Skip to main content

إجابة النصراني (المسيحي) - التثليث

الصفحة 2 من 3: التثليث

 

التثليث

وأقول مجيباً لك: قد علمتُ أنك قرأتَ كتب الله المنزلة، التي هي الكتب العتيقة والحديثة. ومكتوب في التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى النبي، وناجاه بجميع ما فيها وخبَّره أسراره في السفر الأول من أسفارها الخمسة، وهو المعروف بسفر الخليقة (التكوين) أن إبراهيم كان نازلاً مع آبائه بحاران، وأن الله تجلّى له بعد تسعين سنة، فآمن به وحُسب له ذلك براً. ولكنه كان قبل ذلك التجلّي يعبد الصنم المسمّى العُزّى، المتَّخذ على اسم القمر، لأن أهل حاران كانوا يعبدون هذا الصنم، فكان إبراهيم يعبد الصنم حنيفاً مع آبائه وأجداده وأهل بلده، كما أقررت أنت أيها الحنيف وشهدت بذلك عليه، إلى أن تجلّى الله له فَآمَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرّاً (تكوين 15:6). فترك الحنيفية التي هي عبادة الأصنام، وصار موحّداً مؤمناً، لأننا نجد الحنيفية في كتب الله المنزلة اسماً لعبادة الأصنام، فورَّث إبراهيم ذلك التوحيد إسحق، الذي هو ابن الموعد، وهو الذي قرَّ به لله ففداه الله بالكبش، لأنه هكذا أمره الله: خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ الَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ واذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ (تك 22:2). ومن نسل إسحق من سارة الحرة خرج المسيح مخلِّص العالم. فلهذه الأسباب وغيرها ورَّثه إبراهيم أبوه التوحيد، ثم ورَّثه إسحق يعقوب ابنه الذي سماه الله إسرائيل، ثم ورَّثه يعقوب الاثني عشر سبطاً. فلم يزل ذلك التراث في بني إسرائيل حتى دخلوا أرض مصر أيام الفراعنة بسبب يوسف، ثم لم يزل ذلك التراث ينقص ويضعف قرناً بعد قرن حتى اضمحل كاضمحلاله الذي كان في عصر نوح، إذ كان التوحيد أول من عرفه أبونا آدم، ثم ورّثه شيثاً ثم شيث ورّثه أنوشَ ابنه. فكان أنوش أول من أعلن ذكر التوحيد ودعا إليه، ثم ورَّثه نوح ولده وأحفاده، ثم اضمحل إلى زمن إبراهيم. فتجدد ذلك التراث لإبراهيم، ولم يزل يتجدد إلى أن وُلد يعقوب الذي هو إسرائيل، ثم اضمحل حتى تجدد عندما بعث الله موسى، فإن الله تجلى له بالنار في العوسجة، فقال له موسى: إنك ترسلني إلى قوم غُلْف القلوب. إن هم سألوني: ما اسم الذي وجَّهك إلينا، وبماذا وجَّهك حتى نصدقك؟ فماذا أقول لهم؟ فقال الله: هكذا تقول لبني إسرائيل الذين أنا مُرسلك إليهم، وبهذا القول تخاطب فرعون إذا دخلت إليه: أهيه أشِرْ أهيه أرسلني إليكم . وتفسيره ذلك: الأزلي الذي لم يزل إله آبائكم، إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، أرسلني إليكم (خروج 3:15) فجدَّد ذكر التوحيد وأَلْغز عن سرّ الثالوث حيث قال: إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب فكرر بذلك القول ذكر الثلاثة الأقانيم بعد ذكر التوحيد كما كان قديماً، فهو واحد ذو ثلاثة أقانيم لا محالة، لأنه أجمل في قوله: إله آبائكم ثم قال مكرراً اسم الجلالة ثلاث مرات. أفتقول إنها ثلاثة آلهة، أم إله واحد مكرراً ثلاث مرات؟ فإن قلنا إنها ثلاثة آلهة أشركنا، وإن قلنا إله واحد مكرراً ثلاث مرات نكون قد دفعنا للكتاب حقه، لأنه قد كان يمكنه أن يقول: إله آبائكم إبراهيم وإسحق ويعقوب. وإنما كرر ذلك للإشارة أن في هذا الموضع سراً، وهو أن الله واحد ذو ثلاثة أقانيم. فثلاثة أقانيم إله واحد، وإله واحد ثلاثة أقانيم. فأي دليل أوضح من هذا إلا لمن عاند الحق الذي أودعه في كتبه التي أنزلها على أنبيائه، وهي في أيدي أصحاب التوراة. إلى هذا الوقت لم يكونوا يفهمونه، حتى جاء صاحب السرّ الذي هو المسيح سيدنا وكشفه لنا.

