Skip to main content

الإعجاز من حيث الزمان والمكان معجزة - هل من معجزة في توقيت الرسالة القرآنية ؟

الصفحة 4 من 6: هل من معجزة في توقيت الرسالة القرآنية ؟

بحث ثالث
هل من معجزة في توقيت الرسالة القرآنية ؟

فضل الرسالة القرآنية على العرب لا ينكره إلاّ أعمى لا يرى النور . فقد أنشأ منهم أمة عظيمة ، ودولة عظيمة ؛ وأتحفهم بالاسلام دينا ؛ وأودعهم القرآن دستور الدين والدولة والأمة . لكن ليس في توقيت الرسالة القرآنية من معجزة فيهم .

فقد يظن بعضهم ويحلو لهم أن يقولوا بأن القرآن نقل العرب من "جاهليتهم" الى الاسلام ؛ ويفسّرون ذلك بأنه نقلهم من الوثنية والهمجية الى التوحيد والحضارة التي دوّخت العالم دهرا من الزمن . وفاتهم جميعا ان كلمة "الجاهلية" اصطلاح قرآني موروث عن النصارى من أهل الكتاب . فقد كانوا يقسمون العالم ، مثل اليهود ، الى أهل الكتاب والأمّيين الذين ليس لهم الكتاب المنزل كما في قوله : "وقل للذين أوتوا الكتاب والأمّيين : أأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا" (آل عمران 20) ؛ وكما في تسمية محمد "النبي الأمّي" (الاعراف 157 و 158) أي من الأميّين الذين ليس لهم كتاب منزل : "هو الذي بعث في الأمّيين (العرب) رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة" أي التوراة والانجيل (الجمعة 2) . وقد كان النصارى يسمون زمن الأمم قبل الايمان بالكتاب والانجيل "جاهلية" الأمم ، لا الجهل في المعرفة ، بل الجهل بالعلم المنزل ، ولذلك يسمون أنفسهم أهل الكتاب وأولي العلم ، كما وصفهم القرآن أيضا . وفي تسمية القرآن – والنصارى – زمن العرب قبل الايمان بالعلم المنزل "الجاهلية" لا يقصد الجهل بالمعرفة ، بل الجهل في الدين والايمان والاسلام .

وكانت جاهلية العرب بالحجاز في نهضة عارمة قومية وثقافية وتجارية ، مهّدت السبل لقيام الدعوة القرآنية في ذروتها ، كما يشهد بذلك الواقع القرآني . فقد تمّيزت مكة ، بعد تضعضع اليمن بخراب سد مأرب واحتلال الحبشة مرتين لليمن ، وبالتجارة الدولية بين اليمن والشام وبين الشرق والغرب . وقد أشاد القرآن بفضل الله "لإيلاف قريش ، ايلافهم رحلة الشتاء والصيف" . وقد ازدهرت هذه التجارة الى دولة الفرس والى دولة الروم . بفضل الحياد الايجابي العربي بين الدولتين . ولمّا شعروا أن في الدعوة القرآنية ميلا إلى أهل الكتاب فدولة الروم ، ردّوا على دعوة القرآن : "إن نتّبع الهدى معك نُتَخطّف من أرضنا" (القصص 57) . فاستقلالهم السياسي يقتضي استقلالهم الديني عن أهل الثنوية : "لا تتّخذوا الهين اثنين" (النحل 51) ، وعن أهل التثليث : "ولا تقولوا : ثلاثة" (النساء 171) . فصراع أهل مكة مع محمد سياسي ديني ؛ لذلك يبين لهم القرآن أن التوحيد الاسلامي ينفي الثنوية وتبعيتها ، والتثليث وتبعيته. وهذه النهضة القومية والتجارية يرافقها نهضة ثقافية تمثلت في الشعر الجاهلي ، في القرنين الخامس والسادس م . كما قامت أسواق الأدب الى جانب أسواق التجارة ، في مواسم الحج . وهذا هو المظهر الأكبر للنهضة

الجاهلية في مظاهرها الثلاثة القومي والتجاري والثقافي . ومواسم الحج دليل أيضا على النهضة الدينية . ويفيض القرآن بوصف نعمة الله عليهم بالبلد الحرام ، والبيت الحرام ، وموسم الحج الذي يفيض عليهم بالخير بالبركات : "وقالوا : إن نتّبع الهدى معك نُتخطّف من أرضنا ! – أولم نمكّن لهم حَرَمْا آمنّا – يُجبي اليه ثمرات كل شئ ، رزقا من لدنّا ، ولكن أكثرهم لا يعلمون" (القصص 57) ؛ "أولم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنا ، ويتخطّف الناس من حولهم" (العنكبوت 67) .

