Skip to main content

مصادر السلطة والعقيدة - القرآن

الصفحة 2 من 4: القرآن

يعتبر القرآن عند المسلمين أنه كلام الله الذي أوحي به مباشرة إلى محمد باللغة العربية. بناء على ذلك يعتبر القرآن المصدر الأول والرئيسي للسلطة والعقيدة عند كافة المسلمين مع اختلاف شيعهم ومذاهبهم. ويعتبر القرآن الذي بين أيدي المسلمين اليوم هو نفس ما أنزل على محمد حرفا ونصا، قلبا قالبا ، لا تغيير ولا تبديل فيه. حتى ليعتقد البعض أنه أنزل على محمد بنفس الترتيب الذي هو عليه الآن. كما يعتقد البعض أن القرآن أعطي لمحمد دفعة واحدة كما هو موجود بين أيدي الناس اليوم. مثل هذه الاعتقادات بعيدة كل البعد عن الصحة ومصدرها الجهل. يجهل الكثيرون سواء من المسلمين أم المسيحيين قصة القرآن وجمعه وتأليفه.
لم ينتج محمد القرآن دفعة واحدة وإنما متفرقا على مدى ثلاثة وعشرين عاما، منها عشرة في مكة وثلاث عشرة في المدينة. ويتألف القرآن من مئة وأربعة عشر سورة. بعض هذه السور طويلة كسورة البقرة ويبلغ عدد آياتها المئات، وأما البعض الآخر فسور قصيرة لا تزيد آياتها عن بضعة آيات. وتقسم هذه السور إلى قسمين: السور المكية وهي التي أنزلت على محمد في مكة قبل الهجرة، والسور المدنية وهي التي أنزلت على محمد في المدينة بعد الهجرة.
إن الكثير من الآيات والسور كما رأينا في حديث الإفك وسورة الكهف، جاء بها محمد في مناسبات خاصة تسمى بأسباب النزول. وهناك كتب ومؤلفات إسلامية كثيرة تعالج أسباب النزول. أحيانا كانت السور والآيات لها أسباب شخصية لنزولها مثل سورة اللهب التي جاء بها محمد في عمه أبي لهب وزوجته "تبت يد أبي لهب و تب. ما أغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى نارا ذا لهب. وامرأته حمالة الحطب. في جيدها حبل من مسد". و أحيانا كان سبب النزول هو معالجة مشكلة أو مأزق وقع محمد فيه واحتاج محمد الخروج منه. ومثال ذلك سورة الأنفال والتي جاء في مطلعها "إنما الأنفال (الغنائم) لله و رسوله". كان سبب إنزال هذه السورة هو الخصام والخلاف الذي وقع بين أتباع محمد حول الغنائم بعد معركة بدر.
كان محمد يحفظ هذه الآيات والسور ثم يقرأها على أصحابه. بعد ذلك كانت آيات وسور القرآن إما أن تكتب على الجلود وأوراق النخيل أو تحفظ في صدور الرجال.
كانت الكتابة تتم بواسطة ما يعرف بكُتاب الوحي. كان من بين هؤلاء زيد بن ثابت الذي عُهد إليه بجمع القرآن في عهد أبي بكر.
كان بعض الكتّاب على ما يبدو من خلفية نصرانية أو يهودية أو وثنية. وبعدما كتبوا لمحمد القرآن ارتدوا عن الإسلام ورجعوا إلى قومهم كما في الحديث التالي: "حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه قال: كان رجل نصراني (حسب مسلم من بني النجار) فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم. فعاد نصرانيا، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له. فأماته الله (حسب مسلم قصم الله عنقه)، فدفنوه. فأصبح وقد لفظته الأرض. فقالوا (قوم الرجل): هذا فعل محمد وأصحابه، لما هرب نبشوا عن صاحبنا فألقوه. فحفروا له وأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه خارج القبر، فحفروا له وأعمقوا له الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه." (البخاري ج 4 ص 545، رواه مسلم).
