المعجزة الموضوعية - الكتاب إمام القرآن في الهدى
لا يتحدى القرآن الكتاب وأهله بالهدى ، ولا يدّعي القرآن نسخ الكتاب في الشرع والهدى ؛ بل يعتبر القرآنُ الكتاب "إمامه" في الهدى ، و"سنن الذين من قبلكم" (النساء 26) .
أولا : ليس في هدى القرآن على الكتاب سوى اللسان العربي
يقول : "وإذ لم يهتدوا به ، فسيقولون : هذا إفك قديم – ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمة ، وهذا كتاب مصدّق لسانًا عربيًّا ، لينذر الذين ظلموا ، وبشرى للمحسنين" (الاحقاف 11 – 12) . يردّ على تهمة افترائه (8) وعلى قولهم "هذا إفك قديم" بانتسابه الى الكتاب الذي يعتبره إمامه ، فاذا كان الكتاب إمامه ، فالإعجاز في الهدى هو في "الإمام" قبل أن يكون في النسخة العربية عنه . وعند الشك في صحة الهدى في النسخة العربية ، يردّ الى "الإمام" فعنده الخبر اليقين . لأنه ليس في النسخة العربية ما يزيد على الإمام" سوى اللسان العربي : "وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا" . وأنت تلاحظ أنه لا يجعل إعجازه في هذا اللسان العربي ، بل في كونه تصديق الكتاب الإمام في الهدى . وهذا الهدى القرآني إنذار للظالمين من يهود ومشركين ، و "بشرى للمحسنين" أي "النصارى" : فإذا كان القرآن "بشرى للمحسنين" فلا يكون تحدّيًا لهم بإعجازه . يؤكد ذلك في ردّه الأول على تهمة الافتراء والكفر به : "قل : أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به – وشهد شاهد من بني اسرائيل (النصارى) على مثله فآمن واستكبرتم – إن الله لا يهدي القوم الظالمين" (الاحقاف 10) . فهو يستشهد على أن القرآن من عند الله بشهادة شاهد من بني اسرائيل النصارى "على مثله" . فإذا كان "مثل" القرآن عند هؤلاء النصارى ، وهذا نص القرآن القاطع ، فقد سقط كلّ تحدٍّ بالقرآن وهداه وإعجازه .
ثانيا : صحّة الهدى في القرآن مبنية على إمامة الكتاب له
يعود للتصريح نفسه في قوله : "أفمن كان على بيّنةٍ من ربه – ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمة – أولئك يؤمنون به . ومَن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده . فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" (هود 17) . هذا التصريح يكشف عن سر القرآن وهداه وإعجازه : شاهد من قِبَل الله – وهو نفس الشاهد من بني اسرائيل (النصارى) على مثله – يتلو القرآن على محمد في "مثله" ، فيفصّله محمد "لسانا عربيًّا" (يونس 37 والأحقاف 12) ؛ ويشهد على صحة "المِثْل" النصراني ، وعلى صحة "المِثْل" القرآني المفصِّل له لسانا عربيا أن "من قبله كتاب موسى إماما" . فإمامة الكتاب ، ووجود "مثل" القرآن عند النصارى من بني اسرائيل ، هما البرهانان على صحة القرآن العربي في "تفصيل الكتاب" الإمام . وهؤلاء النصارى من بني اسرائيل هم "على بيّنة" من ربهم ، لذلك فهم يؤمنون بالدعوة القرآنية وإن كفرت بها الأحزاب من مشركين ويهود . وهذا الايمان دليل وحدة الكتاب ، ووحدة الايمان ، ووحدة الدعوة ، ووحدة الأمة (المؤمنون 52 ؛ الأنبياء 92) . أيصح اذن أن يكون في القرآن العربي وهداه وإعجازه تحدٍّ لهم ؟ فحسب النسخة أن تكون كإمامها وكمثلها . وفي هذا التصريح ردّ على الكافرين بالقرآن العربي ، وردع لمحمد نفسه عن الشك في قرآنه : "فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك" . والقرآن العربي "هو الحق من ربك" لأنه نسخة عربية عن "المِثْل" الذي يتلوه شاهد من بني اسرائيل النصارى على محمد ، "ومن قبله كتاب موسى إمامًا" . فهدى القرآن واعجازه من هدى "المِثْل" وإمامه . وبذلك ، بنص القرآن القاطع ، تسقط عنه دعوى التحدي بإعجازه في الهدى والبيان .