بتلك النهضات الأربع ، صارت مكة "أم القرى" ، حول الحرم (القصص 59) . لكن تلك النهضة الدينية كانت تدرجًا من الوثنية الى التوحيد الكتابي . والبرهان الأثري الأكبر هو الشعر الجاهلي الخالي من الوثنية والشرك . والقرآن خير برهان على بلوغهم الى التوحيد: "ولئن سألتهم : مَن خلق السماوات والأرض ، وسخَّر الشمس والقمر ؟ – ليقولُنّ الله" (العنكبوت 61 ؛ قابل 25:31؛ 38:39؛ 9:43) ؛ "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ، فلما نجّاهم الى البرّ ، إذا هم يشركون" (العنكبوت 65) . لقد بلغوا الى التوحيد ، لكنه لم يزل مشوبا بشرك . مع ذلك فهو شرك ظاهري أكثر ممّا هو حقيقي ، فهو من رواسب الماضي : "ألا لله الدين الخالص ‍! والذين اتّخذوا من دونه أولياء – ما نعبدهم إلاّ ليقربونا الى الله زلفى" (الزمر 3) . فالقرآن يدعوهم الى الاخلاص في الدين والتوحيد ، كما يدعو محمد نفسه : "إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق : فاعبد الله مخلصا له الدين" (الزمر 2) .

تلك هي حال أهل مكة حين الدعوة القرآنية في نهضتهم الدينية والثقافية والسياسية والقومية : فهل من معجزة في توقيت الدعوة القرآنية الى التوحيد الخالص ؟

وهنا نتساءَل : ما هو سر هذه النهضة الجاهلية الشاملة ؟ قد يفسرونها بسيطرة مكة على طرق المواصلات والتجارة الدولية ، بعد ضعف اليمن وانشغاله بالحرب السجال بين الفرس والحبشة على احتلاله ، ومحاولة الحبشة من اليمن احتلال الحجاز ، في عام الفيل سنة 670 ، سنة مولد محمد . لكن هذا السبب لا يفسّر كل مظاهر النهضة الجاهلية ، خصوصا من الناحية الدينية . والقرآن في خطاب اليهود والنصارى يشهد بوجودهم النافذ في مكة والمدينة والحجاز كله . وفي تضامن القرآن والدعوة "النصرانية" ، حلُّ سرّ النهضة الجاهلية كلها بالحجاز .

لقد انقسم أتباع المسيح ، على زمن الرسل الحواريين ، الى شيعة وسُنّة . فالذين اهتدوا الى الانجيل من الأمميّين سُمّوا "مسيحيّين" في العالم كله ؛ والذين اهتدوا الى الانجيل من بني اسرائيل دُعوا "نصارى" . ومؤتمر الرسل الحواريين عام 49 م . حرَّر "المسيحيّين" من شريعة موسى والختان شعارها ، وترك النصارى من بني اسرائيل أحرارًا لم يبتّ في أمرهم ، فكانوا يقيمون التوراة والانجيل معًا ، والعماد المسيحي والختان الموسوي معا ؛ وقد أمّروا عليهم أساقفة آل بيت المسيح . وهكذا تشيّعوا لآل البيت وللتوراة . فكان النصارى من بني اسرائيل شيعة ؛ وكان المسيحيون من سائر الامم سُنّة لاتباعهم سُنّة الرسل الحواريين في مؤتمرهم . وهذا كله موجود في سفر "اعمال الرسل" من العهد الجديد .

ولمّا ثار اليهود على الرومان في الثورة الأولى عام 70 م ، وفي الثورة الثانية عام 133 ، أجلى الرومان اليهود و"النصارى" من اورشليم ، فتشتتوا في البلاد . ووقع النصارى بين نارين : نار بني قومهم اليهود ، ونار بني دينهم المسيحيين .

ولمّا اهتدت الدولة الرومانية الى المسيحية ، فكاد لها اليهود ، وكانوا الطابور الخامس للفرس عند العرب والروم ، أمر القيصر ثاوضوسيوس بإجلاء اليهود وشيعة النصارى عن دولة الروم ، في منتصف القرن الخامس . فهاجر اليهود الى فارس . ولم يبق أمام النصارى من بني اسرائيل سوى الحجاز ، لأن أطراف الجزيرة العربية كانت في غالبيتها على المسيحية . فهاجر النصارى من بني اسرائيل الى الحجاز . وفي خبر سلمان الفارسي بالسيرة الهاشمية دلائل على انسحاب آخر النصارى الى الحجاز . وفي حديث ورقة بن نوفل قسّ مكة النصراني ، وخبر ترجمته الانجيل من الحرف العبراني الى العربية – وهو الانجيل الوحيد الذي كانوا يعترفون به ، أي الانجيل بحسب متى في حرفه العبراني ، ولغته الأرامية كما دوّن في الأصل ، قبل ترجمته الى اليونانية – الخبر اليقين على إقامة النصارى وتنظيمهم بمكة جماعة دينية مستقلة ، تدعو أهلها الى "النصرانية" . وزعامة ورقة بن نوفل للجماعة النصرانية ، وترجمة الانجيل للعربية ، البرهان على تغلغل "النصرانية" ، في قريش ، وعلى سيطرتها بمكة . فقد كانت السيدة خديجة ، ابنة عم ورقة ، سيدة تجار قريش ، وكانت تجارتها تعدل تجارة قريش . ففي يد آل نوفل "النصارى" الزعامة الدينية والتجارية بمكة حين البعثة المحمدية .