من الذين كتبوا القرآن لمحمد من قريش ورجع عنه عبد الله بن سعد أخو بني عامر بن لؤي والذي أمر محمد بقتله عندما فتح مكة كما جاء في السيرة: "قال إبن إسحق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين، حين أمرهم أن يدخلوا مكة، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد أخو بني عامر بن لؤي. وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان قد أسلم، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فارتد راجعا لقريش." (إبن هشام ج 4 ص 38).
قد يكون وجود هؤلا الكتاب هو السبب في احتواء القرآن على الكثير من الأساطير والخرافات اليهودية والمسيحية والوثنية مثل ما جاء في سورة الكهف وفي قصص الأنبياء مثل إبراهيم وموسى ويوسف والمسيح.
من الجدير بالذكر هنا الغموض الذي يحيط تدوين القرآن وحفظه. لا نستطيع أن نعلم من المصادر الإسلامية فيما إذا كان القرآن جميعه قد تم تدوينه على الجلود وأوراق النخيل أم لا. ولا نعرف أيضا إذا كان البعض منه قد تم تدوينه بينما تم حفظ ما تبقى منه في صدور الرجال. على أي حال، يبدو أن الحفظ كان وسيلة رئيسية في تداول القرآن بين الناس حيث كان هذا هو الدافع الرئيسي كما سنرى لاحقا في جمع القرآن وذلك بعد أن مات الكثيرون من حفظة القرآن في معركة اليمامة وخشي المسلمون من ضياع القرآن وفقدانه.
هناك عدة أمور أخرى في القرآن ما تزال مجهولة وغامضة ولا يستطيع أحد معرفتها والتأكد منها. من الأسرار والطلاسيم التي يستحيل معرفتها وإدراك معناها في القرآن على الرغم من الفتاوي الكثيرة، الحروف المقطعة في مطالع السور مثل (أ ل م) و (ك ه ي ع ص). فما هي فائدة هذه الحروف؟ هل أراد الله أن يكلم الناس بالطلاسم والحروف المقطعة؟ لم يقدم أحد من علماء المسلمين قديمهم وحديثهم جوابا شافيا لحل هذا اللغز وإجلاء الغموض عنه.
لا يستطيع أحد أن يرشدنا ويدلنا على الترتيب الحقيقي لسور القرآن وآياته. ولا أحد يدري، بما في ذلك علماء المسلمين الأوائل، أي السور نزلت أولا وأيها نزلت آخرا. كما لا يعرف أحد لماذا ومتى ألحقت الآيات بالسور التي نجدها فيها اليوم، مع العلم أن نزول بعض السور كان على مدى فترة طويلة مثل سورة البقرة التي استمر نزولها عشر سنوات بشهادة عائشة. لقد اختلف المسلمون حتى في أول آية نزلت في القرآن، وسنورد فيما يلي بعض الأحاديث التي تؤكد ما ذكرناه سلفا:
"حدثنا إسحق بن منصور، حدثنا عبد الصمد، حدثنا حرب، حدثنا يحيى قال: سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل أولا؟ فقال: يا أيها المُدثّر. فقلت أنبئت أنه: اقرأ باسم ربك الذي خلق. فقال لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاورت في حراء، فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت (سِرت في بطن) الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي، فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض. فأتيت خديجة فقلت دثروني (غطوني) وصبوا علي ماء باردا ، وأنزل علي: "يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر" (البخاري ج 6 ص 348).
يبين الحديث التالي الاختلاف في ترتيب سور القرآن بشكل عام قبل مصحف عثمان: "حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف أن إبن جريج أخبرهم، وأخبرني يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ جاءها عراقي فقال: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك. قال: يا أم المؤمنين أريني مصحفك. قالت: لم؟ قال: لعلي أألف القرآن عليه (أرتب القرآن حسبه) فإنه يُقرأ غير مؤلف. قالت: وما يضرك أية آية قرأت قبل؟ إنما أنزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، و لو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنى أبدا. لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب "بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر" وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده. قال: فأخرجت له المصحق، فأملت عليه أي السورة."