ثالثا : محمد يؤمر أن يقتدي في القرآن بهدى الكتاب وأهله
والأمر في القرآن العربي أن يقتدي محمد فيه بهدى الكتاب وأهله . فهو يذكر الأنبياء من نوح الى ابراهيم الى موسى الى عيسى ، ويذكر "من آبائهم وذريتهم وأخوانهم ؛ واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم : ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده" (الانعام 84 – 88) . ثم يقول : أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحُكم (الحكمة) والنبوة – فإن يكفر بها هؤلاء ، فقد وكّلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين – أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" (89 – 90) . فقوله "الذين آتيناهم الكتاب والحُكم والنبوة" هو اصطلاح قرآني متواتر كناية عن "الذين يُقيمون التوراة والانجيل" معا ، من أهل الكتاب ، وهم النصارى من بني اسرائيل فهو يصرّح بأنهم على الصراط المستقيم ، وأن هدى الله معهم : "ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده" . ويأيه الأمر صريحا محكما : "أولئك الذين هدى الله ، فبهداهم اقتده" . وهكذا فإن محمدا يُؤمر منذ رؤياه في غار حراء ، في الرسالة والدعوة ، أن يقتدي بهدى النصارى من بني اسرائيل . فالاعجاز في الهدى هو اذن عندهم ومنه يستمد محمد هداه .
رابعا : ما القرآن سوى تعليم العرب "الكتاب والحكمة" أي التوراة والانجيل
إن دعوة محمد ، بنص القرآن القاطع ، هي تعليم العرب "الكتاب والحكمة" – والحكمة في مثل هذا التعبير اصطلاح خاص ، كناية عن الانجيل : "ولمّا جاء عيسى بالبينات قال : قد جئتكم بالحكمة" (الزخرف 63) ؛ كما أن "الكتاب" كناية عن توراة موسى ، كما في قوله لعيسى : "واذ علمتك الكتاب والحكمة – والتوراة والانجيل" (المائدة 110) ، حيث "الواو" بين التعبيرين عطف بيان . هذا ما يؤكده القرآن مرارا : "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ، ويعلّمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" (البقرة 151) ، كما طلب ابراهيم واسماعيل : "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويزكيهم ، إنّك أنت العزيز الحكم" (البقرة 129) . وهكذا "لقد مَنّ الله على المؤمنين ، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (آل عمران 164) .
إن هذا التصريح المتواتر بالحرف الواحد يدل على توقيف الدعوة القرآنية على حرف موروث ومحوره الدعوة أن "يعلمهم الكتاب والحكمة" كما تعلَّمهما ودرسهما : "وكذلك نصرّف الآيات ! وليقولوا : درست ! – ولنبينه لقوم يعلمون" (الانعام 105) . فإن سكوته عن الرّد على تهمة الدرس ، وعدوله الى بيان حكمته دليل على صحته : فقد "درس" محمد "الكتاب والحكمة" لأنهم "كانوا عن دراستهم غافلين" ، وهو يعلمهما للعرب في القرآن العربي ، "تفصيل الكتاب" . فالاعجاز في الهدى والبيان ، إنما هو في "الكتاب والحكمة" ، قبل القرآن ، بشهادته الصريحة القاطعة .
خامسا : القرآن يشرّع للعرب دين "موسى وعيسى" دينا واحدا
إن النصارى من بني اسرائيل – من دون اليهود والمسيحيين – كانوا يقيمون التوراة والانجيل . والقرآن يدعو بدعوتهم ويشرع للعرب "نصرانيتهم" بتصريحه : "شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا – والذي أوحينا اليك – وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه" (الشورى 12) . إن ما وصى به الله نوحا وابراهيم نعرفه من توراة موسى التي جدّدت دينهما ؛ فالأمر يقتصر على موسى وعيسى . فنص القرآن القاطع أن القرآن يشرع للعرب دين موسى وعيسى دينا واحدا ، على طريقة النصارى من بني اسرائيل . هذا هو الأمر القرآني لمحمد نفسه : "قل : آمنا بالله ... وما أوتي موسى وعيسى ، والنبيون من ربهم ، لا نفرّق بين أحد منهم ، ونحن له مسلمون" (آل عمران 84) ؛ كما هو الأمر لأمته : "وقولوا : آمنا بالله ... وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم : لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" – كما يُفرّق اليهود والمسيحيون (البقرة 136) لذلك يتحداهم بقوله : "قل : يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل – وما أُنزل اليكم من ربكم" (المائدة 68) . هذه هي "النصرانية" عينها ؛ وهذا هو الدين الذي يشرعه للعرب .
