Skip to main content

القرآن ما بين التنزيل والتفصيل - التنزيل القرآن ومصادره

الصفحة 2 من 3: التنزيل القرآن ومصادره

أولا : التنزيل القرآن ومصادره

نستبين معنى التنزيل القرآني من لغته وتصاريحه .

1– التصريح المتواتر بأنه "تنزيل رب العالمين" (192:26) ، "تنزيل الكتاب" (2:32؛ 1:39؛ 2:40؛ 2:45؛ 2:46) ، "تنزيل العزيز الرحيم" (5:36) ، "تنزيل من الرحمان الرحيم" (2:41) ، "تنزيل من حكيم حميد" (42:41) ، تنزيل من رب العالمين" (80:56؛ 43:69) ، "تنزيلا ممن خلق الأرض" (4:20) – لا يبَيّن كيفية التنزيل ولا واسطته ولا مصدره . فقد يكون بالواسطة ، ومن مصدر كوسط له . فلا يُبنَ على مثل هذه التصاريح الكثيرة حكم .

2– كذلك التصريح المتواتر : "نزّل عليك الكتاب" (3:3) ، "نزّل الفرقان على عبده" (1:25) ، "ممّا نزّلنا على عبدنا" (23:2) ، "ونزّلنا عليك الكتاب" (89:16) ، "نزّلنا عليك القرآن" (23:76) ، "وننزّل من القرآن ما هو شفاء" (82:17) ، "هو الذي

أنزل عليك الكتاب" (7:3) ، "وأنزل الله عليك الكتاب" (113:4) ، "وهو الذي أنزل اليكم الكتاب مفصّلا" (114:6) ، "أنزل على عبده الكتاب" (1:18) ، "أنزلنا اليك الكتاب" (105:4؛ 48:5؛ 47:29؛ 2:39) ، "وأنزلنا اليك الذكر" (44:16) "وما أنزلنا عليك الكتاب .." (64:16) ، "ما أنزلنا عليك القرآن" ... (2:20) ، "أنزلنا عليك الكتاب" (51:29؛ 41:39) ، "شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن" (185:2) ، "كتاب أُنزل اليك" (207) ، "نزّلنا عليك القرآن تنزيلا" (23:76) ... لا يبيّن كيفية التنزيل ولا واسطته ولا مصدره .

3 – والظاهرة العامة على مثل تلك التصاريح أن القرآن العربي خبر عن نزول "القرآن" على محمد – لا هذا "القرآن" المعروف نفسه .

ونلاحظ في تلك التصاريح الترادف بين القرآن والكتاب والذكر والفرقان . وهذا الترادف عنوان انتساب القرآن الى الكتاب المنزل قبله : "هذا ذكر من معي وذكر من قبلي" .

4 – ليس تنزيل القرآن من السماء ، بدليل قوله : "... أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزّل علينا كتابا نقرأه – قل : سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولا" (الاسراء 93) . كان هذا التحدي من المشركين ، ومن اليهود أيضا : "يسألك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتابا من السماء (مثل ألواح التوراة) – فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ، فقالوا : أرنا الله جهرة ! فأخذتهم الصاعقة بظلمهم" (النساء 153) . فليس القرآن كتابا منزلا من السماء ؛ انما سرّ تنزيله في غير اتجاه .

5 – يقول ان مصدره في لوح محفوظ : "بل الذين كفروا في تكذيب ! – والله من ورائهم محيط ؛ بل هو قرآن مجيد ، في لوح محفوظ" (البروج 19 – 22) . يُخبر بأن ما يدعو اليه "هو قرآن مجيد محفوظ في لوح" : فالقرآن العربي خبر عن هذا القرآن المجيد المحفوظ في لوح . ولا شئ في الآيات يشير الى المكان حيث اللوح محفوظ .

ويقول : "فلا! أقسم بمواقع النجوم – وإنّه لقسم ، لو تعلمون ، عظيم – إنه لقرآن كريم ، في كتاب مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون : تنزيل من رب العالمين" (الواقعة 75 – 80) هنا يصير اللوح المحفوظ كتابا مكنونا . والقرآن العربي يخبر عن "قرآن كريم ، في كتاب

مكنون ... تنزيل من رب العالمين" : فالتنزيل من رب العالمين هو "قرآن كريم في كتاب مكنون" . فهل في الآيات من إشارة الى مكان الكتاب المكنون؟ رآها بعضهم في "مواقع النجوم" فخرقوا رواية تنزيل القرآن الى "مواقع النجوم" في السماء الدنيا . ولكن ليس من تطهير عند الملائكة حتى نرى فيهم "المطهّرين" ! إن التطهير من ضرورات الدين للبشر ؛ فقوله : "لا يمسّه إلاّ المطهّرون" فيه إشارة إلى أهل الأرض الذين عندهم كتاب الله محفوظا لا يمسه إلاّ المطهّرون منهم ، المطهرون من الشرك ومن النجاسات ومن الذنوب . وأهل الكتاب كانوا يحفظون كتاب الله في مكان مقدّس ، ولا يمسه منهم إلاّ المطهّرون . فالقرآن العربي يخبر ان مصدره "قرآن كريم ، في كتاب مكنون" ، محفوظ بعيدا عن غير المطهّرين من أهل الأرض .