ومن الأحاديث الأخرى في هذا الشأن الحديث التالي: "حدثنا عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش عن شقيقه قال: قال عبد الله: قد علمت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤهن إثنتين في كل ركعة، فقام عبد الله ودخل ومعه علقمة، وخرج علقمة فسألناه فقال: عشرون سورة من أول المَفصل على تأليف إبن مسعود آخرهن الحواميم." (البخاري ج 6 ص 418 و 419). إذا كان علماء المسلمين الأوائل وأصحاب محمد لا يعرفون فكيف صار القرآن على الترتيب الحالي كما هو موجود بين أيدي المسلمين؟
من الذي وضع هذا الترتيب؟ هل أنزل الله القرآن على محمد مرتبا؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب. فكيف ضاع هذا الترتيب؟ أم هل كان نزول القرآن على محمد عشوائيا وحسب الحاجة والطلب؟
لا يتميز القرآن بعدم الترتيب فقط وإنما يتميز أيضا بعدم التسلسل الموضوعي والتاريخي. غالبا ما تشتمل السور وخاصة الطوال منها على موضيع مختلفة لا ترابط بينها وتختلف عن مضمون السورة واسمها. وغالبا ما نجد أجزاء مختلفة من قصة أحد الأنبياء قد وردت في سور مختلفة دون تسلسل زمني. فلا يعلم القارئ أي الأحداث في قصة ذلك النبي وقعت أولا وأيها وقع آخرا. بالإمكان القول بثقة أنه لو اعتمدنا على القرآن وحده كمصدر تاريخي لما كان باستطاعتنا معرفة التسلسل التاريخي للأشخاص الذين وردت قصصهم في القرآن. لا يمكن لأحد أن يستنتج من القرآن من جاء أولا أخنوخ (إدريس) أم إيليا (إلياس) أم يونان (يونس). ثم هناك أسماء السور. من أعطى السور بأسمائها؟ هل أخبر جبريل محمدا عن أسماء السور؟ في حديثي مع بعض المسلمين وجدتهم يدعون أن محمدا نفسه هو الذي أعطى السور أسماءها. هل كان ذلك في بداية النزول أم في نهايته؟ مثلا متى سميت سورة البقرة بالبقرة وقد نزلت على محمد على مدى عشرة سنوات؟ كيف كان محمد يعرف كيف ينسب الآيات إلى سورها عندما كانت تنزل عليه؟ كيف كان يقرر إذا ما نزلت عليه أية أنها تخص هذه السورة أم تلك، حيث أن السور لم تكن تنزل على محمد كاملة بل بشكل متقطع؟ أم هل شخص آخر يجمع الآيات معا وأعطاها إسما مثل البقرة والحديد والعنكبوت وغيرها.
مسألة أخرى بالنسبة لأسماء السور. إنه من المعروف في الأعمال الأدبية سواء كان على شكل كتاب أو مقالة أن العنوان يرتبط بشكل مباشر بمحتوى الكتاب أو الفصل أو المقال، مثلا إذا كان عنوان أحد الفصول في كتاب علوم "الماء" من المنطقي والبديهي أن تكون محتويات ذلك الفصل كلها تتعلق بالماء. في القرآن يمكن للقارئ أن يستشف أو يلمس العلاقة بين العنوان ومحتوى السورة في السور القصار مثل "اللهب" و"عبس" و "الفاتحة". لكن كلما طالت السورة كلما استحال على القارئ أن يلمس العلاقة بين إسم السورة ومحتواها. يجادل بعض المسلمين قائلين أن أسماء السور مستمدة من أهم ما ورد في السورة كما هو الحال في سورة البقرة أطول سور القرآن. لكن الحقيقة الواضحة هي أنه لا يعلم أحد إطلاقا لماذا سميت هذه السورة بالبقرة، مع أن ذكر إسم البقرة لم يرد في هذه السورة إلا مرة واحدة فقط في الآية 68 من السورة حيث أمر الله موسى بذبح بقرة فاقعة، وعلى الرغم من وجود مواضيع أخرى كثيرة في سورة البقرة أهم من البقرة الفاقعة. هنا يجب أن لا ننسى أنه من الخطأ الشنيع في اللغة تسمية الكل باسم البعض، وخاصة إذا كان هذا البعض نادرا وقليل الأهمية إذا ما قيس بسواه من الأجزاء، وإن من يفعل ذلك فإنما هو يتعدى على أبسط قواعد اللغة. نحن نعلم على سبيل المثال أنه توجد في إيران البلد الإسلامي أقلية صغيرة جدا لا تكاد تذكر من المسيحيين. من يمكنه القول في أي لغة من لغات العالم أن إيران بلد مسيحي؟ وعلى هذا لا يستطيع أحد أن يقدم تفسيرا شافيا لكثير من الأسماء الغريبة لسور القرآن.
