهيم واسماعيل : "واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ... وعهدنا الى ابراهيم واسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرُكّع السجود" (البقرة 125) .
والبلد الحرام هو بلد ابراهيم واسماعيل ، وذريته المسلمة : "واذ قال ابراهيم : رب اجعل هذا بلدا آمنا ، وارزق أهله من الثمرات ، مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر" (البقرة 126) .
فشعائر الاسلام في القرآن تجعله دينا قوميا عربيا ابراهيميا اساعيليا . والقول الفصل : "انه ذكر لك ولقومك" في كل مبادئه وتصاريحه ؛ وأن محمدا هو "النبي الأمّي" ، اي العربي ، لأن الله "هو الذي بعث في الأميين (العرب) رسولا منهم" . فمحمد رسول الى "الأميين" العرب : فرسالته قومية عربية . وهكذا فإن مبادئ القرآن كلها ، وتصاريح القرآن كلها ، تشهد بلا مراء ولا ريب ، أن الدعوة القرآنية قومية عربية ، لا عالمية في نصّها ؛ إنما أمست عالمية بالفتوحات الاسلامية .
ثالثا : آيات متشابهات في عمومية الدعوة وعالميتها
من تلك المبادئ الجازمة ، وتلك التصاريح الحازمة ، وكلها قاطعة جامعة مانعة ، نأتي الى بعض آيات متشابهات يُظن فيها تنويها بعمومية الدعوة القرآنية وعالميتها ، يفسّرها التفسير الصحيح اسلوب القرآن في البيان والتبيين .
- منها قوله المتواتر : "إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين" (104:12 ؛ 87:38 ؛ 27:81 ؛ 52:68) . فتعبير "العالمين" في هذه المواطن عام يُقصد به الخاص ، وهو اسلوب متواتر في القرآن ، كما تدل عليه القرائن القريبة والبعيدة . هكذا قوله في سورة يوسف : "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين . وما تسألهم عليه من أجر ، إنْ هو الاّ ذكر للعالمين . وكأين من
آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون . وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون" (103 – 106) – فالقرائن اللفظية والمعنوية ، من قبلُ ومن بعدُ ، إن تعبير "العالمين" عام مراد به الخصوص في الحجاز والجزيرة . وهكذا قوله : "إن هو إلاّ ذكر للعالمين ، لمَنْ شاء منكم أن يستقيم . وما تشاؤون ، إلاّ أن يشاء الله رب العالمين" (التكوين 27 – 29) – فتعبير "ذكر للعالمين" مقيد للحال بما يليه : "لمن شاء منكم" فالعالمون هم المخاطبون من العرب ؛ أما تعبير "رب العالمين" فهو مطلق لا يقيده شئ ، فهو عام .
- منها قوله : "وأنزلنا اليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزِّل اليهم ولعلهم يتفكّرون" (النحل 44) ؛ وقوله : "قلْ يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا ... فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي" (الاعراف 158) . هذه الصفة "جميعا" لا تدل على أن المقصود "بالناس" جميع البشر ، بل هو اسلوب بياني مضطرد في القرآن ، حيث العام فيه يراد به الخصوص ، ومن العام ما هو مخصوص . وللسيوطي في (الاتقان 16:2 – 18) فصل قيم على النوعين ، قال : "ومن أمثلة العام المراد به الخصوص قوله تعالى (الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) والقائل واحد ، نعيم بن مسعود الأشجعي ، أو أعرابي من خزاعة ... وممّا يقوّي أن المراد به واحد قوله : (انما ذلكم الشيطان) فوقعت الإشارة بقوله (ذلكم) الى واحد بعينه ، ولو كان المراد به جمعا لقال : (انما أولئكم) الشيطان ، فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ . ومنه قوله : (أم يحسدون الناس) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومنها قوله : (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) . أما العام المخصوص فأمثلته في القرآن كثيرة جدا ، هي أكثر من المنسوخ ، إذ ما من عام إلاّ وقد خُصّ . ثم المخصّص له إمّا متّصل ، وإمّا منفصل ، والمنفصل آية أخرى في محل آخر" .
هكذا في حديث "النبي الأمي" حيث يقول : "يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا ... فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمّي" (الأعراف 158) فالمخصص له المنفصل هو قوله : "هو الذي بعث في الأميّين رسولا منهم" (الجمعة 2) . فليس محمد رسولا للبشرية جمعاء ، بل للأميّين العرب .
