نبوَّة محمد
ولقد فهمتُ ما دعوتَني إليه من الشهادة لصاحبك والإقرار بنبوَّته ورسالته، وما عظَّمتَ من أمره. فأما تعظيمك إياه فلسنا نجادلك فيه، وليس عندنا فيه إلا تسليمه لك، إذ كنت أَوْلى الناس بقرابتك، وقرابتك أَوْلى الناس بك. وإنما نحن مناظروك في ما دَعوْتنا إليه من الإقرار بنبوَّته بأن ذلك حق واجب. فإن كان ذلك حقاً واجباً فليس ينبغي لنا، ولا لأحدٍ ذي عقل أن يمتنع أو يمتعض من قبوله، فإنه لا يمتنع عن الإقرار بالحق إلا ظالم معتدٍ، أو جاهل بمعرفة قدْر الحق.
وإن كان ذلك غير الحق فلا ينبغي لك أن تقيم على غير الحق، فكيف تدعونا إليه؟ فإنك إذا فعلت هذا كنت ظالماً لنفسك أولاً، ثم متعدّياً على من تدعوه إلى غير الحق. فنطرح الآن من بيننا العصبيّة، ولنفحص عن أول قصة صاحبك هذا الذي تدعونا إلى الإقرار له بالنبوة، ونشرحها من أولها إلى آخرها ونختبرها اختباراً شافياً، فيجب أن يكون البحث عنه بتَأنٍّ وَتَرَوٍّ.
كان هذا الرجل يتيماً في حِجْر عمه عبد مناف المعروف بأبي طالب الذي كفله عند موت أبيه وكان يعوله ويدافع عنه، وكان يعبد أصنام اللات والعُزّى مع عمومته وأهل بيته بمكة على ما حكى هو في كتابه وأقرَّه على نفسه حيث قال: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (سورة الضحى 93:6-8). ثم نشأ في ذلك الأمر حتى صار في خدمة عِيرٍ لخديجة بنت خويلد، يعمل فيها بأجرة ويتردد بها إلى الشام وغيرها، إلى أن كان ما كان من أمره وأمر خديجة وتزوُّجه إياها للسبب الذي تعرفه. فلما قوَّته بمالها نازعته نفسه إلى أن يدَّعي المُلك والترؤس على عشيرته وأهل بلده، فلم يتبعه عليه إلا قليل من الناس. فعندما يئس مما سوَّلت له نفسه ادَّعى النبوَّة وأنه رسولٌ مبعوثٌ من رب العالمين، فدخل عليهم من بابٍ لطيف لا يعرفون عاقبته ما هي، ولا يفهمون كيف امتحان مثله ولا ما يعود عليهم من ضرر منه، وإنما هم قوم عرب أصحاب بدوٍ لم يفهموا شروط الرسالة ولم يعرفوا علامات النبوة، لأنه لم يُبعَث فيهم نبي قط. وكان ذلك من تعليم الرجل الملقِّن له الذي سنذكر اسمه وقصته في غير هذا الموضع من كتابنا، وكيف كان سببه. ثم إنه استصحب قوماً أصحاب غاراتٍ ممن يصيب الطريق على سُنَّة البلد وعادة أهله الجارية عندهم إلى هذه الغاية، فانضمَّ إليه هذا النوع، وأقبل يبثث الطلائع ويدسس العيون ويبعث إلى المواضع التي ترِد القوافل إليها من الشام بالتجارات فيصيبونها قبل وصولها، فيُغِيرون عليها ويأخذون العِير والتجارات ويقتلون الرجال. والدليل على ذلك أنه خرج في بعض أيامه فرأى جِمالاً مقبلةً من المدينة إلى مكة، لأبي جهل بن هشام، ويُسمِّي أعراب البادية ذلك غزواً إذا خرجت للغارة على السابلة وإصابة الطريق. وكان أول خروجه من مكة إلى المدينة بهذا السبب، وهو حينئذ ابن 53 سنة بعد أن ادّعى ما ادّعاه من النبوة بمكة 13 سنة، ومعه من أصحابه 40 رجلاً، وقد لقي كل أذى من أهل مكة لأنهم كانوا به عارفين، فأظهروا أن طرده لادّعائه النبوة وعقد باطنهم لما صح عندهم من إصابته الطريق. فسار مع أصحابه إلى المدينة وهي يومئذ خراب يباب ليس فيها إلا قوم ضعفاء أكثرهم يهودٌ لا حِراك بهم، فكان أول ما افتتح به أمره فيها من العدل وإظهار نصفة النبوة وعلامتها أنه أخذ المربد الذي للغلامين اليتيمين من بني النجار وجعله مسجداً. ثم أنه بعث أول بعثة حمزة بن عبد المطلب في 30 راكباً إلى العيص من بلد جهينة يعترض عِير قريش وقد جاءت من الشام، فلقي أبا جهل بن هشام في 300 رجل من أهل مكة، فافترقوا لأن حمزة كان في 30 ، فخاف لقاء أبي جهل وفزع منه، فلم يكن بينهم قتال.
فأين شروط النبوة في هذا الموضع من قول الله في التوراة المنزلة من عنده لموسى حيث وعده أن يُدخل بني إسرائيل الذين أخرجهم من مصر إلى أرض الجبابرة المسمّاة أرض الميعاد وهي أرض فلسطين: أن الواحد يهزم ألفاً، والاثنين يهزمان ربوة؟ وكذلك كان فعله على يدي يشوع بن نون المتولّي إدخال بني إسرائيل أرض الميعاد ومحاربة أهل فلسطين. فهذا حدُّ ما يُطالَب به صاحبُك في هذا الموضع من علامات النبوّة والرسالة.
- عدد الزيارات: 10202