كان إبراهيم منذ وُلد إلى أن أتت عليه تسعون سنة حنيفاً عابد صنم، ثم آمن بالله إلى أن مات. فأنت تدعوني إلى دين إبراهيم وملّته. فإلى أي ملّة ودينية تدعوني؟ وفي أيّ حالتيه تُرغّبني؟ أَحَيث كان حنيفاً يعبد الصنم المعروف بالعُزَّى مع آبائه وأهل بيته وهو بحاران؟ أم حيث خرج عن الحنيفية ووحَّد الله وعبده وآمن به، فانتقل طائعاً عن حاران دار الكفر ومدينة الضلال؟ فلا أظنك تدعوني إلى مثل حال إبراهيم في عبادة الأصنام التي هي الحنيفية. وإن كنت تدعوني إلى حاله وقت إيمانه وما حُسب له من البرّ وقت توحيده، فاليهودي ابن إبراهيم أَوْلى بهذه الدعوة منك، لأنه هو صاحب تراث إسحق الذي ورث هذا التوحيد عن إبراهيم أبيه. فما لك وطلب ما لم يجعله الله لك حقاً؟ فأنت دائماً تنسب ذاتك إلى العدل، وصاحبك يقرّ في كتابه: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَّوَلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (سورة الأنعام 6:14) أفلا ترى أنه أول من أظهر الإسلام، وأن قبله إبراهيم وغيره لم يكونوا مسلمين، لأن صاحبك قد أقرَّ بأنه هو أول من أسلم؟

فإن أبيْت إلا الوكالة والاحتجاج عن اليهود، فأنت تعلم ما يجب لنا عليك في الحكم إذا نحن طالبناك بإقرار اليهودي بتوكيله إياك! فإن ثبتت وكالتك له نأخذ منك إقرارك أنك قد أقمت نفسك ونصَّبتها منصب الخصم عن اليهود. وأنا لا أرى لشرفك وحسَبك أن أقيمك هذا المقام. وإن كنت أنت أحللته نفسك فإني أسألك عن هذا الواحد الذي دعوتنا إلى الإقرار بوحدانيته، كيف تفهم وحدانيته، وعلى كم نحوٍ يُقال للواحد واحداً. فإذا أنبأتنا بذلك علمنا أنك صادق فيما ادَّعيت من عبادة هذا الواحد. أما إن كنت غير عالمٍ به فأين تبصُّرك؟ ألا تعلم أن الواحد لا يُقال له واحداً إلا على ثلاثة أوجه: إما في الجنس، وإما في النوع، وإما في العدد. ولستُ أرى أحداً يدَّعي غير هذا، أو يقدر أن يجد غير هذه الأوجه الثلاثة.

فإن قلت إنه واحد في الجنس صار واحداً عاماً لأنواع شتى، لأن حكم الواحد في الجنس هو الذي يضمّ أنواعاً كثيرة مختلفة، وذلك مما لا يجوز في الله. وإن قلت إنه واحد في النوع، صار ذلك نوعاً عاماً لأقانيم شتى، لأن حكم النوع يضم أقانيم كثيرة في العدد. وإن قلت إنه واحد في العدد، كان ذلك نقضاً لكلامك أنه واحد فرد صمد، لأنه لو سألك سائل عن نفسك: كمأنت؟ لا تقدر أن تجيبه أنك واحد فرد. فكيف يقبل عقلك هذه الصفة التي لا تُفضِّل إلهك عن سائر خلقه؟ وليتك مع وصفك إياه بالعدد كنت وصفته أيضاً بالتبعيض والنقصان. ألا تعلم أن الواحد الفرد بعض العدد، لأن كمال العدد ما عمَّ جميع أنواع العدد، فالواحد بعض العدد. وهذا نقضٌ لكلامك.

فإن قلت إنه واحد في النوع، فللنوع ذوات شتى لا واحد فرد.

وإن قلت إنه واحد في الجوهر، نسألك: هل تخالف صفة الواحد في النوع عندك صفة الواحد في العدد؟ أو هل تعني واحداً في النوع واحداً في العدد لأنه عام؟ فإن قلت: قد تخالف هذه تلك، قلنا لك: حدّ الواحد في النوع عند أهل الحكمة اسم يعمّ أفراداً شتى، وواحد الواحد ما لا يعم غير نفسه. فهل تقرّ أن الله واحد في الجوهر يعم أشخاصاً شتى، أو هل هو شخص واحد؟ وإن كان معنى قولك إنه واحد في النوع واحد في العدد، فإنك لم تعرِّف الواحد في النوع ما هو وكيف هو، ورجعت إلى كلامك الأول أنه واحد في العدد. وهذه صفة المخلوقين. وإن قلتَ: هل تقدر أنت أن تصف الله واحداً في العدد إذا كان كزعمك الواحد في العدد بعضاً وليس بكامل؟ قلنا لك: إننا نصفه واحداً كاملاً في الجوهر مثلّثاً في العدد، أي في الأقانيم الثلاثة فقد كملت صفته من الوجهين جميعاً. أما وصفنا إياه واحداً في الجوهر فلأنه أعلى من جميع خَلْقه، لا يشبهه شيء منها ولا يختلط في غيره، بسيط غير كثيف وروحاني غير جسماني، أب على كل شيء بقوة جوهره من غير امتزاج ولا اختلاط ولا تركيب. وأما في العدد فلأنه عام لجميع أنواع العدد لأن العدد لا يُعد وإن تكن أنواعه نوعين زوجاً وفرداً، فقد دخل هذان النوعان في هذه الثلاثة. فبأي الأنحاء وصفناه لم نعدل عن صفة الكمال شيئاً كما يليق به. فوَصْفنا الله واحداً ليس على ما وصفته أنت. وأرجو أن يكون هذا الجواب مقنعاً لك وللناظر في كتابنا هذا، إذا نظر بعين الإنصاف.