هناك أيضا مسألة القراءات المختلفة للقرآن. إن القراءة المتداولة بين المسلمين اليوم ما هي إلا قراءة واحدة من سبع قراءات يشار إليها بالسبعة أحرف في الحديث. حيث يذكر الحديث أن القرآن نزل على سبعة أحرف أو سبع قراءات أو لهجات كما في الحديث التالي: "حدثنا إسماعيل قال: حدثني سليمان عن يونس عن إبن شهاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قرأ لي) جبريل على حرف فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف. يبدو أن عمر بن الخطاب لم يكن يدري بسبعة أحرف الوحي ولم يطِق أن يقرأ أحد القرآن بقراءات مختلفة، فتشاجر مع أحد صحابة محمد بسبب ذلك كما في الحديث التالي: حدثنا سعيد بن عفير، حدثني الليث، حدثني عقيل عن إبن شهاب قال: حدثني عُروة بن الزبير أن الميسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القارئ حدثا أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره (أمسك به) في الصلاة، فصبرت حتى سلّم (أنهى الصلاة)، فلببتُه (شددته) بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت كذبتَ، فإن رسول الله صلى عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله (أطلقه)، اقرأ يا هشام فقرأ علي القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا نزلت. ثم قال اقرأ يا عمر. فقرأت القراءة التي أقرأني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك نزلت. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف. فاقرأوا ما تيسر منه." (البخاري ج 6 ص 418 رواه مسلم). إنه من الغريب أن نجد هنا أن محمدا لم يخبر عُمَرَ وهو من أقرب المقربين إليه بقراءات القرآن قبل أن يقع عمر في ورطة كما حصل مع هشام بن حكيم.
روى مسلم حديثا آخر في شأن اختلاف القراءات جاء فيه: "حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن جده عن أبي كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى (غير) قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه. ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرآ فحسّن النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهما فسقط في نفسي مت التكذيب ولا إذا كنت في الجاهلية. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففظتُ عرقا وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا (خوفا). فقال لي: يا أبي ارسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هوّن على أمتي، فرد إلي الثانية أن أقرأه حرفين، فرددت عليه أن أهون على أمتي، فرد إلي الثالثة أن أقرأه على سبعة أحرف. فلك لكل ردة رددتها مسألة تسألينها. فقلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم." (مسلم ج 6 ص 101). مرة أخرى نرى الاختلاف بين أصحاب محمد على قراءة القرآن حتى وهو لم يزل على قيد الحياة، ويبدو أن محمدا كان يقرأ على أصحابه قراءات مختلفة دون علم الآخرين بما قرأ عليهم نبيهم، مما كان يوقع الخلاف بينهم، وكان كل منهم يعتقد أن الآخر على خطإ.