ويقول : "كلاّ ! إنا تذكرة – فمن شاء ذكره – في صحف مكرّمة ، مرفوعة مطهّرة ، بأيدى سفرة ، كرام بَرَرة" (عبس 11 – 16) . هنا يصير اللوح المحفوظ ، والكتاب المكنون صحفا مكرمة . وهذه الصحف "مرفوعة مطهّرة" : وليس في السماء نَجَسٌ حتى يكون فيها "صحف مرفوعة مطهّرة" عن مسّ كل مَن به نَجَس . فالنجاسة التي تمنع من مسّ كتاب الله في صحفه هي من صفات أهل الأرض . وليس أهل السماء ، وهم في نور الله ، بحاجة الى صحف ، ولا إلى سَفرَة يكتبون : فكل هذا من ضرورات أهل الأرض . فالقرآن المجيد الذي يدعو اليه القرآن العربي ، هو كتاب مكنون على الأرض ، "في صحف مطهّرة ، بأيدي سفرة كرام بررة" ، كما يطالبه اليهود "بالبيّنة : رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة" (البينة 2 – 3) هذه هي الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة .

ويقول : "لكل أجل كتاب : يمحو الله ما يشاء ويثبت ، وعنده أم الكتاب" (الرعد 38 – 39) . لان "عند" الله هو في السماوات والأرض : فليس مخصوصا بالسماء ؛ بل "عند" الله يكون أيضا على الأرض ، حيث "كتاب الله" (75:8؛ 36:9؛ 56:30؛ 6:33) محفوظ يتلونه (29:35) ويدعون اليه (23:3) ، "بما استُحفظوا من كتاب الله" (44:5) ، وإنْ "نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم" (101:2) . إن "أم الكتاب" أي أصله ومصدره "عند الله" على الأرض ، اليه يرجع ، وبه يتحدّى : "قلْ : فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ، إن كنتم صادقين" (القصص 49) . فالقرآن العربي ينتسب الى كتاب الله الذي عند أهل الكتاب ، حيث "أم الكتاب" في

كتاب مكنون ، على لوح محفوظ في صحف مطهّرة ، بأيدي سفرة بررة . فلا شئ يشير الى صلة مباشرة بالسماء .

6 – لا يذكر القرآن العربي لنبيّه من صلة بملاك الوحي سوى مرّة أو مرّتين . والقرآن العربي كله ينتسب الى هذه الرؤيا الوحيدة التي تصفها سورة (النجم) ، وهي أول سورة أعلنها رسول الله ، لذلك فيها مصدر رسالته ودعوته :

"والـنــجــم اذا هـوى ما ضـلّ صاحـبـكـم ومـا غوى
وما يــنــطــق عــن الهوى إنْ هو إلاّ وحــــــي يُوحـى
عــلّــمــه شديـد القــوى ذو مرّة فاستــــــــوى
وهو بالأفــــق الأعـــلى ثم دنا فــــــــــتدلّى
فـــــكان قاب قوسين أو أدنـى فأوحى الى عــــــبده ما أوحى
ما كذب الـــفؤادُ ما رأى أفتمارونـــه علـــى ما يـرى
ولـــــــقد رآه نزلة أخـرى عــــــــند سدرة المنتهى
عــــندها جَــــنة المـأوى اذ يــغشى الــسدرة ما يـــغشى
ما زاغ الــبــصر وما طــغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى"
(النجم 1 – 18) .

هذا هو النظم القرآني في أصالته . وهو رباعيات أرامية تصير ثنائيات عربية في ميزان القريض العربي من صدر وعجز . وفي هذا النظم كان خرْق العادة العربية .

إن سورة النجم تصف رؤيا محمد لملاك الوحي بغار حراء . وهي الرؤيا الوحيدة التي يذكرها القرآن العربي كله . وفيها "أوحى الى عبده ما أوحى ... لقد رأى من آيات ربه الكبرى" .

وما أجملته سورة النجم فصّلته سورة الشورى عند ذكر طرق الوحي الرباني وموقف محمد ونصيبه منها :

"وما كان لبشر أن يكلم الله إلاّ وحياً – أو من وراء حجاب – أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ، إنه عليٌ حكيم ؛ وكذلك أوحينا اليك روحًا من أمرنا : ما كنت تدري ما

الكتاب ولا الايمان ، ولكن جعلناه نورًا نهدي به مَن نشاء من عبادنا ؛ وإنك لَتُهدى الى صراط مستقيم ، صراط الله" (الشورى 51 – 53) .

ففي غار حراء أرسل الله الى محمد في حال وحي اليه "روحا من أمرنا" أي ملاكا مخلوقا (لا الروح غير المخلوق) . وملاك الوحي هدى محمدا الى الايمان بالكتاب والدعوة له . هذا كل ما في الأمر .