3) ومنها قوله : "وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيرا ونذيرا" (سبأ 28) . فقد يظن أن معناه "للناس كافة" ، فيظن أن رسالة محمد عالمية . لكنّ الصفة في العربية لا ترد قبل
الموصوف . جاء أيضا في (الاتقان 84:2) : "نقلت من خط شيخ الاسلام ابن حجر ، ان من التورية في القرآن قوله (وما أرسلناك إلاّ كافة للناس) فان "كافة" بمعنى مانع أي تكفهم عن الكفر والمعصية ، والتاء للمبالغة ، وهذا معنى بعيد ، والمعنى القريب المتبادر أن المراد (جامعة) بمعنى (جميعا) ، لكن منع من حمله على ذلك أن التأكيد يتراخى عن المؤكّد ؛ فكما لا تقول (رأيت جميعا الناس) لا تقول (رأيت كافة الناس) " . ويدعم هذا التفسير قوله في الحديث : "أيها الناس إن الله قد بعثني رحمة وكافة" أي كافّا عن الشرك ، والتاء المربوطة للمبالغة .
والقرائن القريبة والبعيدة للآية "كافة للناس" (سبأ 28) ترفع كل شبهة . فهو قبلها يعلن أن رسالة محمد محصورة "بأم القرى ومن حولها" (الانعام 92) ، ويؤكد ذلك بعدها ، فيحصرها "بأم القرى ومَن حولها" (الشورى 7) .
- ومنها قوله في سورة الأنبياء : "وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين" (107) – فلا يدل على عالمية الدعوة ، لأنه في السورة عينها يصرّح مرتين بأنها خاصة للعرب : "لقد أنزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم ، أفلا تعقلون" (الانبياء 10) ؛ "هذا ذكر مَن معي وذكر مَن قبلي" (الأنبياء 24) ، ومن كان معه في مكة سوى نفر من أهلها ؟
- ومنها قوله : "تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا" (الفرقان 1) . هو عام يُراد به الخاص ، بحسب اسلوب القرآن البياني . ولا تأتي كلمة "العالمين" على اطلاقها الى مضافة الى الله ، رب العالمين .
جاء في تفسير الطبري : "قال أبو جعفر : العالمون جمع عالم ، والعالم جمع لا واحد له من لفظه . والعالم اسم لأصناف الأمم ، وكل صنف منها عالم . وأهل كل قرن من كل صنف منها عالم ذلك القرن وذلك الزمان . فالإنس عالم ، وكل أهل زمان منهم عالم ذلك الزمان . وكذلك سائر أجناس الخلق ، كل جنس منه عالم زمانه . وهذا القول هو معنى قول عامّة المفسرين" ، ثم يعطي على ذلك مثلا في وصف اليهود : "وإني فضلتكم على العالمين" (البقرة 47) ويقول : "أخرج جلّ ذكره قوله مخرج العموم ، وهو يريد به خصوصا ، لأن المعنى : إني فضلتكم على عالم من كنتم بين ظهريه وفي زمانه أي فضلهم على عالم ذلك الزمان" .
هكذا فإن اقتران النبي أو القرآن بلفظ "العالمين" يقصد به المخاطبين من العرب والنتيجة الحاسمة في مثل تلك الآيات المتشابهات التي يدل ظاهرها على عمومية الدعوة القرآنية ، أنها تخضع في مدلولها لأساليب البيان العربي والقرآني . منها أسلوب اخراج الخاص مخرج العام ، كما مرّ بنا . ومنها الاخبار عن الواحد بمذهب الجمع ، كما في تفسير الطبري أيضا : "فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب (آل عمران 39) ، إذ قالت الملائكة يا مريم (آل عمران 45) – قيل جبريل . فإن قال قائل : كيف جاز أن يقال على هذا التأويل (الملائكة) وهي جمع لا واحد – قيل : ذلك جائز في كلام العرب بأن تُخبر عن الواحد بمذهب الجمع . كما يقال في الكلام : (خرج فلان على بغال البرد) وانما ركب بغلا واحدا ؛ (وركب السفن) ، وانما ركب سفينة واحدة ؛ وكما يقال (ممن سمعت هذا الخبر) ؟ فيقال : (من الناس) وإنما سمعه من رجل واحد . وقد قيل ان منه قوله : (الذين قال لهم الناس ؛ ان الناس قد جمعوا لكم – آل عمران 173) والقائل كان فيما ذُكر واحدا . وقوله : (اذا مسَّ الناس ضرٌّ – الروم 33) والناس بمعنى واحد منهم . وذلك جائز عندهم" .