لم يقتصر الاختلاف على قراءات القرآن في العصر الإسلامي الأول، بل كانت هناك مصاحف مختلفة أيضا وذلك قبل أن يهيمن مصحف عثمان على جميع المصاحف. ننبه القراء هنا إلى أن كلمة مصحف تعني ما يجمع من المصحف أو الصحائف سواء كانت من الجلود أو من أوراق النخيل. على سبيل المثال كان لعائشة مصحف خاص بها كما في الحديث التالي: وحدثنا بن يحيا التميمي قال: قرأت على مالك عن زيد بن أسلم القعقاع بن حكيم عن أبي يونس مولى (عبد) عائشة أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآدني (أخبرني) حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، فلما بلغتها آدنتها. فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلا ة الوسطى وصلاة العصر. وقوموا الله قانتين. قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم." (مسلم ج 5 ص 30).
يظهر من هذا الحديث أن عائشة أضافت إلى الآية في مصحفها ما لم يكن موجودا من قبل أو ما كان منسوخا حسب الحديث التالي: "حدثنا إسحق بن إبراهيم الحنظلي أخبرنا يحيى بن آدم، حدثنا الفضيل بن مرزوق عن شقيق بن عُقبة عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية: حافظوا على الصلوات وصلاة العصر. فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها فنزلت: حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى، فقال رجل كان جالسا عند شقيق له: هي إذن صلاة العصر. فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله والله أعلم." (مسلم ج 5 ص 131).
لا بد وأن يدور في الذهن بعض الأسئلة. إذا كان لعائشة مصحفها الخاص كما سبق وشاهدنا في أكثر من مكان. فأين هو هذا المصحف؟ هل أتلفه عثمان مع ما أتلف من مصاحف أخرى؟ كيف لم يُكرم عثمان ولا غيره من أصحاب محمد سـتهم عائشة أم المؤمنين؟ ثم لو بقي مصحف عائشة على قيد الوجود أسيكون مطابقا تماما لمصحف عثمان؟
يبدو أن المصاحف التي كانت متداولة بين الناس آنذاك تختلف عن بعضها البعض، مما أدى إلى نسخها كما ذكر الإمام النووي في شرح صحيح مسلم. قال القاضي قال المازري يجب أن يعتقد في هذا الخبر وما في معناه أن ذاك كان قرآنا ثم نُسِخَ ولم يعلم من خالف النسخ فبقي على النسخ. قال: ولعل هذا وقع من بعضهم قبل أن يبلغهم مصحف عثمان المجمع عليه المحذوف منه كل منسوخ. وأما بعد ظهور مصحف عثمان فلا يظن بأحد منهم أنه خالف فيه. وأما إبن مسعود فرويت عنه روايات كثيرة منها ما ليس بثابت عند أهل النقل وما ثبت منها مخالفا لما قلناه فهو محمول على أنه كان يكتب في مصحف بعض الأحكام والتفاسير مما يعتقد أنه ليس بقرآن وكان لا يعتقد تحريم ذلك وكان يراه كصحيفة يُثبِت فيها ما شاء وكان رأي عثمان والجماعة منع ذلك لئلا يتطاول الزمان ويُظن ذلك قرآنا. قال المازري: فعاد الخلاف إلى مسألة فقهية وهي أنه هل يجوز إلحاق بعض التفاسير في أثناء المصحف؟ قال: ويحتمل ما روي من إسقاط المعوذتين من مصحف إبن مسعود أنه اعتقد أنه لا يلزمه كتْب كل القرآن وكتب ما سواهما وتركهما لشهرتهما عنده وعند الناس والله أعلم." (مسلم ج ص 109).