ففي مدة قرن ونصف توصّل النصارى من بني اسرائيل الى السيطرة الدينية والتجارية والثقافية على مكة . وفي انخراط محمد في تجارة خديجة ، بأمر عمه ، ثم في تثقّفه بالتوحيد

الكتابي و"النصراني" بجوار ابن عمها ورقة قس مكة ، بعد زواجه منها ، مدة خمس عشرة سنة قبل مبعثه ، دلائل على ذلك .

ومن الدلائل على ذلك أيضا "بناء الكعبة على الطراز الحبشي ، في سنة 608 ميلادية ، ووجود الصور المسيحية التي كانت تحلّي باطنها ، وقيام معمار حبشي ببنائها" . وبحسب السيرة النبوية كان من روم الشام ، وقد أمروه : "ابنها لنا ببناء أهل الشام" أي على شكل كنيسة – وقد كانت الكعبة على عهد محمد ودعوته كنيسة مسيحية ، للنصارى من بني اسرائيل فيها الحجر الاسود رمز المسيح الى جوار صورة مريم العذراء تحتضن السيد المسيح على عادة المسيحيين الشرقيين في كنائسهم . واشتراك المسيحيين والنصارى من بني اسرائيل في مقام الكعبة دليل على سيطرة الفريقين في مكة وعلى الصراع الخفي بينهما ، وهو من أسباب مقاومة قريش للدعوة الاسلامية "النصرانية" .

فهجرة النصارى من بني اسرائيل الى مكة والحجاز كانت سبب النهضة الجاهلية الشاملة ، وسبب تخلّص أهل مكة من الوثنية وتحولهم الى التوحيد . فقد أطلق هؤلاء النصارى على دعوتهم أولا اسم "الحنيفية" أي الميل عن الوثنية لإيلاف قريش والعرب . وهذا سبب الترادف الذي نراه في المصادر في صفة ورقة بن نوفل تارة بالحنيف وتارة بالنصراني . وقبيل الدعوة القرآنية ، ربما على زمن ورقة بن نوفل ، وصفوا "نصرانيتهم" بالاسلام ، وسموا أنفسهم "المسلمين" ، كما يتّضح من القرآن نفسه الذي يشهد مع الله وملائكته وأولي العلم قائما بالقسط ، أي الراسخين في العلم ، – وهم النصارى من بني اسرائيل ، بحسب القرائن القرآنية كلها –"أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 17 – 18) ولذلك خالفه اليهود من أهل الكتاب "من بعد ما جاءَهم العلم بغيًا بينهم" (آل عمران 18) ، ولذلك أيضا كانوا "يقتلون الذين يأمرون بالقسط" كما كانوا يقتلون النبيين من قبلهم (آل عمران 22) . فالقرآن يشهد للاسلام بشهادة النصارى من بني اسرائيل ، بعد أن جاءَه الأمر بالانضمام اليهم وقراءَة قرآن الكتاب معهم : "وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن" (النمل 90 – 91) . فالمسلمون موجودون بمكة قبل محمد وهو يُؤمر بالانضمام اليهم ، ليشهد معهم "أن الدين عند الله الاسلام" .

فالسلام كان قائما بمكة قبل محمد ، وقد أُمر محمد برؤيا غار حراء بالهداية النهائية اليه والدعوة له (الشورى 52 مع 15) . وجاءَت الدعوة القرآنية نصرة "للنصرانية" على اليهودية في الحجاز ، بنص القرآن القاطع : "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين : مَن أنصاري الى الله ؟ وقال الحواريون : نحن أنصار الله . فآمنت طائفة من بني اسرائيل (النصارى) وكفرت طائفة (اليهود) : فأيدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين" (الصف 14) . لقد ظهرت النصرانية على اليهودية في الحجاز بفضل الدعوة القرآنية . فما اسلام القرآن سوى اسلام هؤلاء "النصارى" .

هذا هو الواقع التاريخي والقرآني . فهل من معجزة في توقيت زمن الدعوة القرآنية ؟ والرسالة المحمدية ؟ إن القرآن دعوة "نصرانية" .

اصطفاء محمّد للدعوة القرآنية فضل من الله أم معجزة شخصية ؟
الصفحة
  • عدد الزيارات: 14401