نلاحظ في لهجة الطبري نزعته الآرية تجاه السامية ، والايرانية تجاه العربية ، في بيان الفارق في التعبير والتفكير ، بين البيان العربي والبيان الآري . وقد أوجز ذلك منذ القديم ابن قتيبة في كتابه (مشكل القرآن) . قال : "وللعرب المجازات في الكلام . ففيها ... مخاطبة الواحد مخاطبة الجميع ؛ والجميع خطاب الواحد ؛ والواحد والجميع خطاب الاثنين . والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم ، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص" . وهذا ما جاء به القرآن في آياته المتشابهات التي توهم عمومية الدعوة القرآنية . فالتشابه في الآيات التي قد يظهر منها عمومية الدعوة القرآنية ، انما يرجع الى اساليب البيان العربي والقرآني . انها آيات متشابهات في عمومية الدعوة وعالميتها ، وهي دعوة قومية عربية ، كما تبرهن تصاريح القرآن ومبادئه المتواترة .
رابعا : من دلائل التاريخ الخاص والعام
1– قيل : إن مكاتبة الملوك والامراء قيصر وكسرى والمقوقس وولاتهم ، خير دليل على أن الدعوة الاسلامية كانت عامة عالمية لكل الناس . لكن يطعن في صحة تلك المكاتبات أنها مذكورة بالاجماع قبل فتح مكة . لم يكن النبي قد فتح الحجاز ، فكيف به يكاتب قيصر وكسرى ليدينوا بالاسلام ، كقوله الى هرقل عظيم الروم : "أما بعد فإني أدعوك بدعاية الاسلام ، أَسلمْ تسلمْ" ، كما أخرجه صحيح البخاري وصحيح مسلم عن ابن عباس . إن منطق الأحداث يدفع هذه الغلواء عن النبي الحصين . وليس في القرآن كله ، قبل فتح مكة ، ما يشير الى مثل تلك الرغبة في فتح العالم للإسلام .
2– قيل : إن في غزوة مؤتة ، وغزوة تبوك ، الى مشارف الشام ، دليلا على أمل فتح دولة الروم للاسلام . لكن ظروف الغزوتين التاريخية تدل على أن محمدا كان يبغي نصارى العرب عند مشارف الشام والعراق ، لا الروم ولا دولتهم ؛ لا الفرس ولا دولتهم . ولا شك أن العصبية العربية ستحملهم على قبول دعوته الدينية والقومية ، في سبيل الاستقلال الديني والقومي عن الشرق وثنائيته في مجوسيته ، وعن الغرب وتثليثه في مسيحيته ، كما يقول في فتح شمال الحجاز : "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله" (الفتح 28) . ولم تكن فكرة المغانم ببعيدة عن أهدافه ، كما يقول أيضا : "وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجّل لكم هذه" (الفتح 20) . وكان محمد يعلم أن أمراء الحيرة وبصرى كانوا حينئذ على خلاف مع أسيادهم . فأرسل الى ذات الطلْح خمسة عشر من رجاله يدعون للإسلام . فقتلوهم جميعا ، لم ينج منهم إلاّ رئيسهم ، رجع فأخبر النبي . فعرضت الفرصة النادرة لتسيير أول غزوة الى بلاد الروم . فجهَّز ثلاثة آلاف لتأديب الغادرين بدعاته . وكثر الزعماء بين المحاربين ، فسُمّي الجيش جيش الأمراء ، والسرية سرية الأمراء .
سار القوم حتى بلغوا معان ، من أرض البلقاء . فتصدّى لهم من بصرى شرحبيل بن عمرو الغسّاني ، عامل هرقل ، في جموع غفيرة من نصارى العرب ، عند مآب من البلقاء ، والتقى الجمعان في قرية "مشارف" . فشعر المسلمون أن لا قِبَلَ لهم بقتال هذا الجيش العرم ، فانحازوا الى مؤته ، قرب معان ، يتحصنون بها من ملاقاة العدو . لكن جيش العرب
النصارى أحاط بهم ، فكان لا بدّ من القتال . فدارت رحى الحرب على المسلمين ، وقتل الأمراء الثلاثة زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة . فاستلم القيادة المسلم الجديد خالد بن الوليد ، وأظهر مقدرة فائقة في تدبير انسحاب جيشه من المعركة . واقتنعوا من الهزيمة والغنيمة بالإياب .