يظهر أنه حتى بعد مصحف عثمان بقيت هناك بعض المصاحف التي سلمت من التلف الذي ألحقه عثمان بها مثل مصحف ابن مسعود. لكن أين هو مصحف ابن مسعود، وهل تلف هو الآخر؟ ومن أتلفه؟
لا شك أن انتظاركم أيها القراء الأعزاء قد طال. ولكن لا بد من هذا الاستعراض قبل أن نبحث وإياكم قصة مصحف عثمان أو قصة جمع القرآن. تبدأ الرواية على عهد أبي بكر وبدافع من عمر بن الخطاب وذلك بعد معركة اليمامة التي دارت رحاها بين الجيش الإسلامي والمرتدين عن الإسلام وقتل فيها الكثير ممن يُدعَون حفظة القرآن. وقد جاء في صحيح البخاري: "حدثنا موسى بن إسماعيل، عن إبراهيم بن سعيد، حدثنا إبن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إلي أبو بكر فإذا عمر بن الخطاب عنده. قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل استحرّ (اشتد) يوم اليمامة بقُراء القرآن، وإني أخشى أن يستمر القتل بالقراء بالمواطن (المعارك) فيذهب (أي يضيع) كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئالم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري (أقنعني) لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك. وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب (جريد النخيل) واللحاف (الحجارة البيضاء الرقيقة) وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليكم ما عنتُم" حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله. ثم عند عمر في حياته، ثم عند حفصة بنت عمر (وزوجة محمد) رضي الله عنهما." (البخاري ج 6 ص 415).
كانت هذه هي المرحلة الأولى في تثبيت القرآن والذي يعرف بمصحف عثمان. أما المرحلة التالية والحاسمة فكانت على عهد عثمان والذي كان له الدور الرئيسي لوجود قرآن واحد بين أيدي المسلمين كما جاء في صحيح البخاري: "حدثنا موسى حدثنا إبراهيم حدثنا ابن شهاب عن أنس بن مالك حدثنا أن حُذيفة بن اليمان قدم على عثمان. وكان يُغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حُذيفة اختلافهم في القراءة (قراءة القرآن) فقال حُذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرِك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل حفصة إلى عثمان أن أرسلي إلينا ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قُريش فإنما أنزل بلسانهم. ففعلوا حتى إذ نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة. فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا. وأمر بما سواه من القرآن في صحيفة أو مصحف أن يحرق." (البخاري ج 6 ص 416).
بعد أن رأينا كيف صار القرآن قرآنا كما هو موجود اليوم لا بد لنا من ابداء بعض الملاحظات والتساؤلات. أولا، لقد رأينا كما سبق أن الفضل يعود في وجود القرآن بين أيدي الناس اليوم إلى جهود رجل واحد وهو زيد بن ثابت. لو سلمنا بذكاء هذا الرجل وصدقه وأمانته، فممّا لا شك فيه أن عملا مثل هذا يحتاج إلى جهود عظيمة ويستحيل على رجل واحد القيام بها. لا ننسى أن ما كُتب من القرآن على ورق النخيل ورقائق الحجارة وربما الجلود كان بين أيدي أفراد مختلفين، وهي تحتوي على أجزاء متفرقة من القرآن كما جاء في الأحاديث: "قال إبن شهاب: فأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت سمع زيدا بن ثابت قال: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها فالتمسناها (بحثنا عنها) فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه"، فألحقناها في سورتها في المصحف." وجاء في حديث آخر: "حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن يونس عن إبن شهاب أن إبن السباق قال إن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر رضي الله عنه قال: إنك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبع القرآن. فتتبعت القرآن حتى وجدت آخر سورة التوبة آيتين مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره "لقد جاءكم رسول عزيز على أنفسكم عزيز عليه ما عنتم" إلى آخرها." (البخاري ج ص 416). هل يمكن لشخص واحد مثل زيد أن يعرف كل مخطوطة في الجزيرة العربية ومع من وُجدت؟ ثم هل استطاع زيد أن يجمع كل هذه المخطوطات دون أن يفقد منها شيئا ويخزنها في بيت حفصة أرملة محمد؟ إذا ما افترضنا أن زيدا بن ثابت حقق هذا العمل العظيم وحده ألا تعتبر هذه المخطوطات الأصلية للقرآن كنزا لا يقدر بثمن على الصعيدين الديني والتاريخي؟ أين هذه المخطوطات وما هو مصيرها؟ لماذا لم يحتفظ المسلمون بهذه المخطوطات في الكعبة كأثر خالد لجيمع الأجيال القادمة من المسلمين وغير المسلمين؟ هل ألحق عثمان هذه المخطوطات بما أحرق من صحف ومصاحف غيرها؟
ثانيا: كان القرآن قد تم حفظه في صدور الرجال الذين يُدعون حفظة القرآن. الكثير من هؤلاء قد ماتوا في الحروب أو ماتوا موتا طبيعيا، مما بعث الخوف في قلب عمر من أن يضيع القرآن. كم بقي من حفظة القرآن أنذاك؟ من كان يعرف من هم هؤلاء الحفظة؟ هل كان زيد بن ثابت على معرفة بجميع حفظة القرآن الأحياء منهم والأموات؟ هل ضاع شيء من القرآن بضياع حفظته؟
ثالثا: بعد أن قام زيد بن ثابت الأنصاري وأصحابه القرشيين بنسخ القرآن في مصحف واحد، أمر عثمان بحرق جميع الصحف والمصاحف الأخرى كما رأينا سابقا، وثبت القرآن الذي يحمل إسمه وكُتب بلسان قريش وعرف بمصحف عثمان. نرى هنا التحيز القرشي الواضح. لقد هيمنت قريش على الإمارة وتسلطت على جميع العرب والعربان. وهنا كرّس عثمان هيمنة قريش اللغوية والدينية، وبذلك صارت قريش سيدة العرب بلا منازع. السؤال الذي يجب أن نطرحه هنا هو: لماذا خالف عثمان نبيه محمدا؟ كنا قد رأينا كيف طلب محمد بنفسه من ربه أن يهون على أمته وينزل القرآن بألسنة مختلفة، واستجاب رب محمد وأنزل القرآن على سبعة أحرف أو ألسنة أو قراءات. لماذا صعّب عثمان الأمر على أمة محمد بجعله لسان قريش سائدا على ما سواه، بعد أن هوّن محمد الأمر؟ ألم يخالف عثمان في ذلك أمر الله وجبريل ومحمد؟ أم هل فاق عثمان حكمة الله وجبريل ومحمد؟ من الغريب أن يتهم المسلمون المسيحيين بأنهم أحرقوا إنجيلهم. ألم يكن عثمان هو الذي أحرق المصاحف؟ لو أن أحدا غير عثمان فعل ما فعله عثمان لاعتبر مجرما في حق الإنسانية والحضارة والتاريخ.
رابعا: لعل القارئ لا يعرف أن محمدا كاد أن يكتب كتابا لا يضل المسلمون بعده لولا تدخل عُمر بن الخطاب. أما خبر هذا الكتاب فقد ورد في الحديث: "حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن مَعمر وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق وأخبرنا مَعمر عن الزّهري عن عبيد الله بن عبد الله عن إبن عباس رضي الله عنهما قال: لما حُضِر (وافته المنية) رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عُمر بن الخطاب قال النبي صلى الله عليه وسلم: هلم اكتب إليكم كتابا لا تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول قرّبوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا". قال عبيد الله: وكان ابن عباس يقول: إن الرزية (المصيبة) كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم." (البخاري ج 7 ص 12، رواه مسلم). هناك أحاديث أخرى متنوعة عن هذا الحديث ذُكر في بعضها أن القوم تساءلوا إذ ما كان محمد قد "أهجر" أي أصابه الهذيان من المرض. يا أهل ترى ماذا كان ذلك الكتاب الذي أراد محمد كتابته؟ هل أراد محمد أن يكتب قرآنا آخر؟ لا أحد يمكنه أن يعرف. يا للمصيبة، لقد حرم عمر البشرية من كتاب محمد الذي لو كتبه لما ضل المسلمون من بعده. نكتفي بهذا المقدار عن القرآن وننتقل إلى الحديث.

الحديث
الصفحة
  • عدد الزيارات: 10325