نرى مصداق ذلك في السورة نفسها : "شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا – والذي أوحينا اليك – وما وصّينا به ابراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه ... وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب ، وأمرت لأعدل بينكم" (الشورى 13 و 15) . فالقرآن العربي يدعو الى دين موسى وعيسى دينا واحدا ، وهذا هو العدل الذي معه . أو كما يقول مرارا : "ويعلمهم الكتاب والحكمة" أي التوراة والانجيل معا" (البقرة 129 و 151 ؛ آل عمران 164 ؛ الجمعة 2) . "لا نفرّق بين أحد من رسله ونحن له مسلمون" (البقرة 285 و 136 ؛ آل عمران 84 ؛ النساء 152) . هذه هي الطريقة والشريعة من أمر الدين التي وضعه عليها ملاك الوحي في غار حراء (الجاثية 18) .

فليس في رؤيا محمد من تنزيل جديد . إنما هي هداية الى التنزيل الوحيد في كتاب الله ، والأمر بالدعوة اليه على طريقة مخصوصة بالجمع بين موسى وعيسى معًا والكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل معا. وهي طريقة النصارى من بني إسرائيل .

فالوحي الوحيد الذي ناله محمد في رؤيا الوحيدة نزلتين هو الأمر بأن يكون من المسلمين النصارى وأن يتلو معهم قرآن الكتاب : "وأُمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) : فالمسلمون موجودون قبل محمد وهو ينضم اليهم بأمر الله ويتلو معهم كتاب الله على طريقتهم .

7 – هذا هو "القرآن" الذي نزل على محمد في غار حراء : إنه أمر بالهداية الى الايمان بالكتاب (الشورى 52) ، وأمر بالانضمام الى النصارى المسلمين (النمل 91) ، وأمر بالرسالة والدعوة الى كتاب الله الذي معهم وعلى طريقتهم : "حم ، والكتاب المبين إنّا أنزلناه في ليلة مباركة ... أمرًا من عندنا : إنّا كنا مرسِلين" (الدخان 1 – 5) .

فالأمر بالرسالة والدعوة لكتاب الله المنزل من قبله هو الخبر العظيم الذي يردّده القرآن العربي في انتسابه الدائم الى الكتاب وأهله المسلمين المقسطين : "وأمرتُ أن أكون من

المسلمين وأن اتلو القرآن" (النمل 91 – 92) ، "وأمرتُ أن أكون من المؤمنين" (يونس 104) ، "قل : اني أمرتُ أن اعبد الله مخلصا له الدين ، وأُمرت لأن أكون أول المسلمين" (الزمر 11 – 12) – أُمِر في رؤيا غار حراء أن ينضم الى المسلمين "النصارى" ، وأن يتزعّم دعوتهم – "قل : إني أمرتُ أن أكون أوّل مَن أسلم ، ولا تكونَنّ من المشركين" (الانعام 14) ، "قل : انني هداني ربّي الى صراط مستقيم ، دينا قيما ، ملة ابراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين . قل : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، بذلك أمرتُ وأنا أول المسلمين" (الأنعام 161 – 163) . إن الصراط المستقيم ، والدين القيم ، وملة ابراهيم حنيفا هي أن يكون من المسلمين ؛ لذلك هداه ربه في رؤيا غار حراء ؛ وبذلك أُمر ، يتزعّم الدعوة الى اسلام "النصارى" المسلمين المقسطين . هذا الأمر المتواتر هو القرآن والتنزيل والذكر والكتاب الذي أُنزل عليه في ليلة مباركة (الدخان) هي ليلة القدر (سورة القدر) من شهر رمضان (البقرة) . أُمر بالهداية الى الايمان بكتاب الله (الشورى 52) وأُمر بالدعوة له مع "النصارى" المسلمين (النمل 91 – 92) وأُمِر بتزعّم الحركة "النصرانية" الاسلامية في مكة والحجاز بعد موت زعيمها ورقة بن نوفل استاذه الى هذه الرسالة . تلك هي رسالته ونبوته التي تلقاها من ملاك الوحي في غار حراء : "حم . والكتاب المبين إنّا أنزلناه في ليلة مباركة ... أمرا من عندنا : إنّا كنا مرسلين" (الدخان 1 – 5) .

فليس من تنزيل جديد في القرآن العربي ؛ انما هو نقل التنزيل الكتابي "بلسان عربي مبين" . وقد جمع رسالته كلها وقرآنه كله في قوله : "وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ؛ وانه لفي زبرُ الأولين : أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل" (الشعراء 192 – 197) . يصرّح بأن تنزيل رب العالمين الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد هو في زبر الأولين أي "كتبهم كالتوراة والانجيل" (الجلالان) ، ويشهد بذلك علماء بني إسرائيل ، وشهادتهم آية لهم . فالروح الأمين نزل على قلبه بتنزيل التوراة والانجيل معا ، وهذا ما يسميه هداية الى الايمان بالكتاب (الشورى 52) ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين ، لأنه "ولو نزّلناه على بعض الأعجمين قرأه عليهم ، ما كانوا به مؤمنين" (الشعراء 198 – 199) .

فالقرآن العربي من تنزيل الكتاب لأنه "تفصيل الكتاب" (يونس 37) .

القرآن العربي هو تفصيل الكتاب للعرب
الصفحة
  • عدد الزيارات: 8728