Skip to main content

اشتراك منظور بن غطفان العَبْسي - المسألة الثانية: المسيح

الصفحة 3 من 4: المسألة الثانية: المسيح

ج - المسألة الثانية: المسيح

1) التجسد

قال المسلم: أخبرني يا راهب، ألم يكن الله قادراً على تنفيذ أمره، وهو جالس على عرشه، حتى اصطفى هذا الإنسان كما تقولون؟.

أ - كيفية التجسّد وغايته

قال الراهب: عجبتُ من قلة فطنتك إلى مذاهب الكلام. تقول: الرحمان على العرش استوى وبهذا تجعله جالساً وعلى العرش مستوياً، ثم تنفر من قولنا إنه حل في بشر حلولاً بلا حد ولا وصف. وأنت تصفه بالجلوس والاستواء! أتقول إنه كان بعيداً من العرش حيناً ثم استوى عليه؟ أو تقول إن العرش كان خالياً منه زماناً ثم استوى عليه من بعد ذلك؟ أم تقول إنه كان متكئاً (تبارك وتعالى)؟ أنصِفْنا الآن! واعلم أنه ما استوى شيء على شيء كما وصفت إلا وهو راكب، وكل راكب هو مركّب محدود، والذي ركَّبه وَحَدَّهُ أقوى وأعظم منه. فلا تصف الله بهذه الصفة.

نرجع إلى قولك: ألم يكن الله قادراً على تنفيذ أمره؟ - بل إنه قادر قويّ قاهر. ولكنه لا يُرى ولا يُوصف ولا يُدرك جوهره، يُسمع كلامه ولا يُنظر إليه، كما أخبرنا به موسى والأنبياء والحواريون.

فلما رأى الله جلّ اسمه! قلوب الناس قد فسدت، وضميرهم يزداد شراً وتمادياً في خلاف الحق، فطال زوغانهم عما دعاهم إليه من الإيمان به، ظهر الإله الأزلي في جسد البشر. فساق العباد بحكمته وفضله ورحمته، وأنقذهم من الضلالة والكفر التي كانوا عليها من عبادة إبليس، وهداهم إلى الحق. إذ لم يظهر الله الكلمة بجوهره ولم يتغير من جوهره، ولم ينزل من مكانه إلى مكان لم يكن فيه، ولم يَخْلُ العرش منه ولا السماوات والأرض، بل في أسفل القرار وأعلاه، خارج غير داخل وداخل غير خارج، بلا صفةٍ ولا حدٍّ ولا امتزاجٍ ولا افتراقٍ.

ب - قبول الناس للمسيح المتجسد

قال المسلم: فإن الناس لم يُطيعوا المسيح، لكنهم أذلوه بالصليب كقولك.

قال الراهب: بل قبله الناس الذين اصطفاهم ورحمهم وجعلهم يعرفون طرقه، وينتهون إلى طاعته. وأما الذين لم يقبلوه، فاليهود والكفرة.

ولكن انظر إلى تدبير المسيح جل ثناؤه! إنه أظهر فيهم الآيات والعجائب. ولم يَدْعُ الناس إلى أمرٍ دون أن يبرهنه لهم بما يُظهره من الآيات والأعاجيب. فبرهن أن كل أعماله أعمال إله، حتى أقروا أنه ابن الله الحي.

فمن عظيم شر بني إسرائيل وفساد قلوبهم وحسدهم لم يلتفتوا إلى صنيعه، ولم يفكروا في كتب الله، بل صلبوه. ولم يُسلّم نفسه في أيديهم تقصيراً منه ولا ضعفاً. لكنه فعل ذلك بحكمته وحلمه. ولم يعجل عليهم العقوبة، وهو يعلم أنهم لا يؤمنون به.

2) اللاهوت

قال المسلم: إنكم، يا معشر النصارى، لا تعظمون المسيح إلا لأنه أحيا الموتى، وقد أحيا الموتى من قبله أليشع وحزقيال وغيرهما من الأنبياء. وليس كل من أحيا الموتى بإذن الله ينبغي أن يُتَّخَذ إلهاً ورباً يُعبد.

أ - الإثبات الأول: المسيح هو الحياة

قال الراهب: لسنا نتخذ المسيح إلهاً لأنه أحيا الموتى فقط. لكنه أحيا الموتى وقال: أنا القيامة والحياة وأنا الطريق والحق والحياة وابن الله، ونور العالم، أنا الراعي الصالح، أنا أُميت وأنا أُحيي وأنا ديّان الدين.