سادسا : "عباد الرحمان" هم "إمام المتّقين" من العرب
يصرّح : "وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا ... والذين يبيتون لربهم سجّدا وقياما ... والذين يقولون : ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرّة أعين ، واجعلنا للمتقين إمامًا" (الفرقان 63 – 74) . اصطلاح "المتقين" يعني المهتدين من "الأميين" العرب . واصطلاح "عباد الرحمان" ، بما أنه مقابل "للمتقين" فلا يعني أبداً جماعة محمد ، ولا اليهود ، بل رهبان عيسى "النصارى" ، كما تدل عليه أيضا صفتهم التي ينفردون بها : "يبيتون لربهم سجدا وقياما . فعباد الرحمان هؤلاء هم "إمام المتقين" من العرب في الدين والهدى ، فهم أهل الاعجاز في الهدى لأنهم "الإمام" ، والقرآن وأهله تبعٌ لهم في الهدى .
سابعا : "ما لم ينزل من القرآن على أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم"
عقد السيوطي في (الاتقان 39:1) فصلا : "ما أُنزِل منه على بعض الأنبياء ، وما لم ينزل منه على أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم ... من الثاني : الفاتحة وآية الكرسي وخاتمة (البقرة)" . مع خلاف في هذه الخاتمة أهي آيتان أم ثلاث . فيكون ما اختص به محمد في التنزيل والهدى سبع آيات (الفاتحة) ، وآية الكرسي (البقرة 255) وثلاث آيات من خاتمة (البقرة) . أي نحو عشر آيات . فهب الأمر كذلك ، هل يقتصر الاعجاز في التنزيل والهدى عليه ؟ وهذا دليل جهل كبير بالكتاب : (فالفاتحة وردت بموضوعها ، الهداية الى "الصراط المستقيم" ، وبأسماء الله الحسنى فيها ، في زبور داود وفي سفر أشعيا (ف 40 – 50) . وآية الكرسي فهي هذه : "الله ، لا إله إلاّ هو ، الحيّ القيوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، له ما في السماوات والأرض ... وسع كرسيه السماوات والأرض ، ولا يؤده حفظهما ، وهو العلي العظيم" (البقرة 255) . فأي إعجاز فيها على زبور داود ؟ والتعبير العبراني الآرامي ، "الحي القيوم" دليل مصدره . واذا كان "كرسيه" قد "وسع السماوات والأرض" فأي محل بقي لغيره ممّا ذكره القرآن فيها ؟ أجل هو تعبير مجازي لا يؤخذ على حرفه ، لذلك فهو من المتشابه الذي لا إعجاز فيه .
وهذه آيات (البقرة) : "لله ما في السموات والأرض : وإنْ تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء والله على كل شئ قدير (284) .
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله – لا نفرّق بين أحد من رسله – وقالوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا واليك المصير (285) . لا يكلّف الله نفسا إلاّ وسعها ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت . ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصْرًا كما حملته على الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واغفر لنا وارحمنا ، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين" (286) – فمن قال أن هذا الايمان وهذا الدعاء ليس "مثلهما" في الكتاب فهو جاهل به . وآية المحاسبة على الوسوسة (284) تذمّر منها الصحابة ، فنسختها الآية (286) فلا إعجاز في تنزيل منسوخ وناسخ !
والقول الفصل في هذا كله تصاريح القرآن : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" ، فالقرآن "تفصيل الكتاب" لذلك أُمِر محمد : "فبهداهم اقتدِهْ" فالكتاب التابع لا يكون معجزا في الهدى أكثر من الكتاب المتبوع .
- عدد الزيارات: 18702