وأما قولك إنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ولم يكن له كفؤاً أحد، فإن أنت أنصفتنا أقررتَ لي بأن الذي وصفه بذلك هو الذي شنَّع عليه. وأما نحن فلا نقول إن لله صاحبة، ولا إنه اتخذ ولداً، ولا إنه كان له كفؤاً أحد، ولا نَصِفُه بمثل هذه الرذائل من صفات التشبيه به، وإنما هذه الشُبهات لكم من عند اليهود الذين أرادوا كيدكم بذلك، فلفَّقوا هذه القصص. وأنت تعلم أن ليس في كتبنا المنزلة لهذا ذكرٌ فتقبله عقولنا أو نتكلم به، وإنما هو كتابك الذي أكثر التشنيع علينا وادَّعى على المسيح سيدنا ومحيي البشر الدعاوي التي لم يقلها قط. إنما ذلك من حيلة وهَب بن منبه وعبد الله بن سلام وكعب الأحبار، اليهود الذين احتالوا في إدخال ذلك وغيره من التشنيعات علينا بل وعليكم. وإن فحصت عن ذلك في كتابك عرفت حقيقته. ونحن نقول إن الله الأزلي بكلمته لم يزل حليماً رؤوفاً، وإنما وصفناه بالرحمة والرأفة والملك والعز والسلطان والجبروت والتدبير، وما أشبه هذه الصفات، لما يظهر لنا من أفعاله. وقد أخبَرتْ عنها عقول الناس واشتقّوها له اشتقاقاً لأجل فعله إياها، فاستوجبها جل وعز بالكمال والحقيقة، كما استوجب جميع ما سُمّي به من أجل فعله له.

فأما صفات ذاته فجوهر ذو كلمة وروح أزلي لم يزل متعالياً مرتفعاً عن جميع النعوت والأوصاف. ولننظر الآن في هذه الصفات من حيٍّ وعالم. هل هي أسماءٌ مفردة مرسَلة، أم أسماء مضافة تدل على إضافة شيء إلى شيء؟ ويجب علينا أن نعلم ما الأسماء المضافة وما الأسماء المفرَدة المرسَلة. فأما الأسماء المرسَلة فهي كقول القائل أرض أو سماء أو نار أو ماء أو كل ما كان بما قيل شبيهاً مما لا يُضاف إلى غيرها. وأما الأسماء المضافة إلى غيرها، كالعالم والعلم، والحكمة والحكيم، وما أشبه ذلك، فالعالم بعلمه والعلم عِلم عالم. والحكمة حكمة حكيم. والآن نسألك عن الموصوف بهذه الصفة، ألازِمَةٌ هي لجوهره في أزليته أم اكتسبها له اكتساباً واستوجب الوصف بها من بَعْدُ، كما استوجب أن يوصف أنَّ له خليقةً حيث خلق، وسائر ذلك مع ما لم أذكر من أسماء يُسمَّى بها وصفات يُجلَّى بها لفِعْله إياها. فإذا قيل كما يوصف تعالى إنه كان ولا خَلْق حتى أتى على ذلك بالفعل، كذلك يجوز أن يُقال إنه كان ولا حياة له ولا علم ولا حكمة حتى صارت الحياة والعلم والحكمة لديه موجودة. وهذا محال! فلم يكن الله لحظةً خلواً من حياةٍ وعلم.

ونعلم أن الصفات في الله صفتان مختلفتان: صفة طبيعية ذاتية لم يزل متَّصفاً بها، وصفة اكتسبها هي صفة فعله. فأما الصفات التي اكتسبها من أجل فعله فمثل رحيم وغفور ورؤوف. وأما الصفات المنزلة التي هي الطبيعية الذاتية التي لم يزل جل وعز متَّصفاً بها فهي الحياة والعلم، فإن الله لم يزل حياً عالماً. فالحياة والعلم إذاً أزليان لا محالة.

الله واحد ذو كلمة وروح في ثلاثة أقانيم قائمة بذاتها
الصفحة
  • عدد الزيارات: 9848