ب - الإثبات الثاني: المسيح متفوّق على الأنبياء

1) في إجراء المعجزات

قال الراهب: وأظهر المسيح الآيات بأمر منه نافذ، لا يحتاج فيه إلى طلب ولا إلى تضرع، كما فعل الأنبياء. فمن صنع كما صنع المسيح، استأهل أن يُقبل منه ما قاله على نفسه وعلى غيره.

وأما ما ذكرتَه من الأنبياء، فلستُ أنكر ذلك. ولكن شتان بين ما صنع الأنبياء وما صنع المسيح من الآيات. لأن النبي كان، إذا أراد أن يفعل أمراً، صام وصلى وتضرع وطلب وزاد في صلاته، وتشفَّع بعد ذلك. والمسيح لم يكن بهذه المنزلة، ولكن كان يمشي في الأسواق وبين الناس ويُظهر الآيات بأمرٍ منه نافذ.

ولم يكن الأنبياء يعملون الآيات في كل وقت، أما المسيح فكان يُظهر الآيات إذا أحب وأراد: ميت يحييه، وأعمى يفتح عينيه، أو مريض يشفيه، وألوفاً من الناس جياعاً أشبع من الخبز اليسير. كل ذلك بقدرةٍ فيه حاضرة.

2) في علم الغيب

ولم يكن الأنبياء يطّلعون على الغيب ولا على ما في القلوب. وأما المسيح، فكان يخبر الناس بضمير قلوبهم، ويعلم الخفيات ويخبرهم بما كان ويكون.

3) في الوعي بلاهوته ورسالته

ولو قال الأنبياء للناس: إننا أبناء الله، لحقَّ للناس أن يقبلوا قولهم لِمَا كانوا يُظهرون من المعجزات. ولكنهم لم يكونوا يكذبون، ولا يدَّعون ما ليس لهم. ولكنهم قالوا: إنّا عبيد الله. وقال المسيح: أنا ابن الله. صدق المسيح، وصدق الأنبياء.

4) الصلب

أ - موقف العبسي: شُبِّه لهم

قال الأمير: ما أجرأك، يا راهب على الله! أنت تقول إن المسيح ابن الله، وتقول بعد ذلك إنه صُلب. أتُرى أن الله كان يسلّم ابنه للصلب؟ معاذ الله من ذلك! لكن شُبِّه لهم.

ب - رد الراهب: التشبيه مستحيل من قبل الله، وشهادة الرسل واضحة لا تُكذَّب

قال الراهب: أحسب أن الأمر يُشكل على اليهود الفَسَقة، فهل أُشكل على الحواريين، أنصار الله؟ فإن كان الله شَبّه ذلك للرسل، فإنما جاءت الضلالة من الله، وحاشا الله! لأن الرسل قالوا إنهم عاينوه مصلوباً، وذاق الموت ودُفن. وقام بعد ثلاثة أيام، وأتاهم مراراً بعد قيامته وكلمهم، ومكث على الأرض بعد قيامته أربعين يوماً، وطلع الى السماء أمامهم، وعاينوه صاعداً.

فكيف يكون شُبّه لهم؟ هل يُتَّهم الرسل بالكذب، ونبيُّك يشهد أنهم أنصار الله، ولم ينطقوا إلا بما لقنهم روح القدس؟ هل كان الله يلقنهم الشبه الباطل ليُضل عبادَه؟ معاذ الله من هذا القول! لا تقصر بالمسيح، ولا تكذب رسله.

قال المسلم: ما أُقصّر به، وإني أفضله أكثر منك وأنا أولى وأحق به منك أضعافاً.

قال الراهب: إذا سمَّيت الملك السيد عبداً، أو ألقيت الرجل الشريف من أبيه، فقد بالغت في التقصير. لأنك تُسمي المسيح، الذي تشهد عليه أنه كلمة الله وروحه، عبداً ذليلاً مثل سائر الناس. وتقول إنه ليس ابن الله، والكتب تشهد له بذلك وتوضحه لنا.

المسألة الثالثة: الإنجيل والكتب المقدسة
الصفحة
  • عدد الزيارات: 9127