هذا هو التاريخ الحق . لكن ، لكي يُظهر نية الفتح الاسلامي في الغزوة ، قالوا : "فلمّا وصل المسلمون الى معان ، عرفوا أن في انتظارهم ماية ألف من الروم ، وماية ألف أخرى من نصارى العرب" وكان الجيش بقيادة هرقل نفسه . والمؤرخ الرومي ثوفانس يذكر أن جيش الشام كان من العرب النصارى وحدهم ، المقيمين على الثغور لحمايتها من الأعراب ؛ وهو لا يمكن أن يبلغ ماية ألف . وهرقل الذي غزا الفرس وكسرهم لم يكن معه ماية ألف ، حتى يجمع للأعراب ماية ألف من الروم غير ماية ألف من العرب ! فتلك المبالغات والمغالطات تحريف للتاريخ . والقضية كلها تنحصر بين عرب الحجاز وعرب بني غسان النصارى ، لغاية قومية دينية ، لا تخلو من روح الغزو والغنيمة . وبما أن غزوة مؤتة وقعت في ايلول سنة 629 م . قبل فتح مكة في كانون الثاني سنة 630م . فليس في منطق الأحداث ما يدل على نقل الاسلام الى الروم .
وبعد فتح مكة ، حاول محمد فتح الطائف . فامتنعت ثقيف في حصونها . واضطرّ محمد أن يرفع الحصار وأن يرحل عنها خائبا . وإنها لخُطّة ثابتة في سيرة النبي من أنه إذا فشل في جهة استعاض بحملة الى جهة أخرى . وبعد أن استتب له الأمر في الحجاز كله ، واطمأن بتصفية اليهود ، وجّه أنظاره في آخر أيامه الى العرب المسيحيين في الشام واليمن . وبدأ بالشمال لأن دويلاتهم كانت أضعف من اليمن ، وأضعف من أن تقاومه ، وقد استطاع أن يجمع لغزوهم جيشا عظيما بلغ ثلاثين ألفا قاده بنفسه . وسبب الحملة الثأر من فشل غزوة مؤتة ، وتأمين طريق القوافل ، فإن قبائل العرب المسيحيين على حدود الشام تجرّأت أكثر من ذي قبل على القوافل بعد ما كان من فشل غزوة مؤتة . وفي (أسباب النزول) : "أخرج الطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اغزوا تغنموا بنات الأصغر ! فقال ناس من المنافقين : إنه ليفتنكم بالنساء ، فنزلت" .
"ووصل النبي صلى الله عليه وسلم تبوك بعد عشرين يوما وعسكر فيها ولم يتعدَّها" . "ولكن الروم لم يتعرّضوا للرسول . فعقد الرسول معاهدات مع البلدات المتاخمة للحجاز كأيلة (العقبة) وأذرح وجرباء ومَقْنا ، وفرض على كل بلدة جزية معينة" .
إن عدم تعرض جيش الروم ، القافل من سحق جيش كسرى ، للعرب ؛ واكتفاء النبي بتلك المعاهدات مع الإمارات العربية ، دليل على أن الروم لم يفكّروا بغزو الحجاز واكتفوا بعملائهم من العرب المسيحيين على حماية الثغور من الأعراب ؛ ودليل أيضا على أن محمدا لم يكن يفكّر بغزو الروم ، بل كان يفرح بنصرهم على الفرس الوثنيين (سورة الروم2 – 3) . إنما حصر همه كله في جمْع كلمة العرب في وحدة دينية وقومية .
3 – قيل أخيرا : إن فتح المسلمين لدولة الأكاسرة ودولة القياصرة برهان على أن الإسلام منذ تأسيسه دعوة عالمية .
إن الفتوحات العربية في صدر الإسلام لم تكن جديدة على عرب الجزيرة . فمنذ خمسة آلاف سنة ، تقوم على رأس كل ألف هجرة كبرى من الجزيرة الى الهلال الخصيب وتؤسس فيه أممًا ودولا . وفي الألف الأخير قبل الاسلام هاجرت قبائل عديدة الى أطراف الهلال الخصيب فكانت لهم ديار ربيعة ، وديار بكر ؛ وأسست بعض القبائل دويلات مستقلة في تدمر (الزّباء) والبلقاء (دولة الأنباط) والحيرة (دولة المناذرة) وبصرى (دولة بني غسان) . ولكن الهجرة العربية الكبرى الى الهلال الخصيب في العراق والشام كانت حملة الخلفاء الراشدين . فهي في منطق سابقاتها . ولم تكن لحمل الاسلام الى غير العرب . إنما كانت كمخرج لحروب الردّة ، خشية انقسام العرب بعد وحدتهم الاسلامية . وكان الاغراء بالفتوحات لصرفهم عن الاقتتال الأهلي الى الغزو والفتح . ولا يُستبعد بعد الفتوحات العظيمة ، أن تطورت الفكرة الى الفتح الديني بالدعوة العسكرية والسلمية الى الاسلام . فكانت الدعوة الدينية نتيجة الفتوحات ، لا سببها ، ولو جدّد الاسلام فيهم روح العزّة العربية .
- عدد الزيارات: 14085